القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ( 42 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: سيروا في البلاد، فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم، وكذّبوا رسلَه، كيف كان آخر أمرهم، وعاقبة تكذيبهم رُسلَ الله وكفرهم، ألم نهلكهم بعذاب منا، ونجعلهم عبرة لمن بعدهم، ( كان أكثرهم مشركين ) ، يقول: فَعَلنا ذلك بهم؛ لأن أكثرهم كانوا مشركين بالله مثلَهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( 43 )

يقول تعالى ذكره: فوجِّه وجْهَك يا محمد، نحو الوجه الذي وجَّهك إليه ربك ( للدّين القَيِّمِ ) لطاعة ربك، والمِلةِ المستقيمةِ التي لا اعوجاج فيها عن الحقِّ ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره: من قبل مجيء يوم من أيام الله لا مردّ له لمجيئه؛ لأن الله قد قضى بمجيئه فهو لا محالة جاء ( يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) يقول: يوم يجيء ذلك اليوم يصدّع الناسُ، يقول: يتفرّق الناس فرقتين من قولهم: صَدَعتُ الغنم صدعتين: إذا فرقتها فرقتين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( فَأقِمْ وَجْهَكَ للدِينِ القَيِّمِ ) الإسلام ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) فريق في الجنة، وفريق في السعير.

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: ( يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) يقول: يتفرّقون.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( يَصَّدَّعُونَ ) قال: يتفرّقون إلى الجنة، وإلى النار.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( 44 )

يقول تعالى ذكره: من كفر بالله فعليه أوزار كفره، وآثام جحوده نِعَمَ ربه، ( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا ) : يقول: ومن أطاع الله، فعمل بما أمره به في الدنيا، وانتهى عما نهاه عنه فيها ( فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدونَ ) يقول: فلأنفسهم يستعدون، ويسوّون المضجع ليسلموا من عقاب ربهم، وينجوا من عذابه، كما قال الشاعر:

امْهِـدْ لنفْسِـكَ حـانَ السُّـقْمُ والتَّلَـفُ وَلا تُضَيِّعَـنَّ نَفْسـا مَـا لَهـا خَـلَفُ

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) قال: يسوّون المضاجع.

حدثنا ابن المثنى والحسين بن يزيد الطحان وابن وكيع وأبو عبد الرحمن العلائي، قالوا: ثنا يحيى بن سليم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) قال: في القبر.

حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا يحيى بن سليم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) قال: للقبر.

حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثنا يحيى بن سليم، قال: ثنا ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا يقول في قوله: ( فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) قال: في القبر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 45 )

يقول تعالى ذكره: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ... لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول: وعملوا بما أمرهم الله ( مِنْ فَضْلِهِ ) الذي وعد من أطاعه في الدنيا أن يجزيه يوم القيامة ( إنَّهُ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ ) يقول تعالى ذكره: إنما خصّ بجزائه من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالحات دون من كفر بالله، إنه لا يحبّ أهل الكفر به. واستأنف الخبر بقوله: ( إنَّه لا يُحِبُّ الكافِرِينَ ) وفيه المعنى الذي وصفت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 46 )

يقول تعالى ذكره: ومن أدلته على وحدانيته، وحججه عليكم، على أنه إله كلّ شيء ( أنْ يُرْسِلَ الرّياحَ مُبَشِّراتٍ ) بالغيث والرحمة ( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) يقول: ولينـزل عليكم من رحمته، وهي الغيث الذي يحيي به البلاد، ولتجري السفن في البحار بها بأمره إياها ( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) يقول: ولتلتمسوا من أرزاقه ومعايشكم التي قسمها بينكم ( وَلَعلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) يقول: ولتشكروا ربكم على ذلك، أرسل هذه الرياح مبشرات.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( الرّياحَ مُبَشِّراتٍ ) قال: بالمطر.

وقالوا في قوله: ( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) مثل الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) قال: المطر.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) : المطر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ( 47 )

يقول تعالى ذكره مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم، فيما يلقى من قومه من الأذى فيه بما لقي من قبله من رسله من قومهم، ومعلمه سنته فيهم، وفي قومهم، وأنه سالك به وبقومه سنته فيهم، وفي أممهم: ولقد أرسلنا يا محمد من قبلك رسلا إلى قومهم الكفرة، كما أرسلناك إلى قومك العابدي الأوثان من دون الله ( فَجَاءُوهُمْ بالبَيِّناتِ ) يعني: بالواضحات من الحجج على صدقهم، وأنهم لله رسل، كما جئت أنت قومك بالبينات فكذّبوهم، كما كذّبك قومك، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عند الله، كما ردّوا عليك ما جئتهم به من عند ربك، ( فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) يقول: فانتقمنا من الذين أجرموا الآثام، واكتسبوا السيئات من قومهم، ونحن فاعلو ذلك كذلك بمجرمي قومك، ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ ) يقول: ونجَّينا الذين آمنوا بالله وصدّقوا رسله، إذ جاءهم بأسنا، وكذلك نفعل بك وبمن آمن بك من قومك، ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ المُؤْمِنينَ ) على الكافرين، ونحن ناصروك ومن آمن بك على مَن كفر بك، ومظفروك بهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 48 )

يقول تعالى ذكره: ( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ) يقول: فتنشئ الرياح سحابا، وهي جمع سحابة، ( فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ ) يقول: فينشره الله، ويجمعه في السماء كيف يشاء، وقال: ( فيبسطه ) فوحد الهاء، وأخرج مخرج كناية المذكر، والسحاب جمع كما وصفت، ردّا على لفظ السحاب، لا على معناه، كما يقال: هذا تمر جيد.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( فَيَبْسُطُهُ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشَاءُ ) ويجمعه.

وقوله: ( وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا ) : يقول: ويجعل السحاب قِطعا. متفرّقة.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( وَيجْعَلُهُ كِسَفا ) : أي قطعا.

وقوله: ( فَتَرى الوَدْقَ ) يعني: المطر ( يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) يعني: من بين السحاب.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( فَتَرى الوَدْقَ يخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) .

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن قطن، عن حبيب، عن عبيد بن عمير ( يُرْسِلُ الرّياحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ) قال: الرياح أربع: يبعث الله ريحا فتقمّ الأرض قما، ثم يبعث الله الريح الثانية فتثير سحابا، فيجعله في السماء كِسَفا، ثم يبعث الله الريح الثالثة فتؤلف بينه، فيجعله ركاما، ثم يبعث الريح الرابعة فتمطر.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَتَرَى الوَدْقَ ) قال: القطر.

وقوله: ( فَإذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) يقول: فإذا صرف ذلك الودق إلى أرض من أراد صرفه إلى أرضه من خلقه؛ رأيتهم يستبشرون؛ بأنه صرف ذلك إليهم ويفرحون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( 49 )

يقول تعالى ذكره: وكان هؤلاء الذين أصابهم الله بهذا الغيث من عباده، من قبل أن ينـزل عليهم هذا الغيث، من قبل هذا الغيث ( لَمُبْلِسِينَ ) يقول: لمكتئبين حزنين؛ باحتباسه عنهم.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنـزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) : أي قانطين.

واختلف أهل العربية في وجه تكرير « من قبله » وقد تقدم قبل ذلك قوله: ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنـزلَ عَلَيْهم ) فقال بعض نحويي البصرة: ردّ من قبله على التوكيد، نحو قوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ . وقال غيره: ليس ذلك كذلك؛ لأن مع ( مِنْ قَبْلِ أنْ يُنـزلَ عَلَيْهم ) حرفا ليس مع الثانية، قال: فكأنه قال: من قبل التنـزيل من قبل المطر، فقد اختلفتا، وأما كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ وكد بأجمعين؛ لأن كلا يكون اسما ويكون توكيدا، وهو قوله: أجمعون. والقول عندي في قوله: ( مِنْ قَبْلِهِ ) على وجه التوكيد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 50 )

اختلفت القرّاء في قوله: ( فانْظُرْ إلَى آثارِ رَحْمَةِ اللهِ ) فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وبعض الكوفيين: ( إلَى أَثَرِ رَحْمَةِ اللهِ ) على التوحيد، بمعنى: فانظر يا محمد إلى أثر الغيث الذي أصاب الله به من أصاب من عباده، كيف يحيي ذلك الغيث الأرض من بعد موتها. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: ( فَانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللهِ ) على الجماع، بمعنى: فانظر إلى آثاء الغيث الذي أصاب الله به من أصاب، كيف يحيي الأرض بعد موتها.

والصواب من القول فى ذلك، أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار، متقاربتا المعنى، وذلك أن الله إذا أحيا الأرض بغيث أنـزله عليها، فإن الغيث أحياها بإحياء الله إياها به، وإذا أحياها الغيث، فإن الله هو المحيي به، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب. فتأويل الكلام إذًا: فانظر يا محمد، إلى آثار الغيث الذي ينـزل الله من السحاب، كيف يحيي بها الأرض الميتة، فينبتها ويعشبها، من بعد موتها ودثورها، ( إنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى ) . يقول جلّ ذكره: إن الذي يحيي هذه الأرض بعد موتها بهذا الغيث، لمحيي الموتى من بعد موتهم، وهو على كلّ شيء مع قدرته على إحياء الموتى قدير، لا يعزّ عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه سبحانه.