القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله: « إذا تداينتم » ، يعني: إذا تبايعتم بدين، أو اشتريتم به، أو تعاطيتم أو أخذتم به « إلى أجل مسمى » ، يقول: إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، وكل ما جاز [ فيه ] السلم مسمى أجل بيعه، يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه. ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه.

وكان ابن عباس يقول نـزلت هذه الآية في السلم خاصة.

ذكر الرواية عنه بذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح قال، قال ابن عباس في: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى » ، قال: السلم في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال، حدثنا يحيى بن الصامت قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن أبي نجيح، عن ابن عباس: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين » ، قال: نـزلت في السلم، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن عباس قال: نـزلت هذه الآية: « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » ، في السلم، في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

حدثنا ابن بشار قال حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا سفيان، عن أبي حيان التيمي، عن رجل، عن ابن عباس قال: نـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى » ، في السلف في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون، إلى أجل مسمى، أن الله عز وجل قد أحله وأذن فيه. ويتلو هذه الآية: « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى »

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه قوله: « بدين » ، وقد دل بقوله: « إذا تداينتم » ، عليه؟ وهل تكون مداينة بغير دين، فاحتيج إلى أن يقال « بدين » ؟ قيل: إن العرب لما كان مقولا عندها: « تداينا » بمعنى: تجازينا، وبمعنى: تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين أبان الله بقوله: « بدين » ، المعنى الذي قصد تعريف من سمع قوله: « تداينتم » ،

حكمه، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة.

وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ سورة الحجر: 30\ سورة ص: 73 ] ، ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاكْتُبُوهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فاكتبوه » ، فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى، من بيع كان ذلك أو قرض.

واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه، هل هو واجب أو هو ندب.

فقال بعضهم: هو حق واجب وفرض لازم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » ، قال: من باع إلى أجل مسمى، أمر أن يكتب، صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » ، قال: فمن ادان دينا فليكتب، ومن باع فليشهد.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » ، فكان هذا واجبا.

وحدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله وزاد فيه، قال: ثم قامت الرخصة والسعة. قال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ُ .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي، كان رجلا صحب كعبا، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يشهد، فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه، فلم يستجب له، لأنه قد عصى ربه.

وقال آخرون: كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا، فنسخه قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال: لا بأس إذا أمنته ألا تكتب ولا تشهد، لقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا قال ابن عيينة، قال ابن شبرمة، عن الشعبي: إلى هذا انتهى.

حدثنا المثنى، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » حتى بلغ هذا المكان: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ، قال: رخص من ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم، عن الشعبي، قال: إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فكانوا يرون أن هذه الآية: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود، رخصة ورحمة من الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال غير عطاء: نسخت الكتاب والشهادة: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: نسخ ذلك قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ، قال: فلولا هذا الحرف، لم يبح لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء، أو برهن. فلما جاءت هذه نسخت هذا كله، صار إلى الأمانة.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي قال: سألت الحسن قلت: كل من باع بيعا ينبغي له أن يشهد؟ قال: ألم تر أن الله عز وجل يقول: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ؟

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » ، حتى بلغ هذا المكان: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ، قال: رخص في ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، قال: إن أشهدت فحزم، وإن لم تشهد ففي حل وسعة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت للشعبي: أرأيت الرجل يستدين، من الرجل الشيء، أحتم عليه أن يشهد؟ قال: فقرأ إلى قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، قد نسخ ما كان قبله.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة، [ عن أبيه ] ، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا قال: هذه نسخت ما قبلها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين « كاتب بالعدل » ، يعني: بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يحيف ذا الحق حقه، ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه، كما:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « وليكتب بينكم كاتب بالعدل » ، قال: اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقا، ولا يزيدن فيه باطلا.

وأما قوله: « ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » ، فإنه يعني: ولا يأبين كاتب استكتب ذلك، أن يكتب بينهم كتاب الدين، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك، وحرمه كثيرا من خلقه.

وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك، نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ولا يأب كاتب » ، قال: واجب على الكاتب أن يكتب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله: « ولا يأب كاتب أن يكتب » ، أواجب ألا يأبى أن يكتب؟ قال: نعم قال: ابن جريج، وقال مجاهد: واجب على الكاتب أن يكتب.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » ، بمثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر وعطاء قوله: « ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » ، قالا إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت، فلا تأب أن تكتب لهم.

ذكر من قال: « هي منسوخة » . قد ذكرنا جماعة ممن قال: « كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها » ، وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « ولا يأب كاتب » ، قال: كانت عزيمة، فنسختها: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر. عن أبيه، عن الربيع: « وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » فكان هذا واجبا على الكتاب.

وقال آخرون: هو على الوجوب، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » ، يقول: لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل، وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب ألا يأبى كتابة ذلك، ندب وإرشاد، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه.

ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ . لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب. فأما والكتاب والكاتب موجودان، فالفرض - إذا كان الدين إلى أجل مسمى - ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله: « فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه والله » .

وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة، على السبيل التي قد بيناها. فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء.

ولو وجب أن يكون قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ناسخا قوله: « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » - لوجب أن يكون قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [ سورة المائدة: 6 ] ناسخا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر الذي فرضه الله عز وجل بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [ سورة المائدة: 6 ] وأن يكون قوله في كفارة الظهار: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [ سورة المجادلة: 4 ] ناسخا قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [ سورة المجادلة: 3 ] .

فيُسْأل القائل إنّ قول الله عز وجل: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ناسخٌ قوله: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ : ما الفرقُ بَينه وبين قائلٍ في التيمم وما ذكرنا قوله فزعم أنّ كل ما أبيح في حال الضرورة لعلة الضرورة، ناسخ حكمُه في حال الضرورة حكمَه في كل أحواله: نظيرَ قوله في أنّ الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخٌ بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ؟

فإن قال: الفرق بيني وبينه أن قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كلام منقطع عن قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ، وقد انتهى الحكم في السفر إذا عُدم فيه الكاتب بقوله: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ . وإنما عنى بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا : إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فأمن بعضكم بعضًا، فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته.

قيل له: وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس، وقد انقضى الحكم في الدّين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيلٌ بقوله: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ؟

وأما الذين زعموا أن قوله: « فاكتبوا » ، وقوله: « ولا يأب كاتب » على وجه الندب والإرشاد، فإنهم يُسألون البرهان على دعواهم في ذلك، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجل الذي أمر في كتابه، ويُسألون الفرق بين ما ادّعوا في ذلك وأنكروه في غيره. فلم يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.

ذكر من قال: « العدل » في قوله: « وليكتب بينكم كاتب بالعدل » : الحقّ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا

قال أبو جعفر: يعني بذلك: « فليكتب » الكاتب « وليملل الذي عليه الحق » ، وهو الغريم المدينُ يقول: ليتولّ المدَين إملالَ كتاب ما عليه من دين ربّ المال على الكاتب « وليتق الله ربه » المملي الذي عليه الحقّ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئًا، أن ينقُصَه منه ظلمًا أو يذهب به منه تعدّيًا، فيؤخذ به حيث لا يقدرُ على قضائه إلا من حسناته، أو أن يتحمل من سيئاته، كما:

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فليكتب وليملل الذي عليه الحق » ، فكان هذا واجبًا - « وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا » ، يقول: لا يظلم منه شيئًا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا يبخس منه شيئًا » ، قال: لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئًا إذا أملى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا » ، فإن كان المدين الذي عليه المال « سفيهًا » ، يعني: جاهلا بالصواب في الذي عليه أن يُملَّه على الكاتب، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا » ، أما السفيه: فالجاهل بالإملاء والأمور.

وقال آخرون: بل « السفيه » في هذا الموضع، الذي عناه الله: الطفلُ الصغير.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو، حدثنا أسباط، عن السدي: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا » ، أما السفيه، فهو الصغير.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا » ، قال: هو الصبي الصغير، فليملل وليُّه بالعدل.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: « السفيه في هذا الموضع: الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه » ، لما قد بينا قبل من أن معنى « السفه » في كلام العرب: الجهلُ.

وقد يدخل في قوله: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا » ، كل جاهل بصواب ما يُملّ من خطئه، من صغير وكبير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادًا بها: كلُّ جاهل بموضع خطأ ما يملّ وصوابه: من بالغي الرجال الذين لا يُولىَّ عليهم والنساء. لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، والصبي ومن يُولّى عليه، لا يجوز مُداينته، وأنّ الله عز وجل قد استثنى من الذين أمرَهم بإملال كتاب الدَّين مع السفيه، الضعيفَ ومن لا يستطيع إملاله، ففي فصْله جل ثناؤه الضعيفَ من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم: ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين ميَّز بين صفاتهم، غير الصنفين الآخرين.

وإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أنّ الموصوف بالسفه منهم دون الضعف، هو ذو القوة على الإملال، غيرَ أنه وُضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه وأن الموصوف بالضعف منهم، هو العاجز عن إملاله، وإن كان شديدًا رشيدًا، إما لعيّ لسانه أو خرس به وأنّ الموصوف بأنه لا يستطيع أن يملّ، هو الممنوع من إملاله، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيملّ عليه، وإما لغيبته عن موضع الإملال، فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب.

فوضع الله جلّ وعز عنهم فرض إملال ذلك، للعلل التي وصفنا - إذا كانت بهم - وعذرهم بترك الإملال من أجلها، وأمرَ، عند سقوط فرض ذلك عليهم، وليَّ الحق بإملاله فقال: « فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل » ، يعني: وليُّ الحقّ.

ولا وجه لقول من زعم أن « السفيه » في هذا الموضع هو الصغير، وأن « الضعيفَ » هو الكبير الأحمق. لأن ذلك إن كان كما قال، يوجب أن يكون قوله: « أو لا يستطيعُ أن يملّ هو » هو، العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه، لبطل معنى قوله: « فليملل وليه بالعدل » ، لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا، ولا يجوز حُكم أحد في ماله إلا بأمره. وفي صحة معنى ذلك، ما يقضي على فساد قول من زعم أن « السفيه » في هذا الموضع، هو الطفل الصغير، أو الكبير الأحمق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل » ، يقول: وليّ الحق.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل » ، قال يقول: إن كان عجز عن ذلك، أملَّ صاحبُ الدَّين بالعدل.

ذكر الرواية عمن قال: « عنى بالضعيف في هذا الموضع: الأحمق » ، وبقوله: « فليملل وليه بالعدل » ، ولي السفيه والضعيف.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو » ، قال: أمر وليّ السفيه أو الضعيف أن يملّ بالعدل.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما الضعيف، فهو الأحمق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أما الضعيفُ فالأحمق.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا » لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك، فوليه بمنـزلته حتى يضع لهذا حقه.

وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك.

وأما قوله: « فليملل وليه بالعدل » ، فإنه يعني: بالحق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واستشهدوا على حقوقكم شاهدين.

يقال: « فلان » شَهيدي على هذا المال، « وشاهدي عليه » .

وأما قوله: « من رجالكم » ، فإنه يعني من أحراركم المسلمين، دون عبيدكم، ودون أحراركم الكفار، كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « واستشهدوا شهيدين من رجالكم » ، قال: الأحرار.

حدثني يونس قال، أخبرنا علي بن سعيد، عن هشيم، عن داود بن أبي هند، عن مجاهد مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يكونا رجلين، فليكن رجلٌ وامرأتان على الشهادة. ورفع « الرجل والمرأتان » ، بالرّد على « الكون » . وإن شئتَ قلتَ: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجل وامرأتان على ذلك. وإن شئت: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يُشهدون عليه. وإن قلت: فإن لم يكونا رجلين فهو رجلٌ وامرأتان، كان صوابًا. كل ذلك جائز.

ولو كان « فرجلا وامرأتين » نصبًا، كان جائزًا، على تأويل: فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين.

وقوله: « ممن ترضون من الشهداء » ، يعني: من العدول المرتضَى دينهُم وصلاحهم، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « واستشهدوا شهيدين من رجالكم » ، يقول: في الدَّين « فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان » ، وذلك في الدين « ممن تَرْضون من الشهداء » ، يقول: عدولٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « واستشهدوا شهيدين من رجالكم » ، أمر الله عز وجل أن يُشهدوا ذَوَيْ عدل من رجالهم « فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضَون من الشهداء » .

 

القول في تأويل قوله : أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق: ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى ) بفتح « الألف » من « أنْ » ، ونصب « تَضلَّ » ، و « تذكرَ » ، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضَلّت. وهو عندهم من المقدّم الذي معناه التأخير. لأن « التذكير » عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان « تضلّ » . لأن المعنى ما وصفنا في قولهم. وقالوا: إنما نصبنا « تذكّر » ، لأن الجزاء لما تقدم اتصلَ بما قبله، فصار جوابه مردودًا عليه، كما تقول في الكلام: « إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيُعطى » ، بمعنى: إنه ليعجبني أن يُعطى السائل إن سأل - أو: إذا سأل. فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة. ولكن قوله: « أنْ يسأل » لما تقدم، اتصل بما قبله وهو قوله: « ليعجبني » ، ففتح « أنْ » ونصب بها، ثم أتبع ذلك قوله: « يعطى » ، فنصبه بنصب قوله: « ليعجبني أن يسأل » ، نسقًا عليه، وإن كان في معنى الجزاء.

وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرأونه بتسكين « الذال » من ( تُذْكِرَ ) وتخفيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك.

وكان بعضهم يوجّهه إلى أن معناه: فتصيِّر إحداهما الأخرى ذَكرًا باجتماعهما، بمعنى: أن شهادَتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها، جازت كما تجوز شهادةُ الواحد من الذكور في الدَّين، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردةً غيرُ جائزة فيما جازَت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذ بمنـزلة شهادة واحد من الذكور، فكأن كل واحدة منهما - في قول متأوِّلي ذلك بهذا المعنى - صيرَّت صاحبتها معها ذَكَرًا. وذهب إلى قول العرب: « لقد أذكرت بفلان أمُّه » ، أي ولدته ذَكرًا، « فهي تُذْكِر به » ، « وهي امرأةٌ مُذْكِرٌ » ، إذا كانت تَلد الذكور من الأولاد. وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينه أنه كان يقوله.

حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس تأويل قوله: « فتذْكر إحداهما الأخرى » من الذِّكْر بعد النسيان، إنما هو من الذَّكَر، بمعنى: أنها إذا شهدت مع الأخرى صَارت شَهادتهما كشَهادة الذكر.

وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى « الذكر » بعد النسيان.

وقرأ ذلك آخرون: ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى ) بكسر « إن » من قوله: « إن تضلَ » ورفع « تذكر » وتشديده، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها، ذكرتها الأخرى، من تثبيت الذاكرة الناسيةَ وتذكيرها ذلك وانقطاع ذلك عما قبله. ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، فإن إحداهما إن ضَلت ذكرتها الأخرى على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها، من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية.

وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذَها عنه. وإنما نصب الأعمش « تضل » ، لأنها في محل جزم بحرف الجزاء، وهو « إن » . وتأويل الكلام على قراءته « إن تَضْللْ » ، فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى، حركها إلى أخفّ الحركات، ورفع « تذكر » بالفاء، لأنه جواب الجزاء.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك، قراءةُ من قرأه بفتح « أن » من قوله: « أن تضلّ إحداهما » ، وبتشديد الكاف من قوله: « فتذكِّر إحداهما الأخرى » . ونصب الراء منه، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجلٌ وامرأتان، كي إن ضلت إحداهما ذكَّرتها الأخرى.

وأما نصب « فتذكر » فبالعطف على « تضل » ، وفتحت « أن » بحلولها محل « كي » وهي في موضع جزاء، والجواب بعده، اكتفاءً بفتحها أعني بفتح « أن » من « كي » ، ونسق الثاني - أعني: « فتذكر » - على « تضل » ، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر، قد دلّ عليه وأدّى عن معناه وعمله - أي عن « كي » .

وإنما اخترنا ذلك في القراءة، لإجماع الحجة من قُدماء القرأة والمتأخرين على ذلك، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءَته في ذلك بما انفرد به عنهم. ولا يجوز تركُ قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بَينهم، إلى غيرها. وأما اختيارنا « فتذكر » بتشديد الكاف، فإنه بمعنى: ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى، وتعريفها بأنها [ نسيت ] ذلك، لتذكر. فالتشديد به أولى من التخفيف.

وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه، فتأويلٌ خطأ لا معنى له، لوجوه شتى:

أحدها: أنه خلافٌ لقول جميع أهل التأويل.

والثاني: أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها، إنما هو ذهابُها عنها ونسيانها إياها، كضلال الرجل في دينه: إذا تحيَّر فيه فعدَل عن الحق . وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرًا معها، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها؟ ولَلضّالة منهما في شهادتها حينئذ، لا شك أنها إلى التذكير أحوجُ منها إلى الإذكار، إلا إن أراد أنّ الذاكرة إذا ضَعُفت صاحبتُها عن ذكر شهادتها شحذَتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته، فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك، كما يقال للشيء القوي في عمله: « ذَكرٌ » ، وكما يقال للسيف الماضي في ضربه: « سيف ذكر » ، و « رجل ذَكَر » يراد به: ماض في عمله، قويّ البطش، صحيحُ العزم.

فإن كان ابن عيينة هذا أراد، فهو مذهبٌ من مذاهب تأويل ذلك؟ إلا أنه إذا تُؤُوِّل ذلك كذلك، صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه، وإن خالفت القراءةُ بذلك المعنى، القراءةَ التي اخترناها. ومعنى القراءة حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله: « فتذكر » . ولا نعلم أحدًا تأوّل ذلك كذلك، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى. فالصواب في قراءته - إذْ كان الأمر عامًّا على ما وصفنا - ما اخترنا.

ذكر من تأول قوله: « أنْ تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى » نحو تأويلنا الذي قُلنا فيه:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « واستشهدوا شهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى » ، علم الله أن ستكونُ حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثِّقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربِّكم، وأدرَكُ لأموالكم. ولعمري لئن كان تقيًّا لا يزيده الكتاب إلا خيرًا، وإن كان فاجرًا فبالحرَي أن يؤدّي إذا علم أنّ عليه شهودًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى » ، يقول: أن تنسى إحداهما فتذكِّرها الأخرى.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أن تضل إحداهما » ، يقول: تنسى إحداهما الشهادة، فتذكّرها الأخرى.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « أن تضل إحداهما » ، يقول: إنْ تنسَ إحدَاهما، كذتِّرْها الأخرى.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أن تضل إحداهما فتُذْكِرَ إحداهما الأخرى » ، قال: كلاهما لغة، وهما سواء، ونحن نقرأ: « فتذكِّر » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الحال التي نَهى الله الشهداءَ عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية.

فقال بعضهم: معناه: لا يأب الشهداء أن يجيبوا، إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله تعالى: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، كان الرجل يطوف في الحِوَاء العظيم فيه القوم، فيدعوهم إلى الشهادة، فلا يتبعه أحد منهم. قال: وكان قتادة يتأوّل هذه الآية: « ولا يأبَ الشّهداء إذا ما دُعوا » ليشهدوا لرجل على رجل.

حدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم ليشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم، فأنـزل الله عز وجل: « ولا يأبَ الشهداء إذا ما دُعوا » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: لا تأب أن تشهد إذا ما دُعيت إلى شهادة.

وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء، إلا أنهم قالوا: يجب فرضُ ذلك على مَن دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره. فأما إذا وُجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخيَّر، إن شاء أجاب، وإن شاء لم يجب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي قال: « لا يأب الشهداء إذا ما دعوا » - قال: إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره شهد.

وقال آخرون: معنى ذلك: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » - للشهادة على من أراد الدّاعي إشهادَه عليه، والقيامَ بما عنده من الشهادة - من الإجابة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن الحسن: « ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا » ، قال: قال الحسن: الإقامة والشهادة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: كان الحسن يقول: جَمَعتْ أمرين: لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيتَ إلى شهادة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، يعني: من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دُعي.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن يونس، عن الحسن: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: لإقامتها، ولا يبدأ بها، إذا دعاه ليشهده، وإذا دعاه ليقيمها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » - للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي - من إجابته إلى القيام بها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا شهد.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، يقول: إذا كانوا قد أشْهِدوا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا كانت عندك شهادة فدُعيت.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ليث، عن مجاهد في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا كانت شهادة فأقمها، فإذا دُعيت لتشهد، فإن شئتَ فاذْهب، وإن شئت فلا تذهب.

حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصّباح، عن عمران بن حُدَير، قال: قلت لأبي مجلز: ناس يدعونني لأشهد بينهم، وأنا أكره أن أشهد بينهم؟ قال: دع ما تكره، فإذا شهدتَ فأجب إذا دُعيت.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: الشاهد بالخيار ما لم يَشْهد.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن عكرمة في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » . قال: لإقامة الشهادة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن أبي عامر، عن عطاء قال: في إقامة الشهادة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو عامر المزني قال، سمعت عطاء يقول: ذلك في إقامة الشهادة يعني قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا » .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو حُرّة، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال: أُدْعَى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها. قال: فلا تجبْ إن شئت.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة قال: سألت إبراهيم قلت: أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى؟ قال: فلا تشهد إن شئتَ.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن عطاء قال: للإقامة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير: « ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا » ، قال: إذا كانوا قد شهدوا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: هو الذي عنده الشهادة.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا » ، يقول: لا يأب الشاهد أن يتقدّم فيشهد، إذا كان فارغًا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: « ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: هم الذين قد شهدوا. قال: ولا يضرّ إنسانًا أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لعطاء: ما شأنه؟ إذا دُعي أن يكتب وجبَ عليه ألا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء! قال: كذلك يجب على الكاتب أن يكتُب، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء، الشهداء كثيرٌ.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا شهد فلا يأب إذا دُعي أن يأتي يؤدي شهادةً ويُقيمها.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولا يأب الشهداء » ، قال: كان الحسن يتأوّلها: إذا كانت عنده شهادة فدعي ليقيمها.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا كتب الرجل شهادته، أو أشهِد لرجل فشهد، والكاتبُ الذي يكتب الكتاب - دعوا إلى مَقطع الحق، فعليهم أن يجيبوا وأن يشهدوا بما أشهِدوا عليه.

وقال آخرون: هو أمر من الله عز وجل الرجلَ والمرأةَ بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق، ابتداءً، لا لإقامة الشهادة، ولكنه أمر نَدْب لا فرْض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم قال، حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: أمرت أن تشهد، فإن شئت فاشهد، وإن شئت فلا تشهد.

حدثني أبو العالية قال، حدثنا أبو قتيبة، عن محمد بن ثابت العَصَريّ، عن عطاء، بمثله.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: « [ معنى ] ذلك: ولا يأب الشهداء من الإجابة، إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذُ من الذي عليه ما عليه، للذي هو له » .

وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره، لأن الله عز وجل قال: « ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا » ، فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم « الشهداء » . وغير جائز أن يلزمهم اسم « الشهداء » إلا وقد استُشهدوا قبل ذلك فشهدوا على ما ألزمتهم شهادتهم عليه اسم « الشهداء » . فأما قبل أن يُستشهدوا على شيء، فغير جائز أن يقال لهم « شهداء » . لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولمَّا يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له « شاهد » ، بمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلح لأن يشهد. وإذْ كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره، أو من قد قام شهادته فلزمه لذلك هذا الاسم كان معلومًا أن المعنيَّ بقوله: « ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما دعوا » ، من وصفنا صفته ممن قد استُرْعى شهادةً، أو شَهد، فدعى إلى القيام بها. لأن الذي لم يُستشْهد ولم يُسترْعَ شهادةً قبل الإشهاد، غيرُ مستحق اسم « شهيد » ولا « شاهد » ، لما قد وصفنا قبل.

مع أن في دخول « الألف واللام » في « الشهداء » ، دلالةً واضحةً على أن المسمَّى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة، أشخاصٌ معلومون قد عرفوا بالشهادة، وأنهم الذين أمر الله عز وجل أهلَ الحقوق باستشهادهم بقوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ . وإذْ كان ذلك كذلك، كانَ معلومًا أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استُشْهدوا فشهدوا. ولو كان ذلك أمرًا لمن أعرَض من الناس فدُعي إلى الشهادة يشهد عليها، لقيل: ولا يأبَ شاهد إذا ما دعى.

غيرَ أنّ الأمر وإن كان كذلك، فإنّ الذي نقول به في الذي يُدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلحُ للشهادة، فإنّ الفرضَ عليه إجابةُ داعيه إليها، كما فَرضٌ على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه، ففرضٌ عليه أن يكتب، كما فرضٌ على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام، فحضره جاهلٌ بالإيمان وبفرائض الله، فسأله تعليمه وبيان ذلك له، أنْ يعلمه ويبيِّنه له. ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداءً ليشهِد على ما أشْهِد عليه بهذه الآية، ولكن بأدلة سواها، وهي ما ذكرنا. وإنَّ فرْضًا على الرجل إحياءُ ما قَدَر على إحيائه من حق أخيه المسلم.

« والشهداء » جمع « شهيد » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تسأموا، أيها الذين تُداينون الناس إلى أجل، أن تكتبوا صغيرَ الحق، يعني: قليله، أو كبيره يعني: أو كثيره إلى أجله إلى أجل الحق، فإنّ الكتاب أحصى للأجل والمال.

حدثني المثنى قال حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد: « ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله » ، قال: هو الدّين.

ومعنى قوله: « ولا تسأموا » : لا تملوا. يقال منه: « سئمتُ فأنا أسأم سَآمة وسَأمةً » ، ومنه قول لبيد:

وَلَقَـدْ سَـئِمْتُ مِـنَ الحَيَـاةِ وَطُولِهَـا وَسُــؤَالِ هـذَا النَّـاسِ: كَـيْفَ لَبيـدُ؟

ومنه قول زهير:

سَـئِمْتُ تَكَـالِيفَ الحَيَـاةِ, وَمَـنْ يَعِشْ ثَمَــانِينَ عَامًــا, لا أَبَـالَكَ, يَسْـأَمِ

يعني مللت.

وقال بعض نحويي البصريين: تأويل قوله: « إلى أجله » ، إلى أجل الشاهد. ومعناه إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه. وقد بينا القول فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ذلكم » ، اكتتاب كتاب الدين إلى أجله.

ويعني بقوله: « أقسط » ، أعدل عند الله.

يقال منه: « أقسط الحاكم فهو يُقسط إقساطًا، وهو مُقسط » ، إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه. فإذا جار قيل: « قَسَط فهو يَقْسِط قُسوطًا » . ومنه قول الله عز وجل: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [ سورة الجن: 15 ] ، يعني الجائرون.

وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ذلكم أقسط عند الله » ، يقول: أعدل عند الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأصوب للشهادة.

وأصله من قول القائل: « أقمتُ من عَوَجه » ، إذا سويته فاستوى.

وإنما كان الكتاب أعدل عند الله، وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه، لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري وربّ الدَّين والمستدين على نفسه، فلا يَقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم، لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك، كان فصلُ الحكم بينهم أبيَن لمن احتُكم إليه من الحكام، مع غير ذلك من الأسباب. وهو أعدل عند الله، لأنه قد أمر به. واتباعُ أمر الله لا شَكّ أنه عند الله أقسطُ وأعدلُ من تركه والانحراف عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وأدنى » ، وأقرب، من « الدنو » ، وهو القرب.

ويعني بقوله: « ألا ترتابوا » ، ألا تَشكوا في الشهادة، كما:-

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي « ذلك أدنى ألا ترتابوا » ، يقول: ألا تشكوا في الشهادة.

وهو « تفتعل » من « الرِّيبة » .

ومعنى الكلام: ولا تملُّوا أيها القوم أن تكتبوا الحقّ الذي لكم قِبَل من داينتموه من الناس إلى أجل، صغيرًا كان ذلك الحق قليلا أو كثيرًا، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله، وأصوبُ لشهادة شهودكم عليه، وأقربُ لكم ألا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحق والأجل إذا كان مكتوبًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا

قال أبو جعفر: ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مُبايعة بالنقود الحاضرة يدًا بيد، فرخَّص لهم في ترك اكتتاب الكُتب بذلك. لأن كل واحد منهم، أعني من الباعة والمشترين، يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا ما وجب له قِبَل مبايعيه قبْل المفارقة، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابًا بما وجب لهم قبلهم، وقد تقابضوا الواجبَ لهم عليهم. فلذلك قال تعالى ذكره: « إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم » ، لا أجل فيها ولا تأخير ولا نَسَاء « فليس عليكم جُناح ألا تكتبوها » ، يقول: فلا حرج عليكم ألا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرةَ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم » ، يقول: معكم بالبلد تَرَوْنها، فتأخذُ وتعطى، فليس على هؤلاء جناح ألا يكتبوها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك. وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ، إلى قوله: « فليس عليكم جناح ألا تكتبوها » ، قال: أمر الله ألا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله، وأمر ما كان يدًا بيد أن يُشهد عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا، ورخصّ لهم ألا يكتبوه.

واختلفت القرَأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة: ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ ) بالرفع.

وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب. وذلك وإن كان جائزًا في العربية، إذ كانت العربُ تنصبُ النكرات والمنعوتات مع « كان » ، وتضمر معها في « كان » مجهولا فتقول: « إن كان طعامًا طيبًا فأتنا به » ، وترفعها فتقول: « إن كان طعامٌ طيبٌ فأتنا به » ، فتتبع النكرةَ خبرَها بمثل إعرابها فإن الذي أختار من القراءة، ثم لا أستجيز القراءةَ بغيره، الرفعُ في « التجارة الحاضرة » ، لإجماع القرأة على ذلك، وشذوذ من قرأ ذلك نصبًا عنهم، ولا يُعترض بالشاذ على الحجة. ومما جاء نصبًا قولُ الشاعر:

أَعَيْنــيَ هَــلا تَبْكِيَــانِ عِفَاقَــا إذَا كــانَ طَعْنًــا بَيْنَهُــمْ وعِنَاقَـا

وقول الآخر:

وَلِلــهِ قَــومِي: أَيُّ قَــوْمٍ لِحُـرَّةٍ إذَا كَـانَ يَوْمًـا ذَا كَـوَاكِبَ أَشْـنَعَا! !

وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءَها. و « كان » من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب، فإذا رفعوهما جميعهما، تذكروا إتباع النكرة خبرَها، وإذا نصبوهما، تذكروا صحبة « كان » لمنصوب ومرفوع. ووجدوا النكرة يتبعها خبرُها، وأضمروا في « كان » مجهولا لاحتمالها الضمير.

وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك: « إلا أن تَكون تجارةً حاضرةً » ، إنما قرأه على معنى: إلا أن يكون تجارة حاضرة، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أنْ يقرأ « يكون » بالياء، وأغفل موضعَ صواب قراءته من جهة الإعراب، وألزمه غير ما يلزمه. وذلك أن العربَ إذا جعلوا مع « كان » نكرة مؤنثًا بنعتها أو خبرها، أنَّثوا « كان » مرة، وذكروها أخرى، فقالوا: « إن كانت جارية صغيرة فاشترُوها، وإن كان جاريةً صغيرةً فاشتروها » ، تذكر « كان » - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رَفعت - أحيانًا، وتؤنث أحيانًا.

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: « إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ » مرفوعة فيه « التجارة الحاضرة » ، لأن « تكون » ، بمعنى التمام، ولا حاجة بها إلى الخبر، بمعنى: إلا أن تُوجد أو تقعَ أو تحدث. فألزم نفسه ما لم يكن لها لازمًا، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك، إذْ لم يكن يجدك لـ « كان » منصوبًا، ووجد « التجارة الحاضرة » مرفوعة، وأغفل جَواز قوله: « تديرونها بينكم » أن يكون خبرًا لـ « كان » ، فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم.

والذي قال من حكينا قوله من البصريين غيرُ خطأ في العربية، غيرَ أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه، وفي المعنى أصحّ: وهو أن يكون في قوله: « تديرونها بينكم » وجهان: أحدهما أنه في موضع نصب، على أنه حل محل خبر « كان » ، و « التجارة الحاضرة » اسمها. والآخر: أنه في موضع رفع على إتباع « التجارة الحاضرة » ، لأن خبرَ النكرة يتبعها. فيكون تأويله: إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ دائرةً بينكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونَسَائه، فإنّ إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدًا بيدٍ ونقدًا، ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على مَنْ بعتموه شيئًا أو ابتعتم منه. لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوفَ المضرّة على كل من الفريقين. أما على المشتري، فأنْ يجحد البائعُ البيع، وله بيِّنة على ملكه ما قد باع، ولا بيِّنة للمشتري منه على الشراء منه، فيكون القولُ حينئذ قولَ البائع مع يمينه ويُقضَى له به، فيذهب مالُ المشتري باطل وأما على البائع، فأنْ يجحد المشتري الشراءَ، وقد زال ملك البائع عما باع، ووجب له قِبل المبتاع ثمن ما باع، فيحلفُ على ذلك، فيبطل حقّ البائع قِبَلَ المشتري من ثمن ما باعه. فأمر الله عز وجل الفريقين بالإشهاد، لئلا يضيع حق أحد الفريقين قبل الفريق الآخر.

ثم اختلفوا في معنى قوله: « وأشهدوا إذا تبايعتم » ، أهو أمرٌ من الله واجبٌ بالإشهاد عند المبايعة، أم هو ندب؟

فقال بعضهم: « هو نَدْبٌ، إن شاء أشهد، وإن شاء لم يُشهد » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن وشقيق، عن رجل، عن الشعبي في قوله: « وأشهدوا إذا تبايعتم » ، قال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألم تسمع إلى قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ؟

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا الربيع ابن صبيح قال: قلت للحسن: أرأيتَ قول الله عز وجل: « وأشهدوا إذا تبايعتم » ؟ قال: إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك، وإن لم تُشهد عليه فلا بأس.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الربيع بن صبيح قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، قول الله عز وجل: « وأشهدوا إذا تبايعتم » ، أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقدني شهرين ولا ثلاثة، أترى بأسًا ألا أشهد عليه؟ قال: إن أشهدت فهو ثقة للذي لك، وإن لم تشهد فلا بأس.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن الشعبي: « وأشهدوا إذا تبايعتم » ، قال: إن شاؤوا أشهدوا، وإن شاؤوا لم يشهدوا.

وقال آخرون: « الإشهاد على ذلك واجب » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا ، ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم. أمر اللهُ، ما كان يدًا بيد أن يُشهدوا عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد. وما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله أن يكتب ويُشْهد عليه. وذلك في المقام.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أنّ الإشهاد على كل مَبيع ومُشترًي، حقٌّ واجبٌ وفرضٌ لازم، لما قد بيَّنا: من أن كلَّ أمرٍ لله ففرضٌ، إلا ما قامت حُجته من الوجه الذي يجب التسليم لهُ بأنه ندبٌ وإرشاد.

وقد دللنا على وَهْيِ قول من قال: ذلك منسوخ بقوله: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ، فيما مضى فأغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ

قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: ذلك نهيٌ من الله الكاتبَ الكتابَ بين أهل الحقوق والشهيدَ أن يضارّ أهله، فيكتب هذا ما لم يُملله المملي، ويَشهد هذا بما لم يستشهده المستشهِد.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: « ولا يضارّ كاتب ولا شهيد » ، « ولا يضار كاتب » فيكتب ما لم يملَّ عليه ، « ولا شهيد » فيشهد بما لم يُستشهد.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، قال: كان الحسن يقول: « لا يضارّ كاتب » فيزيد شيئًا أو يحرّف « ولا شهيد » ، قال: لا يكتم الشهادة، ولا يشهدْ إلا بحق.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: اتقى الله شاهدٌ في شهادته، لا ينقص منها حقًّا ولا يزيد فيها باطلا. اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يَدَعنَّ منه حقًّا ولا يزيدنَّ فيه باطلا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: « لا يضار كاتب » فيكتب ما لم يُملل « ولا شهيد » ، فيشهد بما لم يستشهد.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: « لا يضار كاتب » فيكتب ما لم يُملل « ولا شهيد » ، فيشهد بما لم يستشهد.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة نحوه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: « لا يضار كاتب » فيكتب غير الذي أملي عليه. قال: والكتاب يومئذ قليلٌ، ولا يدرون أي شيء يُكتب، فيضار فيكتبَ غير الذي أملي عليه، فيبطل حقهم. قال: والشهيد: يضارّ فيحوِّل شهادته، فيبطل حقهم.

قال أبو جعفر: فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء: ولا يضارِرْ كاتبٌ ولا شهيد، ثم أدغمت « الراء » في « الراء » ، لأنهما من جنس، وحُرِّكت إلى الفتح وموضعها جزم، لأنّ الفتح أخفّ الحركات.

وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل: معنى ذلك:، « ولا يضارّ كاتب ولا شهيد » بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء في قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: أن يؤديا ما قِبَلهما.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء. « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ؟ قال: « لا يضار » ، أن يؤديا ما عندهما من العلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: « لا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: أن يدعوهما، فيقولان: إن لنا حاجة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قالا واجب على الكاتب أن يكتب « ولا شهيد » ، قالا إذا كان قد شهد، اقبلْهُ.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: « ولا يضارّ المستكتِب والمستشهِد الكاتبَ والشهيدَ » . وتأويل الكلمة على مذهبهم: ولا يضَارَرْ، على وجه ما لم يسمّ فاعله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال، كان عمر يقرأ: « ولا يُضَارَرْ كاتبٌ ولا شهيد » .

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك قال: كان ابن مسعود يقرأ: ( ولا يُضَارَرْ ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقرأ: « ولا يُضَارَرْ كاتب ولا شهيد » ، وأنه كان يقول في تأويلها: ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبَه وشاهدَه إلى أن يشهد، ولعله أن يكون في شُغل أو حاجة، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته وقال مجاهد: لا يقمْ عن شغله وحاجته، فيجدَ في نفسه أو يحرَج.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، والضِّرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنىّ: إنّ الله قد أمرك ألا تأبَى إذا دعيت! فيضارُّه بذلك، وهو مكتف بغيره. فنهاه الله عز وجل عن ذلك وقال: « وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: إنه يكون للكاتب والشاهد حاجةٌ ليس منها بدٌّ؛ فيقول: خلُّوا سبيله.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن عكرمة في قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: يكون به العلة أو يكون مشغولا يقول: فلا يضاره.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: لا يأت الرجل فيقول: انطلق فاكتبْ لي، واشهد لي، فيقول: إن لي حاجة فالتمسْ غيري! فيقول: اتق الله، فإنك قد أمِرتَ أن تكتب لي! فهذه المضارّة، ويقول: دعه والتمس غيره، والشاهدُ بتلك المنـزلة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: يدعو الرجل الكاتبَ أو الشهيدَ، فيقولُ الكاتب أو الشاهد: إن لنا حاجة! فيقولُ الذي يدعوهما: إن الله عز وجل أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة! يقول الله عز وجل لا يضارّهما.

حدثت عن الحسن قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهدَ وهما على حاجة مهمة، فيقولان: إنّا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا! فيقول: والله لقد أمركما أن تجيبا! فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما، يعني: لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره فتقول له: اكتب لي! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته ولا شاهدًا من شهودك وهو مشغول، فتقول: اذهب فاشهد لي! تحبسه عن حاجته، وأنتَ تجد غيره.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: لما نـزلت هذه الآية: وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ، كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي! فيقول: إني مشغول أو: لي حاجة، فانطلق إلى غيري! فيلزَمه ويقول: إنك قد أمِرتَ أن تكتب لي! فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره. ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي فاشهد لي! فيقول: انطلق إلى غيري فإني مشغول أو: لي حاجة! فيلزمه ويقول: قد أمِرت أن تتبعني. فيضاره بذلك، وهو يجد غيره، فأنـزل الله عز وجل: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: إن لي حاجة فدعني! فيقول: اكتب لي « ولا شهيد » ، كذلك.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، بمعنى: ولا يضارهما من استكتَبَ هذا أو استشهدَ هذا، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتبَ له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل.

وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره، لأن الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية من مُبتدئها إلى انقضائها على وجه: « افعلوا أو: لا تفعلوا » ، إنما هو خطابٌ لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتابُ، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب، كقوله: « وليكتب بينكم كاتب » ، وكقوله: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ، وما أشبه ذلك. فالوجهُ إذْ كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [ بأن يكون الأمر مردودًا على المستكتب والمستشهد ] ، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد. ومع ذلك، فإنّ الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيَّين عن الضرار لقيل: وإن يفعلا فإنه فسوقٌ بهما، لأنهما اثنان، وأنهما غير مخاطبين بقوله: « ولا يضارّ » ، بل النهي بقوله: « ولا يضار » ، نهيٌ للغائب غير المخاطب. فتوجيهُ الكلام إلى ما كان نظيرًا لما في سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان مُنعدِلا عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهدَ، وما نُهيتم عنه من ذلك « فإنه فسوق بكم » ، يعني: إثم بكم ومعصيةٌ.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم بنحو الذي قلنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم » ، يقول: إن تفعلوا غير الذي آمركم به، فإنه فسوق بكم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم » ، والفسوقُ المعصية.

حدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم » ، الفسوق العصيان.

وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يضارّ كاتبٌ فيكتبَ غير الذي أملَى المملي، ويضارّ شهيدٌ فيحوِّلَ شهادته ويغيرَها « فإنه فسوق بكم » ، يعني: فإنه كذب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم » ، الفسوق الكذب. قال: هذا فسوق، لأنه كذب الكاتبُ فحوَّل كتابه فكذَب، وكذَب الشاهدُ فحوّل شهادته، فأخبرهم الله أنه كذبٌ.

قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى على أن المعنىّ بقوله: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، إنما معناه: لا يضارّهما المستكتب والمستشهد، بما فيه الكفاية.

فقوله: « وإن تفعلوا » إنما هو إخبارُ من يضارّهما بحكمه فيهما، وأنّ من يضارّهما فقد عصَى ربه وأثم به، وركب ما لا يحلّ له، وخرج عن طاعة ربه في ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 282 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « واتقوا الله » ، وخافوا الله، أيها المتداينون في الكتاب والشهود، أن تضاروهم، وفي غير ذلك من حدود الله أن تُضِيعوه. ويعني بقوله: « ويُعلَّمكم الله » ، ويبين لكم الواجب لكم وعليكم، فاعملوا به « والله بكل شيء عليم » ، يعني: [ بكل شيء ] من أعمالكم وغيرها، يحصيها عليكم، ليجازيكم بها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: « ويعلمكم الله » ، قال: هذا تعليم علَّمكموه فخذُوا به.