القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( 29 )

يقول تعالى ذكره مقرّعا كفار قريش بكفرهم بما آمنت به الجنّ ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ ) يا محمد ( نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) ذكر أنهم صرفوا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحادث الذي حدث من رَجْمِهم بالشهب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا جرير, عن مغيرة, عن زياد, عن سعيد بن جُبير, قال: « كانت الجن تستمع, فلما رُجِموا قالوا: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض, فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر, فذهبوا إلى قومهم » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن سعيد بن جُبير, قال: « ولما بعث النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حُرِست السماء, فقال الشيطان: ما حُرِست إلا لأمر قد حدث في الأرض فبعث سراياه في الأرض , فوجدوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قائما يصلي صلاة الفجر بأصحابه بنَخْلة, وهو يقرأ. فاستمعوا حتى إذا فرغ ( وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ) ... إلى قوله مُسْتَقِيمٍ . »

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) ... إلى آخر الآية, قال: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , وكانوا يقعدون مقاعد للسمع; فلما بعث الله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حرست السماء حرسا شديدا, ورُجِمت الشياطين, فأنكروا ذلك, وقالوا: لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا فقال إبليس: لقد حدث في الأرض حدث, واجتمعت إليه الجنّ, فقال: تفرّقوا في الأرض, فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء, وكان أوّل بعث ركب من أهل نصيبين, وهي أشراف الجنّ وساداتهم, فبعثهم إلى تهامة, فاندفعوا حتى بلغوا الوادي, وادي نخلة, فوجدوا نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة, فاستمعوا; فلما سمعوه يتلو القرآن, قالوا: أنصتوا, ولم يكن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن; فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين .

واختلف أهل التأويل في مبلغ عدد النفر الذين قال الله ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ ) فقال بعضهم: كانوا سبعة نفر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا عبد الحميد, قال: ثنا النضر بن عربيّ, عن عكرمة, عن ابن عباس ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) ... الآية, قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين, فجعلهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رسلا إلى قومهم.

وقال آخرون: بل كانوا تسعة. نفر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا يحيى, عن سفيان, عن عاصم, عن زِرّ ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) قال: كانوا تسعة نفر فيهم زَوْبعة.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو احمد, قال: ثنا سفيان, عن عاصم, عن زِرّ بن حبيش, قال: « أنـزل على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو ببطن نخلة, ( فَلَمَّا حَضَرُوهُ ) قال: كانوا تسعة أحدهم زَوْبَعَة » .

وقوله ( فَلَمَّا حَضَرُوهُ ) يقول: فلما حضر هؤلاء النفر من الجنّ الذين صرفهم الله إلى رسوله نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .

واختلف أهل العلم في صفة حضورهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , فقال بعضهم: حضروا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , يتعرّفون الأمر الذي حدث من قبله ما حدث في السماء, ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لا يشعر بمكانهم, كما قد ذكرنا عن ابن عباس قبل.

وكما حدثنا ابن بشار, قال: ثنا هوذة, قال: ثنا عوف, عن الحسن, في قوله ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ ) قال: ما شعر بهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى جاءوا, فأوحى الله عزّ وجلّ إليه فيهم, وأخبر عنهم.

وقال آخرون: بل أمر نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يقرأ عليهم القرآن, وأنهم جمعوا له بعد أن تقدّم الله إليه بإنذارهم, وأمره بقراءة القرآن عليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) قال: « ذكر لنا أنهم صرفُوا إليه من نِينَوَى, قال: فإن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , قال: إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ, فأيكم يتبعني » ؟ فأطرقوا, ثم استتبعهم فأطرقوا, ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا, فقال رجل: يا رسول الله إنك لذو بدئه, فاتبعه عبد الله بن مسعود, فدخل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شعبا يقال له شعب الحجون. قال: وخطّ نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على عبد الله خطا ليثبته به, قال: فجعلت تهوي بي وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها, وسمعت لغطا شديدا, حتى خفت على نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , ثم تلا القرآن; فلما رجع نبيّ الله قلت: يا نبيّ الله ما اللغط الذي سمعت؟ قال: اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم, فقُضي بينهم بالحقّ .

وذُكر لنا أن ابن مسعود لما قَدِم الكوفة رأى شيوخا شُمطا من الزُّط, فراعوه, قال: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء نفر من الأعاجم, قال: ما أريت للذين قرأ عليهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الإسلام من الجنّ شبها أدنى من هؤلاء.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذهب وابن مسعود ليلة دعا الجنّ, فخطَّ النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على ابن مسعود خطا, ثم قال له: لا تخرج منه ثم ذهب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى الجنّ, فقرأ عليهم القرآن, ثم رجع إلى ابن مسعود فقال: وهل رأيت شيئا؟ قال: سمعت لغَطا شديدا, قال: إن الجنّ تدارأت في قتيل قُتل بينها, فقُضِي بينهم بالحقّ, وسألوه الزاد, فقال: وكل عظم لكم عرق, وكلّ روث لكم خُضْرة. قالوا: يا رسول الله تقذّرها الناس علينا, فنهى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يستنجي بأحدهما; فلما قدم ابن مسعود الكوفة رأى الزُّطّ, وهم قوم طوال سود, فأفزعوه, فقال: أظَهَرُوا؟ فقيل له: إن هؤلاء قوم من الزُّطّ, فقال ما أشبههم بالنفر الذين صُرِفوا إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .

قال : ثنا ابن ثور, عن معمر. عن يحيى بن أبي كثير, عن عبد الله بن عمرو بن غَيلان الثقفيّ أنه قال لابن مسعود: « حُدثت أنك كنت مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليلة وفد الجنّ, قال: أجَل, قال: فكيف كان؟ فذكر الحديث كله. وذُكِر أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خطّ عليه خطا وقال: ولا تبرح منها, فذكر أن مثل العجاجة السوداء غشيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , فذُعِر ثلاث مرّات, حتى إذا كان قريبا من الصبح, أتاني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , فقال: أنِمْتَ؟ قلت: لا والله, ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول: واجلسوا, قال: ولو خرجتَ لم آمن أن يختطفك بعضهم, ثم قال: وهل رأيت شيئا؟ قال: نعم رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض, قال: أولئك جنّ نصيبين, سألوني المتاع, والمتاع الزاد, فمتعتهم بكلّ عظم حائل أو بعرة أو روثة, فقلت: يا رسول الله, وما يغني ذلك عنهم؟ قال: إِنَّهُمْ لَنْ يَجِدوُا عَظْما إلا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَه يَوْمَ أُكِل, وَلا رَوْثَةً إلا وَجَدُوا فِيها حَبَّها يَوْمَ أُكِلَتْ, فَلا يَسْتَنْقِيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمْ إذَا خَرَجَ مِنَ الخَلاءِ بعَظْمٍ وَلا بَعْرَةٍ وَلا رَوْثَةٍ » .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: أخبرنا أبو زُرْعة وهب بن راشد, قال: قال يونس, قال ابن شهاب: أخبرني أبو عثمان بن شبة الخزاعي, وكان من أهل الشام « أن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لأصحابه وهو بمكة: مَنْ أَحَبَّ منْكُمْ أنْ يَحْضُرَ أمْرَ الجنّ اللَّيْلَةَ فَلْيَفْعَلْ » . فلم يحضر منهم أحد غيري, قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة, خطّ لي برجله خطا, ثم أمرني أن أجلس فيه, ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن, فغشيته أسودة كبيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته, ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين, حتى بقي منهم رهط, ففرغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مع الفجر, فانطلق متبرّزا, ثم أتاني فقال: وما فَعَلَ الرَّهْطُ ؟ قلت: هم أولئك يا رسول الله, فأخذ عظما أو روثا أو جمجمة فأعطاهم إياه زادا, ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث « . »

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب, قال: أخبرني يونس, عن ابن شهاب, عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي, وكان من أهل الشأم, أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , فذكر مثله سواء, إلا أنه قال: فأعطاهم روثا أو عظما زادا, ولم يذكر الجمجمة.

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, قال: ثني عمي, قال: أخبرني يونس, عن الزهريّ, عن عبيد الله بن عبد الله, أن ابن مسعود, قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: « بِتُّ اللًّيْلَةَ أقْرأُ عَلى الجِنّ رُبُعا بالحَجُونِِ » .

واختلفوا في الموضع الذي تلا عليهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيه القرآن, فقال عبد الله بن مسعود قرأ عليهم بالحَجون, وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك.

وقال آخرون: قرأ عليهم بنخلة, وقد ذكرنا بعض من قال ذلك, ونذكر من لم نذكره.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا خلاد, عن زهير بن معاوية, عن جابر الجعفي, عن عكرمة, عن ابن عباس « أن النفر الذين أتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من جنّ نصيبين أتوه وهو بنخلة » .

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ ) قال: لقيهم بنخلة ليلتئذ. وقوله ( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ) يقول تعالى ذكره: فلما حضروا القرآن ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقرأ, قال بعضهم لبعض: أنصتوا لنستمع القرآن.

كما حدثنا ابن بشار, قال: ثنا يحيى, عن سفيان, عن عاصم, عن زِرّ ( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ) قالوا: صَهْ.

قال: ثنا أبو أحمد, قال: ثنا سفيان, عن عاصم, عن زِرّ بن حُبَيْش, مثله.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, في قوله ( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ) قد علم القوم أنهم لن يعقلوا حتى ينصتوا.

وقوله ( فَلَمَّا قُضِيَ ) يقول: فلما فرغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من القراءة وتلاوة القرآن.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثنى عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, ( فَلَمَّا قُضِيَ ) يقول: فلما فرغ من الصلاة. ( وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ) . وقوله ( وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ) يقول: انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به.

وذُكر عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جعلهم رسلا إلى قومهم.

حدثنا بذلك أبو كُرَيب, قالا ثنا عبد الحميد الحِمَّانيّ, قال: ثنا النضر, عن عكرمة, عن ابن عباس. وهذا القول خلاف القول الذي روي عنه أنه قال: لم يكن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن, لأنه محال أن يرسلهم إلى آخرين إلا بعد علمه بمكانهم, إلا أن يقال: لم يعلم بمكانهم في حال استماعهم للقرآن, ثم علم بعد قبل انصرافهم إلى قومهم, فأرسلهم رسلا حينئذ إلى قومهم, وليس ذلك في الخبر الذي روي.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ( 30 )

يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هؤلاء الذين صُرفوا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الجن لقومهم لما انصرفوا إليهم من عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( يَا قَوْمَنَا ) مِنَ الْجِنِّ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنـزلَ مِنْ بَعْدِ كِتَابٌ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) يقول: يصدق ما قبله من كتب الله التي أنـزلها على رُسله .

وقوله ( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) يقول: يرشد إلى الصواب, ويدّل على ما فيه لله رضا ( وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول: وإلى طريق لا اعوجاج فيه, وهو الإسلام.

وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر, قال: ثنا سعيد عن قتادة أنه قرأ ( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنـزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) فقال: ما أسرع ما عقل القوم, ذُكر لنا أنهم صُرِفوا إليه من نينوى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 31 ) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 32 )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ ( يَا قَوْمَنَا ) مِنَ الْجِنِّ ( أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ ) قالوا: أجيبوا رسول الله محمدا إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله ( وَآمِنُوا بِهِ ) يقول: وصدّقوه فيما جاءكم به وقومه من أمر الله ونهيه, وغير ذلك مما دعاكم إلى التصديق به ( يَغْفِرْ لَكُمْ ) يقول: يتغمد لكم ربكم من ذنوبكم فيسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها ( وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) يقول: وينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم من ذنوبكم, وأنبتم من كفركم إلى الإيمان بالله وبداعيه.

وقوله ( وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر لقومهم: ومن لا يجب أيُّها القوم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم محمدا, وداعيه إلى ما بعثه بالدعاء إليه من توحيده, والعمل بطاعته ( فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ ) يقول: فليس بمعجز ربه بهربه, إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه, وتركه تصديقه وإن ذهب في الأرض هاربا, لأنه حيث كان فهو في سلطانه وقبضته ( وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ ) يقول: وليس لمن لم يحب داعي الله من دون ربه نُصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه ربه على كفره به وتكذيبه داعيه.

وقوله ( أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول: هؤلاء الذين لم يجيبوا داعي الله فيصدّقوا به, وبما دعاهم إليه من توحيد الله, والعمل بطاعته في جور عن قصد السبيل, وأخذ على غير استقامة, ( مُبِينٍ ) : يقول: يبين لمن تأمله أنه ضلال, وأخذ على غير قصد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 33 )

يقول تعالى ذكره: أولم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الله خلقه من بعد وفاتهم, وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلائهم, القائلون لآبائهم وأمهاتهم أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فلم يبعثوا بأبصار قلوبهم, فيروا ويعلموا أن الله الذي خلق السموات السبع والأرض, فابتدعهنّ من غير شيء, ولم يعي بإنشائهنّ, فيعجز عن اختراعهنّ وإحداثهنّ ( بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) فيخرجهم من بعد بلائهم في قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم.

واختلف أهل العربية في وجه دخول الباء في قوله ( بِقَادِرٍ ) فقال بعض نحويي البصرة: هذه الباء كالباء في قوله كَفَى بِاللَّهِ وهو مثل تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وقال بعض نحويي الكوفة: دخلت هذه الباء للمَ; قال: والعرب تدخلها مع الجحود إذا كانت رافعة لما قبلها, وتدخلها إذا وقع عليها فعل يحتاج إلى اسمين مثل قولك: ما أظنك بقائم, وما أظنّ أنك بقائم, وما كنت بقائم, فإذا خلعت الباء نصبت الذي كانت تعمل فيه, بما تعمل فيه من الفعل, قال: ولو ألقيت الباء من قادر في هذا الموضع رفع, لأنه خبر لأن, قال: وأنشدني بعضهم:

فَمَــا رَجَــعَتْ بخائِبَــةٍ رِكـابٌ حَــكِيمُ بــنُ المُســيِّبِ مُنْتهَاهـا

فأدخل الباء في فعل لو ألقيت منه نصب بالفعل لا بالباء, يقاس على هذا ما أشبهه.

وقال بعض من أنكر قول البصريّ الذي ذكرنا قوله: هذه الباء دخلت للجحد, لأن المجحود في المعنى وإن كان قد حال بينهما بأنّ ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) قال: فإنَّ اسم يَرَوْا وما بعدها في صلتها, ولا تدخل فيه الباء, ولكن معناه جحد, فدخلت للمعنى.

وحُكي عن البصريّ أنه كان يأبى إدخال إلا وأن النحويين من أهل الكوفة يجيزونه, ويقولون: ما ظننت أن زيدا إلا قائما, وما ظننت أن زيدا بعالم. وينشد:

وَلَسْــتُ بِحــالِفٍ لَوَلَــدْتُ مِنْهُـمْ عَــــلى عَمِّيَّـــةٍ إلا زِيـــادًا

قال: فأدخل إلا بعد جواب اليمين, قال: فأما كَفَى بِاللَّهِ , فهذه لم تدخل إلا لمعنى صحيح, وهي للتعجب, كما تقول لظَرُفَ بزيد. قال: وأما تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ فأجمعوا على أنها صلة. وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: دخلت الباء في قوله ( بقادِرٍ ) للجَحْد, لما ذكرنا لقائلي ذلك من العلل.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( بِقَادِرٍ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار, عن أبي إسحاق والجَحْدريّ والأعرج ( بقادِرٍ ) وهي الصحيحة عندنا لإجماع قرّاء الأمصار عليها. وأما الآخرون الذين ذكرتهم فإنهم فيما ذُكر عنهم كانوا يقرءون ذلك « يقدر » بالياء. وقد ذُكر أنه في قراءة عبد الله بن مسعود ( أنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ قَادِرٌ ) بغير باء, ففي ذلك حجة لمن قرأه « بقادِرٍ » بالباء والألف. وقوله ( بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يقول تعالى ذكره: بلى, يقدر الذي خلق السموات والأرض على إحياء الموتى: أي الذي خلق ذلك على كلّ شيء شاء خلقه, وأراد فعله, ذو قدرة لا يعجزه شيء أراده, ولا يُعييه شيء أراد فعله, فيعييه إنشاء الخلق بعد الفناء, لأن من عجز عن ذلك فضعيف, فلا ينبغي أن يكون إلها من كان عما أراد ضعيفا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 34 )

يقول تعالى ذكره: ويوم يعرض هؤلاء المكذّبون بالبعث, وثواب الله عباده على أعمالهم الصالحة, وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة, على النار, نار جهنم, يقال لهم حينئذ: أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم, وقد كنتم تكذّبون به في الدنيا بالحقّ, توبيخا من الله لهم على تكذيبهم به, كان في الدنيا ( قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا ) يقول: فيجيب هؤلاء الكفرة من فورهم بذلك, بأن يقولوا بلى هو الحق والله قال : ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) يقول: فقال لهم المقرّر بذلك: فذوقوا عذاب النار الآن بما كنتم تجحدونه في الدنيا, وتنكرونه, وتأبون الإقرار إذا دُعيتم إلى التصديق به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( 35 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , مثبته على المضيّ لما قلَّده من عبْء الرسالة, وثقل أحمال النبوّة صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , وآمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لَقُوا فيه من قومهم من المكاره, ونالهم فيه منهم من الأذى والشدائد ( فَاصْبِرْ ) يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذّبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم بالإنذار ( كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) على القيام بأمر الله, والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره, ما نالهم فيه من شدّة. وقيل: إن أولي العزم منهم, كانوا الذين امتُحِنوا في ذات الله في الدنيا بِالمحَن, فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر الله, كنوح وإبراهيم وموسى ومن أشبههم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنى ثوابة بن مسعود, عن عطاء الخُراسانيّ, أنه قال ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) كنا نحدث أن إبراهيم كان منهم.

وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) قال: كلّ الرسل كانوا أولي عزم لم يتخذ الله رسولا إلا كان ذا عزم, فاصبر كما صبروا.

حدثنا ابن سنان القزّاز, قال: ثنا عبد الله بن رجاء, قال: ثنا إسرائيل, عن سالم, عن سعيد بن جُبير, في قوله ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) قال: سماه الله من شدته العزم.

وقوله ( وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) يقول: ولا تستعجل عليهم بالعذاب, يقول: لا تعجل بمسألتك ربك ذلك لهم فإن ذلك نازل بهم لا محالة ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ) يقول: كأنهم يوم يرون عذاب الله الذي يعدهم أنه منـزله بهم, لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار, لأنه ينسيهم شدّة ما ينـزل بهم من عذابه, قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا, ومبلغ ما فيها مكثوا من السنين والشهور, كما قال جل ثناؤه: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ .

وقوله بَلاغٌ ) فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ذلك لبث بلاغ, بمعنى: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم, ثم حذفت ذلك لبث, وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها. والآخر: أن يكون معناه: هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية , إن فكَّروا واعتبروا فتذكروا.

وقوله ( فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ) يقول تعالى ذكره: فهل يهلك الله بعذابه إذا أنـزله إلا القوم الذين خالفوا أمره, وخرجوا عن طاعته وكفروا به. ومعنى الكلام: وما يهلك الله إلا القوم الفاسقين وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, في قوله ( فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ) تعلموا ما يهلك على الله إلا هالك ولى الإسلام ظهرَه أو منافق صدّق بلسانه وخالف بعمله. ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول: « أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ أُمَّتِي هَمَّ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ, وَإِنْ عَملها كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا. وَأَيُّمَا عَبْدٍ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ, فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً, ثُمَّ كَانَ يَتْبَعُهَا, وَيَمْحُوهَا اللَّهُ وَلا يَهْلِكُ إلا هَالِكٌ » .

آخر تفسير سورة الأحقاف