القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ( 25 )

يقول تعالى ذكره: ومن حججه أيها القوم على قُدرته على ما يشاء، قيام السماء والأرض بأمره خضوعا له بالطاعة بغير عمد ترى ( ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) يقول: إذا أنتم تخرجون من الأرض، إذا دعاكم دعوة مستجيبين لدعوته إياكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ) قامتا بأمره بغير عمد ( ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) قال: دعاهم فخرجوا من الأرض.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إِذَا أنتُمْ تَخْرُجُونَ ) يقول: من الأرض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ( 26 ) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 27 )

يقول تعالى ذكره: من في السموات والأرض من ملك وجنّ وإنس عبيد وملك ( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) يقول: كلّ له مطيعون، فيقول قائل: وكيف قيل ( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) وقد علم أن أكثر الإنس والجنّ له عاصون؟ فنقول: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فنذكر اختلافهم، ثم نبين الصواب عندنا في ذلك من القول، فقال بعضهم: ذلك كلام مخرجه مخرج العموم، والمراد به الخصوص، ومعناه: ( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) في الحياة والبقاء والموت، والفناء والبعث والنشور، لا يمتنع عليه شيء من ذلك، وإن عصاه بعضهم في غير ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ... إلى ( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) يقول: مطيعون، يعني الحياة والنشور والموت، وهم عاصون له فيما سوى ذلك من العبادة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) بإقرارهم بأنه ربهم وخالقهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) : أي مطيع مقرٌّ بأن الله ربه وخالقه.

وقال آخرون: هو على الخصوص، والمعنى: ( وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس. قال: أخبرنا ابن وهب. قال: قال ابن زيد في قوله: ( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) قال: كلّ له مطيعون، المطيع: القانت. قال: وليس شيء إلا وهو مطيع، إلا ابن آدم، وكان أحقهم أن يكون أطوعهم لله. وفي قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ .

قال: هذا في الصلاة. لا تتكلموا في الصلاة، كما يتكلم أهل الكتاب في الصلاة. قال: وأهل الكتاب يمشي بعضهم إلى بعض في الصلاة. قال: ويتقابلون في الصلاة، فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: لكي تذهب الشحناء من قلوبنا، تسلم قلوب بعضنا لبعض، فقال الله: وقوموا لله قانتين لا تزولوا كما يزولون. قانتين: لا تتكلموا كما يتكلمون. قال: فأما ما سوى هذا كله في القرآن من القنوت فهو الطاعة، إلا هذه الواحدة.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس، وهو أن كلّ من في السماوات والأرض من خلق لله مطيع في تصرّفه فيما أراد تعالى ذكره، من حياة وموت، وما أشبه ذلك، وإن عصاه فيما يكسبه بقوله، وفيما له السبيل إلى اختياره وإيثاره على خلافه.

وإنما قلت: ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك؛ لأن العصاة من خلقه فيما لهم السبيل إلى اكتسابه كثير عددهم، وقد أخبر تعالى ذكره عن جميعهم أنهم له قانتون، فغير جائز أن يخبر عمن هو عاص أنه له قانت فيما هو له عاص. وإذا كان ذلك كذلك، فالذي فيه عاص هو ما وصفت، والذي هو له قانت ما بينت.

وقوله: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) يقول تعالى ذكره: والذي له هذه الصفات تبارك وتعالى، هو الذي يبدأ الخلق من غير أصل فينشئه ويوجده، بعد أن لم يكن شيئا، ثم يفنيه بعد ذلك، ثم يعيده، كما بدأه بعد فنائه، وهو أهون عليه.

اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ ) فقال بعضهم: معناه: وهو هين عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد العطار، عن سفيان، عمن ذكره، عن منذر الثوري، عن الربيع بن خيثم ( وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ ) قال: ما شيء عليه بعزيز.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) يقول: كلّ شيء عليه هين.

وقال آخرون: معناه: وإعادة الخلق بعد فنائهم أهون عليه من ابتداء خلقهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: ( وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ ) قال: يقول: أيسر عليه.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ( وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) قال: الإعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هين.

حدثني ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرِمة قرأ هذا الحرف ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) قال: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى، قال: فنـزلت هذه الآية: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) إعادة الخلق أهون عليه من إبداء الخلق.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن سماك، عن عكرِمة، بنحوه. إلا أنه قال: إعادة الخلق أهون عليه من ابتدائه.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْه ) : يقول: إعادته أهون عليه من بدئه، وكلّ على الله هين. وفي بعض القراءة: ( وكلٌ على الله هين ) .

وقد يحتمل هذا الكلام وجهين، غير القولين اللذين ذكرت، وهو أن يكون معناه: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون على الخلق؛ أي إعادة الشيء أهون على الخلق من ابتدائه. والذي ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي حدثني به ابن سعد قول أيضا له وجه.

وقد وجَّه غير واحد من أهل العربية قول ذي الرمة:

أخـي قَفَـرَاتٍ دَبَّيَـتْ فِـي عظامـه شُـفافات أعْجـاز الكَـرَى فهوَ أخْضَعَ

إلى أنه بمعنى خاضع. وقول الآخر:

لَعَمْـــرُكَ إنَّ الزِّبْرَقــانَ لَبــاذِلٌ لَمعْروفِــه عِنْــدَ السِّـنِينَ وأفْضَـلُ

كَــرِيمٌ لَــه عَـنْ كُـلّ ذَمّ تَـأَخُّرٌ وفِــي كُــلّ أسْـبابِ المَكـارِمِ أوَّلُ

إلى أنه بمعنى: وفاضل. وقول معن:

لَعَمْــرُكَ مـا أْدِري وإنّـي لأوْجَـلُ عــلى أيِّنــا تَعْــدُو المَنِيَّـةُ أوَّلُ

إلى أنه بمعنى: وإني لوجل. وقول الآخر:

تَمَنَّـى مُـرَيْءُ القَيْسِ مَوْتي وإنْ أمُتْ فَتِلــكَ سَـبِيلٌ لَسْـتُ فِيهـا بـأوْحَدِ

إلى أنه بمعنى: لست فيها بواحد. وقول الفرزدق:

إنَّ الَّـذِي سَـمَكَ السَّـماءَ بَنـى لَنـا بَيْتــا دَعائمُــهُ أعَــزُّ وأطْــوَلُ

إلى أنه بمعنى: عزيزة طويلة.

قالوا: ومنه قولهم في الأذان: الله أكبر؛ بمعنى: الله كبير؛ وقالوا: إن قال قائل: إن الله لا يوصف بهذا، وإنما يوصف به الخلق، فزعم أنه وهو أهون على الخلق، فإن الحجة عليه قول الله: وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ، وقوله: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا أي: لا يثقله حفظهما.

وقوله: ( وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى ) يقول: ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ليس كمثله شيء، فذلك المثل الأعلى، تعالى ربنا وتقدّس.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: ( وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ ) يقول: ليس كمثله شيء.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ والأرْضِ ) مثله أنه لا إله إلا هو، ولا ربّ غيره.

وقوله: ( وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) يقول تعالى ذكره: وهو العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه، وتصريفهم فيما أراد من إحياء وإماتة، وبعث ونشر، وما شاء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 28 )

يقول تعالى ذكره: مثل لكم أيها القوم ربكم مثلا من أنفسكم، ( هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ) يقول: من مماليككم من شركاء، فيما رزقناكم من مال، فأنتم فيه سواء وهم. يقول: فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء في عبادتكم إياي، وأنتم وهم عبيدي ومماليكي، وأنا مالك جميعكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ) قال: مثل ضربه الله لمن عدل به شيئا من خلقه، يقول: أكان أحدكم مشاركا مملوكه في فراشه وزوجته؟! فكذلكم الله لا يرضى أن يعدل به أحد من خلقه.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ) قال: هل تجد أحدا يجعل عبده هكذا في ماله، فكيف تعمد أنت وأنت تشهد أنهم عبيدي وخلقي، وتجعل لهم نصيبا في عبادتي، كيف يكون هذا؟ قال: وهذا مثل ضربه الله لهم، وقرأ: ( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) فقال بعضهم: معنى ذلك: تخافون هؤلاء الشركاء، مما ملكت أيمانكم، أن يرثوكم أموالكم من بعد وفاتكم، كما يرث بعضكم بعضا.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: في الآلهة، وفيه يقول: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تخافون هؤلاء الشركاء مما ملكت أيمانكم أن يقاسموكم أموالكم، كما يقاسم بعضكم بعضا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت عمران، قال: قال أبو مجلز: إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك، وليس له ذلك، كذلك الله لا شريك له.

وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك، القول الثاني؛ لأنه أشبههما بما دلّ عليه ظاهر الكلام، وذلك أن الله جلّ ثناؤه وبخ هؤلاء المشركين، الذين يجعلون له من خلقه آلهة يعبدونها، وأشركوهم في عبادتهم إياه، وهم مع ذلك يقرّون بأنها خلقه وهم عبيده، وعيرهم بفعلهم ذلك، فقال لهم: هل لكم من عبيدكم شركاء فيما خوّلناكم من نعمنا، فهم سواء، وأنتم في ذلك تخافون أن يقاسموكم ذلك المال الذي هو بينكم وبينهم، كخيفة بعضكم بعضا أن يقاسمه ما بينه وبينه من المال شركة، فالخيفة التي ذكرها تعالى ذكره بأن تكون خيفة مما يخاف الشريك من مقاسمة شريكه المال الذي بينهما إياه، أشبه من أن تكون خيفة منه بأن يرثه؛ لأن ذكر الشركة لا يدلّ على خيفة الوراثة، وقد يدلّ على خيفة الفراق والمقاسمة.

وقوله: ( كَذَلكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يقول تعالى ذكره: كما بيَّنا لكم أيها القوم حججنا في هذه الآيات من هذه السورة على قدرتنا على ما نشاء من إنشاء ما نشاء، وإفناء ما نحبّ، وإعادة ما نريد إعادته بعد فنائه، ودللنا على أنه لا تصلح العبادة إلا للواحد القهار، الذي بيده ملكوت كلّ شيء كذلك نبين حججنا في كل حقّ لقوم يعقلون، فيتدبرونها إذا سمعوها، ويعتبرون فيتعظون بها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 29 )

يقول تعالى ذكره: ما ذلك كذلك، ولا أشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله الآلهة والأوثان؛ لأن لهم شركاء فيما رزقهم الله من ملك أيمانهم، فهم وعبيدهم فيه سواء، يخافون أن يقاسموهم ما هم شركاؤهم فيه، فرضوا لله من أجل ذلك بما رضوا به لأنفسهم، فأشركوهم في عبادته، ولكن الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله، اتبعوا أهواءهم، جهلا منهم لحقّ الله عليهم، فأشركوا الآلهة والأوثان في عبادته، ( فَمَنْ يهْدِي مَنْ أضَلَّ اللهُ ) يقول: فمن يسدّد للصواب من الطرق، يعني بذلك من يوفق للإسلام مَن أضلّ الله عن الاستقامة والرشاد ( وَما لَهُمْ منْ ناصرِينَ ) يقول: وما لمن أضلّ الله من ناصرين ينصرونه، فينقذونه من الضلال الذي يبتليه به تعالى ذكره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 30 )

يقول تعالى ذكره: فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربك يا محمد لطاعته، وهي الدين، ( حَنِيفًا ) يقول: مستقيما لدينه وطاعته ( فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا ) يقول: صنعة الله التي خلق الناس عليها ونصبت « فطرة » على المصدر من معنى قوله: ( فَأقِم وَجْهَكَ للدّينِ حَنِيفًا ) وذلك أن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فطرة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَر النَّاسَ عَلَيْها ) قال: الإسلام مُذ خلقهم الله من آدم جميعا، يقرّون بذلك، وقرأ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا قال: فهذا قول الله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ بعد.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فِطْرَةَ اللهِ ) قال: الإسلام.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا يونس بن أبي صالح، عن يزيد بن أبي مريم، قال: مرّ عمر بمُعاذ بن جبل، فقال: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث، وهنّ المنجيات: الإخلاص، وهو الفطرة ( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) ، والصلاة: وهي الملة، والطاعة: وهي العصمة. فقال عمر: صدقت.

حدثني يعقوب، قال: ثني ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ: ما قوام هذه الأمة؟ ثم ذكر نحوه.

وقوله: ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) يقول: لا تغيير لدين الله؛ أي لا يصلح ذلك، ولا ينبغي أن يفعل.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ ) قال: لدينه.

حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له: قاسم، إلى عكرِمة يسأله عن قول الله: ( لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ ) إنما هو الدين، وقرأ: ( لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ ذلكَ الدّينُ القَيِّمُ ) .

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا زيد بن حباب، عن حسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرِمة ( فطْرَةَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) قال: الإسلام.

قال: ثني أبي، عن نضر بن عربي، عن عكرمة ( لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ ) قال: لدين الله.

قال: ثني أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: لدين الله.

قال: ثنا أبي، عن عبد الجبار بن الورد، عن القاسم بن أبي بزّة، قال: قال مجاهد، فسل عنها عكرِمة، فسألته، فقال عكرِمة: دين الله تعالى ما له أخزاه الله؟! ألم يسمع إلى قوله: ( فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) ؟

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) : أي لدين الله.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن عكرِمة، قال: لدين الله.

قال: ثنا ابن عيينة، عن حميد الأعرج، قال: قال سعيد بن جُبَير ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) قال: لدين الله.

قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) قال: لدين الله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) قال: دين الله.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مسعر وسفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم، قال: ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) قال: لدين الله.

قال: ثنا أبي، عن جعفر الرازي، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: لدين الله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تغيير لخلق الله من البهائم، بأن يخصي الفحول منها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن رجل، سأل ابن عباس عن خصاء البهائم، فكرهه، وقال: ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) .

قال: ثنا ابن عيينة، عن حميد الأعرج، قال: قال عكرِمة: الإخصاء.

قال: ثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن مجاهد، قال: الإخصاء.

وقوله: ( ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ ) يقول تعالى ذكره: إن إقامتك وجهك للدين حنيفا، غير مغير ولا مبدّل، هو الدين القيم، يعني: المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة من الحنيفية إلى اليهودية والنصرانية، وغير ذلك من الضلالات والبدع المحدثة.

وقد وجَّه بعضهم معنى الدين في هذا الموضع إلى الحساب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو ليلى، عن بريدة ( ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ) قال: الحساب القيم.

( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الدين الذي أمرتك يا محمد به بقولي ( فَأقمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنِيفا ) هو الدين الحقّ دون سائر الأديان غيره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 31 ) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( 32 )

يعني تعالى ذكره بقوله: ( مُنِيِبِين إلَيْهِ ) تائبين راجعين إلى الله مقبلين.

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( مُنِيبينَ إلَيْهِ ) قال: المنيب إلى الله: المطيع لله، الذي أناب إلى طاعة الله وأمره، ورجع عن الأمور التي كان عليها قبل ذلك، كان القوم كفارا، فنـزعوا ورجعوا إلى الإسلام.

وتأويل الكلام: فأقم وجهك يا محمد للدين حنيفا، منيبين إليه، إلى الله، فالمنيبون حال من الكاف التي في وجهك.

فإن قال قائل: وكيف يكون حالا منها، والكاف كناية عن واحد، والمنيبون صفة لجماعة؟ قيل: لأن الأمر من الكاف كناية اسمه من الله في هذا الموضع أمر منه له ولأمته، فكأنه قيل له: فأقم وجهك أنت وأمتك للدين حنيفا لله، منيبين إليه.

وقوله: ( واتَّقُوهُ ) يقول جلّ ثناؤه: وخافوا الله وراقبوه، أن تفرّطوا في طاعته، وتركبوا معصيته ( وَلا تَكُونَوا مِنَ المُشْرِكِينَ ) يقول: ولا تكونوا من أهل الشرك بالله بتضييعكم فرائضه، وركوبكم معاصيه، وخلافكم الدين الذي دعاكم إليه.

وقوله: ( مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا ) يقول: ولا تكونوا من المشركين الذين بدّلوا دينهم، وخالفوه ففارقوه ( وكانوا شِيَعًا ) يقول: وكانوا أحزابا فرقا كاليهود والنصارى.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعا ) : وهم اليهود والنصارى.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعا ) إلى آخر الآية، قال: هؤلاء يهود، فلو وجِّه قوله: ( مِنَ الِّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ) إلى أنه خبر مستأنف منقطع عن قوله: ( وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ ) ، وأن معناه: ( من الذين فرّقوا دِينَهُم وكانُوا شيَعا ) أحزابا، ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) كان وجها يحتمله الكلام.

وقوله: ( كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَديْهِمْ فَرِحُونَ ) يقول: كل طائفة وفرقة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحقّ، فأحدثوا البدع التي أحدثوا ( بِمَا لَديْهم فَرِحُونَ ) يقول: بما هم به متمسكون من المذهب، فرحون مسرورون، يحسبون أن الصواب معهم دون غيرهم.