القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 21 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : واذكر يا محمد لقومك الرّادّين عليك ما جئتهم به من الحقّ هودا أخا عاد, فإن الله بعثك إليهم كالذي بعثه إلى عاد, فخوّفهم أن يحلّ بهم من نقمة الله على كفرهم ما حلّ بهم إذ كذّبوا رسولنا هودًا إليهم, إذ أنذر قومه عادا بالأحقاف. والأحقاف: جمع حقف وهو من الرمل ما استطال, ولم يبلغ أن يكون جبلا وإياه عنى الأعشى:

فَبــاتَ إلـى أرْطـاةِ حِـقْفٍ تَلُفُّـهُ خَـرِيقُ شَـمالٍ يَـتْرُكُ الوَجْـهَ أقْتَمـا

واختلف أهل التأويل في الموضع الذي به هذه الأحقاف, فقال بعضهم: هي جبل بالشام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال: الأحقاف: جبل بالشام.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) جبل يسمى الأحقاف.

وقال آخرون: بل هي واد بين عُمان ومهرة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس ( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال: فقال: الأحقاف الذي أنذر هود قومه واد بين عمان ومهرة.

حدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: كانت منازل عاد وجماعتهم, حيث بعث الله إليهم هودا الأحقاف: الرمل فيما بين عُمان إلى حَضْرَمَوْتَ, فاليمن كله, وكانوا مع ذلك قد فشَوْا في الأرض كلها, قهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله.

وقال آخرون: هي أرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد, قال: الأحقاف: الأرض.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال: حشاف أو كلمة تشبهها, قال أبو موسى: يقولون مستحشف.

حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) حِشاف من حِسْمَى.

وقال آخرون: هي رمال مُشْرفة على البحر بالشِّحْر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) ذُكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشِّحْر.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله ( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال: بلغَنَا أنهم كانوا على أرض يقال لها الشحر, مشرفين على البحر, وكانوا أهل رمل.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال, عن عمرو بن عبد الله, عن قتادة, أنه قال: كان مساكن عاد بالشِّحْر.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أن الله تبارك وتعالى أخبر أن عادا أنذرهم أخوهم هود بالأحقاف, والأحقاف ما وصفت من الرمال المستطيلة المشرفة, كما قال العَجَّاج:

بات إلى أرْطاةِ حقْف أحْقَفا

وكما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال: الأحقاف: الرمل الذي يكون كهيئة الجبل تدعوه العرب الحقف, ولا يكون أحقافا إلا من الرمل, قال: وأخو عاد هود. وجائز أن يكون ذلك جبلا بالشأم. وجائز أن يكون واديا بين عمان وحضرموت. وجائز أن يكون الشحر وليس في العلم به أداء فرض, ولا في الجهل به تضييع واجب, وأين كان فصفته ما وصفنا من أنهم كانوا قوما منازلهم الرمال المستعلية المستطيلة.

وقوله ( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) يقول تعالى ذكره: وقد مضت الرسل بإنذار أممها ( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) يعني: من قبل هود ومن خلفه, يعني: ومن بعد هود. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله ( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعْدِهِ ) ، ( أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) يقول: لا تشركوا مع الله شيئا في عبادتكم إياه, ولكن أخلصوا له العبادة, وأفردوا له الألوهة, إنه لا إله غيره, وكانوا فيما ذُكر أهل أوثان يعبدونها من دون الله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) قال: لن يبعث الله رسولا إلا بأن يعبد الله.

وقوله ( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه: إني أخاف عليكم أيها القوم بعبادتكم غير الله عذاب الله في يوم عظيم وذلك يوم يعظم هوله, وهو يوم القيامة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 22 )

يقول تعالى ذكره: قالت عاد لهود, إذ قال لهم لا تعبدوا إلا الله: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم, أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه, وإلى اتباعك على قولك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ) قال: لتزيلنا, وقرأ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا قال: تضلنا وتزيلنا وتأفكنا ( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) من العذاب على عبادتنا ما نعبد من الآلهة ( إِنْ كُنْتُ ) من أهل الصدق في قوله وعداته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( 23 )

يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه عاد: ( إِنَّمَا الْعِلْمُ ) بوقت مجيء ما أعدكم به من عذاب الله على كفركم به عند الله, لا أعلم من ذلك إلا ما علمني ( وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ ) يقول: وإنما أنا رسول إليكم من الله, مبلغ أبلغكم عنه ما أرسلني به من الرسالة ( وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) مواضع حظوظ أنفسكم, فلا تعرفون ما عليها من المضرّة بعبادتكم غير الله, وفي استعجال عذابه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 24 )

يقول تعالى ذكره: فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه, فرأوه سحابا عارضا في ناحية من نواحي السماء ( مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ) والعرب تسمي السحاب الذي يُرَى في بعض أقطار السماء عشيا, ثم يصبح من الغد قد استوى, وحبا بعضه إلى بعض عارضا, وذلك لعرضه في بعض أرجاء السماء حين نشأ, كما قال الأعشى:

يـا مـن يَـرَى عارضا قَدْ بِتُّ أرْمُقُهُ كأنَّمَـا الْـبَرْقُ فـي حافاتِـهِ الشُّـعَلُ

( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) ظنا منهم برؤيتهم إياه أن غيثا قد أتاهم يَحيون به, فقالوا: هذا الذي كان هودٌ يعدنا, وهو الغيث.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ) ... الآية, وذُكر لنا أنهم حبس عنهم المطر زمانا, فلما رأوا العذاب مقبلا ( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) . وذُكر لنا أنهم قالوا: كذب هود كذب هود; فلما خرج نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الله فشامه, قال: ( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: ساق الله السحابة السوداء التي اختار قَيْلُ ابن عنـز بما فيها من النقمة إلى عاد, حتى تخرج عليهم من واد لهم يقال له المغيث, فلما رأوها استبشروا ( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) : يقول الله عزّ وجلّ: ( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .

وقوله ( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هود لقومه لما قالوا له عند رؤيتهم عارض العذاب, قد عرض لهم في السماء هذا عارض ممطرنا نحيا به, ما هو بعارض غيث, ولكنه عارض عذاب لكم, بل هو ما استعجلتم به: أي هو العذاب الذي استعجلتم به, فقلتم: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) والريح مكرّرة على ما في قوله ( هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ) كأنه قيل: بل هو ريح فيها عذاب أليم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن ميمون, قال: كان هود جلدا في قومه, وإنه كان قاعدا في قومه, فجاء سحاب مكفهرّ, ( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) فَقَالَ : ( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قال: فجاءت ريح فجعلت تلقي الفسطاط, وتجيء بالرجل الغائب فتلقيه.

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن جدّه, قال: قال سليمان, ثنا أبو إسحاق, عن عمرو بن ميمون, قال: لقد كانت الريح تحمل الظعينة فترفعها حتى تُرى كأنها جرادة.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ) ... إلى آخر الآية, قال: هي الريح إذا أثارت سحابا, ( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) , فقال نبيهم: بل ريح فيها عذاب أليم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 25 )

وقوله ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) : يقول تعالى ذكره: تخرّب كل شيء, وترمي بعضه على بعض فتهلكه, كما قال جرير

وكــانَ لَكُــمْ كَبَكْــرِ ثَمُـود لَمَّـا رَغــا ظُهْــرًا فَدَمَّــرَهُمْ دَمـارًا

يعني بقوله: دمرهم: ألقى بعضهم على بعض صَرْعى هَلكَى.

وإنما عنى بقوله ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) مما أرسلت بهلاكه, لأنها لم تدمر هودا ومن كان آمن به.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا طلق, عن زائدة, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: ما أرسل الله على عادٍ من الريح إلا قدر خاتمي هذا, فنـزع خاتمه.

وقوله ( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) يقول: فأصبح قوم هود وقد هلكوا وفنوا, فلا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة ( لا تَرَى إلا مَساكِنَهُمْ ) بالتاء نصبا, بمعنى: فأصبحوا لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ( لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) بالياء في ( يُرى ) , ورفع المساكن, بمعنى: ما وصفت قبل أنه لا يرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم.

وروى الحسن البصري ( لا تُرَى ) بالتاء, وبأيّ القراءتين اللتين ذكرت من قراءة أهل المدينة والكوفة قرأ ذلك القارئ فمصيب وهو القراءة برفع المساكن إذا قُرئ قوله ( يُرى ) بالياء وضمها وبنصب المساكن إذا قرئ قوله: « ترى » بالتاء وفتحها, وأما التي حُكيت عن الحسن, فهي قبيحة في العربية وإن كانت جائزة, وإنما قبحت لأن العرب تذكِّر الأفعال التي قبل إلا وإن كانت الأسماء التي بعدها أسماء إناث, فتقول: ما قام إلا أختك, ما جاءني إلا جاريتك, ولا يكادون يقولون: ما جاءتني إلا جاريتك, وذلك أن المحذوف قبل إلا أحد, أو شيء واحد, وشيء يذكر فعلهما العرب, وإن عنى بهما المؤنث, فتقول: إن جاءك منهنّ أحد فأكرمه, ولا يقولون: إن جاءتك, وكان الفرّاء يجيزها على الاستكراه, ويذكر أن المفضل أنشده:

وَنارُنــا لَــمْ تُــرَ نـارًا مِثْلُهـا قَــدْ عَلِمَــتْ ذاكَ مَعَــدّ أكْرَمَـا

فأنث فعل مثل لأنه للنار, قال: وأجود الكلام أن تقول: ما رئي مثلها.

وقوله ( كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) يقول تعالى ذكره: كما جزينا عادا بكفرهم بالله من العقاب في عاجل الدنيا, فأهلكناهم بعذابنا, كذلك نجزي القوم الكافرين بالله من خلقنا, إذ تمادوا في غيهم وطَغَوا على ربهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 26 )

يقول تعالى ذكره لكفار قريش: ولقد مكنَّا أيها القوم عادا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا, وأعطيناهم منها الذي لم نعطكم منهم من كثرة الأموال, وبسطة الأجسام, وشدّة الأبدان.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثني أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) يقول: لم نمكنكم.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) : أنبأكم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم.

وقوله ( وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا ) يسمعون به مواعظ ربهم, وأبصارا يبصرون بها حجج الله, وأفئدة يعقلون بها ما يسرّهم وينفعهم ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ ) يقول: فلم ينفعهم ما أعطاهم من السمع والبصر والفؤاد إذ لم يستعملوها فيما أعطوها له, ولم يعملوها فيما ينجيهم من عقاب الله, ولكنهم استعملوها فيما يقرّبهم من سخطه ( إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) يقول: إذ كانوا يكذّبون بحجج الله وهم رُسله, وينكرون نبوّتهم ( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول: وعاد عليهم ما استهزءوا به, ونـزل بهم ما سخروا به, فاستعجلوا به من العذاب, وهذا وعيد من الله جلّ ثناؤه لقريش, يقول لهم: فاحذروا أن يحلّ بكم من العذاب على كفركم بالله وتكذيبكم رسله, ما حلّ بعاد, وبادروا بالتوبة قبل النقمة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 27 ) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 28 )

يقول تعالى ذكره لكفار قريش محذّرهم بأسه وسطوته, أن يحلّ بهم على كفرهم ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ) أيها القوم من القُرَى ما حول قريتكم, كحجر ثمود وأرض سدوم ومأرب ونحوها, فأنذرنا أهلها بالمَثُلات, وخرّبنا ديارها, فجعلناها خاوية على عروشها.

وقوله: ( وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ ) يقول: ووعظناهم بأنواع العظات, وذكرناهم بضروب من الذِّكْر والحجج, وبيَّنا لهم ذلك.

كما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ ) قال بيَّناها ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) يقول ليرجعوا عما كانوا عليه مقيمين من الكفر بالله وآياته. وفي الكلام متروك ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه, وهو: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم, والتمادي في غيهم, فأهلكناهم, فلن ينصرهم منا ناصر؛ يقول جلّ ثناؤه: فلولا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتها قربانا يتقرّبون بها فيما زعموا إلى ربهم منا إذ جاءهم بأسنا, فتنقذهم من عذابنا إن كانت تشفع لهم عند ربهم كما يزعمون.

وهذا احتجاج من الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على مُشركي قومه, يقول لهم: لو كانت آلهتكم التي تعبدون من دون الله تغني عنكم شيئا, أو تنفعكم عند الله كما تزعمون أنكم إنما تعبدونها, لتقرّبكم إلى الله زلفى, لأغنت عمن كان قبلكم من الأمم التي أهلكتها بعبادتهم إياها, فدفعت عنها العذاب إذا نـزل, أو لشفعت لهم عند ربهم, فقد كانوا من عبادتها على مثل الذي عليه أنتم, ولكنها ضرتهم ولم تنفعهم.

يقول تعالى ذكره: ( بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ) يقول: بل تركتهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها, فأخذت غير طريقهم, لأن عبدتها هلكت, وكانت هي حجارة أو نحاسا, فلم يصبها ما أصابهم ودعوها, فلم تجبهم, ولم تغثهم, وذلك ضلالها عنهم, وذلك إفكهم, يقول عزّ وجلّ هذه الآلهة التي ضلَّت عن هؤلاء الذين كانوا يعبدونها من دون الله عند نـزول بأس الله بهم, وفي حال طمعهم فيها أن تغيثهم, فخذلتهم, هو إفكهم: يقول: هو كذبهم الذي كانوا يكذّبون, ويقولون به هؤلاء آلهتنا وما كانوا يفترون, يقول: وهو الذي كانوا يفترون, فيقولون: هي تقرّبنا إلى الله زُلفى, وهي شفعاؤنا عند الله. وأخرج الكلام مخرج الفعل, والمعنيّ المفعول به, فقيل: وذلك إفكهم, والمعنيّ فيه: المأفوك به لأن الإفك إنما هو فعل الآفك, والآلهة مأفوك بها. وقد مضى البيان عن نظائر ذلك قبل, قال: وكذلك قوله ( وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار، وذلك إفكهم بكسر الألف وسكون الفاء وضم الكاف بالمعنى الذي بيَّنا.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك ما حدثني أحمد بن يوسف, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا هشيم, عن عوف, عمن حدثه, عن ابن عباس, أنه كان يقرؤها ( وَذَلِكَ أَفْكُهُمْ ) يعني بفتح الألف والكاف وقال: أضلهم. فمن قرأ القراءة الأولى التي عليها قرّاء الأمصار, فالهاء والميم في موضع خفض. ومن قرأ هذه القراءة التي ذكرناها عن ابن عباس فالهاء والميم في موضع نصب, وذلك أن معنى الكلام على ذلك, وذلك صرفهم عن الإيمان بالله.

والصواب من القراءة في ذلك عندنا, القراءة التي عليها قراءة الأمصار لإجماع الحجة عليها.