القول في تأويل قوله تعالى : وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 6 )

يقول تعالى ذكره: وعد الله جلّ ثناؤه، وعد أن الروم ستغلب فارس من بعد غلبة فارس لهم، ونصب ( وَعْدَ اللهِ ) على المصدر من قوله: ( وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ) لأن ذلك وعد من الله لهم أنهم سيغلبون، فكأنه قال: وعد الله ذلك المؤمنين وعدا، ( لا يُخلف اللهُ وَعْدَهُ ) يقول تعالى ذكره: إن الله يفي بوعده للمؤمنين أن الروم سيغلبون فارس، لا يخلفهم وعده ذلك؛ لأنه ليس في مواعيده خلف ( ولكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يعْلَمُونَ ) يقول: ولكنّ أكثر قريش الذين يكذّبون بأن الله منجز وعده المؤمنين، من أن الروم تغلب فارس، لا يعلمون أن ذلك كذلك، وأنه لا يجوز أن يكون في وعد الله إخلاف.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ( 7 )

يقول تعالى ذكره: يعلم هؤلاء المكذّبون بحقيقة خبر الله أن الروم ستغلب فارس، ظاهرا من حياتهم الدنيا، وتدبير معايشهم فيها، وما يصلحهم، وهم عن أمر آخرتهم، وما لهم فيه النجاة من عقاب الله هنالك، غافلون، لا يفكرون فيه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تُمَيْلة يحيى بن واضح الأنصاري، قال: ثنا الحسين بن واقد، قال: ثنا يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( يَعْلَمُونَ ظاهِرا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا ) يعني معايشهم، متى يحصدون ومتى يغرسون.

حدثني أحمد بن الوليد الرمليّ، قال ثنا: عمرو بن عثمان بن عمر، عن عاصم بن عليّ، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا ابن واقد، عن يزيد النحويّ، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( يعلَمونَ ظاهِرًا من الحَياةِ الدُّنْيا ) قال: متى يَزْرَعون، متى يَغْرِسون.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: ثني شرقي، عن عكرمة في قوله: ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: هو السراج أو نحوه.

حدثنا أبو هريرة محمد بن فراس الضبعي، قال: ثنا أبو قُتَيبة، قال: ثنا شعبة، عن شرقي، عن عكرِمة في قوله: ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) : قال السراجون.

حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن شرقي، عن عكرِمة في قوله: ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: الخرازون والسراجون.

حدثنا بشر بن آدم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: معايشهم، وما يصلحهم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.

حدثني بشر بن آدم، قال: ثنا الضحاك بن مخلد، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرِمة، وعن منصور، عن إبراهيم ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: معايشهم.

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: ( ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يعني الكفار، يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال.

حدثني ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرِمة ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: معايشهم، وما يصلحهم.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) من حرفَتها وتصرّفها وبغيتها، ( وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) .

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قال: يعلمون متى زرعهم، ومتى حصادهم.

قال: ثنا حفص بن راشد الهلالي، عن شعبة، عن شرقي، عن عكرِمة ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: السراج ونحوه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: صرفها في معيشتها.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) .

وقال آخرون في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد في قوله: ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: تسترق الشياطين السمع، فيسمعون الكلمة التي قد نـزلت ينبغي لها أن تكون في الأرض، قال: ويرمون بالشُّهب، فلا ينجو أن يحترق، أو يصيبه شرر منه، قال: فيسقط فلا يعود أبدا، قال: ويرمي بذاك الذي سمع إلى أوليائه من الإنس، قال: فيحملون عليه ألف كذبة، قال: فما رأيت الناس يقولون: يكون كذا وكذا، قال: فيجيء الصحيح منه كما يقولون، الذي سمعوه من السماء، ويعقبه من الكذب الذي يخوضون فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ( 8 )

يقول تعالى ذكره: أولم يتفكَّر هؤلاء المكذّبون بالبعث يا محمد من قومك في خلق الله إياهم، وأنه خلقهم ولم يكونوا شيئا، ثم صرفهم أحوالا وقارات حتى صاروا رجالا فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا، ثم يجازي المحسن منهم بإحسانه، والمسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم، فيعاقبه بجرم غيره، ولا يحرم أحدا منهم جزاء عمله، لأنه العدل الذي لا يجور ( مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ) إلا بالعدل، وإقامة الحقّ، ( وَأَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول: وبأجل مؤقت مسمى، إذا بلغت ذلك الوقت أفنى ذلك كله، وبدّل الأرض غير الأرض والسماوات ، وبرزوا لله الواحد القهَّار، وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم جاحدون منكرون؛ جهلا منهم بأن معادهم إلى الله بعد فنائهم، وغفلة منهم عن الآخرة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 9 )

يقول تعالى ذكره: أولم يسر هؤلاء المكذّبون بالله، الغافلون عن الآخرة من قريش في البلاد التي يسلكونها تجرا، فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذّبة، كيف كان عاقبة أمرها في تكذيبها رسلها، فقد كانوا أشدّ منهم قوّة، ( وَأَثَارُوا الأرْضَ ) : يقول: واستخرجوا الأرض، وحرثوها وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء، فأهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم رسلهم، فلم يقدروا على الامتناع، مع شدّة قواهم مما نـزل بهم من عقاب الله، ولا نفعتهم عمارتهم ما عمروا من الأرض، إذ ( جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَينَاتِ ) من الآيات، فكذّبوهم، فأحلّ الله بهم بأسه، ( فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ) بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله، وجحودهم آياته، ( وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) بمعصيتهم ربهم.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( وَأَثَارُوا الأرْضَ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ) قال: ملكوا الأرض وعمروها.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَأَثَارُوا الأرْضَ ) قال: حرثوها.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( أَولَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضَ ... ) إلى قوله: ( وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوها ) كقوله: وَآثَارًا فِي الأَرْضِ ، وقوله: ( وَعَمَرُوها ) أكثر مما عمر هؤلاء ( وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالْبَيِّناتِ ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ( 10 )

يقول تعالى ذكره: ثم كان آخر أمر من كفر من هؤلاء الذين أثاروا الأرض وعمروها، وجاءتهم رسلهم بالبينات بالله، وكذّبوا رسلهم، فأساءوا بذلك من فعلهم.

( السُّوءَى ) : يعني الخُلَّة التي هي أسوأ من فعلهم؛ أما في الدنيا، فالبوار والهلاك، وأما في الآخرة فالنار لا يخرجون منها، ولا هم يستعتبون.

وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى ) : الذين أشركوا السوءَى: أي النار.

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى ) يقول: الذين كفروا جزاؤهم العذاب.

وكان بعض أهل العربية يقول: السوءى في هذا الموضع: مصدر، مثل البُقوى، وخالفه في ذلك غيره فقال: هي اسم.

وقوله: ( أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ ) يقول: كانت لهم السوءى ، لأنهم كذّبوا في الدنيا بآيات الله، ( وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) . يقول: وكانوا بحجج الله وهم أنبياؤه ورسله يسخرون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 11 )

يقول تعالى ذكره: الله تعالى يبدأ إنشاء جميع الخلق منفردا بإنشائه من غير شريك ولا ظهير، فيحدثه من غير شيء، بل بقدرته عزّ وجل، ثم يعيد خلقا جديدا بعد إفنائه وإعدامه، كما بدأه خلقا سويا، ولم يك شيئا ( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يقول: ثم إليه من بعد إعادتهم خلقا جديدا يردّون، فيحشرون لفصل القضاء بينهم و لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ( 12 ) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ( 13 )

يقول تعالى ذكره: ويوم تجيء الساعة التي فيها يفصل الله بين خلقه، وينشر فيها الموتى من قبورهم، فيحشرهم إلى موقف الحساب ( يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ) يقول: ييأس الذين أشركوا بالله، واكتسبوا في الدنيا مساوئ الأعمال من كلّ شرّ، ويكتئبون ويتندمون، كما قال العجاج:

يا صَاحِ هلْ تعْرِفُ رَسمًا مُكْرَسا قـــالَ نَعَــمْ أعْرِفُــهُ وأبْلَســا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ( يُبْلِسُ ) . قال: يكتئب.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ) أي في النار.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ) قال: المبلس: الذي قد نـزل به الشرّ، إذا أبلس الرجل، فقد نـزل به بلاء.

وقوله: ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ ) يقول تعالى ذكره: ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) لم يكن لهؤلاء المجرمين الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم ( مِن شُرَكَائِهِمْ ) الذين كانوا يتبعونهم، على ما دعوهم إليه من الضلالة، فيشاركونهم في الكفر بالله، والمعاونة على أذى رسله، ( شُفَعَاءُ ) يشفعون لهم عند الله، فيستنقذوهم من عذابه، ( وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ) يقول: وكانوا بشركائهم في الضلالة والمعاونة في الدنيا على أولياء الله ( كَافِرِينَ ) ، يجحدون ولايتهم، ويتبرّءون منهم، كما قال جلّ ثناؤه: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( 14 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ( 15 )

يقول تعالى ذكره: ويوم تجيء الساعة التي يحشر فيها الخلق إلى الله يومئذ، يقول في ذلك اليوم ( يَتَفَرَّقُونَ ) يعني: يتفرّق أهل الإيمان بالله، وأهل الكفر به، فأما أهل الإيمان، فيؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأما أهل الكفر فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، فهنالك يميز الله الخبيث من الطيِّب.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة في قوله: ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ) قال: فرقة والله، لا اجتماع بعدها ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ورسوله ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول: وعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه ( فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ) يقول: فهم في الرياحين والنباتات الملتفة، وبين أنواع الزهر في الجنان يُسرون، ويلذّذون بالسماع وطيب العيش الهنيّ، وإنما خصّ جلّ ثناؤه ذكر الروضة في هذا الموضع، لأنه لم يكن عند الطرفين أحسن منظرا، ولا أطيب نشرا من الرياض، ويدل على أن ذلك كذلك قول أعشي بني ثعلبة:

مـا رَوْضَـةٌ مِن رِياضِ الحُسْن مُعْشِبَةٌ خَـضْرَاءُ جـادَ عَلَيْهـا مُسْـبِلٌ هَطِلُ

يُضَـاحكُ الشَّـمس منهـا كَوْكَبٌ شَرِقٌ مُــؤَزَرٌ بعَمِيــمِ النَّبْــتِ مُكْتَهِـلُ

يَوْمـا بـأطْيَبَ مِنْهـا نَشْـرَ رائحَـةٍ وَلا بأحْسَــنَ مِنْهـا إذ دَنـا الأصُـلُ

فأعلمهم بذلك تعالى، أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من المنظر الأنيق، واللذيذ من الأراييح، والعيش الهنيّ فيما يحبون، ويسرُون به، ويغبطون عليه. و ( الحبرة ) عند العرب: السرور والغبطة، قال العجاج:

فـالْحَمْدُ لِلـهِ الَّـذِي أعْطَـى الحَـبَرْ مَــوَالِيَ الحَــقَّ إِنَّ المَـوْلى شَـكَرْ

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: فهم في روضة يكرمون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: ( فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ) قال: يكرمون.

وقال آخرون: معناه: ينعمون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( يُحْبَرُونَ ) قال: ينعمون.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة في قوله: ( فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ) قال: ينعمون.

وقال آخرون: يلذذون بالسماع والغناء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن موسى الحرسي، قال: ثني عامر بن يساف، قال: سألت يحيى بن أبي كثير، عن قول الله: ( فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ) قال: الحبرة: اللذة والسماع.

حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي، قال: ثنا ضمرة بن ربيعة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير في قوله: ( يُحْبَرُونَ ) قال: السماع في الجنة.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن عامر بن يساف، عن يحيى بن أبي كثير، مثله.

وكل هذه الألفاظ التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه تعود إلى معنى ما قلنا.