القول في تأويل قوله تعالى : وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ( 77 )

وقوله ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) يقول: وجعلنا ذريّة نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد مَهْلِك قومه، وذلك أن الناس كلهم من بعد مَهْلِك نوح إلى اليوم إنما هم ذرية نوح، فالعجم والعرب أولاد سام بن نوح، والترك والصقالبة والخَزَر أولاد يافث بن نوح، والسودان أولاد حام بن نوح، وبذلك جاءت الآثار، وقالت العلماء.

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن عَشْمَة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في قوله ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: « سام وحام ويافث » .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: فالناس كلهم من ذرية نوح.

حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) يقول: لم يبق إلا ذرية نوح

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 78 ) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ( 79 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 80 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 81 ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ( 82 )

يعني تعالى ذكره بقوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) وأبقينا عليه، يعني على نوح ذكرا جميلا وثناء حسنا في الآخرين، يعني: فيمن تأخَّر بعده من الناس يذكرونه به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول: يُذْكَر بخير.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول: جعلنا لسان صدق للأنبياء كُلِّهم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال: الثناء الحسن.

وقوله ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) يقول: أمنة من الله لنوح في العالمين أن يذكره أحد بسوء; وسلام مرفوع بعلى. وقد كان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يقول: معناه: وتركنا عليه في الآخرين، ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ ) أي تركنا عليه هذه الكلمة، كما تقول: قرأت من القرآن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فتكون الجملة في معنى نصب، وترفعها باللام، كذلك سلام على نوح ترفعه بعلى، وهو في تأويل نصب، قال: ولو كان: تركنا عليه سلاما، كان صوابا. وقوله ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول تعالى ذكره: إنا كما فعلنا بنوح مجازاة له على طاعتنا وصبره على أذى قومه في رضانا وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وأبقينا عليه ثناء في الآخرين ( كَذَلِكَ نَجْزِي ) الذين يحسنون فيطيعوننا، وينتهون إلى أمرنا، ويصبرون على الأذى فينا. وقوله ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: إن نوحا من عبادنا الذين آمنوا بنا، فوحدونا، وأخلصوا لنا العبادة، وأفردونا بالألوهة.

وقوله ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ) يقول تعالى ذكره: ثم أغرقنا حين نجَّينا نوحا وأهله من الكرب العظيم من بقي من قومه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ) قال: أنجاه الله ومن معه في السفينة، وأغرق بقية قومه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ( 83 ) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 84 ) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ( 85 ) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ( 86 )

يقول تعالى ذكره: وإن من أشياع نوح على منهاجه وملته والله لإبراهيمَ خليل الرحمن.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) يقول: من أهل دينه.

حدثني ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزّة، عن مجاهد، في قوله ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: على منهاج نوح وسنته.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: على مِنهاجه وسنته.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: على دينه وملته.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: من أهل دينه.

وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: وإن من شيعة محمد لإبراهيم، وقال: ذلك مثل قوله وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ بمعنى: أنا حملنا ذرية من هم منه، فجعلها ذرية لهم، وقد سبقتهم.

وقوله ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) يقول تعالى ذكره: إذ جاء إبراهيم ربه بقلب سليم من الشرك، مخلص له التوحيد.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) والله من الشرك.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: سليم من الشرك.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد ( بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: لا شك فيه. وقال آخرون في ذلك بما حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عَثَّام بن عليّ، قال: ثنا هشام، عن أبيه، قال: يا بني لا تكونوا لعانين، ألم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قطّ، فقال الله: ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )

وقوله ( إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ) يقول حين قال: يعني إبراهيم لأبيه وقومه: أي شيء تعبدون.

وقوله ( أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ) يقول: أكذبا معبودا غير الله تريدون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 87 ) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ( 88 ) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ( 89 ) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ( 90 ) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ( 91 ) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ( 92 )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لأبيه وقومه: ( فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ؟ يقول: فأي شيء تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فما ظنكم برب العالمين ) يقول: إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره.

وقوله ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) ذكر أن قومه كانوا أهل تنجيم، فرأى نجما قد طلع، فعصب رأسه وقال: إني مَطْعُون، وكان قومه يهربون من الطاعون، فأراد أن يتركوه في بيت آلهتهم، ويخرجوا عنه، ليخالفهم إليها فيكسرها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) رأى نجما طلع.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عليه، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) رأى نجما طلع.

حدثنا بشر، قال: كَايَدَ نبي الله عن دينه، فقال: إني سقيم.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) قالوا لإبراهيم وهو في بيت آلهتهم: أخرج معنا، فقال لهم: إني مطعون، فتركوه مخافة أن يعديهم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، عن أبيه، في قول الله: ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) قال: أرسل إليه ملكهم، فقال: إن غدا عيدنا، فاحضر معنا، قال: فنظر إلى نجم فقال: إن ذلك النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي، فقال: ( إِنِّي سَقِيمٌ )

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) يقول الله: ( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ )

وقوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) : أي طعين، أو لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به، وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا عنه، ليبلغ من أصنامهم الذي يريد.

واختلف في وجه قيل إبراهيم لقومه: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وهو صحيح، فروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: « لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إلا ثَلاثَ كَذَبَاتٍ » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: « وَلَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ غَيْرَ ثَلاثَ كَذَبَاتٍ ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ الله ، قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقَوْلِهِ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، وقَوْلِهِ فِي سارَة: هِي أُخْتِي » .

حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثنا أبي، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني أبو الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: « لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إلا فِي ثَلاثٍ » ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن المسيب بن رافع، عن أبي هريرة، قال: « ما كذب إبراهيم غير ثلاث كذبات، قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، وإنما قاله موعظة، وقوله حين سأله الملك، فقال أختي لسارَة، وكانت امرأته » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أيوب، عن محمد، قالَ: « إن إبراهيم ما كذب إلا ثلاث كذبات ، ثنتان في الله، وواحدة في ذات نفسه; فأما الثنتان فقوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وقصته في سارَة، وذكر قصتها وقصة الملك » .

وقال آخرون: إن قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) كلمة فيها مِعْراض، ومعناها أن كل من كان في عقبة الموت فهو سقيم، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر، والخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف هذا القول، وقول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحقّ دون غيره. قوله ( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) يقول: فتولوا عن إبراهيم مدبرين عنه، خوفا من أن يعدِيَهُمْ السقم الذي ذكر أنه به.

كما حُدثت عن يحيى بن زكريا، عن بعض أصحابه، عن حكيم بن جُبَير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس ( إِنِّي سَقِيمٌ ) يقول: مطعون فتولَّوا عنه مدبرين، قال سعيد: إن كان الفرار من الطاعون لقديما.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة ( فَتَوَلَّوْا ) فنكصوا عنه ( مُدْبِرِينَ ) منطلقين.

وقوله ( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) يقول تعالى ذكره: فمال إلى آلهتهم بعد ما خرجوا عنه وأدبروا; وأرى أن أصل ذلك من قولهم: راغ فلان عن فلان: إذا حاد عنه، فيكون معناه إذا كان كذلك: فراغ عن قومه والخروج معهم إلى آلهتهم; كما قال عدي بن زيد:

حِــينَ لا يَنْفَــعُ الـرَّوَاغُ وَلا يَـنْ فَـــعُ إلا المُصَـــادِقُ النِّحْــرِيرُ

يعني بقوله « لا ينفع الرّوَاغ » : الحِياد. أما أهل التأويل فإنهم فسَّروه بمعنى فَمَال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) : أي فمال إلى آلهتهم، قال: ذهب.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ قوله ( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) قال: ذهب.

وقوله ( فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) هذا خبر من الله عن قيل إبراهيم للآلهة; وفي الكلام محذوف استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره، وهو: فقرّب إليها الطعام فلم يرها تأكل، فقال لها: ( أَلا تَأْكُلُونَ ) فلما لم يرها تأكل قال لها: ما لكم لا تأكلون، فلم يرها تنطق، فقال لها: ( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) مستهزئا بها، وكذلك ذكر أنه فعل بها، وقد ذكرنا الخبر بذلك فيما مضى قبلُ.

وقال قتادة في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) يستنطقهم ( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) ؟

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ( 93 ) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ( 94 ) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ( 95 ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( 96 )

يقول تعالى ذكره: فمال على آلهة قومه ضربا لها باليمين بفأس في يده يكسرهن.

كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما خلا جعل يضرب آلهتهم باليمين

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، فذكر مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) فأقبل عليهم يكسرهم.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ثم أقبل عليهم كما قال الله ضربا باليمين، ثم جعل يكسرهنّ بفأس في يده

وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك بمعنى: فراغ عليهم ضربا بالقوّة والقدرة، ويقول: اليمين في هذا الموضع: القوّة: وبعضهم كان يتأوّل اليمين في هذا الموضع: الحلف، ويقول: جعل يضربهنّ باليمين التي حلف بها بقوله وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « فراغ عليهم صفقا باليمين » . ورُوي نحو ذلك عن الحسن.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا خالد بن عبد الله الجُشَمِي، قال: سمعت الحسن قرأ: « فَرَاغَ عَلَيْهِمْ صَفْقًا بِالْيَمِينِ » : أي ضربا باليمين.

وقوله ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة، وبعض قرّاء الكوفة: ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) بفتح الياء وتشديد الفاء من قولهم: زَفَّتِ النعامة، وذلك أوّل عدوها، وآخر مشيها; ومنه قول الفرزدق:

وَجَــاءَ قَـرِيعُ الشَّـوْلِ قَبْـلَ إِفَالِهَـا يَـزِفُّ وَجَـاءَتْ خَلْفَـهُ وَهِـيَ زُفَّفُ

.

وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: « يُزِفُّونَ » بضم الياء وتشديد الفاء من أزف فهو يزف. وكان الفرّاء يزعم أنه لم يسمع في ذلك إلا زَفَفْت، ويقول: لعلّ قراءة من قرأه: « يُزِفُّونَ » بضم الياء من قول العرب: أطْرَدْتُ الرجل: أي صيرته طريدا، وطردته: إذا أنت خسئته إذا قلت: اذهب عنا; فيكون يزفون: أي جاءوا على هذه الهيئة بمنـزلة المزفوفة على هذه الحالة، فتدخل الألف. كما تقول: أحمدت الرجل: إذا أظهرت حمده، وهو محمد: إذا رأيت أمره إلى الحمد، ولم تنشر حمده; قال: وأنشدني المفضَّل:

تَمَنَّــى حُـصَيْنٌ أنْ يَسُـودَ جِذَاعَـةُ فأَمْسَــى حُـصَيْنٌ قَـدْ أذَلَّ وَأَقْهَـرا

فقال: أقهر، وإنما هو قُهِر، ولكنه أراد صار إلى حال قهر. وقرأ ذلك بعضهم.

« يَزِفُونَ » بفتح الياء وتخفيف الفاء من وَزَفَ يَزِفُ وذُكر عن الكسائي أنه لا يعرفها، وقال الفرّاء: لا أعرفها إلا أن تكون لغة لم أسمعها. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقول: الوَزْف: النَّسَلان.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( إليه يزفون ) قال: الوزيف: النسلان.

والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه بفتح الياء وتشديد الفاء، لأن ذلك هو الصحيح المعروف من كلام العرب، والذي عليه قراءة الفصحاء من القرّاء.

وقد اختلف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم: معناه: فأقبل قوم إبراهيم إلى إبراهيم يَجْرُون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) : فأقبلوا إليه يجرون.

وقال آخرون: أقبلوا إليه يَمْشُون.

ذكر من قال ذلك:

محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) قال: يَمْشُون.

وقال آخرون: معناه: فأقبلوا يستعجلون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، عن أبيه ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) قال: يستعجلون، قال: يَزِفّ: يستعجل.

وقوله ( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لقومه: أتعبدون أيها القوم ما تنحتون بأيديكم من الأصنام.

كما حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) الأصنام.

وقوله ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لقومه: والله خلقكم أيها القوم وما تعملون. وفي قوله ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) وجهان: أحدهما: أن يكون قوله « ما » بمعنى المصدر، فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم وعملكم.

والآخر أن يكون بمعنى « الذي » ، فيكون معنى الكلام عند ذلك: والله خلقكم والذي تعملونه: أي والذي تعملون منه الأصنام، وهو الخشب والنحاس والأشياء التي كانوا ينحتون منها أصنامهم.

وهذا المعنى الثاني قصد إن شاء الله قتادةُ بقوله: الذي حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) : بِأَيْدِكُمْ

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ( 97 ) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ( 98 ) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ( 99 ) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ( 100 )

يقول تعالى ذكره: قال قوم إبراهيم لما قال لهم إبراهيم: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ابنوا لإبراهيم بنيانا; ذكر أنهم بنوا له بنيانا يشبه التنور، ثم نقلوا إليه الحطب، وأوقدوا عليه ( فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) والجحيم عند العرب: جمر النار بعضُه على بعض، والنار على النار.

وقوله ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا ) يقول تعالى ذكره: فأراد قوم إبراهيم كيدًا، وذلك ما كانوا أرادوا من إحراقه بالنار. يقول الله: ( فَجَعَلْنَاهُمُ ) أي فجعلنا قوم إبراهيم ( الأسْفَلِينَ ) يعني الأذلين حجة، وغَلَّبنا إبراهيم عليهم بالحجة، وأنقذناه مما أرادوا به من الكيد.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ ) قال: فما ناظرهم بعد ذلك حتى أهلكهم.

وقوله ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) يقول: وقال إبراهيم لما أفْلَجَه الله على قومه ونجاه من كيدهم: ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) يقول: إني مُهَاجِرٌ من بلدة قومي إلى الله: أي إلى الأرض المقدَّسة، ومفارقهم، فمعتزلهم لعبادة الله.

وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) : ذاهب بعمله وقلبه ونيته.

وقال آخرون في ذلك: إنما قال إبراهيم ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) حين أرادوا أن يلقوه في النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثني، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت سليمان بن صُرَد يقول: لما أرادوا أن يُلْقوا إبراهيم في النار ( قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) فجمع الحطب، فجاءت عجوز على ظهرها حطب، فقيل لها: أين تريدين ؟ قالت: أريد أذهب إلى هذا الرجل الذي يُلْقَى في النار; فلما ألقي فيها، قال: حَسْبِيَ الله عليه توكلت، أو قال: حسبي الله ونعم الوكيل، قال: فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ قال: فقال ابن لُوط، أو ابن أخي لوط: إن النار لم تحرقه من أجلي، وكان بينهما قرابة، فأرسل الله عليه عُنُقا من النار فأحرقته.

وإنما اخترت القول الذي قلت في ذلك، لأن الله تبارك وتعالى ذكر خبره وخبر قومه في موضع آخر، فأخبر أنه لما نجاه مما حاول قومه من إحراقه قال إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ففسر أهل التأويل ذلك أن معناه: إني مهاجر إلى أرض الشام، فكذلك قوله ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) لأنه كقوله إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي وقوله ( سَيَهْدِينِ ) يقول: سيثبتني على الهدى الذي أبصرته، ويعيننى عليه.

وقوله ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) وهذا مسألة إبراهيم ربه أن يرزقه ولدا صالحا; يقول: قال: يا رب هب لي منك ولدا يكون من الصالحين الذين يطيعونك، ولا يعصونك، ويصلحون في الأرض، ولا يفسدون.

كما حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: ولدا صالحا.

وقال: من الصالحين، ولم يَقُلْ: صالحا من الصالحين، اجتزاء بمن ذكر المتروك، كما قال عز وجل: وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ بمعنى زاهدين من الزاهدين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ( 101 ) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( 102 )

يقول تعالى ذكره: فبشَّرنا إبراهيم بغلام حليم، يعني بغلام ذي حِلْم إذا هو كَبِر، فأما في طفولته في المهد، فلا يوصف بذلك. وذكر أن الغلام الذي بشر الله به إبراهيم إسحاق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة: ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) قال: هو إسحاق.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) بشر بإسحاق، قال: لم يُثْن بالحلم على أحد غير إسحاق وإبراهيم.

وقوله ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) يقول: فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم مع إبراهيم العمل، وهو السعي، وذلك حين أطاق معونته على عمله.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قولهِ ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) يقول: العمل.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال: لما شبّ حتى أدرك سعيه سَعْي إبراهيمَ في العمل.

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: لما شبّ حين أدرك سعيه.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال: سَعي إبراهيم.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن يوسف، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) : سَعي إبراهيم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال: السَّعْيُ ها هنا العبادة.

وقال آخرون: معنى ذلك: فلما مشى مع إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) : أي لما مشى مع أبيه.

وقوله ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه: ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) وكان فيما ذكر أن إبراهيم نذر حين بشَّرته الملائكة بإسحاق ولدًا أن يجعله إذا ولدته سارَة لله ذبيحا; فلما بلغ إسحاقُ مع أبيه السَّعْي أرِي إبراهيم في المنام، فقيل له: أوف لله بنذرك، ورؤيا الأنبياء يقين، فلذلك مضى لما رأى في المنام، وقال له ابنه إسحاق ما قال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: قال جبرائيل لسارَة: أبشري بولد اسمه إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فضربت جبهتها عَجَبا، فذلك قوله فَصَكَّتْ وَجْهَهَا و قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ إلى قوله حَمِيدٌ مَجِيدٌ قالت سارَة لجبريل: ما آية ذلك ؟ فأخذ بيده عودا يابسا، فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فقال إبراهيم: هو لله إذن ذَبيح; فلما كبر إسحاق أُتِيَ إبراهيمُ في النوم، فقيل له: أوف بنذرك الذي نَذَرْت، إن الله رزقك غلاما من سارَة أن تذبحه، فقال لإسحاق: انطلق نقرب قُرْبَانا إلى الله، وأخذ سكينا وحبلا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام: يا أبت أين قُرْبانك؟ ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ؟ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) فقال له إسحاق: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فتراه سارَة فتحزن، وأَسْرِعْ مرّ السكين على حَلْقي؛ ليكون أهون للموت عليّ، فإذا أتيت سارَة فاقرأ عليها مني السلام; فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي، حتى استنقع الدموع تحت خدّ إسحاق، ثم إنه جرّ السكين على حلقه، فلم تَحِكِ السكين، وضرب الله صفيحة من النحاس على حلق إسحاق; فلما رأى ذلك ضرب به على جبينه، وحزّ من قفاه، فذلك قوله فَلَمَّا أَسْلَمَا يقول: سلما لله الأمر وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ فنودي يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا بالحق فالتفت فإذا بكبش، فأخذه وخَلَّى عن ابنه، فأكبّ على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بُنَيّ وُهِبْتَ لي; فلذلك يقول الله: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فرجع إلى سارَة فأخبرها الخبر، فجَزِعَت سارَة وقالت: يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تُعْلِمني!.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) قال: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا فى المنام شيئا فعلوه.

حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، قال: رؤيا الأنبياء وحي، ثم تلا هذه الآية: ( إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) .

قوله ( فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ) : اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( مَاذَا تَرَى ؟ ) ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وبعض قراء أهل الكوفة: ( فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ؟ ) بفتح التاء، بمعنى: أي شيء تأمر، أو فانظر ما الذي تأمر، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة: « مَاذَا تُرَى » بضم التاء، بمعنى: ماذا تُشير، وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح؟.

والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: ( مَاذَا تَرَى ) بفتح التاء، بمعنى: ماذا ترى من الرأي.

فإن قال قائل: أو كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضيّ لأمر الله، والانتهاء إلى طاعته؟ قيل: لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العَزْم: هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه، فيسر بذلك أم لا وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله.

وقوله ( قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) يقول تعالى ذكره: قال إسحاق لأبيه: يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي. ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) يقول: ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا، وقال: ( افعل ما تُؤْمَرُ، ولم يقل: ما تؤمر به، لأن المعنى: افعل الأمر الذي تؤمره، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « إني أرى في المنام: افعل ما أُمِرْت به » .