القول في تأويل قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ( 17 )

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، وقد علمتَ أن « الهاء والميم » من قوله « مثلهم » كناية جِمَاعٍ - من الرجال أو الرجال والنساء - و « الذي » دلالة على واحد من الذكور؟ فكيف جعَل الخبر عن واحد مَثلا لجماعة؟ وهلا قيل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا؟ وإن جاز عندك أن تمثلَ الجماعةَ بالواحد، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبتْه صُوَرهم وتمامُ خلقهم وأجسامهم، أن يقول: كأنّ هؤلاء, أو كأنّ أجسامَ هؤلاء, نخلةٌ؟

قيل: أما في الموضع الذي مثَّل ربُّنا جل ثناؤه جماعةً من المنافقين، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسنٌ, وفي نظائره كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [ سورة الأحزاب: 19 ] ، يعني كَدَوَرَان عيْنِ الذي يُغشى عليه من الموت - وكقوله: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ سورة لقمان: 28 ] بمعنى: إلا كبَعْث نفسٍ واحدة.

وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال، في الطول وتمام الخلق، بالواحدة من النخيل, فغير جائز، ولا في نظائره، لفرق بينهما.

فأما تمثيلُ الجماعة من المنافقين بالمستوقِدِ الواحد, فإنما جاز، لأن المرادَ من الخبر عن مَثَل المنافقين، الخبرُ عن مَثَل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرَّديئة, وخلطهم نفاقَهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والاستضاءَةُ - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنًى واحد، لا معانٍ مختلفة. فالمثل لها في معنى المثَل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص.

وتأويل ذلك: مَثلُ استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قولا وهُم به مكذبون اعتقادًا, كمثَل استضاءة المُوقِد نارًا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثَلُ إليهم, كما قال نابغةُ بني جَعْدَة:

وَكَــيْفَ تُــوَاصِل مـن أَصْبَحَـتْ خِلالَتُــــهُ كَـــأَبِي مَرْحَـــبِ

يريد: كخلالة أبي مَرْحب, فأسقط « خلالة » , إذ كان فيما أظهرَ من الكلام، دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، لما كان معلومًا عند سامعيه بما أظهرَ من الكلام، أنّ المثلَ إنما ضُرِب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حَسُن حذفُ ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا. فلما وَصَفنا، جاز وحَسُنَ قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد, إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.

وأما إذا أريدَ تشبيهُ الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام، بشيء - فالصَّواب من الكلام تشبيهُ الجماعة بالجماعة، والواحدُ بالواحد, لأن عينَ كل واحد منهم غيرُ أعيان الآخرين.

ولذلك من المعنى، افترق القولُ في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيهُ أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحدٍ - بفعل الواحد, ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثَل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال: ما أفعالكم إلا كفِعل الكلب, ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب, - وأنت تعني: إلا كفعل الكلب, وإلا كفعل الكلاب. ولم يَجُزْ أن تقول: ما هم إلا نخلة, وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطُّول والتمام.

وأما قوله: ( اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، فإنه في تأويل: أوقدَ، كما قال الشاعر:

وَدَاعٍ دَعَـا: يَـا مَـنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَــمْ يَسْــتَجِبْهُ عِنْـدَ ذَاكَ مُجِـيبُ

يريد: فلم يُجبه. فكان معنى الكلام إذًا: مَثلُ استضاءة هؤلاء المنافقين - في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم، من قولهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به, وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم مثل استضاءة موقِد نارٍ بناره، حتى أضاءت له النارُ ما حوله, يعني: ما حول المستوقِدِ.

وقد زعم بعضُ أهل العربية من أهل البصرة: أن « الذي » في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » بمعنى الذين، كما قال جل ثناؤه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [ سورة الزمر: 33 ] ، وكما قال الشاعر:

فَــإِنَّ الَّـذِي حَـانَتْ بِفَلْـجٍ دِمَـاؤُهُمْ هُـمُ الْقَـوْمُ كُـلُّ الْقَـوْمِ يَـا أُمَّ خَـالِدِ

قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول، لما وصفنا من العِلة. وقد أغفل قائل ذلك فرقَ ما بين « الذي » في الآيتين وفي البيت. لأن « الذي » في قوله: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ، قد جاءت الدّلالة على أن معناها الجمع, وهو قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، وكذلك « الذي » في البيت, وهو قوله « دماؤهم » . وليست هذه الدلالة في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » . فذلك فَرْق ما بين « الذي » في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » ، وسائر شواهده التي استشهد بها على أنّ معنى « الذي » في قوله: « كمثل الذي استوْقَدَ نَارًا » بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها.

ثم اختلفت أهل التأويل في تأويل ذلك. فرُوِي عن ابن عباس فيه أقوال:

أحدها- ما:

حدثنا به محمد بن حُميد, قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مَثلا فقال: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) أي يُبصرون الحق ويقولون به, حتى إذا خَرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكُفرهم ونفاقِهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والآخر- ما:

حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء, فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النار ضَوءَه. ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) يقول: في عذاب.

والثالث: ما-

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، زَعم أنَّ أناسًا دخلوا في الإسلام مَقدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قَذًى أو أذًى فأبصره حتى عرف ما يتَّقي, فبينا هو كذلك، إذ طَفِئَت ناره، فأقبل لا يدري ما يتَّقي من أذًى. فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلالَ من الحرام, والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذْ كفَر, فصار لا يعرف الحلال من الحرام, ولا الخير من الشرّ. وأما النُّور، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم. والآخر: ما-

حدثني به محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، ضرَبه الله مثلا للمنافق. وقوله: ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة، فهي ضلالتهُم وكفرهم يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدًى ثم نُـزع منهم، فعتَوْا بعد ذلك.

وقال آخرون: بما-

حدثني به بِشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، وإن المنافقَ تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكَح بها المسلمين، وَغازَى بها المسلمين ، ووارثَ بما المسلمين، وَحقن بها دَمه وماله. فلما كان عند الموت، سُلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في علمه.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعْمَر, عن قتادة « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » هي: لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا، وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني أبو تُميلة, عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم، قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » ، قال: أما النّور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات, فهي ضلالتهم وكفرهم.

وقال آخرون بما:-

حدثني به محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله » ، قال: أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, عن شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » ، أما إضاءة النار، فإقبالُهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.

حدثني القاسم, قال: حدثني الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ضَرب مثلَ أهل النفاق فقال: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا » ، قال: إنما ضوءُ النار ونورُها ما أوقَدَتها, فإذا خمدت ذهب نورُها. كذلك المنافق، كلما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاءَ له, فإذا شك وقع في الظلمة.

حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد، في قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا » إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاءَ الإيمانُ في قلوبهم، كما أضاءَت النارُ لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون .

وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة، والضحاك, وما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وذلك: أن الله جلّ ثناؤه إنما ضرَب هذا المثل للمنافقين - الذين وَصَف صفتَهم وقص قصصهم، من لدُن ابتدأ بذكرهم بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ - لا المعلنين بالكفر المجاهرين بالشرْك . ولو كان المثل لمن آمنَ إيمانًا صحيحًا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحًا - على ما ظنّ المتأول قولَ الله جل ثناؤه: ( كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءَتْ ما حولَه ذهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) : أن ضوءَ النار مثلٌ لإيمانهم الذي كان منهم عندَهُ على صحةٍ, وأن ذهاب نورهم مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن . هناك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ. وأنَّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممن لم يُبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجبَ لك العلم بحاله التي هو لك عليها, وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إنّ هذا بغير شَكّ من النفاق بَعيدٌ، ومن الخداع بريءٌ. وإذْ كان القومُ لم تكن لهم إلا حالتان : حالُ إيمان ظاهر، وحال كفر ظاهر, فقد سقط عن القوم اسمُ النفاق. لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين, وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالةَ هناك ثالثةً كانوا بها منافقين.

وفي وَصْف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق، ما ينبئ عن أن القول غيرُ القول الذي زعمه من زَعم: أن القوم كانوا مؤمنين، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه, إلا أنْ يكون قائلُ ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه، إلى الكفر الذي هو نفاق. وذلك قولٌ إن قاله، لم تُدرَك صحته إلا بخبر مستفيض، أو ببعض المعاني الموجبة صحتَه. فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه.

فإذْ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك, فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءَة المنافقين - بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به, وقولهم له وللمؤمنين: آمنَّا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر, حتى حُكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين: في حَقن الدماء والأموال، والأمن على الذرية من السِّباء, وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقِد النار بالنارَ, حتى إذا ارتفق بضيائها، وأبصرَ ما حوله مُستضيئًا بنوره من الظلمة, خَمدت النارُ وانطفأت, فذهب نورُه, وعاد المستضيء به في ظلمة وَحيْرة.

وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الذي دَافع عنه في حَياته القتلَ والسِّباءَ، مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتلَ وسلبَ المال لو أظهره بلسانه - تُخيِّل إليه بذلك نفْسُه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادعٌ, حتى سوّلت له نفسُه - إذْ وَرَد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذْ نعتهم، ثم أخبر خبرَهم عند ورودهم عليه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ سورة المجادلة: 18 ] ، ظنًّا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا : من الكذب والإفك، وأنّ خداعهم نافعُهم هنالك نفعَه إياهم في الدنيا، حتى عايَنوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال, واستهزاء بأنفسهم وخداع, إذْ أطفأ الله نورَهم يوم القيامة، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوْا سَعيرًا. فذلك حينَ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون, كما انطفأت نار المستوقِدِ النارَ بعد إضاءتها له, فبقي في ظلمته حيران تائهًا، يقول الله جل ثناؤه: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ سورة الحديد: 13- 15 ] .

فإن قال لنا قائل: إنك ذكرتَ أنّ معنى قول الله تعالى ذكره « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت مَا حَوله » : خَمدتْ وانطفأتْ, وليس ذلك بموجود في القرآن. فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟

قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفتْ وتركتْ, كما قال أبو ذؤيب الهذلي:

عَصَيْـتُ إليهَـا الْقَلْـبَ, إِنِّـي لأمرِهَا سَـمِيعٌ, فَمَـا أَدْرِي أَرُشْـدٌ طِلابهـا!

يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طِلابُها أم غَيٌّ, فحذف ذكر « أم غيٌّ » , إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير:

فَلَمَّـا لَبِسْـنَ اللَّيْـلَ, أو حِـينَ, نصَّبتْ لَـهُ مِـن خَـذَا آذَانِهَـا وَهْـو جَـانح

يعني: أو حين أقبل الليل، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله » ، لمَّا كان فيه وفيما بعدَه من قوله: « ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون » دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره - اختصرَ الكلامَ طلبَ الإيجاز.

وكذلك حذفُ ما حذفَ واختصارُ ما اختصرَ من الخبر عن مَثل المنافقين بَعدَه, نظير ما اختصرَ من الخبر عن مَثَل المستوقد النارَ. لأن معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذَهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضَوء نار هذا المستوقد، بانطفاء ناره وخمودها، فبقي في ظلمة لا يُبصر.

و « الهاء والميم » في قوله « ذهب الله بنورهم » ، عائدة على « الهاء والميم » في قوله « مَثَلهم » .

 

القول في تأويل قول الله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )

قال أبو جعفر: وإذْ كانَ تأويل قول الله جلّ ثناؤه: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ، هو ما وصفنا - من أنّ ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة, عند هتك أستارهم, وإظهاره فضائح أسرارهم, وسَلبه ضياءَ أنوارهم، من تركهم في ظُلَم أهوال يوم القيامة يترددون, وفي حَنادسها لا يُبصرون - فبيّنٌ أنّ قوله جل ثناؤه: « صمٌّ بكم عميٌ فَهم لا يرجعون » من المؤخّر الذي معناه التقديم, وأنّ معنى الكلام: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين, صُمٌّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون، مَثلهم كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءتْ ما حوْله ذهبَ الله بنورهم وترَكهم في ظُلمات لا يبصرون, أو كمثل صَيِّب من السماء.

وإذْ كان ذلك معنى الكلام: فمعلومٌ أن قوله: « صُمٌّ بكمٌ عُميٌ » ، يأتيه الرفع من وجهين, والنصب من وجهين:

فأما أحدُ وجهي الرفع: فعلى الاستئناف، لما فيه من الذم. وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم, فتنصِب وتَرفع، وإن كان خبرًا عن معرفة, كما قال الشاعر:

لا يَبْعَــدَنْ قَــوْمِي الَّــذِينَ هُــمُ سَـــمُّ الْعُــدَاةِ وَآفَــةُ الْجُــزْرِ

النَّــــازِلِينَ بكـــلِّ مُعْـــتَرَكٍ وَالطَّيِّبِيـــــنَ مَعَــــاقِدَ الأُزْرِ

فيروي: « النازلون » و « النازلين » ، وكذلك « الطيِّبون » و « الطيِّبين » , على ما وصفتُ من المدح.

والوجهُ الآخر: على نية التكرير من أُولَئِكَ , فيكون المعني حينئذ: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، أولئك صُمٌّ بكم عمي فهم لا يرجعون.

وأمَّا أحد وَجهي النصب: فأن يكون قَطعًا مما في مُهْتَدِينَ من ذكر أُولَئِكَ ، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة, والصم نكرة.

والآخر: أن يكون قطعا من الَّذِينَ , لأن الَّذِينَ معرفة و « الصم » نكرة .

وقد يجوز النصبُ فيه أيضًا على وجه الذم، فيكون ذلك وجهًا من النصب ثالثًا.

فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وَجه رواية علي بن أبي طلحة عنه, فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد، وهو الاستئناف.

وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما: الذم, والآخرُ: القطع من « الهاء والميم » اللتين في « تركهم » , أو من ذكرهم في لا يُبْصِرُونَ .

وقد بيّنا القولَ الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءةُ التي هي القراءةُ، الرفعُ دُون النصب . لأنه ليس لأحد خلافُ رسوم مَصَاحف المسلمين. وإذا قُرئ نصبًا كانتْ قراءةً مخالفة رسم مصاحفهم.

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن المنافقين: أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين, بل هم صُمٌّ عنهما فلا يسمعونهما، لغلبة خِذلان الله عليهم, بُكمٌ عن القيل بهما فلا ينطقون بهما - والبُكم: الخُرْسُ, وهو جِماعُ أبكم - عُميٌ عن أن يبصرُوهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.

وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل:

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « صمٌّ بكم عُميٌ » ، عن الخير.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « صم بكم عُمي » ، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يُبصرونه ولا يعقلونه.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « بكم » ، هم الخُرس.

حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، قوله « صم بكْم عُمْي » : صمٌّ عن الحق فلا يسمعونه, عمي عن الحق فلا يبصرونه, بُكم عن الحق فلا ينطقون به .

 

القول في تأويل قوله : فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )

قال أبو جعفر: وقوله « فهم لا يرجعون » ، إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدَى, وَصممِهم عن سمَاع الخير والحق, وَبكمَهم عن القيل بهما, وعَماهم عن إبصارهما - أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم, ولا يتُوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيَس المؤمنين من أن يبصرَ هؤلاء رشدًا, أو يقولوا حقًّا, أو يَسمعوا داعيًا إلى الهدى, أو أن يذَّكَّروا فيتوبوا من ضلالتهم, كما آيس من تَوبة قادة كفّار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم، الذين وَصَفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سَمعهم وغشَّى على أبصارهم.

وبمثل الذي قُلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: « فهم لا يَرجعون » ، أي: لا يتوبون ولا يذَّكَّرون.

وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فهم لا يَرْجعون » : فهم لا يرجعون إلى الإسلام.

وقد رُوي عن ابن عباس قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر، وهو ما:-

حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « فهم لا يَرْجعون » ، أي: فلا يرجعون إلى الهدَى ولا إلى خير, فلا يصيبون نَجاةً مَا كانوا على مَا هم عليه .

وهذا تأويلٌ ظاهرُ التلاوة بخلافه. وذَلك أن الله جلّ ثناؤه أخبرَ عن القوم أنهم لا يَرجعون - عن اشترائهم الضلالة بالهدى- إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق، من غير حَصْرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، يُنبئ أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين, وأنّ لهم السبيلَ إلى الرجوع عنه. وذلك من التأويل دعوى بَاطلة ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجة فيسلم لها.

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ

قال أبو جعفر: والصّيِّب الفَيْعِل من قولك: صَاب المطر يَصوب صَوبًا، إذا انحدَر وَنـزَل, كما قال الشاعر:

فَلَسْــتُ لإِنْسِــيٍّ وَلَكِــنْ لَمَـلأَكٍ تَـنَزَّلَ مِـن جَـوِّ السَّـمَاءِ يَصُـوبُ

وكما قال علقمة بن عَبَدَة:

كَــأَنَّهمُ صَــابَتْ عَلَيْهِــمْ سَـحَابَةٌ صَوَاعِقُهَـــا لِطَـــيْرِهِنَّ دَبِيــبُ

فَــلا تَعْـدِلِي بَيْنِـي وَبيـن مُغَمَّـرٍ, سُـقِيتِ رَوَايَـا الْمُـزْنِ حـين تَصُوبُ

يعني: حين تنحدر. وهو في الأصل « صَيْوِب » ، ولكن الواو لما سَبقتها ياء ساكنة، صيرتا جميعًا ياءً مشددةً, كما قيل: سيِّد، من ساد يسود, وجيِّد، من جاد يجود. وكذلك تفعل العربَ بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة، تصيِّرهما جميعًا ياءً مشددةً.

وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن إسماعيل الأَحْمَسي, قال: حدثنا محمد بن عُبيد, قال: حدثنا هارون بن عَنترة, عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله « أو كصيِّب من السماء » ، قال: القطر.

حدثني عباس بن محمد, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قال لي عطاء: الصيّب، المطرُ.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي، عن ابن عباس قال: الصيّب، المطرُ.

حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الصيّب، المطرُ.

حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي سعدٌ, قال: حدثني عمِّي الحسين, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس، مثله.

وحدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « أو كصيِّب » ، يقول: المطر.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا مَعمر, عن قتادة، مثله.

حدثني محمد بن عمرو الباهلي, وعمرو بن علي, قالا حدّثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: الصيِّب، الربيعُ .

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: الصيِّب، المطرُ.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: الصيِّبُ، المطرُ.

حُدِّثت عن المِنجَاب, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، قال: الصيِّبُ، المطر.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد: « أو كصيِّب من السماء » قال: أو كغَيْثٍ من السماء.

حدثنا سَوّار بن عبد الله العنبري, قال: قال سفيان: الصَّيِّب، الذي فيه المطر.

حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء، في قوله: « أو كصيِّب من السماء » ، قال: المطر .

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: مَثَلُ استضاءَةِ المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام، مع استسرارهم الكفر, مَثلُ إضاءة موقد نارٍ بضوء ناره، على ما وصف جل ثناؤه من صفته, أو كمثل مَطرٍ مُظلمٍ وَدْقُه تحدَّر من السماء ، تحمله مُزنة ظلماء في ليلة مُظلمة. وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه.

فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين المثَلين: أهما مثَلان للمنافقين، أو أحدُهما؟ فإن يكونا مثلَيْن للمنافقين، فكيف قيل: « أو كصيِّب » ، و « أو » تأتي بمعنى الشك في الكلام, ولم يقل « وكصيب » بالواو التي تُلحِق المثَلَ الثاني بالمثَل الأول؟ أو يكون مَثل القوم أحدهما, فما وجه ذكر الآخر بِـ « أو » ؟ وقد علمت أنّ « أو » إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشّكّ من المخبِر فيما أخبر عنه, كقول القائل: « لقيني أخوك أو أبوك » وإنما لقيه أحدُهما, ولكنه جهل عَيْنَ الذي لقيه منهما, مع علمه أن أحدهما قد لقيه. وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يُضاف إليه الشك في شيء، أو عُزُوب عِلم شيء عنه، فيما أخبَرَ أو تَرك الخبر عنه.

قيل له: إنّ الأمرَ في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. و « أو » - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشكّ - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدلُّ عليه الواو، إما بسابق من الكلام قبلها, وإما بما يأتي بعدها، كقول تَوْبة بن الحُمَيِّر:

وَقَــدْ زَعَمَـتْ لَيْـلَى بِـأَنِّي فَـاجِرٌ لِنَفْسِــي تُقَاهَـا أَوْ عَلَيْهَـا فُجُورُهَـا

ومعلوم أنّ ذلك من توبة على غير وجه الشكّ فيما قال, ولكن لمّا كانت « أو » في هذا الموضع دالةً على مثل الذي كانت تدل عليه « الواو » لو كانت مكانها, وضَعها موضعَها، وكذلك قولُ جرير:

نَـالَ الْخِلافَـةَ أَوْ كَـانَتْ لَـهُ قَـدَرًا, كَمَـا أَتَـى رَبَّـه مُوسَـى عَـلَى قَدَرِ

وكما قال الآخر:

فَلَــوْ كَــانَ الْبُكَــاءُ يَـرُدُّ شَـيْئًا بَكَــيْتُ عَــلَى بُجَــيْرٍ أَوْ عِفَـاقِ

عَــلَى الْمَــرْأَيْنِ إِذْ مَضَيـا جَمِيعًـا لِشَـــأْنِهما, بِحُـــزْنٍ وَاشْــتِيَاقِ

فقد دلّ بقوله « على المرأين إذْ مَضَيا جميعًا » أنّ بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يُرد أن يقصدَ به أحدَهما دونَ الآخر, بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه « أو كصيِّب من السماء » . لمّا كان معلومًا أن « أو » دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه « الواو » لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب « أو » أو ب « الواو » . وكذلك وجه حذف « المثل » من قوله « أو كصيب » . لما كان قوله: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا دالا على أن معناه: كمثل صيب, حَذفَ « المثَل » ، واكتفى - بدلالة ما مضى من الكلام في قوله: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا على أن معناه: أو كمثل صيِّب - من إعادة ذكر المثلَ، طَلبَ الإيجاز والاختصار.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا

قال أبو جعفر: فأما الظلمات، فجمعٌ, واحدها ظُلمة.

أما الرَّعد، فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه:

فقال بعضهم: هو مَلك يَزجُر السحابَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شُعبة، عن الحكم, عن مجاهد, قال: الرعد، مَلك يَزجُر السحاب بصوته.

حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عَديّ, عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: حدتنا فُضَيْل بن عِيَاض, عن ليث, عن مجاهد، مثله .

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هُشيم قال: أنبأنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح, قال: الرَّعد، مَلك من الملائكة يُسبِّح .

حدثني نَصر بن عبد الرحمن الأزدي, قال: حدثنا محمد بن يَعْلَى, عن أبي الخطاب البصري, عن شَهر بن حَوشب، قال: الرّعد، مَلك موكَّل بالسحاب يَسوقه، كما يسوق الحادي الإبل, يُسبِّح. كلما خالفتْ سحابةٌ سحابةً صاح بها, فإذا اشتد غَضبه طارت النارُ من فيه، فهي الصواعقُ التي رأيتم .

حدثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: الرَّعد، مَلَك من الملائكة اسمه الرعد, وهو الذي تسمعون صوته.

حَدَّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبد الملك بن حسين، عن السُّدّيّ، عن أبي مالك, عن ابن عباس, قال: الرعد، مَلَك يَزجُر السحاب بالتسبيح والتكبير .

وحدثنا الحسن بن محمد, قال: حدثنا علي بن عاصم, عن ابن جُريج, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: الرعد اسم مَلَك, وصوتهُ هذا تسبيحه, فإذا اشتد زَجْرُه السحابَ، اضطرب السحابُ واحتكَّ. فتخرج الصَّواعق من بينه.

حدثنا الحسن, قال: حدثنا عفان. قال: حدثنا أبو عَوَانة, عن موسى البزار, عن شهر بن حَوْشب، عن ابن عباس, قال: الرعدُ مَلَكٌ يسوق السحاب بالتسبيح, كما يسوق الحادي الإبل بحُداته.

حدثنا الحسن بن محمد, قال: حدثنا يحيى بن عَبَّاد، وشَبابة، قالا حدثنا شعبة, عن الحكَم, عن مجاهد, قال: الرَّعد مَلكٌ يزجر السحاب.

حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا عتَّاب بن زياد, عن عكرمة, قال: الرعد مَلك في السحاب، يَجمع السحابَ كما يَجمع الراعي الإبل.

وحدثنا بشر, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الرعد خَلْقٌ من خَلق الله جل وعز، سامعٌ مطيعٌ لله جل وعَز.

حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, عن عكرمة, قال: إن الرعد مَلكٌ يُؤمر بإزجاء السحاب فيؤلِّف بينه, فذلك الصوت تسبيحه.

وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد, قال: الرعد مَلك.

وحدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن المغيرة بن سالم, عن أبيه، أو غيره, أن علي بن أبي طالب قال: الرعد: مَلك.

حدثنا المثنى, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جَهْضم، مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْدِ يسألهُ عن الرعد، فقال: الرعد مَلك .

حدثنا المثنى, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا عمر بن الوليد الشَّنّي, عن عكرمة, قال: الرعدُ ملكٌ يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل .

حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكَم بن أبان, عن عكرمة, قال: كان ابن عباس إذا سمع الرعد, قال: سُبحان الذي سَبَّحتَ له. قال: وكان يقول: إن الرَّعد مَلكٌ يَنعَق بالغيث كما ينعَقُ الراعي بغنمه .

وقال آخرون: إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصَّاعد، فيكون منه ذلك الصوت.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل, عن أبي كثير, قال: كنت عند أبي الجَلد, إذْ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه, فكتب إليه: « كتبتَ تَسألني عن الرّعد, فالرعد الريح . »

حدثني إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عِمْران بن مَيسرة, قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفُرات, عن أبيه قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلد يسأله عن الرعد, فقال: الرعد ريح .

قال أبو جعفر: فإن كان الرّعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد, فمعنى الآية: أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات وصوتُ رَعد. لأن الرعد إن كان مَلَكًا يسوق السَّحاب, فغير كائن في الصيِّب، لأن الصيِّب إنما هو ما تحدَّر من صَوْب السحاب، والرعد إنما هو في جو السماء يَسوق السحاب. على أنه لو كان فيه ثَمَّ لم يكن له صوت مسموع, فلم يكن هنالك رُعب يُرْعَب به أحد . لأنه قد قيل: إنّ مع كل قطرةٍ من قطر المطر مَلَكًا, فلا يعدُو الملكُ الذي اسمه « الرعد » ، لو كان مع الصيِّب، إذا لم يكن مسموعًا صوته، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنـزل مع القطر إلى الأرض، في أن لا رُعب على أحد بكونه فيه. فقد عُلم - إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس- أنّ معنى الآية: أو كمثَل غَيث تحدَّر من السماء فيه ظلماتٌ وصوتُ رعدٍ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس, وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام مِنْ ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الجَلد، فلا شيء في قوله « فيه ظلماتٌ ورَعدٌ » متروك. لأن معنى الكلام حينئذ: فيه ظلمات ورعدٌ الذي هو ما وصفنا صفته.

وأما البَرْق, فإن أهل العلم اختلفوا فيه: فقال بعضهم بما:-

حدثنا مَطرُ بن محَمد الضَّبّي, قال: حدثنا أبو عاصم، - ح- وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، - ح- وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قالوا جميعًا: حدثنا سفيان الثوري, عن سَلمة بن كُهيل, عن سعيد بن أشْوَعَ, عن ربيعة بن الأبيض, عن علي، قال: البرق: مخاريقُ الملائكة .

حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبد الملك بن الحسين, عن أبي مالك, عن السُّدّيّ، عن ابن عباس: البرقُ مخاريقُ بأيدي الملائكة، يزْجرون بها السحاب.

وحدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا حماد, عن المغيرة بن سالم, عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرَّعد الملَك, والبرق ضَرْبه السحابَ بمخراق من حديد.

وقال آخرون: هو سوطٌ من نور يُزجي به الملكُ السحابَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، بذلك.

وقال آخرون: هو ماء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل, عن أبي كثِير, قال: كنت عند أبي الجَلْد، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه, فكتب إليه: « كتبت إليّ تسألني عن البرق, فالبرق الماء » .

حدثنا إبراهيم بن عبد الله, قال: حدثنا عمران بن مَيسرة, قال: حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن الفرات, عن أبيه, قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن البرق, فقال: البرق ماء.

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن رجل، من أهل البصرة من قُرَّائهم, قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد - رجل من أهل هَجَر- يسأله عن البرق, فكتب إليه: « كتبت إليّ تسألني عن البرق، وإنه من الماءِ » .

وقال آخرون: هو مَصْع مَلَك .

حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد, قال: البرق، مَصْع مَلك .

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عن محمد بن مُسلم الطائفي, قال: بلغني أن البرق مَلكٌ له أربعة أوجه، وجهُ إنسان, ووجه ثَور, ووجه نَسر, ووجه أسد, فإذا مَصَع بأجنحته فذلك البرق .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن وهب بن سليمان, عن شُعيب الجَبَائي قال: في كتاب الله: الملائكة حَمَلة العرش, لكل مَلك منهم وَجه إنسان وثور وأسد, فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق . وقال أميةُ بن أبي الصلت:

رَجُـلٌ وَثَـوْرٌ تَحْـتَ رِجْـلِ يَمِينِـهِ وَالنَّسْــرُ لِلأُخْـرَى, وَلَيْـثٌ مُرْصِـدُ

حدثنا الحسين بن محمد, قال: حدثنا علي بن عاصم, عن ابن جُريج, عن مجاهد, عن ابن عباس: البرق ملك.

وقد حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، قال: الصواعق مَلَك يضربُ السحابَ بالمخاريق، يُصيب منه من يشاء .

قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد. وذلك أن تكون المخاريقُ التي ذكر عليّ رضي الله عنه أنها هي البرق، هي السياط التي هي من نور، التي يُزجي بها الملك السحاب, كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك بها السحاب، مَصْعَه إياه . وذلك أن المِصَاعَ عند العرب، أصله: المجالَدَةُ بالسيوف, ثم تستعمله في كل شيء جُولد به في حرب وغير حرب, كما قال أعشى بني ثعلبة، وهو يصف جَواريَ يلعبن بِحلْيهنَّ ويُجالدْن به .

إِذَا هُـــنَّ نَـــازَلْنَ أَقَـــرَانَهُنَّ وَكَـانَ الْمِصَـاعُ بِمَـا فِـي الْجُـوَنْ

يقال منه: ماصَعه مصاعًا. وكأن مجاهدًا إنما قال: « مَصْعُ ملك » , إذْ كان السحاب لا يماصع الملك, وإنما الرعد هو المماصع له, فجعله مصدرًا من مَصَعه يَمْصَعه مَصْعًا.

وقد ذكرنا ما في معنى « الصاعقة » - ما قال شَهر بن حَوشب فيما مضى.

وأما تأويل الآية, فإن أهل التأويل مُختلفون فيه:

فرُوي عن ابن عباس في ذلك أقوال: أحدها: ما-

حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات ورَعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت » : أي هم من ظُلمات ما هم فيه من الكفر والحذَر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف، من الذي هو في ظلمة الصيب, فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حَذَرَ الموت، يكاد البرق يخطفُ أبصارهم - أي لشدة ضوء الحق- كلما أضاءَ لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، أي يعرفون الحق ويتكلمون به, فهم من قولهم به على استقامة, فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين .

والآخر: ما-

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « أو كصيِّب من السماء فيه ظُلماتٌ ورَعدٌ وبرق » إلى إنّ الله عَلى كل شيء قدير ، أما الصيب فالمطر . كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين, فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعدٌ شديد وصواعقُ وبرقٌ, فجعلا كلَّما أضاء لهما الصواعقُ جعلا أصابعَهما في آذانهما، من الفَرَق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما. وإذا لمع البرق مَشيا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصِرا وقاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتيَ محمدًا فنضعَ أيدينا في يده. فأصبحا، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحَسُن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين المنافقيْن الخارجيْن مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم، فَرَقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن يَنـزِل فيهم شيء أو يُذكَروا بشيء فيقتَلوا, كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما, وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم، ووُلد لهم الغلمان ، وأصابوا غنيمةً أو فتحًا، مشوْا فيه, وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دينُ صدق. فاستقاموا عليه, كما كان ذانك المنافقان يمشيان، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه, وإذا أظلم عليهم قاموا . فكانوا إذا هلكت أموالهم, ووُلد لهم الجواري, وأصابهم البلاء ، قالوا: هذا من أجل دين محمد. فارتدوا كفارًا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما .

والثالث: ما-

حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي, قال: حدثني عمي, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، كمطر، « فيه ظلمات ورعدٌ وبرقٌ » إلى آخر الآية, هو مَثل المنافق في ضوء ما تكلّم بما معه من كتاب الله وعمل, مُراءَاةً للناس, فإذا خلا وحده عَمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلماتُ فالضلالةُ, وأما البرقُ فالإيمان, وهم أهل الكتاب.

وإذا أظلم عليهم, فهو رجلٌ يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يُجاوزه .

والرابع: ما-

حدثني به المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، وهو المطر, ضرب مَثله في القرآن يقول: « فيه ظلمات » , يقول: ابتلاء، « ورعد » يقول فيه تخويف, « وبرق » ، « يكاد البرق يخطف أبصارهم » ، يقول: يكاد محكم القرآن يدُلّ على عورات المنافقين, « كلما أضاء لهم مَشوا فيه » . يقول: كلما أصابَ المنافقون من الإسلام عِزًّا اطمأنوا, وإن أصابَ الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر يقول: « وإذا أظلم عَليهم قاموا » ، كقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [ سورة الحج: 11 ] .

ثم اختلف سائر أهل التأويل بعدُ في ذلك، نظيرَ ما روي عن ابن عباس من الاختلاف:

فحدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد, قال: إضاءة البرق وإظلامُه، على نحو ذلك المثَل.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، مثلَه.

حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.

وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، في قول الله: « فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ » إلى قوله « وإذا أظلم عليهم قاموا » , فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينة أو سَلوة من عَيش, قال: أنا معكم وأنا منكم، وإذا أصابته شَديدةٌ حَقحقَ والله عندها، فانقُطعَ به، فلم يصبر على بلائها, ولم يَحتسب أجرَها، ولم يَرْجُ عاقبتها .

وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر, عن قتادة: « فيه ظلمات ورعد وبرق » ، يقول: أجبنُ قوم لا يسمعون شيئًا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حَذرًا من الموت, والله مُحيطٌ بالكافرين. ثم ضرب لهم مَثلا آخر فقال: « يكادُ البرقُ يخطف أبصارَهم كلما أضاء لهم مشوا فيه » ، يقول: هذا المنافق, إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية قال: لم يُصبني منذُ دخلت في ديني هذا إلا خيرٌ. « وإذا أظلم عليهم قاموا » يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصَابهم البلاءُ، قاموا متحيرين .

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « فيه ظلمات ورعد وبرق » ، قال: مَثَلُهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، ولها مطر ورَعد وبرق على جادَّة, فلما أبرقت أبصرُوا الجادَّة فمضوا فيها, وإذا ذهب البرق تحيَّروا. وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له, فإذا شك تحيَّر ووقع في الظلمة, فكذلك قوله: « كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا » ، ثم قال: في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ .

قال أبو جعفر:

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان الباهلي, عن الضحاك بن مُزَاحم، « فيه ظلمات » ، قال: أما الظلمات فالضلالة, والبرق الإيمان .

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله: « فيه ظلمات ورَعد وبرق » ، فقرأ حتى بلغ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، قال: هذا أيضًا مثلٌ ضربه الله للمنافقين, كانوا قد استناروا بالإسلام، كما استنارَ هذا بنور هذا البرق.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جُريج: ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظنّ أنه يُراد به، وأنه الموت، كراهيةً له - والمنافق أكرهُ خلق الله للموت- كما إذا كانوا بالبَراز في المطر، فرُّوا من الصواعق .

حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء في قوله: « أو كصَيِّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق » ، قال: مثَل ضُرِبَ للكافر .

وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه, فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقارباتُ المعاني، لأنها جميعًا تُنبئ عن أن الله ضَرَب الصيِّب لظاهر إيمان المنافق مَثلا وَمثَّلَ ما فيه من ظلمات لضلالته, وما فيه من ضياء برقٍ لنور إيمانه ؛ واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه، لضَعف جَنانه ونَخْبِ فؤاده من حُلول عقوبة الله بساحته ؛ وَمشيَه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه؛ وقيامَه في الظلام، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عَمَهه .

فتأويل الآية إذًا - إذْ كان الأمر على ما وصفنا- أو مَثَلُ ما استضاء به المنافقون - من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به, حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكامُ المؤمنين, وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يُظهرون - بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر, مكذِّبون, ولخلاف ما يُظهرون بالألسُن في قلوبهم معتقدون, على عمًى منهم، وجهالة بما هم عليه من الضلالة، لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شَرَعا لهم [ فيه ] الهداية ، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم, أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَجِلون, وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكُّون، في قلوبهم مَرَض فزادهمُ الله مَرَضًا. كمثل غَيثٍ سَرى ليلا في مُزنة ظلماء وليلة مظلمة يحدوها رعدٌ، ويستطير في حافاتها برقٌ شديد لمعانه ، كثير خَطرانه ، يكاد سَنا برقه يَذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه، وينهبط منها تارات صواعقُ، تكاد تَدَع النفوس من شدة أهوالها زَواهق.

فالصيِّب مَثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق , والظلمات التي هي فيه لظُلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعدُ والصواعق، فلِما هم عليه من الوَجَل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه, إما في العاجل وإما في الآجل, أنْ يحلّ بهم، مع شكهم في ذلك: هل هو كائن أم غير كائن؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذبٌ وباطلٌ؟ - مثلٌ . فهم من وَجلهم، أن يَكون ذلك حَقًّا، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، مخافةً على أنفسهم من الهلاك ونـزول النَّقِمَات . وذلك تأويل قوله جل ثناؤه « يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت » ، يعني بذلك: يتقون وَعيدَ الله الذي أنـزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار, كما يتّقي الخائف أصواتَ الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها، حَذَرًا على نفسه منها.

وقد ذكرنا الخبرَ الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقًا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينـزل فيهم شيء, أو يذكروا بشيء فيقتلوا. فإنْ كان ذلك صحيحًا - ولست أعلمه صحيحًا, إذ كنت بإسناده مُرتابًا - فإنّ القولَ الذي رُوي عنهما هو القول . وإن يكن غيرَ صحيح, فأولى بتأويل الآية ما قلنا، لأن الله إنما قصّ علينا من خَبرهم في أول مُبتدأ قصتهم ، أنهم يُخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع شكّ قلوبهم ومَرَض أفئدتهم في حقيقة ما زَعموا أنهم به مؤمنون، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم. وبذلك وصَفَهم في جميع آي القرآن التي ذكرَ فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية.

وإنما جَعل اللهُ إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتِّقائهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يَتَّقونهم به، كما يتّقي سامعُ صَوتِ الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثَل نظيرُ تمثيل الله جل ثناؤه ما أنـزَل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق. وكذلك قوله « حَذَرَ الموت » ، جعله جلّ ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلِكهم الذي تُوُعِّدوه بساحتهم كما يجعل سامعُ أصوات الصواعق أصَابعه في أذنيه، حَذَرَ العطب والموت على نفسه، أنْ تَزهق من شدتها.

وإنما نصَب قوله « حَذَرَ الموت » على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك: « زُرْتك تَكرمةً لك » , تريد بذلك: من أجل تكرمتك, وكما قال جلّ ثناؤه، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [ سورة الأنبياء: 90 ] على التفسير للفعل .

وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأول قوله: « حَذَرَ الموت » ، حذرًا من الموت.

حدثنا بذلك الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا مَعْمَر، عنه.

وذلك مذهب من التأويل ضعيف، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حَذَرًا من الموت، فيكون معناه ما قال إنه يراد به ، حَذَرًا من الموت, وإنما جعلوها من حِذَار الموت في آذانهم.

وكان قتادةُ وابنُ جُريج يتأوّلان قوله: « يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَر الموت » ، أن ذلك من الله جلّ ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت, ويتأولان في ذلك قوله: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [ سورة المنافقون: 4 ] .

وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تُنكر شجاعته ولا تُدفع بسالته، كقُزْمان، الذي لم يَقم مقامه أَحدٌ من المؤمنين بأحُد، أو دونه . وإنما كانت كراهتُهم شُهود المشاهدِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركُهم مُعاونته على أعدائه، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مُستبصرين، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقين, فكانوا للحضور معه مَشاهدَه كارهين, إلا بالتخذيل عنه . ولكن ذلك وَصفٌ من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حُلول عقوبة الله بهم على نفاقهم, إما عاجلا وإما آجلا. ثم أخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - الذين نَعتهم الله النعتَ الذي ذكر، وضرب لهم الأمثال التي وَصَف، وإن اتقوْا عقابه، وأشفقوا عَذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حِذَارَ حُلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه - غيرُ مُنْجيهم ذلك من نـزوله بعَقْوَتهم ، وحُلوله بِساحتهم, إما عاجلا في الدنيا, وإما آجلا في الآخرة, للذي في قلوبهم من مَرَضها، والشكّ في اعتقادها, فقال: « والله مُحيطٌ بالكافرين » ، بمعنى جَامِعُهم، فمُحلٌّ بهم عُقوبته.

وكان مجاهدٌ يتأول ذلك كما:-

حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم. عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: « والله مُحيط بالكافرين » ، قال: جامعهم في جهنم .

وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما:-

حدثني به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « والله مُحيط بالكافرين » ، يقول: الله منـزلٌ ذلك بهم من النِّقمة .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج, عن مجاهد، في قوله: « والله محيط بالكافرين » ، قال: جامِعُهم.

ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم, والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم, وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربَه لهم ولشكّهم ومَرَض قلوبهم, فقال: « يكاد البرق » ، يعني بالبرق، الإقرارَ الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرقَ له مثلا على ما قدَّمنا صفته.

« يَخطفُ أبصَارهم » ، يعني: يذهب بها ويستلبُها ويلتمعها من شدة ضيائه ونُور شُعاعه .

كما حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق، عن الضحاك, عن ابن عباس, في قوله: « يكاد البرقُ يخطف أبصارهم » ، قال: يلتمعُ أبصارَهم ولمّا يفعل .

قال أبو جعفر: والخطف السلب, ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطْفة، يعني بها النُّهبة . ومنه قيل للخُطاف الذي يُخرج به الدلو من البئر خُطَّاف، لاختطافه واستلابه ما عَلق به، ومنه قول نابغة بني ذُبيان:

خَطَـاطِيفُ حُجْـنٌ فِـي حِبَـالٍ متينةٍ تَمُــدُّ بهــا أَيــدٍ إِلَيْـكَ نَـوَازِعُ

فجعل ضَوءَ البرق وشدة شُعاع نُوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشُعاعِ نوره, مثلا.

ثم قال تعالى ذكره: « كلما أضاء لهم » ، يعني أن البرق كلما أضاء لهم, وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنما أراد بذلك: أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءتُه لهم: أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم، من النُّصرة على الأعداء, وإصابةِ الغنائم في المغازي, وكثرة الفتوح, ومنافعها, والثراء في الأموال, والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم، لأنهم إنما يُظهرون بألسنتهم ما يُظهرونه من الإقرار، ابتغاءَ ذلك, ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذَراريهم, وهم كما وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [ سورة الحج: 11 ] .

ويعني بقوله « مشوا فيه » ، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مَثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يُعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه, كما يمشي السائر في ظُلمة الليل وظُلمة الصَّيِّب الذي وصفه جل ثناؤه, إذا برقت فيها بارقةٌ أبصرَ طريقه فيها.

« وإذا أظلم » ، يعني: ذهب ضوءُ البرق عنهم.

ويعني بقوله « عليهم » ، على السائرين في الصيِّب الذي وَصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثَل. ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرَّاء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء، من إخفاقهم في مَغزاهم، وإنالة عدوّهم منهم ، أو إدبارٍ من دنياهم عنهم - أقاموا على نفاقهم ، وَثبتوا على ضلالتهم، كما قام السائر في الصيِّب الذي وصف جل ذكره إذا أظلم وَخفتَ ضوء البرق, فحارَ في طريقه، فلم يعرف مَنهجه.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ

قال أبو جعفر: وإنما خَص جل ذكره السمعَ والأبصارَ - بأنه لو شاء أذهبَها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم - للذي جرَى من ذكرها في الآيتين, أعني قوله: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ ، وقوله: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ، فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عَقَّب جل ثناؤه ذكر ذلك، بأنه لو شاء أذْهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم, وعيدًا من الله لهم, كما توعَّدهم في الآية التي قبلها بقوله: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ، واصفًا بذلك جل ذكره نفسَه، أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم, لإحلال سَخَطه بهم, وإنـزال نِقْمته عليهم, ومُحذِّرَهم بذلك سَطوته, ومخوِّفَهم به عقوبته, ليتقوا بأسَه, ويُسارعوا إليه بالتوبة.

كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة , أو عن سعيد بن حبير, عن ابن عباس: « ولو شاء الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم » ، لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته .

وحدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ثم قال - يعني قال الله- في أسماعهم، يعني أسماعَ المنافقين، وأبصارِهم التي عاشوا بها في الناس: « ولو شاءَ الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم » .

قال أبو جعفر: وإنما معنى قوله: « لذهب بسمعهم وأبصارهم » ، لأذهب سَمعَهم وأبصارَهم. ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبتُ ببصره, وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبتُ بصره. كما قال جل ثناؤه: آتِنَا غَدَاءَنَا [ سورة الكهف: 62 ] ، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدَائنا .

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « لذهب بسمعهم » فوحَّد, وقال: « وأبصارهم » فجمع؟ وقد علمتَ أن الخبر في السمع خبرٌ عن سَمْع جماعة ، كما الخبر عن الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعة؟

قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك, فقال بعض نحويي الكوفة: وحَّد السمعَ لأنه عَنَى به المصدرَ وقصَد به الخَرْق, وجمع الأبصار لأنه عَنَى به الأعينَ. وكان بعض نحويي البصرة يزعم: أنّ السمع وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى جماعة . ويحتج في ذلك بقول الله: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [ سورة إبراهيم: 43 ] ، يريد: لا ترتد إليهم أطرافهم, وبقوله: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [ سورة القمر: 45 ] ، يراد به أدْبارُهم. وإنما جاز ذلك عندي، لأن في الكلام ما يَدُلّ على أنه مُرادٌ به الجمع, فكان في دلالته على المراد منه, وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مُغنيًا عن جِمَاعه . ولو فعل بالبصر نظيرَ الذي فعل بالسمع, أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار - من الجمع والتوحيد- كان فصيحًا صحيحًا، لما ذكرنا من العلة، كما قال الشاعر:

كُلُــوا فِي بَعْـضِ بَطْنِكُـمُ تَعِفُّـوا فَإِنَّ زَمَــانَنَا زَمَـــنٌ خَــمِيصُ

فوحّد البطن, والمرادُ منه البطون، لما وصفنا من العلة.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )

قال أبو جعفر: وإنما وَصف الله نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع, لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم مُحيطٌ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قَديرٌ. ثم قال: فاتقوني أيُّها المنافقون، واحذرُوا خِداعي وخداعَ رسولي وأهلِ الإيمان بي، لا أحِلَّ بكم نقمتي، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. ومعنى « قدير » قادر, كما معنى « عليم » عالم, على ما وصفتُ فيما تَقدم من نظائره، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم .

 

القول في تأويل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

قال أبو جعفر: فأمرَ جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبرَ الله عن أحدهما أنه سواءٌ عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون ، لطبْعِه على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعن الآخرِ أنه يُخادع اللهَ والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله: آمنّا بالله وباليوم الآخر, مع استبطانه خلافَ ذلك, ومرض قلبه, وشكّه في حقيقة ما يُبدي من ذلك; وغيرهم من سائر خلقه المكلَّفين - بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة, وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جلّ ذكره هو خالقهم وخالقُ مَنْ قبلهم من آبائهم وأجدادهم, وخالقُ أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم. فقال لهم جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادَكم وسائرَ الخلق غيرَكم، وهو يقدرُ على ضرّكم ونَفعكم - أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نَفع ولا ضرّ .

وكان ابن عباس: فيما رُوي لنا عنه، يقول في ذلك نظيرَ ما قلنا فيه, غير أنه ذُكر عنه أنه كان يقول في معنى « اعبُدوا ربكم » : وحِّدوا ربكم. وقد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى العبادة: الخضوعُ لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة . والذي أراد ابن عباس - إن شاء الله- بقوله في تأويل قوله: « اعبدوا ربكم » وحِّدوه، أي أفردُوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه .

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: قال الله: « يا أيها الناسُ اعبدُوا رَبكم » ، للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين, أي وَحِّدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .

وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, عن أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس اعبدُوا ربّكم الذي خَلقكم والذين منْ قبلكم » يقول: خَلقكم وخَلق الذين من قبلكم .

قال أبو جعفر: وهذه الآيةُ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم: أنّ تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غيرُ جائز، إلا بَعد إعطاء الله المكلف المعُونةَ على ما كلَّفه. وذلك أنّ الله أمرَ من وَصفنا، بعبادته والتوبة من كفره, بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضَلالتهم لا يَرْجعون.

 

القول في تأويل قوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم, وطاعتِكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه, وإفرادكُم له العبادة لتتقوا سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم, وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.

وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويل قوله: « لعلكم تتقون » : تُطيعون.

حدثنا ابن وكيع, قال: حدثني أبي، عن سفيان, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله: « لعلكم تتقون » ، قال: لعلكم تطيعون .

قال أبو جعفر: والذي أظن أنّ مجاهدًا أراد بقوله هذا: لعلكم أنْ تَتقوا رَبَّكم بطاعتكم إياه، وإقلاعِكم عن ضَلالتكم.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه: « لعلكم تتقون » ؟ أو لم يكن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عبدوه وأطاعُوه, حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا, فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشكّ؟

قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهَّمتَ, وإنما معنى ذلك: اعبدُوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم, لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة ، كما قال الشاعر:

وَقُلْتُــمْ لَنَـا كُفُّـوا الْحُـرُوبَ, لَعَلَّنَـا نَكُــفُّ! وَوَثَّقْتُـمْ لَنَـا كُـلَّ مَـوْثِقِ

فَلَمَّـا كَفَفْنَـا الْحَـرْبَ كَـانَتْ عُهُودُكُمْ كَــلَمْحِ سَـرَابٍ فِـي الْفَـلا مُتَـأَلِّقِ

يريد بذلك: قلتم لنا كُفُّوا لنكفّ. وذلك أن « لعل » في هذا الموضع لو كان شَكًّا، لم يكونوا وثقوا لهم كل مَوْثق.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا

وقوله: « الذي جَعل لكم الأرض فِرَاشًا » مردود على الَّذِي الأولى في قوله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، وهما جميعًا من نَعت رَبَّكُمُ , فكأنّه قال: اعبدُوا ربكم الخالقكُم, والخالقَ الذين من قبلكم, الجاعلَ لكم الأرض فراشًا. يعني بذلك أنّه جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً وقرارًا يُستقرّ عليها. يُذكِّرُ ربّنا جلّ ذكره - بذلك من قِيله- عبادَهُ نعمَه عندهم وآلاءه لديهم ليذْكروا أياديَه عندهم، فينيبوا إلى طاعته - تعطُّفًا منه بذلك عليهم, ورأفةً منه بهم, ورحمةً لهم, من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم, ولكن ليُتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.

كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « الذي جعل لكم الأرض فراشًا » فهي فراشٌ يُمشى عليها, وهي المهاد والقرار .

حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: « الذي جَعل لكم الأرض فراشًا » ، قال: مهادًا لكم.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « الذي جعل لكم الأرض فراشًا » ، أي مهادًا.

 

القول في تأويل قوله : وَالسَّمَاءَ بِنَاءً

قال أبو جعفر: وإنما سُميت السماءُ سماءً لعلوها على الأرض وعلى سُكانها من خلقه, وكل شيء كان فوق شيء آخرَ فهو لما تحته سَمَاءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت: سَمَاوةٌ ، لأنه فوقه مرتفعٌ عليه. ولذلك قيل: سَمَا فلان لفلان، إذا أشرف له وقَصَد نحوه عاليًا عليه, كما قال الفرزدق:

سَــمَوْنَا لِنَجْــرَانَ الْيَمَـانِي وَأَهْلِـهِ وَنَجْــرَانُ أَرْضٌ لَـمْ تُـدَيَّثْ مَقَاوِلُـهْ

وكما قال نابغة بني ذُبيانَ:

سَــمَتْ لِـي نَظْـرَةٌ, فَـرَأيتُ مِنْهَـا تُحَــيْتَ الْخِــدْرِ وَاضِعَـةَ الْقِـرَامِ

يريد بذلك: أشرفتْ لي نظرةٌ وبدت, فكذلك السماء سُميت للأرض: سماءً، لعلوها وإشرافها عليها.

كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « والسّماء بناء » , فبناءُ السماء على الأرض كهيئة القبة, وهي سقف على الأرض.

حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة في قول الله: « والسماءَ بناءً » ، قال: جعل السماء سَقفًا لكَ.

وإنما ذكر تعالى ذكره السماءَ والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم, لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم, وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خَلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجبُ منهم الشكرَ والعبادةَ، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضرُّ ولا تنفع.

 

القول في تأويل قول الله جلّ ثناؤه: وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ

يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنـزل من السماء مطرًا, فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغَرْسهم ثمرات - رزقًا لهم، غذاءً وأقواتًا. فنبههم بذلك على قدرته وسُلطانه, وذكَّرهم به آلاءَه لديهم, وأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يَرزقهم ويكفُلُهم، دون من جعلوه له نِدًّا وعِدْلا من الأوثان والآلهة. ثم زَجَرهم عن أن يجعلوا له ندًّا، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم, وأنه لا نِدَّ له ولا عِدْل, ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ ولا خالقٌ ولا رازقٌ سِواه.

 

القول في تأويل قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا

قال أبو جعفر: والأنداد جمع نِدّ, والنِّدّ: العِدْلُ والمِثل, كما قال حسان بن ثابت:

أَتَهْجُـــوهُ وَلَسْــتَ لَــهُ بِنِــدٍّ? فَشَـــرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَـــا الْفِــدَاءُ

يعني بقوله: « ولستَ له بند » ، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهو له ند .

كما حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أي عُدَلاء .

حدثني المثنى, قال: حدثني أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبل, عن ابن أبي نَحيح, عن مجاهد: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أي عُدَلاء .

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، قال: أكفاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله .

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: « فلا تَجعلوا لله أندادًا » ، قال: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.

حُدِّثت عن المنجاب, قال: حدثنا بِشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، قال: أشباهًا .

حدثني محمد بن سنان, قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَبيب، عن عكرمة: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أن تقولوا: لولا كلبنا لَدَخل علينا اللصّ الدارَ, لولا كلبنا صَاح في الدار، ونحو ذلك .

فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه, أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة, فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم, ونعمي التي أنعمتها عليكم - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة, وأخلصُوا ليَ العبادة, ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي, فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي .

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )

اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية:

فقال بعضهم: عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب.

وقال بعضهم: عنى بذَلك أهلَ الكتابين، أهلَ التوراة والإنجيل .

ذكر من قال: عنى بها جميعَ عبَدَة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين:

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: نَـزَل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنى تعالى ذكره بقوله: « فلا تَجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون » ، أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ, وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره, وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه .

حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد، عن سعيد, عن قتادة في قوله: « وأنتمْ تعلمون » أي تعلمون أنّ الله خَلقكم وخلق السموات والأرض, ثم تجعلون له أندادًا .

ذكر من قال: عني بذلك أهلَ الكتابين:

حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: « فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون » ، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا قَبيصة, قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، مثله .

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « وأنتم تعلمون » ، يقول: وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل .

قال أبو جعفر: وأحسَِب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل, وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها, وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته, غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها, فقال جل ثناؤه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [ سورة الزخرف: 87 ] ، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [ سورة يونس: 31 ] .

فالذي هو أولى بتأويل قوله: « وأنتم تعلمون » - إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله, وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم, نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله جل ثناؤه عني بقوله: « وأنتم تعلمون » أحدَ الحزبين, بل مُخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم, لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ - أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة, من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله ، وأنه لا شريكَ له في خلقه، يُشرِك معه في عبادته غيرَه, كائنًا من كان من الناس, عربيًّا كان أو أعجميًّا, كاتبًا أو أميًّا, وإن كان الخطابُ لكفار أهل الكتابِ الذين كانوا حَواليْ دَار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأهل النفاق منهم، وممن بينَ ظَهرانيهم ممّن كان مشركًا فانتقل إلى النفاق بمقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ

قال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاجٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضُلالهم، الذين افتتح بقصَصهم قولَه جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ، وإياهم يخاطب بهذه الآيات, وضُرباءَهم يَعني بها ، قال الله جلّ ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين، في شكٍّ - وهو الريب- مما نـزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان: أنه من عندي, وأنّي الذي أنـزلته إليه, فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول, فأتوا بحجة تدفع حُجته، لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة: أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبُرْهانه على حقيقة نبوته ، وأنّ ما جاء به من عندي - عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك - وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة - فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ. كما كانَ برهانُ من سَلف من رُسلي وأنبيائي على صدْقه، وحُجتهُ على نبوته من الآيات، ما يَعجز عن الإتيان بمثله جميعُ خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أنّ محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه, لأنّ ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بَشرًا مثلكم, وفي مثل حالكم في الجسم وبَسطة الخلق وذرَابة اللسان - فيمكن أن يُظنّ به اقتدارٌ على ما عَجزْتم عنه, أو يتوهم منكم عجزٌ عما اقتدر عليه.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فأتوا بسورَة من مثله » .

فحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فأتوا بسورة من مثله » ، يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا، لا باطل فيه ولا كذب.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر، عن قتادة في قوله: « فأتوا بسورة من مثله » ، يقول: بسورة مثلِ هذا القرآن .

حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد: « فأتوا بسورة من مثله » ، مثلِ القرآن.

حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « فأتوا بسورة مِنْ مثله » ، قال: « مثله » مثلِ القرآن .

فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما : أن الله جلّ ذكره قال لمن حاجَّه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب, كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.

وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: « فأتُوا بسورة من مثله » ، من مثل محمد من البشر , لأن محمدًا بشر مثلكم .

قال أبو جعفر: والتأويل الأول، الذي قاله مجاهد وقتادة، هو التأويل الصحيح. لأن الله جَل ثناؤه قال في سُورة أخرى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [ سورة يونس: 38 ] ، ومعلومٌ أنّ السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه, فيجوزُ أنْ يقال: فأتُوا بسورة مثل محمد.

فإن قال قائل: إنك ذكرتَ أن الله عني بقوله « ، فأتوا بسورة من مثله » ، من مثل هذا القرآن, فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟

قيل: إنه لم يعنِ به: ائتُوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باينَ بها سائرَ الكلام غيرَه, وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان، لأنّ القرآن أنـزله الله بلسان عربيّ, فكلام العرب لا شك له مثلٌ في معنى العربية. فأمّا في المعنى الذي باين به القرآن سائرَ كلام المخلوقين, فلا مثلَ له من ذلك الوجه ولا نظيرَ ولا شبيه.

وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به لهُ عليهم من القرآن ، إذْ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان, إذْ كان القرآن بيانًا مثلَ بيانهم, وكلامًا نـزل بلسانهم, فقال لهم جلّ ثناؤه: وإن كنتم في رَيب من أنّ ما أنـزلتُ على عَبدي من القرآن من عندي, فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثلُه في العربية, إذْ كنتم عربًا, وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم, وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظيرُ اللسان الذي نـزل به القرآن, فيقدِرُوا أن يقولُوا: كلفتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به, وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به, فليس لك علينا بهذا حجة . لأنا - وإن عَجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنّا لسنا من أهله - ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتيَ بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله, لأن مثله من الألسن ألسنكم ، وأنتم - إن كان محمدٌ اختلقه وافتراه, إذا اجتمعتم وتظاهرتُم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم - أقدرُ على اختلاقه ورَصْفِه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه، فلن تعجزوا - وأنتم جميعٌ- عما قدَر عليه محمدٌ من ذلك وهو وحيدٌ ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أنّ محمدًا افتراه واختلقه، وأنه من عند غيرِي.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 23 )

فقال ابن عباس بما:

حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: « وادعوا شُهداءكم من دون الله » ، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه, إن كنتم صادقين.

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « وادعوا شُهداءكم » ، ناس يَشهدون.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع، عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد, قال: قوم يشهدون لكم.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « وادعوا شهداءكم » ، قال: ناس يشهدون. قال ابن جُريج: « شهداءكم » عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه، مثل القرآن .

وذلك قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله « فادعوا » ، يعني: استنصروا واستغيثوا ، كما قال الشاعر:

فَلَمَّــا الْتَقَــتْ فُرْسَـانُنَا وَرِجَـالُهُمْ دَعَـوْا: يَـا لَكَـعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَـا لِعَامِرِ

يعني بقوله: « دعوْا يالكعب » ، استنصرُوا كعبًا واستغاثوا بهم .

وأما الشهداء، فإنها جمعُ شهيد, كما الشركاء جمع شريك ، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهدُ على الشيء لغيره بما يحقِّق دَعواه. وقد يسمَّى به المشاهِدُ للشيء، كما يقال: فلان جليسُ فلان - يعني به مُجالسَه, ونديمه - يعني به مُنادِمَه, وكذلك يقال: شهيده - يعني به مُشاهِدَه.

فإذا كانت « الشهداء » محتملةً أن تكون جمعَ « الشهيد » الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفتُ, فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس, وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، إن كنتم مُحقّين في جُحودكم أنّ ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء, لتمتحنوا أنفسكم وغيرَكم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من مثله، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا؟

وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح, وأهل كفر صحيح, وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين, فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة, ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين . فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم ، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن ؟

ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ سورة الإسراء: 88 ] ، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى: « وإنْ كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين » . يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي, فأتوا بسورة من مثله, وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحدٌ, ويَصحَّ عندكم أنه تنـزيلي وَوحيي إلى عبدي.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن لم تفعلوا » ، إن لم تأتوا بسورة من مثله, فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه, وعلمتم أنه من عندي, ثم أقمتم على التكذيب به.

وقوله: « ولن تفعلوا » ، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا.

كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا » ، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه .

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا » ، فقد بَين لكم الحق .

 

القول في تأويل قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله « فاتقوا النار » ، يقول: فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنـزيلي, بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي, وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي, بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.

ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها, وأن الحجارة وَقُودها, فقال: « التي وَقودها الناس والحجارة » ، يعني بقوله: « وَقُودُها » حَطبها, والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنـزلة الحطب.

فإذا ضَمت الواو من « الوقود » كان مصدرًا من قول القائل: وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا, يراد بذلك أنها التهبتْ.

فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا؟

قيل: إنها حجارةُ الكبريت, وهي أشد الحجارة - فيما بلغنا- حرًّا إذا أحميت.

كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد, عن عبد الرحمن بن سَابط, عن عمرو بن ميمون, عن عبد الله بن مسعود، في قوله: « وقُودها الناس والحجارة » ، قال: هي حجارة من كبريت، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا ابن عُيينة, عن مِسعر، عن عبد الملك الزرَّاد، عن عمرو بن ميمون, عن ابن مسعود في قوله: « وقودها الناسُ والحجارة » ، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء .

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة » ، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج في قوله: « وقودها الناس والحجارة » ، قال: حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم .

حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة, عن عبد الرحمن بن سابط, عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود, قال: حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء .

 

القول في تأويل قوله: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )

قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن « الكافر » في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا، لجحوده آلاءه عنده, وتغطيته نَعماءَه قِبَله.

فمعنى قوله إذًا: « أعدت للكافرين » ، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم, الذي جَعل لهم الأرض فراشًا, والسماء بناءً, وأنـزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق .

كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: « أعدت للكافرين » ، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .