القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 77 ) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( 78 )

يقول تعالى ذكره: إن هذا القرآن لهدى, يقول: لبيان من الله, بَيَّنَ به الحق فيما اختلف فيه خلقه من أمور دينهم ( وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول: ورحمة لمن صدق به وعمل بما فيه، ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ) يقول: إن ربك يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بحكمه فيهم, فينتقم من المبطل منهم, ويجازي المحسن منهم المحقّ بجزائه، ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) يقول: وربك العزيز في انتقامه من المبطل منهم ومن غيرهم, لا يقدر أحد على منعه من الانتقام منه إذا انتقم العليم بالمحق المحسن من هؤلاء المختلفين من بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه, ومن غيرهم من المبطل الضالّ عن الهدى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ( 79 ) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( 80 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ففوِّض إلى الله يا محمد أمورك, وثق به فيها, فإنه كافيك. ( إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ) لمن تأمَّله, وفكر ما فيه بعقل, وتدبره بفهم, أنه الحقّ, دون ما عليه اليهود والنصارى، المختلفون من بني إسرائيل, ودون ما عليه أهل الأوثان، المكذّبوك فيما أتيتهم به من الحقّ, يقول: فلا يحزنك تكذيب من كذّبك, وخلاف من خالفك, وامض لأمر ربك الذي بعثك به.

وقوله: ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ) يقول: إنك يا محمد لا تقدر أن تُفِهم الحقّ من طبع الله على قلبه فأماته, لأن الله قد ختم عليه أن لا يفهمه ( وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ) يقول: ولا تقدر أن تسمع ذلك من أصمّ الله عن سماعه سمعه ( إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) يقول: إذا هم أدبروا معرضين عنه, لا يسمعون له لغلبة دين الكفر على قلوبهم, ولا يُصغون للحقّ, ولا يتدبرونه, ولا ينصتون لقائله, ولكنهم يعرضون عنه, وينكرون القول به, والاستماع له.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ( 81 ) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ( 82 )

اختلف القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَمَا أَنْتَ بِهَادِ ) بالياء والألف وإضافته إلى العمي بمعنى: لست يا محمد بهادي من عمي عن الحقّ ( عَنْ ضَلالَتِهِمْ ) . وقراءة عامة قرّاء الكوفة « وَمَا أنْتَ تَهْدِي العُمْيَ » بالتاء ونصب العمي, بمعنى: ولست تهديهم ( عَنْ ضَلالَتِهِمْ ) ولكن الله يهديهم إن شاء.

والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مشهورتان في قرّاء الأمصار, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام ما وصفت ( وَمَا أَنْتَ ) يا محمد ( بِهادِي ) من أعماه الله عن الهدى والرشاد فجعل على بصره غشاوة أن يتبين سبيل الرشاد عن ضلالته التي هو فيها إلى طريق الرشاد وسبيل الرشاد. وقوله: ( إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ) يقول: ما تقدر أن تُفهم الحقّ وتوعيه أحدا إلا سمع من يصدّق بآياتنا, يعني بأدلته وحججه وآي تنـزيله ( فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) فإن أولئك يسمعون منك ما تقول ويتدبرونه, ويفكرون فيه, ويعملون به, فهم الذين يسمعون.

* ذكر من قال مثل الذي قلنا في قوله تعالى: ( وَقَعَ )

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعًا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وإذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) قال: حقّ عليهم.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: ( وإذا وقع الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) يقول: إذا وجب القول عليهم.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد: ( وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) قال: حقّ العذاب.

قال ابن جُرَيج: القول: العذاب.

*ذكر من قال قولنا في معنى القول.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة: ( وإذا وقع القول عَلَيْهِمْ ) والقول: الغضب.

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن علية, عن هشام, عن حفصة, قالت: سألت أبا العالية, عن قوله: ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) فقال: أوحى الله إلى نوح أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ قالت: فكأنما كان على وجهي غطاء فكشف.

وقال جماعة من أهل العلم: خروج هذه الدابة التي ذكرها حين لا يأمر الناس بمعروف ولا ينهون عن منكر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا الأشجعي, عن سفيان, عن عمرو بن قيس, عن عطية العوفي, عن ابن عمر في قوله: ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ ) قال: هو حين لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر.

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا محمد بن الحسن أبو الحسن, قال: ثنا عمرو بن قيس الملائي, عن عطية, عن ابن عمر, في قوله: ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ ) قال: ذاك إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو أحمد, قال: ثنا سفيان, عن عمرو بن قيس, عن عطية, عن ابن عمر, في قوله: ( أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) قال: حين لا يأمرون بالمعروف, ولا ينهون عن المنكر.

حدثني محمد بن عمرو المقدسي, قال: ثنا أشعث بن عبد الله السجستاني, قال: ثنا شعبة, عن عطية, في قوله: ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تُكَلِّمُهُمْ ) قال: إذا لم يعرفوا معروفا, ولم ينكروا منكرا.

وذُكر أن الأرض التي تخرج منها الدابة مكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثني الأشجعي, عن فضيل بن مرزوق, عن عطية, عن ابن عمر, قال: تخرج الدابة من صَدع في الصفا، كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا الحكم بن بشير, قال: ثنا عمرو بن قيس, عن الفرات القزاز, عن عامر بن واثلة أبي الطفيل, عن حُذيفة بن أسيد الغفاري, قال: إن الدابة حين تخرج يراها بعض الناس فيقولون: والله لقد رأينا الدابة, حتى يبلغ ذلك الإمام, فيطلب فلا يقدر على شيء. قال: ثم تخرج فيراها الناس, فيقولون: والله لقد رأيناها, فيبلغ ذلك الإمام فيطلب فلا يرى شيئا, فيقول: أما إني إذا حدث الذي يذكرها قال: حتى يعدّ فيها القتل, قال: فتخرج, فإذا رآها الناس دخلوا المسجد يصلون, فتجيء إليهم فتقول: الآن تصلون, فتخطم الكافر, وتمسح على جبين المسلم غرّة, قال: فيعيش الناس زمانا يقول هذا: يا مؤمن, وهذا: يا كافر.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا عثمان بن مطر, عن واصل مولى أبي عيينة, عن أبي الطفيل, عن حُذيفة, وأبي سفيان, ثنا عن معمر, عن قيس بن سعد, عن أبي الطفيل, عن حُذيفة بن أسيد, في قوله: ( أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) قال: للدابة ثلاث خرجات: خرجة في بعض البوادي ثم تكمن, وخرجة في بعض القُرى حين يهرَيق فيها الأمراء الدماء, ثم تكمن, فبينا الناس عند أشرف المساجد وأعظمها وأفضلها, إذ ارتفعت بهم الأرض, فانطلق الناس هرابا, وتبقى طائفة من المؤمنين, ويقولون: إنه لا ينجينا من الله شيء, فتخرج عليهم الدابة تجلو وجوههم مثل الكوكب الدرّيّ، ثم تنطلق فلا يدركها طالب ولا يفوتها هارب, وتأتي الرجل يصلي, فتقول: والله ما كنت من أهل الصلاة, فيلتفت إليها فتخطمه, قال: تجلو وجه المؤمن, وتخطم الكافر, قلنا: فما الناس يومئذٍ؟ قال: جيران في الرباع, وشركاء في الأموال, وأصحاب في الأسفار.

حدثني أبو السائب, قال: ثنا ابن فضيل, عن الوليد بن جميع, عن عبد الملك بن المُغيرة, عن عبد الرحمن بن البيلماني, عن ابن عمر: يبيت الناس يسيرون إلى جمع, وتبيت دابة الأرض تسايرهم, فيصبحون وقد خطمتهم من رأسها وذنبها, فما من مؤمن إلا مسحته, ولا من كافر ولا منافق إلا تخبطه.

حدثنا مجاهد بن موسى, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا الخيبري, عن حيان بن عمير, عن حسان بن حمصة, قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: لو شئت لانتعلت بنعليّ هاتين, فلم أمسّ الأرض قاعدا حتى أقف على الأحجار التي تخرج الدابة من بينها, ولكأني بها قد خرجت في عقب ركب من الحاجِّ, قال: فما حججت قطّ إلا خفت تخرج بعقبنا.

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي, قال: ثنا أبو أسامة, عن هشام, عن قيس بن سعد, عن عطاء, قال: رأيت عبد الله بن عمرو, وكان منـزله قريبا من الصفا, رفع قدمه وهو قائم, وقال: لو شئت لم أضعها حتى أضعها على المكان الذي تخرج منه الدابة.

حدثنا عصام بن روّاد بن الجراح, قال: ثنا أبي, قال: ثنا سفيان بن سعيد الثوريّ, قال: ثنا منصور بن المعتمر, عن ربعي بن حراش, قال: سمعت حُذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وذكر الدابة, فقال حُذيفة: قلت يا رسول الله, من أين تخرج؟ قال: « مِنْ أَعْظَمِ المَساجِدِ حُرْمَةً عَلى اللهِ, بَيْنَما عِيسَى يَطُوفُ بالبَيْتِ وَمَعَهُ المُسْلِمُونَ, إذْ تَضْطَرِبُ الأرْضُ تحْتَهُمْ, تَحَرُّكَ القِنْديلِ, وَيَنْشَق الصَّفا ممَّا يَلي المَسْعَى, وَتَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنَ الصَّفا، أوَّلُ ما يَبْدُو رأْسُها، مُلَمَّعَةٌ ذَاتُ وَبَرٍ وَرِيشٍ, لَمْ يُدْرِكْها طالبٌ, وَلَنْ يَفُوتَها هاربٌ, تَسِمُ النَّاسَ مُؤْمِنٌ وكافِرٌ, أمَّا المُؤْمِنُ فَتَتْرُكُ وَجْهَهُ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرّيّ, وتَكْتُبُ بينَ عَيْنَيْهِ مُؤْمِنٌ , وأمَّا الكافُِر فَتَنْكُتُ بينَ عَيْنَيْهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاء كافِرٌ » .

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا أبو الحسين, عن حماد بن سلمة, عن علي بن زيد بن جدعان, عن أوس بن خالد, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وَعَصَا مُوسَى, فَتَجْلُو وَجْهَ المُؤْمِنِ بالْعَصَا, وَتَخْتِمُ أنْفَ الكَافِرِ بِالْخَاتَمِ, حَتَّى إنَّ أَهْلَ البَيْتِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هذَا: يا مُؤْمِنُ, وَيَقُولُ هَذَا: يا كافِرُ » .

قال: ثنا الحسين, قال: ثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قَتادة, قال: هي دابة ذات زغب وريش, ولها أربع قوائم تخرج من بعض أودية تهامة, قال: قال عبد الله بن عمر: إنها تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء, فتفشو في وجهه, فيسودّ وجهه, وتنكت في وجه المؤمن نكتة بيضاء فتفشو في وجه, حتى يبيضّ وجهه, فيجلس أهل البيت على المائدة, فيعرفون المؤمن من الكافر, ويتبايعون في الأسواق, فيعرفون المؤمن من الكافر.

حدثني ابن عبد الرحيم البرقي, قال: ثنا ابن أبي مريم, قال: ثنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب, قالا ثنا ابن الهاد, عن عمر بن الحكم, أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: تخرج الدابة من شعب, فيمسّ رأسها السحاب, ورجلاها في الأرض ما خرجتا, فتمرّ بالإنسان يصلي, فتقول: ما الصلاة من حاجتك فتخطمه.

حدثنا صالح بن مسمار, قال: ثنا ابن أبي فديك, قال: ثنا يزيد بن عياض, عن محمد بن إسحاق, أنه بلغه عن عبد الله بن عمرو, قال: تخرج دابة الأرض ومعها خاتم سليمان وعصا موسى, فأما الكافر فتختم بين عينيه بخاتم سليمان, وأما المؤمن فتمسح وجهه بعصا موسى فيبيض.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( تُكَلِّمُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: ( تُكَلِّمُهُمْ ) بضم التاء وتشديد اللام, بمعنى تخبرهم وتحدثهم, وقرأه أبو زرعة بن عمرو: « تَكْلِمُهُمْ » بفتح التاء وتخفيف اللام بمعنى: تسمهم.

والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار.

وبنحو الذي قلنا في ذلك, قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) قال: تحدثهم.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: ( أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) وهي في بعض القراءة « تحدثهم » تقول لهم: ( أن الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) .

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, في قوله: ( تُكَلِّمُهُمْ ) قال: كلامها تنبئهم ( أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ َ ) .

وقوله: ( أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة والشام: « إنَّ النَّاسَ » بكسر الألف من « إن » على وجه الابتداء بالخبر عن الناس أنهم كانوا بآيات الله لا يوقنون; وهي وإن كسرت في قراءة هؤلاء فإن الكلام لها متناول. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة وبعض أهل البصرة: ( أَنَّ النَّاسَ كَانُوا ) بفتح أن بمعنى: تكلمهم بأن الناس, فيكون حينئذ نصب بوقوع الكلام عليها.

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مستفيضتان في قراءة الأمصار, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ( 83 ) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 84 )

يقول تعالى ذكره: ويوم نجمع من كل قرن وملة فوجا, يعني جماعة منهم, وزمرة ( مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا ) يقول: ممن يكذّب بأدلتنا وحججنا, فهو يحبس أوّلهم على آخرهم, ليجتمع جميعهم, ثم يساقون إلى النار.

وبنحو ما قلنا في ذلك, قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) يعني: الشيعة عند الحشر.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) قال: زمرة.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قوله: ( نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) قال: زمرة زمرة ( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) .

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال: يقول: فهم يدفعون.

حدثنا محمد بن بشار, قال: ثنا أبو أحمد, قال: ثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد, في قوله: ( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال: يحبس أولهم على آخرهم.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة: ( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال: وزعة تردّ أولاهم على أخرهم.

وقد بيَّنت معنى قوله: ( يُوزَعُونَ ) فيما مضى قبل بشواهده, فأغني ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله: ( حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي ) يقول تعالى ذكره: حتى إذا جاء من كل أمة فوج ممن يكذب بآياتنا فاجتمعوا قال الله: ( أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي ) أي: بحججي وأدلتي ( وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ) يقول: ولم تعرفوها حق معرفتها، ( أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) فيها من تكذيب أو تصديق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ( 85 ) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 86 )

يقول تعالى ذكره: ووجب السخط والغضب من الله على المكذّبين بآياته ( بِمَا ظَلَمُوا ) يعني بتكذيبهم بآيات الله, يوم يحشرون ( فهم لا ينطقون )

يقول: فهم لا ينطقون بحجة يدفعون بها عن أنفسهم عظيم ما حلّ بهم ووقع عليهم من القول. وقوله : ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ) يقول تعالى ذكره: ألم ير هؤلاء المكذّبون بآياتنا تصريفنا الليل والنهار, ومخالفتنا بينهما بتصييرنا هذا سكنًا لهم يسكنون فيه ويهدءون، راحة أبدانهم من تعب التصرِّف والتقلب نهارا, وهذا مضيئا يبصرون فيه الأشياء ويعاينونها فيتقلبون فيه لمعايشهم, فيتفكروا في ذلك, ويتدبروا, ويعلموا أن مصرِّف ذلك كذلك هو الإله الذي لا يعجزه شيء, ولا يتعذر عليه إماتة الأحياء, وإحياء الأموات بعد الممات, كما لم يتعذر عليه الذهاب بالنهار والمجيء بالليل, والمجيء بالنهار والذهاب بالليل مع اختلاف أحوالهما ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن في تصييرنا الليل سكنا, والنهار مبصرا لدلالة لقوم يؤمنون بالله على قدرته على ما آمنوا به من البعث بعد الموت, وحجة لهم على توحيد الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ( 87 )

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى: ( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) وقد ذكرنا اختلافهم فيما مضى, وبيَّنا الصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده, غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم يذكر هناك من الأخبار, فقال بعضهم: هو قرن يُنفخ فيه.

*ذكر بعض من لم يُذكر فيما مضى قبل من الخبر عن ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( ويوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) قال كهيئة البوق.

حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قال: الصور: البوق قال: هو البوق صاحبه آخذ به يقبض قبضتين بكفيه على طرف القرن، بين طرفه وبين فيه قدر قبضة أو نحوها, قد برك على ركبة إحدى رجليه, فأشار, فبرك على ركبة يساره مقعيًا على قدمها عقبها تحت فخذه وأليته وأطراف أصابعها في التراب.

قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن أبي بكر بن عبد الله, قال: الصور كهيئة القرن قد رفع إحدى ركبتيه إلى السماء, وخفض الأخرى, لم يلق جفون عينه على غمض منذ خلق الله السموات مستعدًا مستجدًا, قد وضع الصور على فيه ينتظر متى يؤمر أن ينفخ فيه.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن إسماعيل بن رافع المدني, عن يزيد بن زياد - قال أبو جعفر: والصواب: يزيد بن أبي زياد - عن محمد بن كعب القرظي, عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, ما الصور؟ قال: « قَرنٌ » , قال: وكيف هو؟ قال: « قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: الأولى: نَفْخَةُ الفَزَعِ, والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ, والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيَامِ لِلهِ رَبِّ العَالَمينَ, يَأْمُرُ اللهُ إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولى, فيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ, فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الفَزَعِ, فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّمَاوَاتِ وأَهْلُ الأرْضِ, إلا مَنْ شاءَ اللهُ, وَيأْمُرُهُ اللهُ فَيَمُدُّ بِها ويطوِّلهَا, فَلا يَفْتُرُ, وَهيَ الَّتي يَقُولُ اللهُ: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فَيُسَيِّرُ اللهُ الجِبالَ, فَتَكُون سَرَابا, وَتُرَجُّ الأرْضُ بأهْلِها رجا, وهي التي يقول الله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ فَتَكُونُ الأرضُ كالسَّفِينَةِ المُوثَقَةِ فِي البَحْرِ, تَضْرِبُها الأمْوَاجُ, تُكْفأ بأَهْلِها, أوْ كالقِنْدِيِل المُعَلَّقِ بالوَتَر, تُرَجِّحُهُ الأرْياحُ, فَتَمِيدُ النَّاسُ على ظَهْرها, فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ, وَتَضَعُ الحَوَامِلُ, وَتَشِيبُ الولْدَانُ, وَتَطِيرُ الشَّياطِينُ هارِبَةً, حَتَّى تَأتِي الأقْطار, فَتَتَلَقَّاهَا المَلائِكَةُ, فَتَضْرِبُ وُجُوهَها, فَتَرْجِعُ, وَيُوَلي النَّاسُ مُدْبِرينَ يُنادي بَعْضُهُمْ بَعْضًا, وَهُوَ الَّذِي يَقُوُل اللهُ: يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ فبَيْنَما هُمْ عَلى ذلكَ إذْ تَصَدَّعَتِ الأرْضُ مِنْ قُطْرٍ إلى قُطْرٍ, فَرَأوَا أمْرًا عَظِيما, فَأَخَذَهُمْ لِذَلكَ مِنَ الكَرْب ما اللهُ أعْلَمُ بِهِ, ثُمَّ نَظَرُوا إلى السَّماءِ, فإذَا هِي كَالمُهْلِ, ثُمَّ خُسِفَ شَمْسُها وَقَمَرُها, وانْتَثَرتْ نُجُومُها, ثُمَّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والأمْوَاتُ لا يعْلَمُون بِشَيْءٍ مِنْ ذلكَ » , فقال أبو هريرة: يا رسول الله, فمن استثنى الله حين يقول: ( فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) قال: « أولَئِكَ الشُّهَدَاءُ, وإنَّمَا يَصِلُ الفَزَعُ إلى الأحْياءِ, أُولَئِكَ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ, وَقاهُمُ اللهُ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَومِ وآمَنَهُمْ, وَهُوَ عَذَابُ اللهِ يَبْعَثُهُ عَلى شِرارِ خَلْقِه » .

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا إسماعيل بن رافع, عن محمد بن كعب القرظي, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنَّ الله تَبارَكَ وتَعالى لَمَّا فَرَغَ مِنَ السَّمَواتِ والأرْضِ, خَلَقَ الصُّورَ‍ فَأعْطاهُ مَلَكًا, فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ, شَاخِصٌ بِبَصَرِه إلى العَرْشِ, يَنْتَظِرُ مَتى يُؤمَرُ » . قال: قُلْتُ: يا رسول الله, وما الصُّورُ؟ قال: « قَرْنٌ » , قلت: فكيف هو؟ قال: « عَظِيمٌ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ, إنَّ عِظَمَ دائِرَةٍ فيه, لَكَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ والأرْض, يَأْمُرُهُ فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الفَزَعِ, فَيفْزَعُ أهْلُ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ إلا مَنْ شاءَ اللهِ » , ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث أبي كُرَيب عن المحاربي, غير أنه قال في حديثه « كالسفينة المرفأة في البحر » .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ونفخ في صور الخلق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) أي في الخلق. قوله: ( فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ ) يقول: ففزع من في السموات من الملائكة ومن في الأرض من الجن والإنس والشياطين, من هول ما يعاينون ذلك اليوم.

فإن قال قائل: وكيف قيل: ( فَفَزِعَ ) , فجعل فزع وهي فعل مردودة على ينفخ, وهي يَفْعُلُ؟ قيل: العرب تفعل ذلك في المواضع التي تصلح فيها إذا, لأن إذا يصلح معها فعل ويفعل, كقولك: أزورك إذا زرتني, وأزورك إذا تزورني, فإذا وضع مكان إذا يوم أجرى مجرى إذا. فإن قيل: فأين جواب قوله: ( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ ) ؟ قيل: جائز أن يكون مضمرا مع الواو, كأنه قيل: ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون, وذلك يوم ينفخ في الصور. وجائز أن يكون متروكا اكتفي بدلالة الكلام عليه منه, كما قيل: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فترك جوابه.

وقوله: ( إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) قيل: إن الذين استثناهم الله في هذا الموضع من أن ينالهم الفزع يومئذ الشهداء, وذلك أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون, وإن كانوا في عداد الموتى عند أهل الدنيا, وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد ذكرناه في الخبر الماضي.

وحدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا العوّام عمن حدثه, عن أبي هريرة, أنه قرأ هذه الآية: ( فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) قال: هم الشهداء.

وقوله: ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) يقول: وكلّ أتوه صاغرين.

وبمثل الذي قلنا في ذلك, قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) يقول: صاغرين.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة: ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) قال: صاغرين.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) قال: الداخر: الصاغر الراغم, قال: لأن المرء الذي يفزع إذا فزع إنما همته الهرب من الأمر الذي فزع منه, قال: فلما نُفخ في الصور فزعوا, فلم يكن لهم من الله منجى.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار : « وَكُل آتَوهُ » بمدّ الألف من أتوه على مثال فاعلوه سوى ابن مسعود, فإنه قرأه: « وكُلٌّ أتُوهُ » على مثال فعلوه, واتبعه على القراءة به المتأخرون الأعمش وحمزة, واعتلّ الذين قرءوا ذلك على مثال فاعلوه بإجماع القراء على قوله: ( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ ) قالوا: فكذلك قوله: « آتَوهُ » في الجمع. وأما الذين قرءوا على قراءة عبد الله, فإنهم ردوه على قوله: ( فَفَزِعَ ) كأنهم وجَّهوا معنى الكلام إلى: ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض, وأتوه كلهم داخرين, كما يقال في الكلام: رأى وفر وعاد وهو صاغر.

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار, ومتقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ( 88 )

يقول تعالى ذكره: ( وَتَرَى الْجِبَالَ ) يا محمد ( تَحْسبَهُا ) قائمة ( وهي تَمُرُّ ) .

كالذي حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ) يقول: قائمة. وإنما قيل : ( وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ) لأنها تجمع ثم تسير, فيحسب رائيها لكثرتها أنها واقفة, وهي تسير سيرا حثيثا, كما قال الجعدي:

بِـأَرْعَنَ مِثْـلَ الطَّـوْدِ تَحْسِـبُ أَنَّهُـمْ وُقُــوفٌ لحِــاجٍ والرّكـابُ تُهَمْلـجُ

قوله: ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) وأوثق خلقه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك, قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) يقول: أحكم كلّ شيء.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) يقول: أحسن كلّ شيء خلقه وأوثقه.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) قال: أوثق كلّ شيء وسوّى.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد: ( أتْقَنَ ) أوثق.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قَتادة: ( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشرّ وطاعة له ومعصية, وهو مجازي جميعهم على جميع ذلك على الخير الخيرَ, وعلى الشرِّ الشرّ نظيره.