القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( 16 )

قال أبو جعفر: ومعنى ذلك. قل هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا، [ الذين ] يقولون: « ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار » .

وقد يحتمل « الذين يقولون » ، وجهين من الإعراب: الخفض على الردّ على « الذين » الأولى، والرفع على الابتداء، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها « الذين » الأولى، فيكون رفعها نظير قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [ سورة التوبة: 111 ] ، ثم قال في مبتدأ الآية التي بعدها: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ [ سورة التوبة: 112 ] . ولو كان جاء ذلك مخفوضًا كان جائزًا.

ومعنى قوله: « الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا » : الذين يقولون: إننا صدّقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك « فاغفر لنا ذنوبنا » ، يقول: فاستر علينا ذنوبنا، بعفوك عنها، وتركك عقوبتنا عليها « وقنا عذاب النار » ، ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بالنار.

وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه.

وأصل قوله: « قنا » من قول القائل: « وقى الله فلانًا كذا » ، يراد: دفع عنه، « فهو يقيه » . فإذا سأل بذلك سائلٌ قال: « قِنِى كذا » .

 

القول في تأويل قوله : الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « الصابرين » ، الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس.

ويعني بـ « الصادقين » ، الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرارَ به وبرسوله وما جاء به من عنده، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه.

ويعني بـ « القانتين » ، المطيعين له.

وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها، وبالأخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقد كان قتادة يقول في ذلك بما:-

حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين » ، « الصادقين » : قوم صدَقت أفواههم واستقامت قُلوبهم وألسنتهم، وصَدقوا في السرّ والعلانية « والصابرين » ، قوم صبروا على طاعة الله، وصَبروا عن محارمه « والقانتون » ، هم المطيعون لله.

وأما « المنفقون » ، فهم المؤتون زكوات أموالهم، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جل ثناؤه بإنفاقها فيها.

وأما « الصابرين » و « الصادقين » ، وسائر هذه الحروف، فمخفوض ردًا على قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا ، والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ خفض، ردًّا على قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ .

 

القول في تأويل قوله : وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ( 17 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم.

فقال بعضهم: هم المصلون بالأسحار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « والمستغفرين بالأسحار » ، هم أهل الصلاة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة: « والمستغفرين بالأسحار » ، قال: يصلون بالأسحار.

وقال آخرون: هم المستغفرون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حريث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحرٌ، فاغفر لي. فنظرت فإذا ابنُ مسعود.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن قول الله عز وجل: « والمستغفرين بالأسحار » ، قال: حدثني سليمان بن موسى قال، حدثنا نافع: أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاةً ثم يقول: يا نافع، أسحَرْنا؟ فيقول: لا. فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم! قعد يستغفر ويدعو حتى يُصْبح.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بعض البصريين، عن أنس بن مالك قال: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو يعقوب الضبي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من صلَّى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة، كتب من المستغفرين بالأسحار.

وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصّبح في جماعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال، قلت لزيد بن أسلم: مَنْ « المستغفرين بالأسحار » ، قال: هم الذين يشهدون الصّبح.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله: « والمستغفرين بالأسحار » ، قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها.

« بالأسحار » وهى جمع « سَحَر » .

وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء. وقد يحتمل أن يكون معناه: تعرّضهم لمغفرته بالعمل والصلاة، غيرَ أنّ أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء.

 

القول في تأويل قوله : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 18 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة، وأولو العلم.

فـ « الملائكة » معطوف بهم على اسم « الله » ، و « أنه » مفتوحة بـ « شهد » .

قال أبو جعفر: وكان بعض البصريين يتأول قوله: « شهد الله » ، قضى الله، ويرفع « الملائكة » ، بمعنى: والملائكة شهود وأولو العلم.

وهكذا قرأت قرأة أهل الإسلام بفتح الألف من « أنه » ، على ما ذكرت من إعمال « شهد » في « أنه » الأولى، وكسر الألف من « إن » الثانية وابتدائها. سوى أنّ بعض المتأخرين من أهل العربية، كان يقرأ ذلك جميعًا بفتح ألفيهما، بمعنى: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأنّ الدين عند الله الإسلام - فعطف بـ « أن الدين » على « أنه » الأولى، ثم حذف « واو » العطف، وهى مرادة في الكلام. واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) الآية. ثم قال: إِنَّ الدِّينَ ، بكسر « إنّ » الأولى، وفتح « أنّ » الثانية بإعمال « شهد » فيها، وجعل « أن » الأولى اعتراضًا في الكلام غير عامل فيها « شَهد » وأن ابن مسعود قرأ: « شهد الله أنه لا إله إلا هو » بفتح « أن » وكسر « إنّ » من: « إنّ الدّين عند الله الإسلام » على معنى إعمال « الشهادة » في « أن » الأولى، و « أن » الثانية مبتدأة. فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح، جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود. فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت، جميعَ قرأة أهل الإسلام المتقدّمين منهم والمتأخرين، بدعوى تأويلٍ على ابن عباس وابن مسعود، زعم أنهما قالاه وقرآ به. وغيرُ معلوم ما ادّعى عليهما برواية صحيحة ولا سقيمة. وكفى شاهدًا على خطأ قراءته، خروجها من قراءة أهل الإسلام.

قال أبو جعفر: فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك - فتحُ الألف من « أنه » الأولى، وكسر الألف من « إنّ » الثانية، أعني من قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ، ابتداءً.

وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدالّ على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية، في فتح « أنّ » من قوله: « أنّ الدين » ، وهو ما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة » إلى « لا إله إلا هو العزيز الحكيم » ، قال: الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس: أنّ الدين عند الله الإسلام.

فهذا التأويل يدل على أن « الشهادة » إنما هي عاملة في « أنّ » الثانية التي في قوله: « أن الدين عند الله الإسلام » . فعلى هذا التأويل جائز في « أن » الأولى وجهان من التأويل:

أحدهما: أن تكون الأولى منصوبةً على وجه الشرط، بمعنى: شهد الله بأنه واحد فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم « والشهادة » عاملة في « أن » الثانية، كأنك قلت: شهد الله أن الدّين عند الله الإسلام، لإنه واحدٌ، ثم تقدم « لأنه واحد » ، فتفتحها على ذلك التأويل.

والوجه الثاني: أن تكون « إنّ » الأولى مكسورة بمعنى الابتداء، لأنها معترضٌ بها، « والشهادة » واقعة على « أنّ » الثانية: فيكون معنى الكلام: شهد الله فإنه لا إله إلا هو - والملائكة، أنّ الدين عند الله الإسلام، كقول القائل: « أشهد - فإني محقٌ - أنك مما تعاب به برئ » ، فـ « إن » الأولى مكسورة، لأنها معترضة، « والشهادة » واقعة على « أنّ » الثانية.

قال أبو جعفر: وأما قوله: « قائمًا بالقسط » ، فإنه بمعنى: أنه الذي يلي العدل بين خلقه.

« والقسط » ، هو العدل، من قولهم: « هو مقسط » و « قد أقسط » ، إذا عَدَل.

ونصب « قائمًا » على القطع.

وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من « هو » التي في « لا إله إلا هو » .

وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حالٌ من اسم « الله » الذي مع قوله: « شهد الله » ، فكان معناه: شهد الله القائمُ بالقسط أنه لا إله إلا هو. وقد ذُكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك: ( وَأُولُو الْعِلْمِ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ ) ، ثم حذفت « الألف واللام » من « القائم » ، فصار نكرة وهو نعت لمعرفة، فنصب.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي، قولُ من جعله قَطعًا، على أنه من نعت الله جل ثناؤه، لأن « الملائكة وأولي العلم » ، معطوفون عليه. فكذلك الصحيح أن يكون قوله: « قائمًا » حالا منه.

وأما تأويل قوله: « لا إله إلا هو العزيز الحكيم » ، فإنه نفى أن يكون شيء يستحقّ العُبودَة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه.

ويعني ب « العزيز » ، الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا ينتصر منه أحد عاقبه أو انتقم منه « الحكيم » في تدبيره، فلا يدخله خَلل.

قال أبو جعفر: وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الآية نَفْيَ ما أضافت النصارَى الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من البنوّة، وما نسب إليه سائرُ أهل الشرك من أنّ له شريكًا، واتخاذهم دونه أربابًا. فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالقُ كلّ ما سواه، وأنه ربّ كلِّ ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربًّا دونه، وأنّ ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهلُ العلم به من خلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه، تعظيمًا لنفسه، وتنـزيهًا لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به - ما نسبوا إليها، كما سنّ لعباده أن يبدءوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدِّبًا خلقه بذلك.

والمرادُ من الكلام، الخبرُ عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدّسوه: من ملائكته وعلماء عباده. فأعلمهم أن ملائكته - التي يعظِّمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدُها الكثير منهم - وأهلَ العلم منهم، منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم وقولهم في عيسى، وقولَ من اتخذ ربًّا غيره من سائر الخلق، فقال: شهدت الملائكة وأولُو العلم أنه لا إله إلا هو، وأن كل من اتخذ ربًّا دون الله فهو كاذبٌ احتجاجًا منه لنبيه عليه السلام على الذين حاجُّوه من وفد نجران في عيسى.

واعترض بذكر الله وصفته، على ما بيَّنتُ، كما قال جل ثناؤه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [ سورة الأنفال: 41 ] ، افتتاحًا باسمه الكلام، فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادةَ بما وصفناه: من نَفْي الألوهة عن غيره، وتكذيب أهل الشرك به.

فأما ما قال الذي وصفنا قوله: من أنه عنى بقوله: « شهد » ، قضى - فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم، لأن « الشهادة » ، معنًى، « والقضاء » غيرها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن بعض المتقدمين القول في ذلك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم » ، بخلاف ما قالوا - يعني: بخلاف ما قال وفدُ نجران من النصارى « قائمًا بالقسط » ، أي بالعدل.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « بالقسط » ، بالعدل.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ

قال أبو جعفر: ومعنى « الدين » ، في هذا الموضع: الطاعة والذّلة، من قول الشاعر:

وَيَــوْمُ الحَــزْنِ إِذْ حُشِـدَتْ مَعَـدٌّ وَكَــانَ النَّــاسُ, إِلا نَحْــنُ دِينَـا

يعني بذلك: مطيعين على وجه الذل، ومنه قول القطامي:

كانَتْ نَوَارُ تَدِينُك الأدْيانا

يعني: تُذلك، وقول الأعشى ميمون بن قيس:

هُـوَ دَانَ الـرِّبَابَ إذْ كَـرِهُـوا الـدِّ ينَ دِرَاكًـا بِغَـــزْوَةٍ وَصِيَــالِ

يعني بقوله: « دان » ذلل وبقوله: « كرهوا الدين » ، الطاعة.

وكذلك « الإسلام » ، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع، والفعل منه: « أسلم » بمعنى: دخل في السلم، كما يقال: « أقحط القوم » ، إذا دخلوا في القحط،

« وأربعوا » ، إذا دخلوا في الربيع فكذلك « أسلموا » ، إذا دخلوا في السلم، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة.

فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله: « إنّ الدّين عند الله الإسلام » : إنَّ الطاعةَ التي هي الطاعة عنده، الطاعةُ له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذّلة، وانقيادُها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذلُّلها له بذلك، من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إنّ الدين عندَ الله الإسلام » ، والإسلام: شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثنا أبو العالية في قوله: « إن الدين عند الله الإسلام » ، قال: « الإسلام » ، الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزكاة، وسائرُ الفرائض لهذا تَبعٌ.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: أَسْلَمْنَا [ سورة الحجرات: 14 ] ، قال: دخلنا في السِّلم، وتركنا الحرب.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « إنّ الدين عند الله الإسلام » ، أي: ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ، والتصديق للرسل.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل - وهو « الكتاب » الذي ذكره الله في هذه الآية - في أمر عيسى، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم، وتشتّتت بها كلمتهم، وباين بها بعضهم بعضًا؛ حتى استحلّ بها بعضُهم دماءَ بعض « إلا من بعد ما جَاءهم العلم بغيًا بينهم » ، يعني: إلا من بعد ما علموا الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمره، وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفِرْية مبطلون. فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل، وقالوا من القول الذي هو كفر بالله، على علم منهم بخطأ ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلا منهم بخطئه، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلافَ الذي هم عليه، تعدِّيًا من بعضهم على بعض، وطلبَ الرياسات والملك والسلطان، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم » ، قال: قال أبو العالية، إلا من بعد ما جاءهم الكتابُ والعلم « بغيًا بينهم » ، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا، من بعد ما كانوا علماءَ الناس.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية: « إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم » ، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها. مِنْ قِبَلها والله أتِينا! ما كان علينا مَنْ يكون علينا، بعد أن يأخذ فينا كتابَ الله وسنة نبيه، ولكنا أتِينا من قبلها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: إن موسى لما حضره الموتُ دعا سبعين حَبرا من أحبار بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليه، كلّ حبر جُزءًا منه، واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث، وقعت الفرقة بينهم - وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى أهَرقوا بينهم الدماء، ووقع الشرّ والاختلاف. وكان ذلك كله من قبل الذين أتوا العلم، بغيًا بينهم على الدنيا، طلبًا لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها، فسلَّط الله عليهم جبابرتهم، فقال الله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ إلى قوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ .

فقولُ الربيع بن أنس هَذا، يدلّ على أنه كان عنده أنه معنيٌّ بقوله: « وما اختلف الذين أوتوا الكتاب » ، اليهودُ من بني إسرائيل، دون النَّصارى منهم، وغيرهم.

وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعنىّ به النصارى الذين أوتوا الإنجيل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم » ، الذي جاءك، أي أنّ اللهَ الواحدُ الذي ليس له شريك « بغيًا بينهم » ، يعني بذلك النصارى.

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 19 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك: ومن يجحدُ حجج الله وأعلامه التي نصَبها ذكرَى لمن عقل، وأدلةً لمن اعتبر وتذكر، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فمجازيه بها في الآخرة، فإنه جل ثناؤه « سريع الحساب » ، يعني: سريع الإحصاء. وإنما معنى ذلك أنه حافظ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفِّهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم، بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيرُه من الحساب.

وبنحو الذي قلنا في معنى « سريع الحساب » ، كان مجاهد يقول:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب » ، قال: إحصاؤه عليهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب » ، إحصاؤه.

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن حاجَّك: يا محمد، النفرُ من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه، فخاصموك فيه بالباطل، فقل: انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي. وإنما خَصّ جل ذكره بأمره بأن يقول: « أسلمت وجهي لله » ، لأن الوجه أكرمُ جوارح ابن آدم عليه، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه.

وأما قوله: « ومن اتبعني » ، فإنه يعني: وأسلم من اتبعني أيضًا وجهه لله معي. و « من » معطوف بها على « التاء » في « أسلمت » ، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « فإن حاجُّوك » أي: بما يأتونك به من الباطل، من قولهم: « خَلقنا، وفعلنا، وجعلنا، وأمرنا » ، فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحق « فقل أسلمت وَجهي لله ومن اتبعني » .

 

القول في تأويل قوله : وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « وقل » ، يا محمد، للذين أوتوا الكتاب « من اليهود والنصارى » والأميين « الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب » أأسلمتم « ، يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه » فإن أسلموا « ، يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له » فقد اهتدوا « ، يعني: فقد أصابوا سبيل الحق، وسلكوا مَحَجَّة الرشد. »

فإن قال قائل: وكيف قيل: « فإن أسلموا فقد اهتدوا » عقيب الاستفهام؟ وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل: « هل تقوم؟ فإن تقم أكرمك » ؟

قيل: ذلك جائز، إذا كان الكلام مرادًا به الأمر، وإن خرج مخرج الاستفهام، كما قال جل ثناؤه: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ سورة المائدة: 91 ] ، يعني: انتهوا، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [ سورة المائدة: 112 ] ، وإنما هو مسألة، كما يقول الرجل: « هل أنت كافٌّ عنا » ؟ بمعنى: اكفف عنا، وكما يقول الرجل للرجل: « أينَ، أين » ؟ بمعنى: أقم فلا تبرح، ولذلك جُوزي في الاستفهام كما جوزي في الأمر في قراءة عبد الله: ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ آمِنُوا ) [ سورة الصف: 10، 11 ] ، ففسرها بالأمر، وهي في قراءتنا على الخبر. فالمجازاة في قراءتنا على قوله: « هل أدلكم » ، وفي قراءة عبد الله على قوله: « آمنوا » ، على الأمر، لأنه هو التفسير.

وبنحو معنى ما قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين » ، الذين لا كتاب لهم « أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا » الآية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين » ، قال: الأميون الذين لا يكتبون.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 20 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وإن تولوا » ، وإن أدبروا مُعرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، فإنما أنت رسولٌ مبلِّغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلَّفتك من طاعتي « والله بصيرٌ بالعباد » ، يعني بذلك: والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه فيطيعك بالإسلام، وبمن يتولَّى منهم عنه معرضًا فيردّ عليك ما أرسلتك به إليه، فيعصيك بإبائه الإسلامَ.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « إن الذين يكفرون بآيات الله » ، أي: يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذبون بها، من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، كما:-

حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم جمع أهل الكتابين جميعًا، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا، من اليهود والنصارى فقال: « إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حقّ » إلى قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ .

وأما قوله: « ويقتلون النبيين بغير حقّ » ، فإنه يعني بذلك - أنهم كانوا يقتلون رُسل الله الذين كانوا يُرسَلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها، نحو زكريا وابنه يحيى، وما أشبههما من أنبياء الله.

 

القول في تأويل قوله : وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرأة الأمصار: ( وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ ) ، بمعنى القتل.

وقرأه بعض المتأخرين من قرأة الكوفة: ( وَيُقَاتِلُونَ ) ، بمعنى القتال، تأوّلا منه قراءةَ عبد الله بن مسعود، وادعى أن ذلك في مصحف عبد الله: ( وَقَاتَلُوا ) ، فقرأ الذي وصفنا أمرَه من القراءة بذلك التأويل: ( وَيُقَاتِلُونَ ) .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه: « ويقتلون » ، لإجماع الحجة من القرأة عليه به، مع مجيء التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن معقل بن أبي مسكين في قول الله: « ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس » ، قال: كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكِّرون [ قومهم ] - ولم يكن يأتيهم كتاب - فيقتلون، فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم، فيذكِّرون قومهم فيقتلون، فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله: « ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس » ، قال: هؤلاء أهل الكتاب، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكِّرونهم، فيقتلونهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: « إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس » ، قال: كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب، كان الوحي يأتي إليهم فيذكِّرون قومهم فيقتلون على ذلك، فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس.

حدثني أبو عبيد الرصّابي محمد بن حفص قال، حدثنا ابن حِمْير قال، حدثنا أبو الحسن مولى بني أسد، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله، أىّ الناس أشدّ عذابًا يوم القيامة؟ قال: « رجل قتل نبيًّا، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: » إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس « إلى أن انتهى إلى » وما لهم من ناصرين « ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا من أول النهار في ساعة واحدة! فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عُبَّاد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعًا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهم الذين ذكر الله عز وجل. »

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: إنّ الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه، الذين يَنهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب

 

القول في تأويل قوله : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 21 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 22 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) فأخبرهم يا محمد وأعلمهم: أنّ لهم عند الله عذابًا مؤلمًا لهم، وهو الموجع.

وأما قوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ، فإنه يعني بقوله: « أولئك » ، الذين يكفرون بآيات الله. ومعنى ذلك: أنّ الذين ذكرناهم، هم « الذين حبطت أعمالهم » ، يعني: بطلت أعمالهم « في الدنيا والآخرة » . فأما في الدنيا، فلم ينالوا بها محمدةً ولا ثناء من الناس، لأنهم كانوا على ضلال وباطل، ولم يرفع الله لهم بها ذكرًا، بل لعنهم وهتك أستارهم، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنـزلها عليهم، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمَّةً، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما في الآخرة، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بُورًا لا ثوابَ لها، لأنها كانت كفرًا بالله، فجزاءُ أهلها الخلودُ في الجحيم.

وأما قوله: « وما لهم من ناصرين » ، فإنه يعني: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله، إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه، فيستنقذُهم منه.