القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 7 )

يقول تعالى ذكره: والذين آمنوا بالله ورسوله، فصحّ إيمانهم عند ابتلاء الله إياهم وفتنته لهم، ولم يرتدّوا عن أديانهم بأذى المشركين إياهم ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) التي سلفت منهم في شركهم ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول: ولنثيبنهم على صالحات أعمالهم في إسلامهم، أحسن ما كانوا يعملون في حال شركهم مع تكفيرنا سيئات أعمالهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 8 )

يقول تعالى ذكره: ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ ) فيما أنـزلنا إلى رسولنا ( بِوَالِدَيْهِ ) أن يفعل بهما ( حُسْنا ) .

واختلف أهل العربية في وجه نصب الحسن، فقال بعض نحويِّي البصرة: نُصب ذلك على نية تكرير وصيّنا. وكأن معنى الكلام عنده: ووصينا الإنسان بوالديه، ووصيناه حسنا. وقال: قد يقول الرجل وصيته خيرا: أي بخير.

وقال بعض نحويي الكوفة: معنى ذلك: ووصينا الإنسان أن يفعل حُسنا، ولكن العرب تسقط من الكلام بعضه إذا كان فيما بقي الدلالة على ما سقط، وتعمل ما بقي فيما كان يعمل فيه المحذوف، فنصب قوله: ( حُسْنا ) وإن كان المعنى ما وصفت وصينا؛ لأنه قد ناب عن الساقط، وأنشد في ذلك:

عَجِــبْتُ مِــنْ دَهْمـاءَ إذْ تَشْـكُونا وَمِــن أبــي دَهْمـاءَ إذْ يُوصِينـا

خَيْرًا بها كأنَّنا جافُونا

وقال: معنى قوله: يوصينا خيرا: أن نفعل بها خيرا، فاكتفى بيوصينا منه، وقال: ذلك نحو قوله: فَطَفِقَ مَسْحًا أي يمسح مسحا.

وقوله: ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ) يقول: ( ووصينا الإنسان ) ، فقلنا له: إن جاهداك والداك لتشرك بي ما ليس لك به علم أنه ليس لي شريك، فلا تطعهما فتشرك بي ما ليس لك به علم ابتغاء مرضاتهما، ولكن خالفهما في ذلك ( إليّ مرجعكم ) يقول تعالى ذكره: إليّ معادكم ومصيركم يوم القيامة ( فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول: فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال وسيئاتها، ثم أجازيكم عليها المحسن بالإحسان، والمسيء بما هو أهله.

وذُكر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب سعد بن أبي وقاص.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ... ) إلى قوله: ( فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال: نـزلت في سعد بن أبي وَقَّاص لما هاجر، قالت أمه: والله لا يُظِلُّني بيت حتى يرجع، فأنـزل الله في ذلك أن يحْسِن إليهما، ولا يطيعَهما في الشرك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ( 9 )

يقول تعالى ذكره: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ورسوله ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) من الأعمال، وذلك أن يُؤَدُّوا فرائض الله، ويجتنبوا محَارمه ( لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) في مَدْخل الصالحين، وذلك الجنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ( 10 )

يقول تعالى ذكره: ومن الناس من يقول: أقررنا بالله فوحَّدناه، فإذَا آذاه المشركون في إقراره بالله، جعل فتنة الناس إياه في الدنيا، كعذاب الله في الآخرة، فارتدّ عن إيمانه بالله، راجعا على الكفر به ( وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ) يا محمد أهل الإيمان به ( لَيَقُولُنَّ ) هؤلاء المرتدّون عن إيمانهم، الجاعلون فتنة الناس كعذاب الله ( إنَّا كُنَّا ) أيها المؤمنون ( مَعَكُمْ ) ننصركم على أعدائكم، كذبا وإفكا، يقول الله: ( أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ ) أيها القوم من كلّ أحد ( بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ) جميع خلقه، القائلين آمنا بالله وغَيرِهم، فإذا أُوذِي في الله ارتد عن دين الله فكيف يخادع من كان لا يخفى عليه خافية، ولا يستتر عنه سرا ولا علانية.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) قال: فتنته أن يرتدّ عن دين الله إذا أوذي في الله.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ... ) إلى قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ قال: أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة.

حُدِّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: قوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ... ) الآية، نـزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين، رجعوا إلى الكفر مخافة من يؤذيهم، وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قول الله: ( فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) قال: هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر، وجعل فتنة الناس كعذاب الله.

وذُكر أن هذه الآية نـزلت في قوم من أهل الإيمان كانوا بمكة، فخرجوا مهاجرين، فأدركوا وأُخذوا فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم.

* ذكر الخبر بذلك:

حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنـزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ... إلى آخر الآية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية أن لا عذر لهم، فخرجوا. فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنـزلت فيهم هذه الآية ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ... ) إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كلّ خير، ثم نـزلت فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا، فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم، حتى نجا من نجا، وقُتل من قُتل.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ ... ) إلى قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ قال: هذه الآيات أنـزلت فِي القوم الذين ردّهم المشركون إلى مكة، وهذه الآيات العشر مدنية إلى ههنا وسائرها مكي.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ( 11 )

يقول تعالى ذكره: وليعلمنّ الله أولياء الله، وحزبه أهل الإيمان بالله منكم أيها القوم، وليعلمنّ المنافقين منكم حتى يميزوا كلّ فريق منكم من الفريق الآخر، بإظهار الله ذلك منكم بالمحن والابتلاء والاختبار وبمسارعة المسارع منكم إلى الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام، وتثاقل المتثاقل منكم عنها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 12 )

يقول تعالى ذكره: وقال الذين كفروا بالله من قريش للذين آمنوا بالله منهم ( اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ) يقول: قالوا: كونوا على مثل ما نحن عليه من التكذيب بالبعث بعد الممات وجحود الثواب والعقاب على الأعمال ( وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) يقول: قالوا فإنكم إن اتبعتم سبيلنا في ذلك، فبعثتم من بعد الممات، وجوزيتم على الأعمال، فإنا نتحمل آثام خطاياكم حينئذ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ) قال: قول كفار قريش بمكة لمن آمن منهم، يقول: قالوا: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتبعونا إن كان عليكم شيء فهو علينا.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) هم القادة من الكفار، قالوا لمن آمن من الأتباع: اتركوا دين محمد واتبعوا ديننا، وهذا أعني قوله: ( اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ) وإن كان خرج مخرج الأمر، فإن فيه تأويل الجزاء، ومعناه ما قلت: إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم، كما قال الشاعر:

فَقُلْــت ادْعِــي وأدْع فـإنَّ أنْـدَى لِصَـــوْتٍ أنْ يُنــادِيَ دَاعيــانِ

يريد: ادعي ولأدع، ومعناه: إن دعوت دعوت.

وقوله: ( وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) وهذا تكذيب من الله للمشركين القاتلين للذين آمنوا ( اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ) يقول جلّ ثناؤه: وكذبوا في قيلهم ذلك لهم، ما هم بحاملين من آثام خطاياهم من شيء، إنهم لكاذبون فيما قالوا لهم ووعدوهم، من حمل خطاياهم إن هم اتبعوهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 13 )

يقول تعالى ذكره: وليحملنّ هؤلاء المشركون بالله القائلون للذين آمنوا به اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم أوزار أنفسهم وآثامها، وأوزار من أضلوا وصدّوا عن سبيل الله مع أوزارهم، وليسألن يوم القيامة عما كانوا يكذّبونهم في الدنيا بوعدهم إياهم الأباطيل، وقيلهم لهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم فيفترون الكذب بذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ ) أي أوزارهم ( وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) يقول: أوزار من أضلوا.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) . وقرأ قوله: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ قال: فهذا قوله: ( وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ( 14 )

وهذا وعيد من الله تعالى ذكره هؤلاء المشركين من قريش، القائلين للذين آمنوا: اتبعوا سبيلَنا، ولنحمل خطاياكم، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزننك يا محمد ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى، فإني وإن أمليت لهم فأطلت إملاءهم، فإن مصير أمرهم إلى البوار، ومصير أمرك وأمر أصحابك إلى العلوّ والظفر بهم، والنجاة مما يحلّ بهم من العقاب، كفعلنا ذلك بنوح، إذ أرسلناه إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد، وفراق الآلهة والأوثان، فلم يزدهم ذلك من دعائه إياهم إلى الله من الإقبال إليه، وقبول ما أتاهم به من النصيحة من عند الله إلا فرارا.

وذُكر أنه أُرسل إلى قومه وهو ابن ثلاث مئة وخمسين سنة.

كما حدثنا نصر بن عليّ الْجَهْضَمِيّ، قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا عون بن أبي شداد، قال: إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مئة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مئة سنة، فأخذهم الطوفان، يقول تعالى ذكره: فأهلكهم الماء الكثير، وكلّ ماء كثير فاش طامٌّ؛ فهو عند العرب طوفان، سيلا كان أو غيره، وكذلك الموت إذا كان فاشيا كثيرا، فهو أيضا عندهم طوفان؛ ومنه قول الراجز:

أَفْنَاهُـْم طُوفان مَوْتٍ جارِفِ

وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: ( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ ) قال: هو الماء الذي أرسل عليهم.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: الطوفان: الغرق.

وقوله: ( وَهُمْ ظالِمُونَ ) يقول: وهم ظالمون أنفسهم بكفرهم.