القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين يُرْبون.

و « الإرباء » الزيادة على الشيء، يقال منه: « أرْبى فلان على فلان » ، إذا زاد عليه، « يربي إرباءً » ، والزيادة هي « الربا » ، « وربا الشيء » ، إذا زاد على ما كان عليه فعظم، « فهو يَرْبو رَبْوًا » . وإنما قيل للرابية [ رابية ] ، لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: « ربا يربو » . ومن ذلك قيل: « فلان في رَباوَة قومه » ، يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل « الربا » ، الإنافة والزيادة، ثم يقال: « أربى فلان » أي أناف [ ماله، حين ] صيَّره زائدًا. وإنما قيل للمربي: « مُرْبٍ » ، لتضعيفه المال، الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبلَ حَلّ دينه عليه. ولذلك قال جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً . [ آل عمران: 130 ] .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه.

* - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن ربا أهل الجاهلية: يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه.

قال أبو جعفر: فقال جل ثناؤه: الذين يُرْبون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا « لا يقومون » في الآخرة من قبورهم « إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المس » ، يعني بذلك: يتخبَّله الشيطان في الدنيا، وهو الذي يخنقه فيصرعه « من المس » ، يعني: من الجنون.

وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » ، يوم القيامة، في أكل الرِّبا في الدنيا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس » ، قال: ذلك حين يُبعث من قبره.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا: « خذْ سلاحك للحرب » ، وقرأ: « لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » ، قال: ذلك حين يبعث من قبره.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » . الآية، قال: يبعث آكل الربا يوم القيامة مَجْنونًا يُخنق.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الذين يأكلون الربا لا يقومون » ، الآية، وتلك علامةُ أهل الرّبا يوم القيامة، بُعثوا وبهم خَبَلٌ من الشيطان.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « لا يقومون إلا كما يقومُ الذي يتخبطه الشيطان من المس » قال: هو التخبُّل الذي يتخبَّله الشيطان من الجنون.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » ، قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خَبَل من الشيطان. وهي في بعض القراءة: ( لا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس » ، قال: من مات وهو يأكل الربا، بعث يوم القيامة متخبِّطًا، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » ، يعني: من الجنون.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » . قال: هذا مثلهم يومَ القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس، كأنه خُنق، كأنه مجنون .

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: « يتخبطه الشيطانُ من المسّ » ، يتخبله من مَسِّه إياه. يقال منه: « قد مُسّ الرجل وأُلقِ، فهو مَمسوس ومَألوق » ، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ. ومنه قول الله عز وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [ الأعراف: 201 ] ، ومنه قول الأعشى:

وَتُصْبـحُ عَـنْ غِـبِّ السُّـرَى, وكأَنَّمَا أَلَـمَّ بِهَـا مِـنْ طَـائِفِ الجِـنِّ أَوْلَـقُ

فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الرِّبا في تجارته ولم يأكله، أيستحقّ هذا الوعيدَ من الله؟

قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكلُ، إلا أنّ الذين نـزلت فيهم هذه الآيات يوم نـزلت، كانت طُعمتهم ومأكلُهم من الربا، فذكرهم بصفتهم، معظّمًا بذلك عليهم أمرَ الرّبا، ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم، وفي قوله جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ سورة البقرة: 278- 279 ] الآية، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأنّ التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الرّبا، وأنّ سواءً العملُ به وأكلُه وأخذُه وإعطاؤُه، كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:

« لعن الله آكلَ الرّبا، وُمؤْكِلَه، وكاتبَه، وشاهدَيْه إذا علموا به » .

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا

قال أبو جعفر: يعني بـ « ذلك » جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون، فقال تعالى ذكره: هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قُبْح حالهم، ووَحشة قيامهم من قبورهم، وسوء ما حلّ بهم، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون: « إنما البيع » الذي أحله الله لعباده « مثلُ الرّبا » . وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الرّبا من أهل الجاهلية، كان إذا حلّ مالُ أحدهم على غريمه، يقول الغَريم لغريم الحق: « زدني في الأجل وأزيدك في مالك » . فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: « هذا ربًا لا يحل » . فإذا قيل لهما ذلك قالا « سواء علينا زدنا في أول البيع، أو عند مَحِلّ المال » ! فكذَّبهم الله في قيلهم فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع « وحرّم الربا » ، يعني الزيادةَ التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل، وتأخيره دَيْنه عليه. يقول عز وجل: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء. وذلك أنِّي حرّمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل وأحللتُ الأخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها، فيستفضلُ فَضْلها. فقال الله عز وجل: ليست الزيادة من وجه البيع نظيرَ الزيادة من وجه الربا، لأنّي أحللت البيع، وحرَّمت الرّبا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي.

ثم قال جل ثناؤه: « فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى » ، يعني بـ « الموعظة » : التذكير، والتخويفَ الذي ذكَّرهم وخوّفهم به في آي القرآن، وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب، يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك، « فانتهى » عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانـزجر عنه « فله ما سلف » ، يعني: ما أكل، وأخذ فمَضَى، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك « وأمرُه إلى الله » ، يعني: وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم، وبعد انتهاء آكله عن أكله، إلى الله في عصمته وتوفيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبَّته في انتهائه عنه، وإن شاء خَذَله عن ذلك « ومن عاد » ، يقول: ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم، من قوله: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا « فأولئك أصْحاب النار هم فيها خالدون » ، يعني: ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعني نار جهنم، فيها خالدون.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ: « فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله » ، أما « الموعظة » فالقرآن، وأما « ما سلف » ، فله ما أكل من الربا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 )

قال أبو جعفر: يعني عز وجل بقوله: « يمحق الله الربا » ، ينقُصُ الله الرّبا فيذْهبه، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « يمحق الله الربا » ، قال: يَنقص.

وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

« الرّبا وَإن كثُر فإلى قُلّ » . .

وأما قوله: « ويُرْبي الصّدَقات » ، فإنه جل ثناؤه يعني أنه يُضاعف أجرَها، يَرُبُّها وينمِّيها له.

وقد بينا معنى « الرّبا » قبلُ « والإرباء » ، وما أصله، بما فيه الكفاية من إعادته.

فإن قال لنا قائل: وكيف إرباء الله الصدقات؟

قيل: إضعافه الأجرَ لربِّها، كما قال جل ثناؤه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [ سورة البقرة: 261 ] ، وكما قال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [ سورة البقرة: 245 ] ، وكما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا عباد بن منصور، عن القاسم: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنّ الله عز وجل يقبلُ الصّدقة ويأخذها بيمينه فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدُكم مُهْرَه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحُد، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [ سورة التوبة: 104 ] ، و » يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصّدَقات « . . »

حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة ولا أراه إلا قد رفعه قال: « إن الله عز وجل يقبَلُ الصدقة، ولا يقبلُ إلا الطيب. » .

حدثني محمد بن عُمر بن علي المقدّمي، قال: حدثنا ريحان بن سعيد، قال: حدثنا عباد، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويربّيها لصاحبها كما يربِّي أحدُكم مُهره أو فَصيله، حتى إنّ اللقمة لتصيرُ مثل أحُد، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: ( يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصدقات ) » . .

حدثني محمد بن عبد الملك، قال: حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ العبد إذا تصدق من طيّب تقبلها الله منه، ويأخذها بيمينه ويربِّيها كما يربِّي أحدكم مهرَه أو فصيله. وإنّ الرجل ليتصدّق باللقمة فتربو في يد الله أو قال: في كفِّ الله عز وجلّ حتى تكون مثلَ أحُد، فتصدّقوا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت يونس، عن صاحب له، عن القاسم بن محمد قال، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله عز وجل يقبل الصدقة بيمينه، ولا يقبل منها إلا ما كان طيِّبًا، والله يربِّي لأحدكم لقمته كما يربِّي أحدكم مُهره وفصيله، حتى يوافَي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحُد » . .

قال أبو جعفر: وأما قوله: « والله لا يحب كل كفار أثيم » ، فإنه يعني به: والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفر بربه، مقيم عليه، مستحِلّ أكل الربا وإطعامه، « أثيم » ، متماد في الإثم، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه، لا ينـزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنـزيله وآي كتابه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 277 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند ربهم، من تحريم الربا وأكله، وغير ذلك من سائر شرائع دينه « وعملوا الصالحات » التي أمرهم الله عز وجل بها، والتي نَدَبهم إليها « وأقاموا الصلاة » المفروضة بحدودها، وأدّوها بسُنَنها « وآتوا الزكاة » المفروضة عليهم في أموالهم، بعد الذي سلف منهم من أكل الرّبا، قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم « لهم أجرهم » ، يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصَدَقتهم « عند ربهم » يوم حاجتهم إليه في معادهم « ولا خوف عليهم » يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم، من أكل ما كانوا أكلوا من الربا، بما كان من إنابتهم، وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم، وتصديقهم بوعد الله ووعيده « ولا هم يحزنون » على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى، وهم على تركهم ما ترَكوا من ذلك في الدنيا ابتغاءَ رضوانه في الآخرة، فوصلوا إلى ما وُعدوا على تركه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 278 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: « يا أيها الذين آمنوا » ، صدّقوا بالله وبرسوله « اتقوا الله » ، يقول: خافوا الله على أنفسكم، فاتقوه بطاعته فيما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه « وذروا » ، يعني: ودعوا « ما بقي من الربا » ، يقول: اتركوا طلب ما بقي لكم من فَضْل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تُربوا عليها « إن كنتم مؤمنين » ، يقول: إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم، بأفعالكم. .

قال أبو جعفر: وذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموالٌ من رباً كانوا أرْبوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضَه منهم، وبقي بعضٌ، فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نـزول هذه الآية، وحرّم عليهم اقتضاءَ ما بقي منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا » إلى: وَلا تُظْلَمُونَ ، قال: نـزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجلٍ من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية، يُسلِفان في الرِّبا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنـزل الله « ذروا ما بقي » من فضل كان في الجاهلية « من الربا » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين » ، قال: كانت ثقيف قد صالحت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ ما لهم من ربًا على الناس وما كان للناس عليهم من ربًا فهو موضوع. فلما كان الفتحُ، استعمل عتَّاب بن أسِيد على مكةَ، وكانت بنو عمرو بن عُمير بن عوف يأخذون الرِّبا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يُرْبون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد، فكتب عتّاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، إلى وَلا تُظْلَمُونَ . فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتّاب وقال: « إن رَضوا وإلا فآذنهم بحرب » وقال ابن جريج، عن عكرمة، قوله: « اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا » ، قال: كانوا يأخذون الرّبا على بني المغيرة، يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة، بنو عمرو بن عمير، فهم الذين كان لهم الرّبا على بني المغيرة، فأسلم عبد ياليل وحَبيب وربيعة وهلالٌ ومسعود.

حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين » ، قال: كان ربًا يتبايعون به في الجاهلية، فلما أسلموا أمِروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فإن لم تفعلوا ) فإن لم تذَروا ما بقي من الربا.

واختلف القرأة في قراءة قوله: « فأذنوا بحرب من الله ورسوله » .

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: « فَأْذَنُوْا » بقصر الألف من « فآذنوا » ، وفتح ذالها، بمعنى: كونوا على علم وإذن.

وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين: « فَآذِنُوا » بمدّ الألف من قوله: « فأذنوا » وكسر ذالها، بمعنى: فآذنوا غيرَكم، أعلمُوهم وأخبروهم بأنكم علىَ حرْبهم.

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: « فأذَنوا » بقصر ألفها وفتح ذالها، بمعنى: اعلموا ذلك واستيقنوه، وكونوا على إذن من الله عز وجل لكم بذلك.

وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى من أقام على شركه الذي لا يُقَرُّ على المقام عليه، وأن يقتُل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يُؤذنوه. فإذْ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون كان مشركا مقيمًا على شركه الذي لا يُقَرُّ عليه، أو يكون كان مسلمًا فارتدَّ وأذن بحرب. فأي الأمرين كان، فإنما نُبذ إليه بحرب، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عَزَم على ذلك. لأن الأمر إن كان إليه، فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب، لم يَلزمهم حرْبُه، وليس ذلك حُكمه في واحدة من الحالين، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها.

وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ، إلى قوله: ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) : فمن كان مقيمًا على الرّبا لا ينـزعُ عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نـزع، وإلا ضَرب عنقه.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا: « خذ سلاحك للحرْب » .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج، قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، قال: حدثنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.

حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أوْعدهم الله بالقتل كما تسمعون، فجعلهم بَهْرَجًا أينما ثقفوا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله » ، أوعد الآكلَ الرّبا بالقتل.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله.

قال أبو جعفر: وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله: ( فأذنوا بحرب من الله ) إيذان من الله عز وجل لهم بالحرب والقتل، لا أمر لهم بإيذان غيرهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: « إن تبتم » فتركتم أكلَ الربا وأنبتم إلى الله عز وجل « فلكم رؤوس أموالكم » من الديون التي لكم على الناس، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربًا منكم، كما:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال، جعل لهم رءوس أموالهم حين نـزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: وضع الله الرّبا، وجعل لهم رءوس أموالهم.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » ، قال: ما كان لهم من دَين، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم، ولا يزدادُوا عليه شيئًا.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » الذي أسلفتم، وسقط الربا.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح: « ألا إن ربا الجاهلية موضوعٌ كله، وأوَّل ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب » .

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: « إنّ كل ربا موضوع، وأول ربًا يوضع ربا العباس » . .

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ( 279 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « لا تَظلمون » بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غُرمائكم منهم، دون أرباحها التي زدتموها ربًا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذُه، أو لم يكن لكم قبلُ « ولا تُظلمون » ، يقول: ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الرّبا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل، يبخسُكم حقًّا لكم عليه فيمنعكموه، لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقًّا لكم عليه، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول، وغيرُه من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون » ، فتُربون، « ولا تظلمون » فتنقصون.

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون » ، قال: لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلا لا يحلُّ لكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: « وإن كان » ممن تقبضون منه من غرمائكم رؤوسَ أموالكم « ذو عُسْرَة » يعني: معسرًا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبلَ الإرباء، فأنظروهم إلى ميسرتهم.

وقوله: « ذو عسرة » ، مرفوع ب « كان » ، فالخبر متروك، وهو ما ذكرنا. وإنما صلح ترك خبرها، من أجل أنّ النكرات تضمِرُ لها العربُ أخبارَها، ولو وُجِّهت « كان » في هذا الموضع، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفِي بنفسه التام، لكان وجهًا صحيحًا، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويلُ الكلام عند ذلك: وإن وُجد ذُو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم، فنَظِرة إلى ميسرة.

وقد ذكر أنّ ذلك في قراءة أبي بن كعب: ( وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ ) ، بمعنى: وإن كان الغريم ذا عسرة « فنظرة إلى ميسرة » . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغيرُ جائز القراءة به عندنا، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين.

وأما قوله: ( فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) ، فإنه يعني: فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة، كما قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ [ سورة البقرة: 196 ] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبلُ، فأغنى عن تكريره. .

و « الميسرَة » ، المفعلة من « اليُسر » ، مثل « المرْحمة » و « والمشأمة » .

ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعليكم أن تنظروه حتى يُوسر بالدَّين الذي لكم، فيصيرَ من أهل اليُسر به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، قال: نـزلت في الربا.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين: أن رجلا خاصَم رجلا إلى شُرَيح، قال: فقضى عليه وأمرَ بحبسه، قال: فقال رجل عند شريح: إنه مُعسرٌ، والله يقول في كتابه: « وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة » ! قال: فقال شريح: إنما ذلك في الربا! وإن الله قال في كتابه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [ سورة النساء: 58 ] ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، قال: ذلك في الربا.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبيّ أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول: أيْ فلان، إن كنت مُوسرًا فأدِّ، وإن كنت مُعسرًا فإلى مَيسرة.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: جاء رجل إلى شريح فكلَّمه فجعل يقول: إنه معسر، إنه مُعسر! ! قال: فظننت أنه يكلِّمه في محبوس، فقال شريح: إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار، فأنـزل الله عز وجل: « وإنْ كان ذُو عُسْرَة فَنظِرة إلى ميسرة » وقال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ، فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه، أدّوا الأمانات إلى أهلها.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله: « وإن كان ذو عسرة فنطرة إلى ميسرة » ، قال: فنظرة إلى ميسرة برأس ماله.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر، وليست النَّظِرة في الأمانة، ولكن يؤدِّي الأمانة إلى أهلها.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإن كان ذو عسرة فنظرة » برأس المال « إلى ميسرة » ، يقول: إلى غنى.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، هذا في شأن الربا.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك في قوله: ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) ، هذا في شأن الربا، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون، فلما أسلم من أسلم منهم، أمِروا أن يأخذوا رءوس أموالهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، يعني المطلوب.

حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله: « وإن كان ذُو عسرة فنظِرةَ إلى ميسرة » ، قال: الموت.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن محمد بن علي مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم: « وإن كان ذُو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، قال: هذا في الربا.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة، قال: إلى الموت، أو إلى فُرْقة.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: « فنظرة إلى ميسرة » ، قال: ذلك في الربا.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد: « فنظرة إلى ميسرة » ، قال: يؤخّره، ولا يزدْ عليه. وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه، زاد عليه وأخَّره.

وحدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » قال: يؤخره ولا يزدْ عليه.

وقال آخرون: هذه الآية عامة في كل من كان له قِبَل رجل معسر حقٌّ من أيّ وجهة كان ذلك الحق، من دين حلال أو ربا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: من كان ذا عُسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدّقوا خير لكم. قال: وكذلك كل دين على مسلم، فلا يحلّ لمسلم له دَين على أخيه يعلم منه عُسرة أن يسجنه، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه. وإنما جعل النظرة في الحلال، فمن أجل ذلك كانت الدّيون على ذلك.

حدثني علي بن حرب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » قال: نـزلت في الدَّين.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، أنه معنيٌّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم عليهم ديون قد أربَوْا فيها في الجاهلية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رؤوس أموالهم، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا، أو إنظار من كان منهم معسرا برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبْل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه، أو لزمه من قبل الإرباء - إليه، إن كان موسرا. وإن كان معسرا، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه.

غير أن الآية وإن كانت نـزلت فيمن ذكرنا، وإياهم عنى بها، فإن الحكم الذي حكم الله به: من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه، حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه، وهو بقضائه معسر: في أنه منظر إلى ميسرته، لأن دين كل ذي دين، في مال غريمه، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته. فإذا عدم ماله، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون في رقبة غريمه، أو في ذمته يقضيه من ماله، أو في مال له بعينه.

فإن يكن في مال له بعينه، فمتى بطل ذلك المال وعدم، فقد بطل دين رب المال، وذلك ما لا يقوله أحد.

ويكون في رقبته، فإن يكن كذلك، فمتى عدمت نفسه، فقد بطل دين رب الدين، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك، وذلك أيضا لا يقوله أحد.

فقد تبين إذا، إذ كان ذلك كذلك، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا، وإذا لم يكن على رقبته سبيل، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه، سبيل. لأنه غير مانعه حقا، له إلى قضائه سبيل، فيعاقب بمطله إياه بالحبس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 )

قال أبو جعفر: يعني جل وعز بذلك: وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر، « خير لكم » أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته، لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر « إن كنتم تعلمون » موضع الفضل في الصدقة، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: « وأن تصدقوا » برؤوس أموالكم على الغني والفقير منهم « خير لكم » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نـزلت هذه الآية. فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا « وأن تصدقوا خير لكم » ، يقول: أن تصدقوا بأصل المال، خير لكم.

حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة: « وأن تصدقوا » ، أي برأس المال، فهو خير لكم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: ( وأن تصدقوا خير لكم ) قال: من رؤوس أموالكم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: « وأن تصدقوا خير لكم » ، قال: أن تصدقوا برؤوس أموالكم.

وقال آخرون: معنى ذلك: وأن تصدقوا به على المعسر، خير لكم - نحو ما قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وأن تصدقوا خير لكم » ، قال: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير، فهو خير لكم، فتصدق به العباس.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) ، يقول: وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله: ( وأن تصدقوا خير لكم ) ، يعني: على المعسر، فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ منه رأس المال، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم، خير لكم من نظرة إلى ميسرة. فاختار الله عز وجل الصدقة على النظارة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم » ، قال: من النظرة « إن كنتم تعلمون » .

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: ( فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم ) ، والنظرة واجبة، وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة، والصدقة لكل معسر، فأما الموسر فلا.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: معناه: « وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم » لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين. وإلحاقه بالذي يليه، أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه.

قال أبو جعفر: وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا، هن آخر آيات نـزلت من القرآن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نـزل من القرآن آية الربا، وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها، فدعوا الربا والريبة.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر: أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « أما بعد، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم، وإنه كان من آخر القرآن تنـزيلا آيات الربا، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم » .

حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما أنـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 281 )

قال أبو جعفر: وقيل: هذه الآية أيضا آخر آية نـزلت من القرآن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: آخر آية نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » .

حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله... » الآية، فهي آخر آية من الكتاب أنـزلت.

حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن عطية قال: آخر آية نـزلت: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن السدي، قال: آخر آية نـزلت: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس وحجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس آخر آية نـزلت من القرآن: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون » قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال، وبدئ يوم السبت، ومات يوم الاثنين.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين.

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واحذروا أيها الناس « يوما ترجعون فيه إلى الله » فتلقونه فيه، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتك أستاركم، أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، فوفيت جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون. وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟! كلا بل عدل عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه، وأخذ منه حذره، وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقيل، ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حذر فأعذر، ووعظ فأبلغ.