القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى ( 27 ) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ( 28 ) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 29 )

يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يصدّقون بالبعث في الدار الآخرة, وذلك يوم القيامة ليسمون ملائكة الله تسمية الإناث, وذلك أنهم كانوا يقولون: هم بنات الله.

وبنحو الذي قلنا في قوله ( تَسْمِيَةَ الأنْثَى ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( تَسْمِيَةَ الأنْثَى ) قال: الإناث.

وقوله ( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) يقول تعالى: وما لهم يقولون من تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى من حقيقة علم ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ ) يقول: ما يتبعون في ذلك إلا الظنّ, يعني أنهم إنما يقولون ذلك ظنا بغير علم.

وقوله ( وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) يقول: وإن الظنّ لا ينفع من الحق شيئا فيقوم مقامه وقوله ( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فدع من أدبر يا محمد عن ذكر الله ولم يؤمن به فيوحده.

وقوله ( وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) يقول: ولم يطلب ما عند الله في الدار الآخرة, ولكنه طلب زينة الحياة الدنيا, والتمس البقاء فيها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( 30 )

يقول تعالى ذكره: هذا الذي يقوله هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة في الملائكة من تسميتهم إياها تسمية الأنثى ( مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) يقول: ليس لهم علم إلا هذا الكفر بالله, والشرك به على وجه الظنّ بغير يقين علم.

وكان ابن زيد يقول في ذلك, ما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قال: يقول ليس لهم علم إلا الذي هم فيه من الكفر برسول الله, ومكايدتهم لما جاء من عند الله, قال: وهؤلاء أهل الشرك.

وقوله ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد هو أعلم بمن جار عن طريقه فى سابق علمه, فلا يؤمن, وذلك الطريق هو الإسلام ( وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ) يقول: وربك أعلم بمن أصاب طريقه فسلكه في سياق علمه, وذلك الطريق أيضا الإسلام.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ( 31 ) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ

يقول تعالى ذكره ( وَلِلَّهِ ) مُلك ( مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) من شيء. وهو يضلّ من يشاء, وهو أعلم بهم ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا ) يقول: ليجزي الذين عصوه من خلقه, فأساءوا بمعصيتهم إياه, فيثيبهم بها النار ( وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) يقول: وليجزي الذين أطاعوه فأحسنوا بطاعتهم إياه في الدنيا بالحسنى وهي الجنة, فيثيبهم بها.

وقيل: عُنِي بذلك أهل الشرك والإيمان.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عبد الله بن عياش, قال: قال زيد بن أسلم في قول الله ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا ) المؤمنون.

وقوله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ ) يقول: الذين يبتعدون عن كبائر الإثم التي نهى الله عنها وحرمها عليهم فلا يقربونها, وذلك الشرك بالله, وما قد بيَّناه في قوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ .

وقوله ( وَالْفَوَاحِشَ ) وهي الزنا وما أشبهه, مما أوجب الله فيه حدّا.

وقوله ( إِلا اللَّمَمَ ) اختلف أهل التأويل في معنى « إلا » في هذا الموضع, فقال بعضهم: هي بمعنى الاستثناء المنقطع, وقالوا: معنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش, إلا اللمم الذي ألمُّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام, فإن الله قد عفا لهم عنه, فلا يؤاخذهم به.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) يقول: إلا ما قد سلف.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال: المشركون إنما كانوا بالأمس يعملون معناه, فأنـزل الله عزّ وجلّ ( إِلا اللَّمَمَ ) ما كان منهم في الجاهلية. قال: واللمم: الذي ألموا به من تلك الكبائر والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام, وغفرها لهم حين أسلموا.

حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن علية, عن ابن عياش, عن ابن عون, عن محمد, قال: سأل رجل زيد بن ثابت, عن هذه الآية ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) فقال: حرم الله عليك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عبد الله بن عياش قال: قال زيد بن أسلم في قول الله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال: كبائر الشرك والفواحش: الزنى, تركوا ذلك حين دخلوا في الإسلام, فغفر الله لهم ما كانوا ألموا به وأصابوا من ذلك قبل الإسلام.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب ممن يوجه تأويل « إلا » في هذا الموضع إلى هذا الوجه الذي ذكرته عن ابن عباس يقول في تأويل ذلك: لم يؤذن لهم في اللمم, وليس هو من الفواحش, ولا من كبائر الإثم, وقد يُستثنى الشيء من الشيء, وليس منه على ضمير قد كفّ عنه فمجازه, إلا أن يلمَّ بشيء ليس من الفواحش ولا من الكبائر, قال: الشاعر:

وَبَلْـــــدَةٍ ليْسَ بِهـــــا أَنِيسُ إلا اليَعـــــــــافيرُ وإلا الْعِيسُ

واليعافير: الظباء, والعيس: الإبل وليسا من الناس, فكأنه قال: ليس به أنيس, غير أن به ظباء وإبلا. وقال بعضهم: اليعفور من الظباء الأحمر, والأعيس: الأبيض.

وقال بنحو هذا القول جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: ثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الأعمش, عن أبي الضحى, أن ابن مسعود قال: زنى العينين: النظر, وزنى الشفتين: التقبيل, وزنى اليدين: البطش, وزنى الرجلين: المشي, ويصدّق ذلك الفرْج أو يكذّبه, فإن تقدّم بفرجه كان زانيا, وإلا فهو اللمم.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, قال: وأخبرنا ابن طاوس, عن أبيه, عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنى أَدْرَكَهُ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَى الْعَيْنَينِ النَّظَرُ، وَزِنَى اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ » .

حدثني أبو السائب, قال: ثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق في قوله ( إِلا اللَّمَمَ ) قال: إن تقدم كان زنى, وإن تأخر كان لَمَمًا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, قال: ثنا منصور بن عبد الرحمن, قال: سألت الشعبيّ, عن قول الله ( يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال: هو ما دون الزنى, ثم ذكر لنا عن ابن مسعود, قال: « زنى العينين: ما نظرت إليه, وزنى اليد: ما لمستْ, وزنى الرجل: ما مشتْ والتحقيق بالفرج. »

حدثني محمد بن معمر, قال: ثنا يعقوب, قال: ثنا وهيب, قال: ثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم بن عمرو القاريّ, قال: ثني عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لُبابة الطائفيّ, قال: سألت أبا هُريرة عن قول الله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال: القُبلة, والغمزة, والنظْرة والمباشرة, إذا مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل, وهو الزنى.

وقال آخرون: بل ذلك استثناء صحيح, ومعنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إلا أن يلمّ بها ثم يتوب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني سليمان بن عبد الجبار, قال: ثنا أبو عاصم, قال: أخبرنا زكريا بن إسحاق, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال: هو الرجل يلمّ بالفاحشة ثم يتوب; قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إِنْ تَغْفِــرْ اللَّهُــمَّ تَغْفِــرْ جَمَّــا وَأَيُّ عَبْــــدٍ لَـــكَ لا أَلَمَّـــا

حدثني ابن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال ثنا شعبة, عن منصور, عن مجاهد, أنه قال في هذه الآية ( إِلا اللَّمَمَ ) قال: الذي يلم بالذنب ثم يدعه, وقال الشاعر:

إِنْ تَغْفِــرْ اللَّهُــمَّ تَغْفِــرْ جَمَّــا وَأَيُّ عَبْــــدٍ لَـــكَ لا أَلَمَّـــا

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: ثنا يونس, عن الحسن, عن أبي هُريرة, أراه رفعه: ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال: اللَّمة من الزنى, ثم يتوب ولا يعود, واللَّمة من السرقة, ثم يتوب ولا يعود; واللَّمة من شرب الخمر, ثم يتوب ولا يعود, قال: فتلك الإلمام.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا ابن أبي عديّ, عن عوف, عن الحسن, في قول الله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال: اللَّمة من الزنى أو السرقة, أو شرب الخمر, ثم لا يعود.

حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن أبي عديّ عن عوف, عن الحسن, في قول الله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال: اللمة من الزنى, أو السرقة, أو شرب الخمر ثم لا يعود.

حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال: قد كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولون: هذا الرجل يصيب اللمة من الزنا, واللَّمة من شرب الخمر, فيخفيها فيتوب منها.

حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس ( إِلا اللَّمَمَ ) يلمّ بها فى الحين, قلت الزنى, قال: الزنى ثم يتوب.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, قال: قال معمر: كان الحسن يقول في اللَّمم: تكون اللَّمة من الرجل: الفاحشة ثم يتوب.

حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن إسماعيل, عن أبي صالح, قال: الزنى ثم يتوب.

قال: ثنا مهران, عن أبي جعفر, عن قتادة, عن الحسن ( إِلا اللَّمَمَ ) قال: أن يقع الوقعة ثم ينتهي.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عطاء, عن ابن عباس قال: اللَّمم: الذي تُلِمُّ المرَّةَ.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قال: أخبرني يحيى بن أيوب, عن المثنى بن الصباح, عن عمرو بن شعيب, أن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: اللمم: ما دون الشرك.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو عامر, قال: ثنا مرّة, عن عبد الله بن القاسم, في قوله ( إِلا اللَّمَمَ ) قال: اللَّمة يلم بها من الذنوب.

حدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, في قوله ( إِلا اللَّمَمَ ) قال: الرجل يلمّ بالذنب ثم ينـزع عنه. قال: وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون:

إِنْ تَغْفِــرْ اللَّهُــمَّ تَغْفِــرْ جَمَّــا وَأَيُّ عَبْــــدٍ لَـــكَ لا أَلَمَّـــا

وقال آخرون ممن وجه معنى « إلا » إلى الاستثناء المنقطع: اللمم: هو دون حدّ الدنيا وحد الآخرة, قد تجاوز الله عنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن جابر, عن عطاء, عن ابن الزبير ( إِلا اللَّمَمَ ) قال: ما بين الحدّين, حدّ الدنيا, وعذاب الآخرة.

حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, عن شعبة, عن الحكم, عن ابن عباس أنه قال: اللمم: ما دون الحدّين: حدّ الدنيا والآخرة.

حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا ابن أبي عديّ, عن شعبة, عن الحكم وقتادة, عن ابن عباس بمثله, إلا أنه قال: حدّ الدنيا, وحدّ الآخرة.

حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن علية, قال: أخبرنا شعبة, عن الحكم بن عُتَيبة, قال: قال ابن عباس: اللمم ما دون الحدين, حد الدنيا وحد الآخرة.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال: كلّ شيء بين الحدّين, حدّ الدنيا وحدّ الآخرة تكفِّره الصلوات, وهو اللمم, وهو دون كل موجب; فأما حدّ الدنيا فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا; وأما حدّ الآخرة فكلّ شيء ختمه الله بالنار, وأخَّر عقوبته إلى الآخرة.

حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا يحيى, قال: ثنا الحسين, عن يزيد, عن عكرمة, في قوله: ( إِلا اللَّمَمَ ) يقول: ما بين الحدين, كل ذنب ليس فيه حدّ في الدنيا ولا عذاب في الآخرة, فهو اللمم.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) واللمم: ما كان بين الحدّين لم يبلغ حدّ الدنيا ولا حدّ الآخرة موجبة, قد أوجب الله لأهلها النار, أو فاحشة يقام عليه الحدّ في الدنيا.

وحدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن أبي جعفر, عن قتادة, قال: قال بعضهم: اللمم: ما بين الحدّين: حدّ الدنيا, وحدّ الآخرة.

حدثنا أبو كُريب ويعقوب, قالا ثنا إسماعيل بن إبراهيم, قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة عن ابن عباس, قال: اللمم: ما بين الحدّين: حدّ الدنيا, وحدّ الآخرة.

حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, قال: قال الضحاك ( إِلا اللَّمَمَ ) قال: كلّ شيء بين حدّ الدنيا والآخرة فهو اللمم يغفره الله.

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال « إلا » بمعنى الاستثناء المنقطع, ووجّه معنى الكلام إلى ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) بما دون كبائر الإثم, ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا, والعذاب في الآخرة, فإن ذلك معفوّ لهم عنه, وذلك عندي نظير قوله جلّ ثناؤه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا فوعد جلّ ثناؤه باجتناب الكبائر, العفو عما دونها من السيئات, وهو اللمم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: « الْعَينانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجلانِ تَزْنِيَانِ، وَيُصَدّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ » ، وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج, وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه, والله جلّ ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه, كما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم واللمم في كلام العرب: المقاربة للشيء, ذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: ضربه ما لمم القتل يريدون ضربا مقاربا للقتل. قال: وسمعت من آخر: ألمّ يفعل في معنى: كاد يفعل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( 32 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ( إِنَّ رَبَّكَ ) يا محمد ( وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) : واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم. وإنما أعلم جلّ ثناؤه بقوله هذا عباده أنه يغفر اللمم بما وصفنا من الذنوب لمن اجتنب كبائر الإثم والفواحش.

كما حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) قد غفر ذلك لهم.

وقوله ( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره: ربكم أعلم بالمؤمن منكم من الكافر, والمحسن منكم من المسيء, والمطيع من العاصي, حين ابتدعكم من الأرض, فأحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها, وحين أنتم أجنة في بطون أمهاتكم, يقول: وحين أنتم حمل لم تولدوا منكم, وأنفسكم بعدما صرتم رجالا ونساء.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأول.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) قال: كنحو قوله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ .

وحدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فى قوله ( إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) قال: حين خلق آدم من الأرض ثم خلقكم من آدم, وقرأ ( وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ) .

وقد بيَّنا فيما مضى قبل معنى الجنين, ولِمَ قيل له جنين, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) يقول جل ثناؤه: فلا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي.

كما حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, قال: سمعت زيد بن أسلم يقول ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) يقول: فلا تبرئوها.

وقوله ( هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) يقول جلّ ثناؤه: ربك يا محمد أعلم بمن خاف عقوبة الله فاجتنب معاصيه من عباده.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ( 33 ) وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ( 34 ) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ( 35 ) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ( 36 ) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ( 37 ) أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( 38 ) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ( 39 )

يقول تعالى ذكره: أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان بالله, وأعرض عنه وعن دينه, وأعطى صاحبه قليلا من ماله, ثم منعه فلم يعطه, فبخل عليه.

وذُكر أن هذه الآية نـزلت في الوليد بن المغيرة من أجل أنه عاتبه بعض المشركين, وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه, فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله, ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الآخرة, ففعل, فأعطى الذي عاتبه على ذلك بعض ما كان ضمن له, ثم بخل عليه ومنعه تمام ما ضمن له.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( وَأَكْدَى ) قال الوليد بن المغيرة: أعطى قليلا ثم أكدى.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ) ... إلى قوله ( فَهُوَ يَرَى ) قال: هذا رجل أسلم, فلقيه بعض من يُعَيِّره فقال: أتركت دين الأشياخ وضَلَّلتهم, وزعمت أنهم في النار, كان ينبغي لك أن تنصرهم, فكيف يفعل بآبائك, فقال: إني خشيت عذاب الله, فقال: أعطني شيئا, وأنا أحمل كلّ عذاب كان عليك عنك, فأعطاه شيئا, فقال زدني, فتعاسر حتى أعطاه شيئا, وكتب له كتابا, وأشهد له, فذلك قول الله ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ) عاسره ( أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ) نـزلت فيه هذه الآية.

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله ( أَكْدَى ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن أبي سنان الشيباني, عن ثابت, عن الضحاك, عن ابن عباس ( أَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ) قال: أعطى قليلا ثم انقطع.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ) يقول: أعطى قليلا ثم انقطع.

حدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد ( وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ) قال: انقطع فلا يُعْطِي شيئا, ألم تر إلى البئر يقال لها أكدت.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( وَأَكْدَى ) : انقطع عطاؤه.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن ابن طاوس وقتادة, في قوله: ( وَأَكْدَى ) قال: أعطى قليلا ثم قطع ذلك.

قال: ثنا ابن ثور, قال: ثنا معمر, عن عكرمة مثل ذلك.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَأَكْدَى ) أي بخل وانقطع عطاؤه.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَأَكْدَى ) يقول: انقطع عطاؤه.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَأَكْدَى ) عاسره, والعرب تقول: حفر فلان فأكدى, وذلك إذا بلغ الكدية, وهو أن يحفر الرجل في السهل, ثم يستقبله جبل فيُكْدِي, يقال: قد أكدى كداء, وكديت أظفاره وأصابعه كديا شديدا, منقوص: إذا غلظت, وكديت أصابعه: إذا كلت فلم تعمل شيئا, وكدا النبت إذا قلّ ريعه يهمز ولا يهمز. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: اشتق قوله: أكدى, من كُدْية الركِيَّة, وهو أن يحفِر حتى ييأس من الماء, فيُقال حينئذ بلغنا كُدْيتها.

وقوله ( أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ) يقول تعالى ذكره: أعند هذا الذي ضمن له صاحبه أن يتحمل عنه عذاب الله في الآخرة علم الغيب, فهو يرى حقيقة قوله, ووفائه بما وعده.

وقوله ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ) يقول تعالى ذكره: أم لم يُخَبَّرْ هذا المضمون له, أن يتحمل عنه عذاب الله في الآخرة, بالذي في صحف موسى بن عمران عليه السلام .

وقوله ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) يقول: وإبراهيم الذي وفى من أرسل إليه ما أرسل به.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذي وفى, فقال بعضهم: وفاؤه بما عهد إليه ربه من تبليغ رسالاته, وهو ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن عطاء, عن عكرمة, عن ابن عباس ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الوليّ بالوليّ, حتى كان إبراهيم, فبلغ ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) لا يؤاخذ أحد بذنب غيره.

حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن عكرمة ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قالوا: بلغ هذه الآيات ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال: وفّى طاعة الله, وبلَّغ رسالات ربه إلى خلقه.

وكان عكرمة يقول: وفَّى هؤلاء الآيات العشر ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ... حتى بلغ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى .

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) وفَّى طاعة الله ورسالاته إلى خلقه.

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: ثنا أبو بكير, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير, في قوله ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال: بلَّغ ما أمر به.

حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال: بلَّغ.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال: وفى: بلغ رسالات ربه, بلَّغ ما أُرسل به, كما يبلغ الرجل ما أُرسل به.

وقال آخرون: بل وفَّى بما رأى في المنام من ذبح ابنه, وقالوا قوله ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) من المؤخر الذي معناه التقديم; وقالوا: معنى الكلام: أم لم ينبأ بما في صحف موسى ألا تزر وازرة وزر أخرى, وبما في صحف إبراهيم الذي وفى.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس في قوله ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) يقول: إبراهيم الذي استكمل الطاعة فيما فعل بابنه حين رأى الرؤيا, والذي في صحف موسى ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ... إلى آخر الآية.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني ابن لهيعة, عن أبي صخر, عن القُرَظَيّ, وسُئل عن هذه الآية ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال: وفى بذبح ابنه.

وقال آخرون بل معنى ذلك: أنه وفى ربه جميع شرائع الإسلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبَويه, قال: ثنا عليّ بن الحسن, قال: ثنا خارجة بن مُصْعبٍ, عن داود بن أبي هند, عن عكرمة عن ابن عباس قال: الإسلام ثلاثون سهما. وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم, قال الله ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) فكتب الله له براءة من النار.

حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) ما فُرِض عليه.

وقال آخرون: وفى بما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا رشدين بن سعد, قال: ثني زيان بن فائد, عن سهل بن معاذ, عن أنس, عن أبيه, قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: « »

أَلا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى؟ لأنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ « . »

وقال آخرون: بل وفى ربه عمل يومه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا الحسن بن عطية, قال: ثنا إسرائيل, عن جعفر بن الزبير عن القاسم, عن أبي أُمامة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال: « أتدرون ما وَفَّى » ؟ قالوا الله ورسوله أعلم, قال: وفَّى عَمَل يَوْمِهِ أرْبَعَ رَكعَات في النَّهارِ « . »

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: وفى جميع شرائع الإسلام وجميع ما أُمر به من الطاعة, لأن الله تعالى ذكره أخبر عنه أنه وفى فعم بالخبر عن توفيته جميع الطاعة, ولم يخصص بعضا دون بعض.

فإن قال قائل : فإنه خصّ ذلك بقوله وفي ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) فإن ذلك مما أخبر الله جل ثناؤه أنه في صحف موسى وإبراهيم, لا مما خصّ به الخبر عن أنه وفى. وأما التوفية فإنها على العموم, ولو صحّ الخبران اللذان ذكرناهما أو أحدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم نَعْدُ القول به إلى غيره ولكن في إسنادهما نظر يجب التثبت فيهما من أجله.

وقوله ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) فإن من قوله ( أَلا تَزِرُ ) على التأويل الذي تأوّلناه في موضع خفض ردّا على « ما » التي في قوله ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ) يعني بقوله ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) غيرها, بل كل آثمة فإنما إثمها عليها.

وقد بيَّنا تأويل ذلك باختلاف أهل العلم فيه فيما مضى قبل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبيد المحاربيّ , قال: ثنا أبو مالك الجَنْبي, قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي مالك الغفاريّ في قوله ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) إلى قوله مِنَ النُّذُرِ الأُولَى قال: هذا في صحف إبراهيم وموسى.

وإنما عُني بقوله ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) الذي ضَمِن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة, يقول: ألم يُخْبَرْ قائل هذا القول, وضامن هذا الضمان بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب: أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) يقول جلّ ثناؤه: أوَ لم يُنَبأ أنه لا يُجَازي عامل إلا بعمله, خيرا كان ذلك أو شرّا.

كما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) , وقرأ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى قال: أعمالكم.

وذُكر عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية منسوخة.

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) قال: فأنـزل الله بعد هذا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فأدخل الأبناء بصلاح الآباء الجنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( 40 ) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى ( 41 ) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ( 42 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( 43 )

قوله جل ثناؤه ( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) يقول تعالى ذكره: وأن عمل كلّ عامل سوف يراه يوم القيامة, من ورد القيامة بالجزاء الذي يُجازى عليه, خيرا كان أو شرّا, لا يؤاخذ بعقوبة ذنب غير عامله, ولا يثاب على صالح عمله عامل غيره. وإنما عُنِي بذلك: الذي رجع عن إسلامه بضمان صاحبه له أن يتحمل عنه العذاب, أن ضمانه ذلك لا ينفعه, ولا يُغْنِي عنه يوم القيامة شيئا, لأن كلّ عامل فبعمله مأخوذ.

وقوله ( ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى ) يقول تعالى ذكره: ثم يُثاب بسعيه ذلك الثواب الأوفى. وإنما قال جل ثناؤه ( الأوْفَى ) لأنه أوفى ما وعد خلقه عليه من الجزاء, والهاء في قوله ( ثُمَّ يُجْزَاهُ ) من ذكر السعي, وعليه عادت.

وقوله ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وأن إلى ربك يا محمد انتهاء جميع خلقه ومرجعهم, وهو المجازي جميعهم بأعمالهم, صالحهم وطالحهم, ومحسنهم ومسيئهم.

وقوله ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ) يقول تعالى ذكره: وأن ربك هو أضحك أهل الجنة في الجنة بدخولهم إياها, وأبكى أهل النار في النار بدخولهموها, وأضحك من شاء من أهل الدنيا, وأبكى من أراد أن يبكيه منهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ( 44 )

يقول تعالى ذكره: وأنه هو أمات من مات من خلقه, وهو أحيا من حَيا منهم. وعنى بقوله ( أَحْيَا ) نفخ الروح في النطفة الميتة, فجعلها حية بتصييره الروح فيها.