القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ( 32 )

وقوله: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ) يقول تعالى ذكره: فمن من خلق الله أعظم فرية ممن كذب على الله, فادّعى أن له ولد وصاحبة, أو أنه حرَّم ما لم يحرمه من المطاعم ( وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ) يقول: وكذّب بكتاب الله إذ أنـزله على محمد, وابتعثه الله به رسولا وأنكر قول لا إله إلا الله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ) : أي بالقرآن.

وقوله: ( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ) يقول تبارك وتعالى: أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفر بالله, وامتنع من تصديق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , واتباعه على ما يدعوه إليه مما أتاه به من عند الله من التوحيد, وحكم القرآن؟.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 33 ) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( 34 )

اختلف أهل التأويل في الذي جاء بالصدق وصدّق به, وما ذلك, فقال بعضهم: الذي جاء بالصدق رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. قالوا: والصدق الذي جاء به: لا إله إلا الله, والذي صدق به أيضا, هو رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ) يقول: من جاء بلا إله إلا الله ( وَصَدَّقَ بِهِ ) يعني: رسوله.

وقال آخرون: الذي جاء بالصدق: رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , والذي صدّق به: أبو بكر رضي الله عنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن منصور, قال: ثنا أحمد بن مصعد المروزي, قال: ثنا عمر بن إبراهيم بن خالد, عن عبد الملك بن عمير, عن أسيد بن صفوان, عن عليّ رضي الله عنه , في قوله: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ) قال: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , وصدّق به, قال: أبو بكر رضي الله عنه.

وقال آخرون: الذي جاء بالصدق: رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , والصدق: القرآن, والمصدّقون به: المؤمنون

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ) قال: هذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جاء بالقرآن, وصدّق به المؤمنون.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ) رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , وصدّق به المسلمون.

وقال آخرون: الذي جاء بالصدق جبريل, والصدق: القرآن الذي جاء به من عند الله, وصدّق به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

وقال آخرون: الذي جاء بالصدق: المؤمنون, والصدق: القرآن, وهم المصدِّقون به.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد قوله: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) قال: الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة, فيقولون: هذا الذي أعطيتمونا فاتبعنا ما فيه.

قال: ثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) قال: هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة يقولون: هذا الذي أعطيتمونا, فاتبعنا ما فيه.

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره عنى بقوله: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) كلّ من دعا إلى توحيد الله, وتصديق رسله, والعمل بما ابتعث به رسوله من بين رسل الله وأتباعه والمؤمنين به, وأن يقال: الصدق هو القرآن, وشهادة أن لا إله إلا الله, والمصدّق به: المؤمنون بالقرآن, من جميع خلق الله كائنا من كان من نبيّ الله وأتباعه.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن قوله تعالى ذكره: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) عَقيب قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ وذلك ذم من الله للمفترين عليه, المكذبين بتنـزيله ووحيه, الجاحدين وحدانيته, فالواجب أن يكون عَقيب ذلك مدح من كان بخلاف صفة هؤلاء المذمومين, وهم الذين دعوهم إلى توحيد الله, ووصفه بالصفة التي هو بها, وتصديقهم بتنـزيل الله ووحيه, والذي كانوا يوم نـزلت هذه الآية, رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ومن بعدهم, القائمون في كل عصر وزمان بالدعاء إلى توحيد الله, وحكم كتابه, لأن الله تعالى ذكره لم يخص وصفه بهذه لصفة التي في هذه الآية على أشخاص بأعيانهم, ولا على أهل زمان دون غيرهم, وإنما وصفهم بصفة, ثم مدحهم بها, وهي المجيء بالصدق والتصديق به, فكل من كان كذلك وصفه فهو داخل في جملة هذه الآية إذا كان من بني آدم.

ومن الدليل على صحة ما قلنا أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود. « وَالَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ » فقد بين ذلك من قراءته أن الذي من قوله ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ) لم يعن بها واحد بعينه, وأنه مراد بها جِمَاع ذلك صفتهم, ولكنها أخرجت بلفظ الواحد, إذ لم تكن موقتة. وقد زعم بعض أهل العربية من البصريين, أن « الذي » في هذا الموضع جُعل في معنى جماعة بمنـزلة « مَن » . ومما يؤيد ما قلنا أيضا قوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) فجعل الخبر عن « الذي » جماعا, لأنها في معنى جماع. وأما الذين قالوا: عني بقوله: ( وَصَدَّقَ بِهِ ) : غير الذي جاء بالصدق, فقول بعيد من المفهوم, لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان التنـزيل: والذي جاء بالصدق, والذي صدق به أولئك هم المتقون ، فكانت تكون « الذي » مكررة مع التصديق, ليكون المصدق غير المصدق، فأما إذا لم يكرّر, فإن المفهوم من الكلام, أن التصديق من صفة الذي جاء بالصدق، لا وجه للكلام غير ذلك. وإذا كان ذلك كذلك, وكانت « الذي » في معنى الجماع بما قد بيَّنا, كان الصواب من القول في تأويله ما بيَّنا.

وقوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم. هم الذين اتقوا الله بتوحيده والبراءة من الأوثان والأنداد, وأداء فرائضه, واجتناب معاصيه, فخافوا عقابه.

كما حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس ( أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) يقول: اتقوا الشرك.

وقوله: ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يقول تعالى ذكره: لهم عند ربهم يوم القيامة, ما تشتهيه أنفسهم, وتلذّه أعينهم ( ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي لهم عند ربهم, جزاء من أحسن في الدنيا فأطاع الله فيها, وائتمر لأمره, وانتهى عما نهاه فيها عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 35 )

يقول تعالى ذكره: وجزى هؤلاء المحسنين ربهم بإحسانهم, كي يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا في الدنيا من الأعمال, فيما بينهم وبين ربهم, بما كان منهم فيها من توبة وإنابة مما اجترحوا من السيئات فيها ( وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ ) يقول: ويثيبهم ثوابهم ( بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا ) في الدنيا ( يَعْمَلُونَ ) مما يرضى الله عنهم دون أسوئها.

كما يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ : أي ولهم ذنوب, أي رب نعم لَهُمْ فيها مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ , وقرأ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... إلى أن بلغ وَمَغْفِرَةٌ لئلا ييأس من لهم الذنوب أن لا يكونوا منهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [ الأنفال: 4 ] , وقرأ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ... إلى آخر الآية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 36 ) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ( 37 )

اختلفت القرّاء في قراءة: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء أهل الكوفة: « أليس الله بكاف عباده » على الجماع, بمعنى: أليس الله بكاف محمدا وأنبياءه من قبله ما خوّفتهم أممهم من أن تنالهم آلهتهم بسوء، وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة, وبعض قرّاء الكوفة: ( بِكَافٍ عَبْدَهُ ) على التوحيد, بمعنى: أليس الله بكاف عبده محمدا.

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار. فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لصحة مَعْنَيَيْهَا واستفاضة القراءة بهما في قَرَأَةِ الأمصار.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) يقول: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) قال: بلى, والله ليكفينه الله ويعزّه وينصره كما وعده.

وقوله: ( وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء, ببراءتك منها, وعيبك لها, والله كافيك ذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) الآلهة, قال: « بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد إلى شعب بسُقام ليكسر العزّى, فقال سادنها, وهو قيمها: يا خالد أنا أحذّركها, إن لها شدّة لا يقوم إليها شيء, فمشى إليها خالد بالفأس فهشّم أنفها » .

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) يقول: بآلهتهم التي كانوا يعبدون.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) قال: يخوّفونك بآلهتهم التي من دونه.

وقوله: ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) يقول تعالى ذكره: ومن يخذله الله فيضلَّه عن طريق الحق وسبيل الرشد, فما له سواه من مرشد ومسدّد إلى طريق الحقّ, ومُوفِّق للإيمان بالله, وتصديق رسوله, والعمل بطاعته ( وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ) يقول: ومن يوفِّقه الله للإيمان به, والعمل بكتابه, فما له من مضلّ, يقول: فما له من مزيغ يزيغه عن الحق الذي هو عليه إلى الارتداد إلى الكفر ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ) يقول جل ثناؤه: أليس الله يا محمد بعزيز في انتقامه من كفرة خلقه, ذي انتقام من أعدائه الجاحدين وحدانيته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 38 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين العادلين بالله الأوثان والأصنام: مَنْ خلق السموات والأرض ؟ ليقولن: الذي خلقه الله ، فإذا قالوا ذلك, فقل: أفرأيتم أيها القوم هذا الذي تعبدون من دون الله من الأصنام والآلهة ( إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ ) يقول: بشدة في معيشتي, هل هن كاشفات عني ما يصيبني به ربي من الضر؟ ( أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ ) يقول: إن أرادني برحمة أن يصيبني سعة في معيشتي, وكثرة مالي, ورخاء وعافية في بدني, هل هن ممسكات عني ما أراد أن يصيبني به من تلك الرحمة؟ وترك الجواب لاستغناء السامع بمعرفة ذلك, ودلالة ما ظهر من الكلام عليه. والمعنى: فإنهم سيقولون لا فقل: حسبي الله مما سواه من الأشياء كلها, إياه أعبد, وإليه أفزع في أموري دون كلّ شيء سواه, فإنه الكافي, وبيده الضر والنفع, لا إلى الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع, ( عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) يقول: على الله يتوكل من هو متوكل, وبه فليثق لا بغيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

بشر, قال: ثنا.يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) حتى بلغ ( كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ) يعني: الأصنام ( أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه )

واختلفت القرّاء في قراءة ( كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ) و ( مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ) , فقرأه بعضهم بالإضافة وخفض الضر والرحمة, وقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء البصرة بالتنوين, ونصب الضر والرحمة.

والصواب من القول في ذلك عندنا, أنهما قراءتان مشهورتان, متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب, وهو نظير قوله: كَيْدِ الْكَافِرِينَ فى حال الإضافة والتنوين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 39 ) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 40 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك, الذي اتخذوا الأوثان والأصنام آلهة يعبدونها من دون الله اعملوا أيها القوم على تمكنكم من العمل الذي تعملون ومنازلكم.

كما حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) قال: على ناحيتكم ( إِنِّي عَامِلٌ ) كذلك على تؤدة على عمل من سلف من أنبياء الله قبلي ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) إذا جاءكم بأس الله, من المحقّ منا من المبطل, والرشيد من الغويّ.

وقوله: ( مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ ) يقول تعالى ذكره: من يأتيه عذاب يخزيه, ما أتاه من ذلك العذاب, يعني: يذله ويهينه ( وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) يقول: وينـزل عليه عذاب دائم لا يفارقه.