القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 12 )

يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا لقمان الفقه في الدين والعقل والإصابة في القول.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمان الحِكْمَةَ ) قال: الفقه والعقل والإصابة في القول من غير نبوّة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ ) أي الفقه في الإسلام، قال قَتادة: ولم يكن نبيا، ولم يوح إليه.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن مجاهد في قوله: ( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ ) قال: الحكمة: الصواب، وقال غير أبي بشر: الصواب في غير النبوّة.

حدثنا ابن المثنى، ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد أنه قال: كان لقمان رجلا صالحا، ولم يكن نبيا.

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي وابن حميد، قالا ثنا حكام، عن سعيد الزبيدي، عن مجاهد قال: كان لقمان الحكيم عبدا حبشيا، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، قاضيا على بني إسرائيل.

حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: كان لقمان عبدا أسود، عظيم الشفتين، مشقَّق القدمين.

حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثني يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: كان لقمان الحكيم أسود من سودان مصر.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن عكرِمة، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدا حبشيا.

حدثنا العباس بن الوليد، قال: أخبرنا أبي، قال: ثنا الأوزاعي، قال: ثنا عبد الرحمن بن حرملة، قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأل، فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بِلال، ومهجِّع مولى عمر بن الخطاب، ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي الأشهب، عن خالد الربعي، قال: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا، فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، قال: أخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، ثم مكث ما شاء الله، ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، فقال: أخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما، فقال له لقمان: إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، قال: كان لقمان عبدا أسود، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، فأتاه رجل، وهو في مجلس أناس يحدّثهم، فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد ( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقمانَ الحِكْمَةَ ) قال: القرآن.

قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الحكمة: الأمانة.

وقال آخرون: كان نبيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرِمة، قال: كان لقمان نبيا.

وقوله: ( أنِ اشْكُرْ لِلهِ ) يقول تعالى ذكره: ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) ، أن احمد الله على ما آتاك من فضله، وجعل قوله: ( أنِ اشكُرْ ) ترجمة عن الحكمة؛ لأن من الحكمة التي كان أوتيها، كان شكره الله على ما آتَاهُ، وقوله: ( وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) يقول: ومن يشكر الله على نعمه عنده فإنما يشكر لنفسه، لأن الله يجزل له على شكره إياه الثواب، وينقذه به من الهلكة ( وَمَن كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) يقول: ومن كفر نعمة الله عليه إلى نفسه أساء؛ لأن الله معاقبه على كفرانه إياه، والله غنيّ عن شكره إياه على نعمه، لا حاجة به إليه، لأن شكره إياه لا يزيد في سلطانه، ولا ينقص كفرانه إياه من ملكه. ويعني بقوله: ( حَمِيدٌ ) محمود على كلّ حال، له الحمد على نعمه، كفر العبد نعمته أو شكره عليها، وهو مصروف من مفعول إلى فعيل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( 13 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) يقول: لخطأ من القول عظيم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( 14 )

يقول تعالى ذكره: وأمرنا الإنسان ببرّ والديه ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ ) يقول: ضعفا على ضعف، وشدّة على شدّة، ومنه قول زهير:

فَلَــنْ يَقُولُـوا بِحَـبْلٍ وَاهِـنٍ خَـلَقٍ لَـوْ كـانَ قَـوْمُكَ فِـي أسْـبابِه هَلَكُوا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في المعني بذلك، فقال بعضهم: عنى به الحمل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ) يقول: شدّة بعد شدّة، وخلقا بعد خلق.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَهْنًا عَلى وَهْنٍ ) يقول: ضعفا على ضعف.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ ) أي جهدا على جهد.

وقال آخرون: بل عنى به: وهن الولد وضعفه على ضعف الأمّ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَهْنًا عًلى وَهْنٍ ) قال: وهن الولد على وهن الوالدة وضعفها.

وقوله: ( وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ ) يقول: وفطامه في انقضاء عامين. وقيل: ( وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ ) وترك ذكر انقضاء اكتفاء بدلالة الكلام عليه، كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا يراد به أهل القرية.

وقوله: ( أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ) يقول: وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمي عليك، ولوالديك تربيتهما إياك، وعلاجهما فيك ما عالجا من المشقة حتى استحكم قواك. وقوله: ( إليَّ المَصِيرُ ) يقول: إلى الله مصيرك أيها الإنسان، وهو سائلك عما كان من شكرك له على نعمه عليك، وعما كان من شكرك لوالديك، وبرّك بهما على ما لقيا منك من العناء والمشقة في حال طفوليتك وصباك، وما اصطنعا إليك في برّهما بك، وتحننهما عليك.

وذُكر أن هذه الآية نـزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه.

ذكر الرواية الواردة في ذلك:

حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: حلفت أمّ سعد أن لا تأكل ولا تشرب، حتى يتحوّل سعد عن دينه، قال: فأبى عليها، فلم تزل كذلك حتى غشي عليها، قال: فأتاها بنوها فسقوها، قال: فلما أفاقت دعت الله عليه، فنـزلت هذه الآية ( وَوَصَّيْنا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ) إلى قوله: فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قالت أمّ سعد لسعد: أليس الله قد أمر بالبرّ، فوالله، لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا، ثم أوجروها، فنـزلت هذه الآية ( وَوَصَّيْنا الإنسانَ بِوَالِدَيْهِ ) .

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن سماك بن حرب، قال: قال سعد بن مالك: نـزلت فيّ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا قال: لما أسلمت، حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا، قال: فناشدتها أوّل يوم، فأبت وصبرت، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها، فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت: والله، لو كانت لك مئة نفس لخرجت قبل أن أدع ديني هذا، فلما رأت ذلك، وعرفت أني لست فاعلا أكلت.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت أبا هبيرة يقول: قال: نـزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ... الآية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 15 )

يقول تعالى ذكره: وإن جاهدك أيها الإنسان، والداك على أن تشرك بي في عبادتك إياي معي غيري، مما لا تعلم أنه لي شريك، ولا شريك له تعالى ذكره علوّا كبيرا، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك بي، ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيا مَعْرُوفًا ) يقول: وصاحبهما في الدنيا بالطاعة لهما فيما لا تبعة عليك فيه، فيما بينك وبين ربك ولا إثم.

وقوله: ( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليَّ ) يقول: واسلك طريق من تاب من شركه، ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إليَّ ) أي: من أقبل إليّ.

وقوله: ( إليَّ مَرْجِعُكُمْ فأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) فإن إليّ مصيركم ومعادكم بعد مماتكم، فأخبركم بجميع ما كنتم في الدنيا تعملون من خير وشرّ، ثم أجازيكم على أعمالكم، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.

فإن قال لنا قائل: ما وجه اعتراض هذا الكلام بين الخبر عن وصيتي لقمان ابنه؟ قيل: ذلك أيضا وإن كان خبرا من الله تعالى ذكره عن وصيته عباده به، وأنه إنما أوصى به لقمان ابنه، فكان معنى الكلام: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ولا تطع في الشرك به والديك ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيا مَعْرُوفا ) فإن الله وصّى بهما، فاستؤنف الكلام على وجه الخبر من الله، وفيه هذا المعنى، فذلك وجه اعتراض ذلك بين الخبرين عن وصيته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( 16 )

اختلف أهل العربية في معنى الهاء والألف اللتين في قوله: ( إنَّها ) فقال بعض نحويي البصرة: ذلك كناية عن المعصية والخطيئة. ومعنى الكلام عنده: يا بنيّ، إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل، أو إن الخطيئة. وقال بعض نحويي الكوفة: وهذه الهاء عماد. وقال: أنَّث تك، لأنه يراد بها الحبة، فذهب بالتأنيث إليها، كما قال الشاعر:

وَتَشْـرَقُ بـالقَوْلِ الَّـذِي قَـدْ أذَعْتَـهُ كمَـا شَـرِقَتْ صَـدْرُ القَنـاةِ مِنَ الدَّمِ

وقال صاحب هذه المقالة: يجوز نصب المثقال ورفعه، قال: فمن رفع رفعه ( بتَكُ ) ، واحتملت النكرة أن لا يكون لها فعل في كان وليس وأخواتها، ومن نصب جعل في تكن اسما مضمرا مجهولا مثل الهاء التي في قوله: ( إنَّها إن تَكُ ) : ومثله قوله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ قال: ولو كان ( إن يك مثقال حبة ) كان صوابا، وجاز فيه الوجهان. وأما صاحب المقالة الأولى، فإن نصب مثقال في قوله، على أنه خبر، وتمام كان، وقال: رفع بعضهم فجعلها كان التي لا تحتاج إلى خبر.

وأولى القولين بالصواب عندي، القول الثاني؛ لأن الله تعالى ذكره لم يعد عباده أن يوفيهم جزاء سيئاتهم دون جزاء حسناتهم، فيقال: إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل يأت الله بها، بل وعد كلا العاملين أن يوفيه جزاء أعمالهما. فإذا كان ذلك كذلك، كانت الهاء في قوله: ( إنَّها ) بأن تكون عمادا أشبه منها بأن تكون كناية عن الخطيئة والمعصية. وأما النصب في المثقال، فعلى أن في « تَكُ » مجهولا والرفع فيه على أن الخبر مضمر، كأنه قيل: إن تك في موضع مثقال حبة؛ لأن النكرات تضمر أخبارها، ثم يترجم عن المكان الذي فيه مثقال الحبة.

وعنى بقوله: ( مِثْقالَ حَبَّةٍ ) : زنة حبة. فتأويل الكلام إذن: إن الأمر إن تك زنة حبة من خردل من خير أو شرّ عملته، فتكن في صخرة، أو في السموات، أو في الأرض، يأت بها الله يوم القيامة، حتى يوفيك جزاءه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) من خير أو شرّ.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ ) فقال بعضهم: عنى بها الصخرة التي عليها الأرض، وذلك قول رُوي عن ابن عباس وغيره، وقالوا: هي صخرة خضراء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال: الصخرة خضراء على ظهر حوت.

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن عبد الله، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: خلق الله الأرض على حوت، والحوت هو النون الذي ذكر الله في القرآن ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء، ولا في الأرض.

وقال آخرون: عنى بها الجبال، قالوا: ومعنى الكلام: فتكن في جبل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة في قوله: ( فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ ) أي: جبل.

وقوله: ( يَأْتِ بِهَا اللهُ ) كان بعضهم يوجه معناه إلى: يعلمه الله، ولا أعرف يأتي به بمعنى: يعلمه، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أن لقمان إنما وصف الله بذلك؛ لأن الله يعلم أماكنه، لا يخفى عليه مكان شيء منه فيكون وجها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ويحيى، قالا ثنا أبو سفيان، عن السدي، عن أبي مالك ( فَتَكُن فِي صخْرَةٍ أوْ فِي السَّمَاوَاتِ أوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِها اللهُ ) قال: يعلمها الله.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، مثله.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) يقول: إن الله لطيف باستخراج الحبة من موضعها حيث كانت خبير بموضعها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) أي: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( 17 )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل لقمان لابنه ( يا بُنَيَّ أقِمِ الصَّلاةَ ) بحدودها ( وأمُرْ بالمعْرُوفِ ) يقول: وأمر الناس بطاعة الله، واتباع أمره ( وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ ) يقول: وانه الناس عن معاصي الله ومواقعة محارمه ( وَاصْبِرْ عَلى ما أصَابَكَ ) يقول: واصبر على ما أصابك من الناس في ذات الله، إذا أنت أمرتهم بالمعروف، ونهيتهم عن المنكر، ولا يصدّنك عن ذلك ما نالك منهم ( إنَّ ذلكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) يقول: إن ذلك مما أمر الله به من الأمور عزما منه.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني حجاج، عن ابن جُرَيج في قوله: ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ) قال: اصبر على ما أصابك من الأذى في ذلك ( إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) قال: إن ذلك مما عزم الله عليه من الأمور، يقول: مما أمر الله به من الأمور.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( 18 )

اختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( وَلا تُصَعِّرْ ) فقرأه بعض قرّاء الكوفة والمدنيين والكوفيين: ( وَلا تُصَعِّرْ ) على مثال ( تُفَعِّل ) . وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة ( وَلا تُصَاعِرْ ) على مثال ( تُفَاعِل ) .

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام: ولا تعرض بوجهك عمن كلمته تكبرا واستحقارا لمن تكلمه، وأصل ( الصعر ) داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رءوسها حتى تلفت أعناقها عن رءوسها، فيشبه به الرجل المتكبر على الناس، ومنه قول عمرو بن حُنَيٍّ التَّغلبيّ:

وكُنَّــا إذَا الجَبَّــارُ صَعَّــرَ خَـدَّهُ أقَمْنــا لَــهُ مِــنْ مَيْلِـهِ فَتَقوَّمـا

واختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ) يقول: ولا تتكبر؛ فتحقر عباد الله، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ) يقول: لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلا تُصَعِّرْ ) قال: الصدود والإعراض بالوجه عن الناس.

حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن جعفر بن برقان، عن يزيد في هذه الآية ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ) قال: إذا كلمك الإنسان لويت وجهك، وأعرضت عنه محقرة له.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا خالد بن حيان الرقي، عن جعفر بن ميمون بن مهران، قال: هو الرجل يكلم الرجل فيلوي وجهه.

حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، قال: ثنا محمد بن ربيعة، قال: ثنا أبو مكين، عن عكرِمة في قوله: ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ) قال: لا تُعْرض بوجهك.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ) يقول: لا تعرض عن الناس، يقول: أقبل على الناس بوجهك وحسن خلقك.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ) قال: تصعير الخدّ: التجبر والتكبر على الناس ومحقرتهم.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي مكين، عن عكرمة، قال: الإعراض.

وقال آخرون: إنما نهاه عن ذلك أن يفعله لمن بينه وبينه صعر، لا على وجه التكبر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ) قال: الرجل يكون بينه وبين أخيه الحنة، فيراه فيعرض عنه.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله: ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ) قال: هو الرجل بينه وبين أخيه حنة فيعرض عنه.

وقال آخرون: هو التشديق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن جعفر الرازي، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: هو التشديق.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: هو التشديق أو التشدّق « الطبري يشكُّ » .

حدثنا يحيى بن طلحة، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، بمثله.

وقوله: ( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا ) يقول: ولا تمش في الأرض مختالا.

كما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا ) يقول: بالخيلاء.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ولا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا إنَّ اللهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) قال: نهاه عن التكبر، قوله: ( إنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ ) متكبر ذي فخر.

كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ( كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) قال: متكبر. وقوله: ( فخور ) قال: يعدّد ما أعطى الله، وهو لا يشكر الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ( 19 )

يقول: وتواضع في مشيك إذا مشيت، ولا تستكبر، ولا تستعجل، ولكن اتئد.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أن منهم من قال: أمره بالتواضع في مشيه، ومنهم من قال: أمره بترك السرعة فيه.

ذكر من قال: أمره بالتواضع في مشيه:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن جابر، عن مجاهد ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) قال: التواضع.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) قال: نهاه عن الخيلاء.

ذكر من قال نهاه عن السرعة.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن عبد الله بن عقبة، عن يزيد بن أبي حبيب، في قوله: ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) قال: من السرعة. قوله: ( وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ) يقول: واخفض من صوتك، فاجعله قصدا إذا تكلمت.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ) قال: أمره بالاقتصاد في صوته.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ) قال: اخفض من صوتك.

واختلف أهل التأويل قوله: ( إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) فقال بعضهم: معناه: إن أقبح الأصوات.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة وأبان بن تغلب، قالا ثنا أبو معاوية عن جُوَيبر، عن الضحاك ( إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ ) قال: إن أقبح الأصوات ( لَصَوْتُ الحَمِيرِ ) .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ ) أي: أقبح الأصوات لصوت الحمير، أوّله زفير، وآخره شهيق، أمره بالاقتصاد في صوته.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت الأعمش يقول: ( إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ ) صوت الحمير.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن أشرّ الأصوات.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن يحيى بن واضح، عن أبي حمزة، عن جابر عن عكرِمة والحكم بن عُتيبة ( إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ ) قال: أشرّ الأصوات.

قال جابر: وقال الحسن بن مسلم: أشدّ الأصوات.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) قال: لو كان رفع الصوت هو خيرا ما جعله للحمير.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: إن أقبح أو أشرّ الأصوات، وذلك نظير قولهم: إذا رأوا وجها قبيحا، أو منظرا شنيعا، ما أنكر وجه فلان، وما أنكر منظره.

وأما قوله: ( لَصَوْتُ الحَمِيرِ ) فأضيف الصوت، وهو واحد، إلى الحمير وهي جماعة، فإن ذلك لوجهين: إن شئت، قلت: الصوت بمعنى الجمع، كما قيل: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وإن شئت قلت: معنى الحمير: معنى الواحد، لأن الواحد في مثل هذا الموضع يؤدّي عما يؤدي عنه الجمع.