القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ ( 62 ) أََتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ ( 63 ) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ( 64 )

يقول تعالى ذكره: قال الطاغون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم في هذه الآيات, وهم فيما ذُكر أبو جهل والوليد بن المُغيرة وذووهما: ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا ) يقول: ما بالنا لا نرى معنا في النار رجالا ( كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) يقول: كنا نعدهم في الدنيا من أشرارنا, وعنوا بذلك فيما ذُكر صُهَيْبا وخَبَّابا وبِلالا وسَلْمان.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن ليث, عن مجاهد, في قوله ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: ذاك أبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة, وذكر أناسا صُهيبا وَعَمَّارًا وخبابا, كنَّا نعدّهم من الأشرار في الدنيا.

حدثنا أبو السائب, قال: ثنا ابن إدريس, قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد في قوله ( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: قالوا: أين سَلْمان؟ أين خَبَّاب؟ أين بِلال؟.

وقوله ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا ) اختلفت القرّاء في قراءته, فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام وبعض قرّاء الكوفة: ( أَتَّخَذْنَاهُمْ ) بفتح الألف من أتخذناهم, وقطعها على وجه الاستفهام, وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة, وبعض قرّاء مكة بوصل الألف من الأشرار: « اتخذناهم » . وقد بيَّنا فيما مضى قبلُ, أن كل استفهام كان بمعنى التعجب والتوبيخ, فإن العرب تستفهم فيه أحيانا, وتُخرجه على وجه الخبر أحيانا.

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالوصل على غير وجه الاستفهام, لتقدّم الاستفهام قبل ذلك في قوله ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا ) فيصير قوله: « اتخذناهم » بالخبر أولى وإن كان للاستفهام وجه مفهوم لما وصفتُ قبل من أنه بمعنى التعجب.

وإذ كان الصواب من القراءة في ذلك ما اخترنا لما وصفنا, فمعنى الكلام: وقال الطاغون: ما لنا لا نرى سَلْمان وبِلالا وخَبَّابا الذين كنَّا نعدّهم في الدنيا أشرارا, أتخذناهم فيها سُخريا نهزأ بهم فيها معنا اليوم في النار؟.

وكان بعض أهل العلم بالعربية من أهل البصرة يقول: من كسر السين من السُّخْريّ, فإنه يريد به الهُزْء, يريد يسخر به, ومن ضمها فإنه يجعله من السُّخْرَة, يستسخِرونهم: يستذِلُّونهم, أزاغت عنهم أبصارنا وهم معنا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) يقول: أهم في النار لا نعرف مكانهم؟.

حُدثت عن المحاربيّ, عن جويبر, عن الضحاك ( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: هم قوم كانوا يسخَرون من محمد وأصحابه, فانطلق به وبأصحابه إلى الجنة وذهب بهم إلى النار ف ( َقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَار أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) يقولون: أزاغت أبصارنا عنهم فلا ندري أين هم؟.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا ) قال: أخطأناهم ( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) ولا نراهم؟.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: فقدوا أهل الجنة ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا ) في الدنيا ( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) وهم معنا في النار.

وقوله ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ ) يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي أخبرتكم أيها الناس من الخبر عن تراجع أهل النار, ولعْن بعضهم بعضا, ودعاء بعضهم على بعض في النار لحق يقين, فلا تشكُّوا في ذلك, ولكن استيقنوه تخاصم أهل النار.

وقوله ( تَخَاصُمُ ) رد على قوله ( لَحَقٌّ ) ومعنى الكلام: إن تخاصم أهل النار الذي أخبرتكم به لحقّ.

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يوجه معنى قوله ( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) إلى: بل زاغت عنهم.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) فقرأ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وقرأ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا .. حتى بلغ: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ قال: إن كنتم تعبدوننا كما تقولون إن كنا عن عبادتكم لغافلين, ما كنا نسمع ولا نبصر, قال: وهذه الأصنام, قال: هذه خصومة أهل النار, وقرأ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ قال: وضل عنهم يوم القيامة ما كانوا يفترون في الدنيا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 65 ) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 66 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( قُلْ ) يا محمد لمشركي قومك. ( إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ ) لكم يا معشر قريش بين يدي عذاب شديد, أنذركم عذاب الله وسخطه أن يحلّ بكم على كفركم به, فاحذروه وبادروا حلوله بكم بالتوبة ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) يقول: وما من معبود تصلح له العبادة, وتنبغي له الربوبية, إلا الله الذي يدين له كل شيء, ويعبدُه كلّ خلق, الواحد الذي لا ينبغي أن يكون له في ملكه شريك, ولا ينبغي أن تكون له صاحبة, القهار لكلّ ما دونه بقدرته, ربّ السموات والأرض, يقول: مالك السموات والأرض وما بينهما من الخلق; يقول: فهذا الذي هذه صفته, هو الإله الذي لا إله سواه, لا الذي لا يملك شيئا, ولا يضرّ, ولا ينفع. وقوله ( الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) يقول: العزيز في نقمته من أهل الكفر به, المدّعين معه إلها غيره, الغفَّار لذنوب من تاب منهم ومن غيرهم من كفره ومعاصيه, فأناب إلى الإيمان به, والطاعة له بالانتهاء إلى أمره ونهيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ( 67 ) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ( 68 ) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 69 ) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 70 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( قُلْ ) يا محمد لقومك المكذبيك فيما جئتهم به من عند الله من هذا القرآن, القائلين لك فيه: إن هذا إلا اختلاق ( هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ) يقول: هذا القرآن خبر عظيم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي, قال: ثنا أبو أسامة, عن شبل بن عباد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) قال: القرآن.

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا هشام, عن ابن سيرين, عن شريح, أن رجلا قال له: أتقضي عليّ بالنبأ؟ قال: فقال له شريح: أو ليس القرآن نبأ؟ قال: وتلا هذه الآية: ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ) قال: وقضَى عليه.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) قال: القرآن.

وقوله ( أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) يقول: أنتم عنه منصرفون لا تعملون به, ولا تصدّقون بما فيه من حجج الله وآياته.

وقوله ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى ) يقول لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك: ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) في شأن آدم من قبل أن يوحي إلي ربّي فيعلمني ذلك, يقول: ففي إخباري لكم عن ذلك دليل واضح على أن هذا القرآن وحي من الله وتنـزيل من عنده, لأنكم تعلمون أن علم ذلك لم يكن عندي قبل نـزول هذا القرآن, ولا هو مما شاهدته فعاينته, ولكني علمت ذلك بإخبار الله إياي به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) قال: الملأ الأعلى: الملائكة حين شوروا في خلق آدم, فاختصموا فيه, وقالوا: لا تجعل في الأرض خليفة.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) هو: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى ) قال: هم الملائكة, كانت خصومتهم في شأن آدم حين قال ربك للملائكة: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ... حتى بلغ سَاجِدِينَ وحين قال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ... حتى بلغ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ففي هذا اختصم الملأ الأعلى.

وقوله ( إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قريش: ما يوحي الله إليّ علم ما لا علم لي به, من نحو العلم بالملأ الأعلى واختصامهم في أمر آدم إذا أراد خلقه, إلا لأني إنما أنا نذير مبين; « فإنما » على هذا التأويل في موضع خفض على قول من كان يرى أن مثل هذا الحرف الذي ذكرنا لا بد له من حرف خافض, فسواء إسقاط خافضه منه وإثباته. وإما على قول من رأى أن مثل هذا ينصب إذا أسقط منه الخافض, فإنه على مذهبه نصب, وقد بيَّنا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقد يتجه لهذا الكلام وجه آخر, وهو أن يكون معناه: ما يوحي الله إلى إنذاركم. وإذا وجه الكلام إلى هذا المعنى, كانت « أنما » في موضع رفع, لأن الكلام يصير حينئذ بمعنى: ما يوحى إلي إلا الإنذار.

قوله ( إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) يقول: إلا أني نذير لكم مبين لكم إلا إنذاركم. وقيل: إلا أنما أنا, ولم يقل: إلا أنما أنك, والخبر من محمد عن الله, لأن الوحْي قول, فصار في معنى الحكاية, كما يقال في الكلام: أخبروني أني مسيء, وأخبروني أنك مسيء بمعنى واحد, كما قال الشاعر:

رَجُــلانِ مِــنْ ضَبَّــةَ أخْبَرَانـا أنَّـــا رأيْنــا رَجُــلا عُرْيانــا

بمعنى: أخبرانا أنهما رأيا, وجاز ذلك لأن الخبر أصله حكاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ( 71 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( 72 ) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( 73 ) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 74 )

وقوله ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ ) من صلة قوله إِذْ يَخْتَصِمُونَ وتأويل الكلام: ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون حين قال ربك يا محمد ( لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ) يعني بذلك خلق آدم.

وقوله ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) يقول تعالى ذكره: فإذا سويت خلقه, وعدلت صورته, ونفخت فيه من روحي, قيل: عني بذلك: ونفخت فيه من قُدرتي.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن المسيب بن شريك, عن أبي روق, عن الضحاك ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال: من قدرتي.

( فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) يقول: فاسجدوا له وخِرّوا له سُجَّدا.

وقوله ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) يقول تعالى ذكره: فلما سوّى الله خلق ذلك البشر, وهو آدم, ونفخ فيه من روحه, سجد له الملائكة كلهم أجمعون, يعني بذلك: الملائكة الذين هم في السموات والأرض.

( إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ ) يقول: غير إبليس, فإنه لم يسجد, استكبر عن السجود له تعظُّمًا وتكبرا

( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) يقول: وكان بتعظُّمه ذلك, وتكبره على ربه ومعصيته أمره, ممن كفر في علم الله السابق, فجحد ربوبيته, وأنكر ما عليه الإقرار له به من الإذعان بالطاعة.

كما حدثنا أبو كُرَيب, قال: قال أبو بكر في: ( إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) قال: قال ابن عباس: كان في علم الله من الكافرين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ( 75 ) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 76 )

يقول تعالى ذكره: ( قَالَ ) الله لإبليس, إذ لم يسجد لآدم, وخالف أمره: ( يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ) يقول: أي شيء منعك من السجود ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) يقول: لخلق يديّ ; يخبر تعالى ذكره بذلك أنه خلق آدم بيديه.

كما حدثنا ابن المثني, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, قال: أخبرني عبيد المكتب, قال: سمعت مجاهدا يحدّث عن ابن عمر, قال: خلق الله أربعة بيده: العرش, وعَدْن, والقلم, وآدم, ثم قال لكلّ شيء كن فكان.

وقوله ( أَسْتَكْبَرْت ) يقول لإبليس: تعظَّمت عن السجود لآدم, فتركت السجود له استكبارا عليه, ولم تكن من المتكبرين العالين قبل ذلك ( أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ) يقول: أم كنت كذلك من قبل ذا علوّ وتكبُّر على ربك ( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ ) يقول جل ثناؤه: قال إبليس لربه: فعلت ذلك فلم أسجد للذي أمرتني بالسجود له لأني خير منه وكنت خيرا لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين, والنار تأكل الطين وتحرقه, فالنار خير منه, يقول: لم أفعل ذلك استكبارا عليك, ولا لأني كنت من العالين, ولكني فعلته من أجل أني أشرف منه; وهذا تقريع من الله للمشركين الذين كفروا بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, وأبوا الانقياد له, واتباع ما جاءهم به من عند الله استكبارا عن أن يكونوا تبعا لرجل منهم حين قالُوا: أَؤُنْـزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا و هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فقصّ عليهم تعالى قصة إبليس وإهلاكه باستكباره عن السجود لآدم بدعواه أنه خير منه, من أجل أنه خلق من نار, وخلق آدم من طين, حتى صار شيطانا رجيما, وحقت عليه من الله لعنته, محذّرهم بذلك أن يستحقوا باستكبارهم على محمد, وتكذيبهم إياه فيما جاءهم به من عند الله حسدا, وتعظما من اللعن والسخط ما استحقه إبليس بتكبره عن السجود لآدم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( 77 ) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ( 78 ) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 79 )

يقول تعالى ذكره لإبليس: ( فَاخْرُجْ مِنْهَا ) يعني من الجنة ( فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) يقول: فإنك مرجوم بالقوم, مشتوم ملعون.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) قال: والرجيم: اللعين.

حُدثت عن المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك بمثله.

وقوله ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي ) يقول: وإن لك طردي من الجنة ( إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) يعني: إلى يوم مجازاة العباد ومحاسبتهم ( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبليس لربه: ربّ فإذ لعنتني, وأخرجتني من جنتك ( فَأَنْظِرْنِي ) يقول: فأخرني في الأجل, ولا تهلكني ( إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول: إلى يوم تبعث خلقك من قبورهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 80 ) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( 81 ) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 82 ) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( 83 )

يقول تعالى ذكره: قال الله لإبليس: فإنك ممن أنظرته إلى يوم الوقت المعلوم, وذلك الوقت الذي جعله الله أجلا لهلاكه. وقد بيَّنت وقت ذلك فيما مضى على اختلاف أهل العلم فيه، وقال: ( فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبليس: فبعزّتك: أي بقدرتك وسلطانك وقهرك ما دونك من خلقك ( لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول: لأضلَّنّ بني آدم أجمعين ( إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) يقول: إلا من أخلصته منهم لعبادتك, وعصمتَه من إضلالي, فلم تجعل لي عليه سبيلا فإني لا أقدر على إضلاله وإغوائه.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) قال: علم عدوّ الله أنه ليست له عزّة.