القول في تأويل قوله تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ( 20 ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ( 21 )

يقول تعالى ذكره: ويقول الذين صدّقوا الله ورسوله: هلا نـزلت سورة من الله تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار ( فَإِذَا أُنـزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ) يعني: أنها محكمة بالبيان والفرائض. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله ( فَإِذَا أُنـزلَتْ سُورَةٌ مُحْدَثَةٌ ) .

وقوله ( وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ) يقول: وذُكر فيها الأمر بقتال المشركين.

وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثني بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نـزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنـزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ) قال: كلّ سورة ذُكر فيها الجهاد فهي محكمة, وهي أشدّ القرآن على المنافقين.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ) قال كل سورة ذُكر فيها القتال فهي محكمة.

وقوله ( رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) يقول: رأيت الذين في قلوبهم شك في دين الله وضعف ( يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ) يا محمد, ( نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) , خوفا أن تغزيهم وتأمرهم بالجهاد مع المسلمين, فهم خوفا من ذلك وتجبنا عن لقاء العدوّ ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه الذي قد صرع. وإنما عنى بقوله ( مِنَ الْمَوْتِ ) من خوف الموت, وكان هذا فعل أهل النفاق.

كالذي حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) قال: هؤلاء المنافقون طبع الله على قلوبهم, فلا يفقهون ما يقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

وقوله ( فَأَوْلَى لَهُمْ ) يقول تعالى ذكره: فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض.

وقوله ( فَأَوْلَى لَهُمْ ) وعيد توعَّد الله به هؤلاء المنافقين.

كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( فَأَوْلَى لَهُمْ ) قال: هذه وعيد, فأولى لهم, ثم انقطع الكلام فقال: ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) .

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( فَأَوْلَى لَهُمْ ) قال: وعيد كما تسمعون.

وقوله ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل هؤلاء المنافقين من قبل أن تنـزل سورة محكمة, ويذكر فيها القتال, وأنهم إذا قيل لهم: إن الله مفترض عليكم الجهاد, قالوا: سمع وطاعة, فقال الله عزّ وجلّ لهم ( فَإِذَا أُنـزلَتْ سُورَةٌ ) وفرض القتال فيها عليهم, فشقّ ذلك عليهم, وكرهوه ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) قبل وجوب الفرض عليكم, فإذا عزم الأمر كرهتموه وشقّ عليكم.

وقوله ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) مرفوع بمضمر, وهو قولكم قبل نـزول فرض القتال ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) .

ورُوي عن ابن عباس بإسناد غير مرتضى أنه قال: قال الله تعالى ( فَأَوْلَى لَهُمْ ) ثم قال للذين آمنوا منهم ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) فعلى هذا القول تمام الوعيد فأولى, ثم يستأنف بعد, فيقال لهم ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) فتكون الطاعة مرفوعة بقوله ( لهم ) .

وكان مجاهد يقول في ذلك كما حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) قال: أمر الله بذلك المنافقين.

وقوله ( فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ ) يقول: فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بفرض ذلك كرهتموه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ ) قال: إذا جد الأمر, هكذا قال محمد بن عمرو في حديثه, عن أبي عاصم, وقال الحارث في حديثه, عن الحسن يقول: جدّ الأمر.

وقوله ( فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) يقول تعالى ذكره: فلو صدقوا الله ما وعدوه قبل نـزول السورة بالقتال بقولهم: إذ قيل لهم: إن الله سيأمركم بالقتال طاعة, فَوَفَّوا له بذلك, لكان خيرا لهم في عاجل دنياهم, وآجل معادهم.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ ) يقول: طواعيه الله ورسوله, وقول معروف عند حقائق الأمور خير لهم.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن مَعمر, عن قتادة يقول: طاعة الله وقول بالمعروف عند حقائق الأمور خير لهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ( 22 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( 23 )

يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف أنهم إذا نـزلت سورة محكمة, وذُكر فيها القتال نظروا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نظر المغشيّ عليه ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ ) أيها القوم, يقول: فلعلكم إن توليتم عن تنـزيل الله جلّ ثناؤه, وفارقتم أحكام كتابه, وأدبرتم عن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعما جاءكم به ( أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ) يقول: أن تعصوا الله في الأرض, فتكفروا به, وتسفكوا فيها الدماء ( وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) وتعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرّق بعد ما قد جمعكم الله بالإسلام, وألَّف به بين قلوبكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) ... الآية. يقول: فهل عسيتم كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله, ألم يسفكوا الدم الحرام, وقطَّعوا الأرحام, وعَصَوا الرحمن.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) قال: فعلوا.

حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي, قال: ثنا ابن أبي مريم, قال: أخبرنا محمد بن جعفر وسليمان بن بلال, قالا ثنا معاوية بن أبي المزرّد المديني, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة, عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: « خَلَقَ اللّهُ الخَلْقَ, فَلَمَّا فَرغ مِنْهُمْ تَعَلَّقَتِ الرَّحِمُ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ فَقالَ مَهْ: فَقالَتْ: هَذَا مَقامُ العائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ, قالَ: أَفمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ, وَأصِلَ مَنْ وَصَلَكِ؟ قالَتْ: نَعَمْ, قالَ: فَذلكِ لَكِ » .

قال سليمان في حديثه: قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) وقد تأوّله بعضهم: فهل عسيتم إن توليتم أمور الناس أن تفسدوا في الأرض بمعنى الولاية, وأجمعت القرّاء غير نافع على فتح السين من عَسَيتم , وكان نافع يكسرها عَسِيتم.

والصواب عندنا قراءة ذلك بفتح السين لإجماع الحجة من القرّاء عليها, وأنه لم يسمع في الكلام: عَسِيَ أخوك يقوم, بكسر السين وفتح الياء; ولو كان صوابا كسرها إذا اتصل بها مكنّى, جاءت بالكسر مع غير المكنّى, وفي إجماعهم على فتحها مع الاسم الظاهر, الدليل الواضح على أنها كذلك مع المكنّى, وإن التي تَلِي عسيتم مكسورة, وهي حرف حزاء, و « أن » التي مع تفسدوا في موضع نصب بعسيتم.

وقوله ( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يفعلون هذا, يعني الذين يفسدون ويقطعون الأرحام الذين لعنهم الله, فأبعدهم من رحمته فأصمهم ، يقول: فسلبهم فَهْمَ ما يسمعون بآذانهم من مواعظ الله في تنـزيله ( وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) يقول: وسلبهم عقولهم, فلا يتبيَّنون حُجج الله, ولا يتذكَّرون ما يرون من عبره وأدلته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( 24 ) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ( 25 )

يقول تعالى ذكره: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنـزله على نبيه عليه الصلاة والسلام , ويتفكَّرون في حُججه التي بيَّنها لهم في تنـزيله فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون ( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) يقول: أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنـزل الله في كتابه من المواعظ والعِبَر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) إذا والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله, لو تدبره القوم فعقلوه, ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا عند ذلك.

حدثنا إسماعيل بن حفص الأيلي, قال: ثنا الوليد بن مسلم, عن ثور بن يزيد, عن خالد بن مَعدان, قال: ما من آدميّ إلا وله أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه, وما يصلحه من معيشته, وعينان في قلبه لدينه, وما وعد الله من الغيب, فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه, وإذا أراد الله به غير ذلك طَمسَ عليهما, فذلك قوله ( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) .

حدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا يحيى بن واضح, قال: ثنا ثور بن يزيد, قال: ثنا خالد بن معدان, قال: ما من الناس أحد إلا وله أربع أعين, عينان في وجهه لمعيشته, وعينان في قلبه, وما من أحد إلا وله شيطان متبطن فقار ظهره, عاطف عنقه على عنقه, فاغر فاه إلى ثمرة قلبه, فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ما وعد الله من الغيب, فعمل به, وهما غيب, فعمل بالغيب, وإذا أراد الله بعبد شرّا تركه, ثم قرأ ( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) .

حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا الحكم, قال: ثنا عمرو, عن ثور, عن خالد بن مَعدَان بنحوه, إلا أنه قال: ترك القلب على ما فيه.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, قال: ثنا حماد بن زيد, قال: ثنا هشام بن عروة, عن أبيه قال: « تلا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوما ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها, حتى يكون الله عزّ وجلّ يفتحها أو يفرجها, فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به » .

وقوله ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) يقول الله عزّ وجلّ إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا بالله من بعد ما تبين لهم الحقّ وقصد السبيل, فعرفوا واضح الحجة, ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله تعالى ذكره من بعد العلم.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) هم أعداء الله أهل الكتاب, يعرفون بعث محمد نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه عندهم, ثم يكفرون به.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) إنهم يجدونه مكتوبا عندهم.

وقال آخرون: عنى بذلك أهل النفاق.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ ) ... إلى قوله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ هم أهل النفاق.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثنى عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ ) ... إلى إِسْرَارَهُمْ هم أهل النفاق. وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا, أشبه منها بصفة أهل الكتاب, وذلك أن الله عزّ وجلّ أخبر أن ردّتهم كانت بقيلهم لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَـزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ ولو كانت من صفة أهل الكتاب, لكان في وصفهم بتكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الكفاية من الخبر عنهم بأنهم إنما ارتدّوا من أجل قيلهم ما قالوا.

وقوله ( الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ) يقول تعالى ذكره: الشيطان زين لهم ارتدادهم على أدبارهم, من بعد ما تبين لهم الهدى.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ) يقول: زين لهم.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( سَوَّلَ لَهُمْ ) يقول: زين لهم.

وقوله ( وَأَمْلَى لَهُمْ ) يقول: ومدّ الله لهم في آجالهم مُلاوة من الدهر, ومعنى الكلام: الشيطان سوّل لهم, والله أملى لهم.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة ( وَأَمْلَى لَهُمْ ) بفتح الألف منها بمعنى: وأملى الله لهم. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة والبصرة ( وَأُمْلِيَ لَهُمْ ) على وجه ما لم يسمّ فاعله. وقرأ مجاهد فيما ذُكر عنه ( وَأُمْلِي ) بضم الألف وإرسال الياء على وجه الخبر من الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم.

وأولى هذه القراءات بالصواب, التي عليها عامة قرّاء الحجاز والكوفة من فتح الألف في ذلك, لأنها القراءة المستفيضة في قراءة الأمصار, وإن كان يجمعها مذهب تتقارب معانيها فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( 26 )

يقول تعالى ذكره: أملى الله لهؤلاء المنافقين وتركهم, والشيطان سول لهم, فلم يوفقهم للهدى من أجل أنهم ( قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نـزلَ اللَّهُ ) من الأمر بقتال أهل الشرك به من المنافقين: ( سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ ) الذي هو خلاف لأمر الله تبارك وتعالى , وأمر رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نـزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ ) فهؤلاء المنافقون ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ) يقول تعالى ذكره: والله يعلم إسرار هذين الحزبين المتظاهرين من أهل النفاق, على خلاف أمر الله وأمر رسوله, إذ يتسارّون فيما بينهم بالكفر بالله ومعصية الرسول, ولا يخفى عليه ذلك ولا غيره من الأمور كلها.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ( أَسْرَارَهُمْ ) بفتح الألف من أسرارهم على وجه جماع سرّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة ( إِسْرَارَهُمْ ) بكسر الألف على أنه مصدر من أسررت إسرارا.

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ( 27 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 28 )

يقول تعالى ذكره: والله يعلم إسرار هؤلاء المنافقين, فكيف لا يعلم حالهم إذا توفتهم الملائكة, وهم يضربون وجوههم وأدبارهم, يقول: فحالهم أيضا لا يخفى عليه في ذلك الوقت ويعني بالأدبار: الأعجاز, وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى قبل.

وقوله ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ) يقول تعالى ذكره: تفعل الملائكة هذا الذي وصفت بهؤلاء المنافقين من أجل أنهم اتبعوا ما أسخط الله, فأغضبه عليهم من طاعة الشيطان ( وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ ) يقول: وكرهوا ما يرضيه عنهم من قتال الكفار به, بعد ما افترضه عليهم.

وقوله ( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) يقول: فأبطل الله ثواب أعمالهم وأذهبه, لأنها عملت في غير رضاه ولا محبته, فبطلت, ولم تنفع عاملها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ( 29 )

يقول تعالى ذكره: أحسب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شكّ في دينهم, وضعف في يقينهم, فهم حيارى في معرفة الحقّ أن لن يُخرج الله ما في قلوبهم من الأضغان على المؤمنين, فيبديه لهم ويظهره, حتى يعرفوا نفاقهم, وحيرتهم في دينهم.