القول في تأويل قوله تعالى : وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 43 ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 44 )

اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك والصواب من القول عندنا فيه في سورة الأنبياء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام: فاغتسل وشرب, ففرجنا عنه ما كان فيه من البلاء, ووهبنا له أهله, من زوجة وولد ( وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا ) له ورأفة ( وَذِكْرَى ) يقول: وتذكيرا لأولي العقول, ليعتبروا بها فيتعظوا.

وقد حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني نافع بن يزيد, عن عقيل, عن ابن شهاب, عن أنس بن مالك, أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: « إنَّ نَبِيَّ الله أيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلاؤهُ ثَمانِيَ عَشْرَة سَنَة, فَرَفَضَه القَرِيبُ وَالبَعِيدُ, إلا رَجُلانِ مِنْ إخْوَانِهِ كانا مِنْ أخَصّ إخْوَانِهِ بِهِ, كَانَا يَغْدُوانِ إلَيْهِ ويَرُوحانِ, فَقالَ أحَدُهُما لِصَاحِبه: تَعْلَم والله لَقَدْ أذْنَبَ أيُّوبُ ذَنْبًا ما أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ, قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: ومَا ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ الله فَيَكْشِفَ ما بِهِ; فَلَمَّا رَاحا إلَيْهِ لَمْ يَصْبِر الرَّجُلُ حتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ, فقَالَ أيَّوُّبُ: لا أدْرِي ما تَقُولُ, غَيرَ أنَّ الله يَعْلَمُ أنِّي كُنْتُ أمُرُّ على الرُّجُلَيْنِ يَتَنازَعانِ فَيَذْكُرَانِ الله, فَأَرْجِعَ إلى بَيْتِي فَأكفِّرُ عَنْهُما كَرَاهِيَةَ أنْ يُذْكَرَ الله إلا في حَقّ » ; قال: « وكان يَخْرُجُ إلى حاجَتِهِ, فإذَا قَضَاها أمْسَكَت امْرأُتُه بِيَدِهِ حتى يَبْلُغ فَلَما كانَ ذاتَ يَوْمٍ أبْطَأُ عَلَيْها, وأوحِيَ إلى أيُّوب في مَكانِهِ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فاسْتَبطأتَهُ, فَتَلقتهُ تَنْظُرُ, فأقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أذْهَبَ الله ما بِهِ مِنَ البَلاءِ, وَهُوَ عَلى أحْسَنِ ما كانَ . فَلَمَّا رَأتْهُ قَالَتْ: أيْ بارَكَ الله فِيكَ, هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ الله هَذَا المُبْتَلى, فوالله على ذلك ما رَأَيْتُ أحَدًا أشْبَهَ بِهِ منْكَ إذْ كانَ صحيحا؟ قال: فإنّي أنا هُوَ ، قال: وكانَ لَهُ أنْدرَانِ: أنْدَرٌ للْقَمْحِ, وأنْدَرٌ للشَّعِيرِ, فَبَعَثَ الله سَحَابَتَيْنِ, فَلَمَّا كانَتْ إحْداهُما على أنْدَرِ القَمْحِ, أفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حتى فاضَ, وأفرغَتِ الأخْرَى في أنْدَرِ الشَّعِيرِ الوَرِق حتى فاضَ . »

« حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قال: قال الحسن وقتادة: فأحياهم الله بأعيانهم, وزادهم مثلهم . »

حدثني محمد بن عوف, قال: ثنا أبو المغيرة, قال: ثنا صفوان, قال: ثنا عبد الرحمن بن جُبَير, قال: لما ابتُلي نبيّ الله أيوب صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بماله وولده وجسده, وطُرح في مَزْبَلة, جعلت امرأته تخرج تكسب عليه ما تطعمه, فحسده الشيطان على ذلك, وكان يأتي أصحاب الخبز والشويّ الذين كانوا يتصدّقون عليها, فيقول: اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم, فإنها تعالج صاحبها وتلمسه بيدها, فالناس يتقذّرون طعامكم من أجل أنها تأتيكم وتغشاكم على ذلك; وكان يلقاها إذا خرجت كالمحزون لمَا لقي أيوب, فيقول: لَجَّ صاحبك, فأبى إلا ما أتى, فوالله لو تكلم بكلمة واحدة لكشف عنه كلّ ضرّ, ولرجع إليه ماله وولده, فتجيء, فتخبر أيوب, فيقول لها: لقيك عدوّ الله فلقنك هذا الكلام; ويلك, إنما مثلك كمثل المرأة الزانية إذا جاء صديقها بشيء قبلته وأدخلته, وإن لم يأتها بشيء طردته, وأغلقت بابها عنه! لما أعطانا الله المال والولد آمنا به, وإذا قبض الذي له منا نكفر به, ونبدّل غيره ! إن أقامني الله من مرضي هذا لأجلدنَّك مئةً, قال: فلذلك قال الله: ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ )

وقوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يقول: وقلنا لأيوب: خذ بيدك ضغثا, وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرُّطْبة, وكملء الكفّ من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق; ومنه قول عوف بن الخَرِع:

وأسْــفَل مِنِّـي نَهْـدَةٌ قَـدْ رَبَطْتُهـا وألْقَيْـتُ ضِغْثـا مِـن خَـلا متَطَيِّـبِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثني عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية عن عليّ عن ابن عباس, قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يقول: حُزْمة.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) قال: أمر أن يأخذ ضغثا من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضرب به.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن يمان, عن ابن جُرَيج, عن عطاء, في قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) قال: عيدانا رطبة.

حدثنا أبو هشام الرفاعيّ, قال: ثنا يحيى, عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر, عن أبيه, عن مجاهد, عن ابن عباس ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) قال: هو الأثْل.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) .. الآية, قال: كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر, وأرادها إبليس على شيء, فقال: لو تكلمت بكذا وكذا, وإنما حملها عليها الجزع, فحلف نبي الله: لِئن الله شفاه ليجلِدنَّها مئة جلدة; قال: فأمر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبا, والأصل تكملة المِئَة, فضربها ضربة واحدة, فأبرّ نبيُّ الله, وخَفَّفَ الله عن أمَتِهِ, والله رحيم.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يعني: ضِغْثا من الشجر الرَّطْب, كان حلف على يمين, فأخذ من الشجر عدد ما حلف عليه, فضرب به ضَرْبة واحدة, فبرّت يمينه, وهو اليوم في الناس يمين أيوب, من أخذ بها فهو حسن.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) قال: ضِغْثا واحدا من الكلأ فيه أكثر من مِئَة عود, فضرب به ضربة واحدة, فذلك مِئَة ضربة.

حدثني محمد بن عوف, قال: ثنا أبو المغيرة, قال: ثنا صفوان, قال: ثنا عبد الرحمن بن جُبَير ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ ) يقول: فاضرب زوجتك بالضِّغْث, لتَبرّ في يمينك التي حلفت بها عليها أن تضربها ( وَلا تَحْنَثْ ) يقول: ولا تحنَثْ في يمينك.

وقوله ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ ) يقول: إنا وجدنا أيوب صابرا على البلاء, لا يحمله البلاء على الخروج عن طاعة الله, والدخول في معصيته ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول: إنه على طاعة الله مقبل, وإلى رضاه رجَّاع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ( 45 ) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( 46 ) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ( 47 )

اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( عِبَادِنَا ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار: ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ) على الجماع غير ابن كثير, فإنه ذكر عنه أنه قرأه: « واذكر عبدنا » على التوحيد, كأنه يوجه الكلام إلى أن إسحاق ويعقوب من ذرّية إبراهيم, وأنهما ذُكِرا من بعده.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عطاء, سمع ابن عباس يقرأ: « واذكر عبدنا إن إبراهيم » قال: إنما ذكر إبراهيم, ثم ذُكِر ولده بعده.

والصواب عنده من القراءة في ذلك, قراءة من قرأه على الجماع, على أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب بيان عن العباد, وترجمة عنه, لإجماع الحجة من القرّاء عليه.

وقوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) ويعني بالأيدي: القوّة, يقول: أهل القوّة على عبادة الله وطاعته. ويعني بالأبصار: أنهم أهل أبصار القلوب, يعني به: أولى العقول للحقّ.

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم في ذلك نحوًا مما قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( أُولِي الأيْدِي ) يقول: أولي القوّة والعبادة, والأبْصَارِ يقول: الفقه في الدين.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال: فضِّلوا بالقوّة والعبادة.

حدثني محمد بن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن منصور أنه قال في هذه الآية ( أُولِي الأيْدِي ) قال: القوّة.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بَزّة, عن مجاهد, في قوله ( أُولِي الأيْدِي ) قال: القوّة في أمر الله.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد ( أُولِي الأيْدِي ) قال: الأيدي: القوّة في أمر الله, ( وَالأبْصَارَ ) : العقول.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال: القوّة في طاعة الله, ( وَالأبْصَارَ ) : قال: البصر في الحقّ.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) يقول: أعطوا قوة في العبادة, وبصرًا في الدين.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال: الأيدي: القوّة في طاعة الله, والأبصار: البصر بعقولهم في دينهم.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, في قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال: الأيدي: القوّة, والأبصار: العقول.

فإن قال لنا قائل: وما الأيدي من القوّة, والأيدي إنما هي جمع يد, واليد جارحة, وما العقول من الأبصار, وإنما الأبصار جمع بصر؟ قيل: إن ذلك مثل, وذلك أن باليد البطش, وبالبطش تُعرف قوّة القويّ, فلذلك قيل للقويّ: ذو يَدٍ; وأما البصر, فإنه عنى به بصر القلب, وبه تنال معرفة الأشياء, فلذلك قيل للرجل العالم بالشيء: يصير به. وقد يُمكن أن يكون عَنى بقوله ( أُولِي الأَيْدِي ) : أولي الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة, فجعل الله أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا أيديا لهم عند الله تمثيلا لها باليد, تكون عند الرجل الآخر.

وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرؤه: « أولى الأيدِ » بغير ياء, وقد يُحتمل أن يكون ذلك من التأييد, وأن يكون بمعنى الأيدي, ولكنه أسقط منه الياء, كما قيل: يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ ، وقوله عَزّ وجلّ: ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ) يقول تعالى ذكره: إنا خصصناهم بخاصة: ذكر الدار.

واختلف القرّاء في قراءة قوله ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) فقرأته عامة قرّاء المدينة: « بخالصة ذكرى الدار » بإضافة خالصة إلى ذكرى الدار, بمعنى: أنهم أخلصوا بخالصة الذكرى, والذكرى إذا قُرئ كذلك غير الخالصة, كما المتكبر إذا قُرئ: عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بإضافة القلب إلى المتكبر, هو الذي له القلب وليس بالقلب. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق: ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) بتنوين قوله ( خَالِصَةً ) وردّ ذكرى عليها, على أن الدار هي الخالصة, فردّوا الذكر وهي معرفة على خالصة, وهي نكرة, كما قيل: لشرّ مآب: جهنم, فرد جهنم وهي معرفة على المآب وهي نكرة.

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قَرَأَة الأمصار, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

وقد اختلف أهل التأويل, في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معناه: إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى الدار: أي أنهم كانوا يذَكِّرون الناس الدار الآخرة, ويدعونهم إلى طاعة الله, والعمل للدار الآخرة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال: بهذه أخلصهم الله, كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله.

وقال آخرون: معنى ذلك أنه أخلصهم بعملهم للآخرة وذكرهم لها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ بن الحسن الأزدي, قال: ثنا يحيى بن يمان, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, في قوله ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال: بذكر الآخرة فليس لهم همّ غيرها.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال: بذكرهم الدار الآخرة, وعملهم للآخرة.

وقال آخرون: معنى ذلك: إنا أخلصناهم بأفضلِ ما في الآخرة; وهذا التأويل على قراءة من قرأه بالإضافة. وأما القولان الأوّلان فعلى تأويل قراءة من قرأه بالتنوين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: « إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار » قال: بأفضل ما في الآخرة أخلصناهم به, وأعطيناهم إياه; قال: والدار: الجنة, وقرأ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ قال: الجنة, وقرأ: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ قال: هذا كله الجنة, وقال: أخلصناهم بخير الآخرة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: خالصة عُقْبَى الدار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع, قال: ثنا أبي, عن شريك, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جُبَير ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال: عُقبى الدار.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: بخالصة أهل الدار.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن ابن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, قال: ثني ابن أبي نجيح, أنه سمع مجاهدا يقول: ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) هم أهل الدار; وذو الدار, كقولك: ذو الكلاع, وذو يَزَن.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يتأوّل ذلك على القراءة بالتنوين ( بِخَالِصَةٍ ) عمل في ذكر الآخرة.

وأولى الأقوال بالصواب في ذلك على قراءة من قرأه بالتنوين أن يقال: معناه: إنا أخلصناهُمْ بخالصة هي ذكرى الدار الآخرة, فعملوا لها في الدنيا, فأطاعوا الله وراقبوه; وقد يدخل في وصفهم بذلك أن يكون من صفتهم أيضا الدعاء إلى الله وإلى الدار الآخرة, لأن ذلك من طاعة الله, والعمل للدار الآخرة, غير أن معنى الكلمة ما ذكرت. وأما على قراءة من قرأه بالإضافة, فأن يقال: معناه: إنا أخلصناهم بخالصة ما ذكر في الدار الآخرة; فلمَّا لم تُذْكر « في » أضيفت الذكرى إلى الدار كما قد بيَّنا قبل في معنى قوله لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وقوله بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ

وقوله ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ) يقول: وإن هؤلاء الذين ذكرنا عندنا لمن الذين اصطفيناهم لذكرى الآخرة الأخيار, الذين اخترناهم لطاعتنا ورسالتنا إلى خلقنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ( 48 ) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ( 49 )

يقول تعالى ذكره لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: واذكر يا محمد إسماعيل واليسع وذا الكفل, وما أبلوا في طاعة الله, فتأسَّ بهم, واسلك منهاجَهم في الصبر على ما نالك في الله, والنفاذ لبلاغ رسالته. وقد بينا قبل من أخبار إسماعيل واليسع وذا الكفل فيما مضى من كتابنا هذا ما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. والكِفْل في كلام العرب: الحظّ والجَدّ.

وقوله ( هَذَا ذِكْرُ ) يقول تعالى ذكره: هذا القرآن الذي أنـزلناه إليك يا محمد ذكر لك ولقومك, ذكرناك وإياهم به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( هَذَا ذِكْرُ ) قال: القرآن.

وقوله: ( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) يقول: وإن للمتقين الذين اتقوا الله فخافوه بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه, لحسنَ مَرْجع يرجعون إليه في الآخرة, ومَصِير يصيرون إليه. ثم أخبر تعالى ذكره عن ذلك الذي وعده من حُسن المآب ما هو, فقال: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ .

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) قال: لحسن منقلب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ ( 50 ) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ( 51 )

قوله تعالى ذكره: ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) : بيان عن حسن المآب, وترجمة عنه, ومعناه: بساتينُ إقامة. وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده, وذكرنا ما فيه من الاختلاف فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقد حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, فال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) قال: سأل عمر كعبا ما عَدَن؟ قال: يا أمير المؤمنين, قصور في الجنة من ذهب يسكنها النبيون والصدّيقون والشهداء وأئمةُ العدل.

وقوله ( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) يعني: مفتحة لهم أبوابها; وأدخلت الألف واللام في الأبواب بدلا من الإضافة, كما قيل: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى بمعنى: هي مَأْواه, وكما قال الشاعر:

مــا وَلَــدتْكُمْ حَيَّــةُ ابْنَـة مـالِكٍ سِـفاحا وَمـا كَـانَتْ أحـاديثَ كاذِبِ

وَلَكِــنْ نَـرَى أقْدَامَنَـا فِـي نِعَـالِكُمْ وآنفُنَــا بيــنَ اللِّحَـى والحَوَاجِـبِ

بمعنى: بين لحاكم وحواجبكم; ولو كانت الأبواب جاءت بالنصب لم يكن لحنا, وكان نصبه على توجيه المفتحة في اللفظ إلى جنات, وإن كان في المعنى للأبواب, وكان كقول الشاعر:

وَمــا قَــوْمي بثَعْلَبَـةَ بْـنِ سَـعْدٍ وَلا بِفَـــزَارَةَ الشِّـــعْرَ الرَقابــا

ثم نوِّنت مفتحة, ونصبت الأبواب.

فإن قال لنا قائل: وما في قوله ( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) من فائدة خبر حتى ذكر ذلك؟ قيل: فإن الفائدة في ذلك إخبار الله تعالى عنها أن أبوابها تفتح لهم بغير فتح سكانها إياها, بمعاناة بيد ولا جارحة, ولكن بالأمر فيما ذُكر.

كما حدثنا أحمد بن الوليد الرملي, قال: ثنا ابن نفيل, قال: ثنا ابن دعيج, عن الحسن, في قوله ( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) قال: أبواب تكلم, فتكلم: انفتحي, انغلقي.

وقوله ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ) يقول: متكئين في جنات عدن, على سُرر يدعون فيها بفاكهة, يعني بثمار من ثمار الجنة كثيرة, وشراب من شرابها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ( 52 ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 53 ) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ( 54 )

( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ )

يقول تعالى ذكره: عند هؤلاء المتقين الذين أكرمهم الله بما وصف في هذه الآية من إسكانهم جنات عدن ( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) يعني: نساء قصرت أطرافهنّ على أزواجهنّ, فلا يردن غيرهم, ولا يمددن أعينهن إلى سواهم.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال: قصرن طرفهن على أزواجهن , فلا يردن غيرهم.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال: قصرن أبصارهنّ وقلوبهنّ وأسماعهنّ على أزواجهنّ, فلا يردن غيرهم.

وقوله ( أَتْرَابٌ ) يعني: أسنان واحدة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف بين أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ) قال: أمثال.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَتْرَابٌ ) سن واحدة.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( أَتْرَابٌ ) قال: مستويات. قال: وقال بعضهم: متواخيات لا يتباغضن, ولا يتعادين, ولا يتغايرن, ولا يتحاسدن.

وقوله ( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي يعدكم الله في الدنيا أيها المؤمنون به من الكرامة لمن أدخله الله الجنة منكم في الآخرة.

كما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) قال: هو في الدنيا ليوم القيامة.

وقوله ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي أعطينا هؤلاء المتقين في جنَّات عدن من الفاكهة الكثيرة والشراب, والقاصرات الطرف, ومكنَّاهم فيها من الوصول إلى اللّذات وما اشْتهته فيها أنفسهم لرزقنا, رزقناهم فيها كرامة منا لهم ( مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) يقول: ليس له عنهم انقطاع ولا له فناء, وذلك أنهم كلما أخذوا ثمرة من ثمار شجرة من أشجارها, فأكلوها, عادت مكانها أخرى مثلها, فذلك لهم دائم أبدا, لا ينقطع انقطاع ما كان أهل الدنيا أوتوه فى الدنيا, فانقطع بالفناء, ونَفِد بالإنفاد.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) قال: رزق الجنة, كلما أخذ منه شيء عاد مثله مكانه, ورزق الدنيا له نفاد.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) : أي ما له انقطاع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ( 55 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 56 ) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( 57 ) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ( 58 ) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ( 59 ) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 60 )

يعني تعالى ذكره بقوله ( هَذَا ) : الذي وصفت لهؤلاء المتقين: ثم استأنف جلّ وعزّ الخبر عن الكافرين به الذين طَغَوا عليه وبَغَوا, فقال: ( وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ) وهم الذين تمرّدوا على ربهم, فعصوا أمره مع إحسانه إليهم ( لَشَرَّ مَآبٍ ) يقول: لشرّ مرجع ومصير يصيرون إليه في الآخرة بعد خروجهم من الدنيا.

كما حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) قال: لشرَّ مُنْقَلَب. ثم بين تعالى ذكره: ما ذلك الذي إليه ينقلبون ويصيرون في الآخرة, فقال: ( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) فترجم عن جهنم بقوله ( لَشَرَّ مَآبٍ ) ومعنى الكلام: إن للكافرين لشرَّ مَصِير يصيرون إليه يوم القيامة, لأن مصيرهم إلى جهنم, وإليها منقلبهم بعد وفاتهم ( فَبِئْسَ الْمِهَادُ ) يقول تعالى ذكره: فبئس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم جهنم.

وقوله ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) يقول تعالى ذكره: هذا حميم, وهو الذي قد أغلي حتى انتهى حرّه, وغساق فَلْيذوقوه; فالحميم مرفوع بهذا, وقوله ( فَلْيَذُوقُوهُ ) معناه التأخير, لأن معنى الكلام ما ذكرت, وهو: هذا حميم وغساق فليذوقوه. وقد يتجه إلى أن يكون هذا مكتفيا بقوله فليذوقوه ثم يُبْتَدأ فيقال: حميم وغَسَّاق, بمعنى: منه حميم ومنه غَسَّاق.

كما قال الشاعر:

حـتى إذا أضَـاءَ الصُّبْـحُ فـي غَلَسٍ وَغُــودِرَ البَقْـلُ مَلْـوِيٌّ وَمَحْـصُودٌ

وإذا وُجِّه إلى هذا المعنى جاز في هذا النصب والرفع. النصب: على أن يُضْمر قبلها لها ناصب, كما قال الشاعر:

زِيادَتَنـــا نُعْمــانُ لا تَحْرِمَنَّنــا تَـقِ اللـه فِينـا والكِتـابَ الَّـذي تَتْلُو

والرفع بالهاء في قوله ( فَلْيَذُوقُوهُ ) كما يقال: الليلَ فبادروه, والليلُ فبادروه.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل , قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال: الحميم: الذي قد انتهى حَرُّه.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الحميم دموع أعينهم, تجمع في حياض النار فيسقونه.

وقوله ( وَغَسَّاقٌ ) اختلفت القرّاء في قراءته, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين والشام بالتخفيف: « وَغَسَاق » وقالوا: هو اسم موضوع. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: ( وَغَسَّاقٌ ) مشددة, ووجهوه إلى أنه صفة من قولهم: غَسَقَ يَغْسِقُ غُسُوقا: إذا سال, وقالوا: إنما معناه: أنهم يُسْقَون الحميم, وما يسيل من صديدهم.

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب, وإن كان التشديد في السِّين أتم عندنا في ذلك, لأن المعروف ذلك في الكلام, وإن كان الآخر غير مدفوعة صحته.

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فقال بعضهم: هو ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال: كنا نحدث أن الغسَّاق: ما يَسِيل من بين جلده ولحمه.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قال: الغساق: الذي يسيل من أعينهم من دموعهم, يسقونه مع الحميم.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم, قال: الغسَّاق: ما يسيل من سُرْمهم, وما يسقط من جلودهم.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد ( الغساق ) : الصديد الذي يجمع من جلودهم مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه.

حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهميّ, قال: ثني أبي, قال: ثنا ابن لَهِيعة, قال: ثني أبو قبيل أنه سمع أبا هبيرة الزيادي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: أيّ شيء الغسَّاق؟ قالوا: الله أعلم, فقال عبد الله بن عمرو: هو القَيْح الغليظ, لو أن قطرة منه تُهَرَاق في المغرب لأنتنت أهل المشرق, ولو تُهَرَاق في المشرق لأنتنت أهل المغرب.

قال يحيى بن عثمان, قال أبي: ثنا ابن لهيعة مرة أخرى, فقال: ثنا أبو قبيل, عن عبد الله بن هبيرة, ولم يذكر لنا أبا هبيرة.

حدثنا ابن عوف, قال: ثنا أبو المغيرة, قال: ثنا صفوان, قال: ثنا أبو يحيى عطية الكلاعيّ, أن كعبا كان يقول: هل تدرون ما غسَّاق؟ قالوا: لا والله, قال: عين في جهنم يسيل إليها حُمَّةٌ كل ذات حُمَة من حية أو عقرب أو غيرها, فيستنقع فيؤتى بالآدمي, فيُغْمَس فيها غمسة واحدة, فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام. حتى يتعلق جلده في كعبيه وعقبيه, وينجر لحمه كجر الرجل ثوبه.

وقال آخرون: هو البارد الذي لا يستطاع من برده.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن يحيى بن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( وَغَسَّاقٌ ) قال: بارد لا يُسْتطاع, أو قال: برد لا يُسْتطاع.

حدثني عليّ بن عبد الأعلى, قال: ثنا المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال: يقال: الغسَّاق: أبرد البرد, ويقول آخرون: لا بل هو أنْتَن النَّتْن.

وقال آخرون: بل هو المُنْتِن.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن المسيب, عن إبراهيم النكري, عن صالح بن حيان, عن أبيه, عن عبد الله بن بُرَيدة, قال: الغسَّاق: المنتن, وهو بالطُّخارية .

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني عمرو بن الحارث, عن درّاج, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدريّ, أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: « لَوْ أنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهَراقُ فِي الدُّنْيا لأنْتَنَ أهْلَ الدُّنْيا » .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو ما يسيل من صديدهم, لأن ذلك هو الأغلب من معنى الغُسُوق, وإن كان للآخر وجه صحيح.

وقوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) على التوحيد, بمعنى: هذا حميم وغساق فليذوقوه, وعذاب آخر من نحو الحميم ألوان وأنواع, كما يقال: لك عذاب من فلان: ضروب وأنواع; وقد يحتمل أن يكون مرادًا بالأزواج الخبر عن الحميم والغساق, وآخر من شكله, وذلك ثلاثة, فقيل أزواج, يراد أن ينعت بالأزواج تلك الأشياء الثلاثة. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: « وأخَرُ » على الجماع, وكأن من قرأ ذلك كذلك كان عنده لا يصلح أن يكون الأزواج وهي جمع نَعْتا لواحد, فلذلك جمع أخر, لتكون الأزواج نعتا لها; والعرب لا تمنع أن ينعَت الاسم إذا كان فعلا بالكثير والقليل والاثنين كما بيَّنا, فتقول: عذاب فلان أنواع, ونوعان مختلفان.

وأعجب القراءتين إليَّ أن أقرأ بها: ( وآخَرُ ) على التوحيد, وإن كانت الأخرى صحيحة لاستفاضة القراءة بها في قرّاء الأمصار; وإنما اخترنا التوحيد لأنه أصحّ مخرجا في العربية, وأنه في التفسير بمعنى التوحيد. وقيل إنه الزَّمهرير.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن السديّ, عن مُرّة, عن عبد الله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال الزمهرير.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا يحيى, قال: ثنا سفيان, عن السديّ, عن مرة, عن عبد الله, بمثله.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا معاوية, عن سفيان, عن السديّ, عمن أخبره عن عبد الله بمثله, إلا أنه قال: عذاب الزمهرير.

حدثنا محمد قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, عن مرّة الهمداني, عن عبد الله بن مسعود, قال: هو الزمهرير.

حُدثت عن يحيى بن أبي زائدة, عن مبارك بن فضالة, عن الحسن, قال: ذكر الله العذاب, فذكر السلاسل والأغلال, وما يكون في الدنيا, ثم قال: ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال: وآخر لم ير في الدنيا.

وأما قوله ( مِنْ شَكْلِهِ ) فإن معناه: من ضربه, ونحوه يقول الرجل للرجل: ما أنت من شكلي, بمعنى: ما أنت من ضربي بفتح الشين. وأما الشِّكْل فإنه من المرأة ما عَلَّقَتْ مما تتحسن به, وهو الدَّلُّ أيضا منها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) يقول: من نحوه.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) من نحوه.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال: من كُلّ شَكْلٍ ذلك العذاب الذي سمى الله, أزواج لم يسمها الله, قال: والشَّكل: الشبيه.

وقوله ( أَزْوَاجٌ ) يعني: ألوان وأنواع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال: ألوان من العذاب.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَزْوَاجٌ ) زوج زوج من العذاب.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( أَزْوَاجٌ ) قال: أزواج من العذاب في النار.

وقوله ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) يعني تعالى ذكره بقوله ( هَذَا فَوْجٌ ) هذا فرقة وجماعة مقتحمة معكم أيها الطاغون النار, وذلك دخول أمة من الأمم الكافرة بعد أمة; ( لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) وهذا خبر من الله عن قيلِ الطاغين الذين كانوا قد دخلوا النار قبل هذا الفوج المقتحِم للفوج المقتَحم فيها عليهم, لا مرحبا بهم, ولكن الكلام اتصل فصار كأنه قول واحد, كما قيل: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فاتصل قول فرعون بقول ملئه, وهذا كما قال تعالى ذكره مخبرا عن أهل النار: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا

ويعني بقولهم: ( لا مَرْحَبًا بِهِمْ ) لا اتسعت بهم مداخلهم, كما قال أبو الأسود:

لا مرْحَب وَاديكَ غيرُ مُضَيَّقِ

وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) في النار ( لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ . قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ ) .. حتى بلغ: ( فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) قال: هؤلاء التباع يقولون للرءوس.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ ) قال: الفوج: القوم الذين يدخلون فوجا بعد فوج, وقرأ: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا التي كانت قبلها. وقوله ( إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) يقول: إنهم واردو النار وداخلوها. ( قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ ) يقول: قال الفوج الواردون جهنم على الطاغين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم لهم: بل أنتم أيها القوم لا مرحبا بكم: أي لا اتسعت بكم أماكنكم, ( أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ) يعنون: أنتم قدمتم لنا سُكنى هذا المكان, وصِليّ النار بإضلالكم إيانا, ودعائكم لنا إلى الكفر بالله, وتكذيب رسله, حتى ضللنا باتباعكم, فاستوجبنا سكنى جهنم اليوم, فذلك تقديمهم لهم ما قدموا في الدنيا من عذاب الله لهم في الآخرة

( فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) يقول: فبئس المكان يُسْتَقَرُّ فيه جهنم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ( 61 )

وهذا أيضا قول الفوج المقتحم على الطاغين, وهم كانوا أتباع الطاغين في الدنيا, يقول جل ثناؤه: وقال الأتباع: ( رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا ) يعنون: من قدم لهم في الدنيا بدعائهم إلى العمل الذي يوجب لهم النار التي ورودها, وسكنى المنـزل الذي سكنوه منها. ويعنون بقولهم ( هَذَا ) : العذاب الذي وردناه ( فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ) يقولون: فأضعف له العذاب في النار على العذاب الذي هو فيه فيها, وهذا أيضا من دعاء الأتباع للمتبوعين.