القول في تأويل قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ( 23 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « ألم تر » ، يا محمد « إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب » ، يقول: الذين أعطوا حظًّا من الكتاب « يدْعون إلى كتاب الله » .

واختلف أهل التأويل في « الكتاب » الذي عنى الله بقوله: « يدعون إلى كتاب الله » .

فقال بعضهم: هو التوراة، دعاهم إلى الرضى بما فيها، إذ كانت الفِرَق المنتحِلةُ الكتبَ تقرُّ بها وبما فيها: أنها كانت أحكامَ الله قبل أن ينسخ منها ما نُسخ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المِدْرَاس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث ابن زيد: على أيّ دين أنت يا محمد؟ فقال: « على ملة إبراهيم ودينه. فقالا فإنّ إبراهيم كان يهوديًّا! فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمُّوا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم! فأبيا عليه، فأنـزل الله عز وجل: » ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يُدْعونَ إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يَتولى فريق منهم وهم معرضون « إلى قوله: مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . »

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيت المدراس فذكر نحوه، إلا أنه قال: فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمَّا إلى التوراة وقال أيضًا: فأنـزل الله فيهما: « ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب » وسائر الحديث مثل حديث أبي كريب.

وقال بعضهم: بل ذلك كتابُ الله الذي أنـزله على محمد، وإنما دُعِيت طائفةٌ منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحقّ، فأبتْ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون » ، أولئك أعداء الله اليهود، دُعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، وإلى نبيه ليحكم بينهم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، ثم تولوا عنه وهم معرضون.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة: « ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب » ، الآية قال: هم اليهود، دُعوا إلى كتاب الله وإلى نبيه، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، ثم يتولون وهم معرضون!

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم » ، قال: كان أهل الكتاب يُدْعون إلى كتاب ليحكم بينهم بالحق يكون، وفي الحدود. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، فيتولون عن ذلك.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود الذين كانوا بين ظَهراني مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده، ممن قد أوتي علمًا بالتوراة أنهم دُعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرّون أنه من عند الله - وهو التوراة - في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا تنازعوا فيه، ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه فامتنعوا من الإجابة إليه، كان أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وأمرَ نبوته ويجوز أن يكون ذلك كان أمرَ إبراهيم خليل الرّحمن ودينه ويجوز أن يكون ذلك ما دُعوا إليه من أمر الإسلام والإقرار به ويجوز أن يكون ذلك كان في حدّ. فَإن كل ذلك مما قد كانوا نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فيه إلى حكم التوراة، فأبى الإجابة فيه وكتمه بعضهم.

ولا دلالة في الآية على أيّ ذلك كان من أيٍّ، فيجوز أن يقال: هو هذا دون هذا. ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك، لأن المعنى الذي دُعوا إلى حكمه، هو مما كان فرضًا عليهم الإجابة إليه في دينهم، فامتنعوا منه، فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردّتهم، وتكذيبهم بما في كتابهم، وجحودهم ما قد أخذ عليهم عهودَهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به. فلن يعدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا وما جاء به من الحق، مثلهم في تكذيبهم موسى وما جاء به وهم يتولونه ويقرّون به.

ومعنى قوله: « ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون » ، ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه، معرضًا عنه منصرفًا، وهو بحقيقته وحجته عالم.

وإنما قلنا إن ذلك « الكتاب » هو التوراة، لأنهم كانوا بالقرآن مكذبين، وبالتوراة بزعمهم مصدّقين، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرُّون، أبلغَ، وللعذر أقطعَ.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 24 )

يعني جل ثناؤه بقوله: « بأنهم قالوا » ، بأنّ هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق فيما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أبوا الإجابة إلى حكم التوراة وما فيها من الحق: من أجل قولهم: « لن تمسنا النارُ إلا أيامًا معدودات » وهي أربعون يومًا، وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل ثم يخرجنا منها ربنا، اغترارًا منهم « بما كانوا يفترون » ، يعني: بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل، في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحِبّاؤه، وأن الله قد وعد أباهم يعقوبَ أن لا يُدْخل أحَدًا من ولده النار إلا تَحِلَّةَ القسم. فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل النار هم فيها خالدون، دون المؤمنين بالله ورُسله وما جاءوا به من عنده.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده: « ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات » ، قالوا: لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا قال الله عز وجل: « وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون » ، أي قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات » ، الآية، قال: قالوا: لن نعذب في النار إلا أربعين يومًا، قال: يعني اليهود قال: وقال قتادة مثله وقال: هي الأيام التي نَصَبوا فيها العجل. يقول الله عز وجل: « وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون » ، حين قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج، قال مجاهد قوله: « وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون » ، قال: غرّهم قولهم: « لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات » .

 

القول في تأويل قوله : فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 25 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فكيف إذا جمعناهم » ، فأيُّ حال يكون حالُ هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله، واغترارهم بربهم، وافترائهم الكذب؟ وذلك من الله عز وجل وعيدٌ لهم شديد، وتهديدٌ غليظٌ.

وإنما يعني بقوله: « فكيف إذا جمعناهم » الآية: فما أعظم ما يلقوْن من عقوبة الله وتنكيله بهم، إذا جمعهم ليوم يُوفَّى كلّ عامل جزاءَ عمله على قدر استحقاقه، غير مظلوم فيه، لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم، ولا يؤاخذُ إلا بما عمل، يُجزَي المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يخاف أحدٌ من خلقه منه يومئذ ظلمًا ولا هضمًا.

فإن قال قائل: وكيف قيل: « فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه » ، ولم يقل: في يوم لا رَيب فيه؟

قيل: لمخالفة معنى « اللام » في هذا الموضع معنى « في » . وذلك أنه لو كان مكان « اللام » « في » ، لكان معنى الكلام: فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة، ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب؟ وليس ذلك المعنى في دخول « اللام » ، ولكن معناه مع « اللام » : فكيف إذا جمعناهم لما يحدُث في يوم لا ريب فيه، ولما يكون في ذلك اليوم من فَصْل الله القضاءَ بين خلقه، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب؟ فمع « اللام » في « ليوم لا ريب فيه » نيَّة فِعْل، وخبرٌ مطلوب قد ترك ذكره، أجزأت دلالةُ دخول « اللام » في « اليوم » عليه، منه. وليس ذلك مع « في » ، فلذلك اختيرت « اللام » فأدخلت في « اليوم » ، دون « في » .

وأما تأويل قوله: « لا ريب فيه » ، فإنه: لا شك في مجيئه. وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.

وعنى بقوله: « ووُفِّيت » ، ووَفَّى الله « كلُّ نفس ما كسبت » ، يعني: ما عملت من خير وشر « وهم لا يظلمون » ، يعني أنه لا يبخس المحسن جزاءَ إحسانه، ولا يعاقب مسيئًا بغير جرمه.

 

القول في تأويل قوله : قُلِ اللَّهُمَّ

قال أبو جعفر: أما تأويل: « قل اللهم » ، فإنه: قل يا محمد: يا اللهُ.

واختلف أهل العربية في نصب « ميم » « اللهم » ، وهو منادًى، وحكم المنادى المفرد غير المضافِ الرفعُ وفي دخول « الميم » فيه، وهو في الأصل « الله » بغير « ميم » . فقال بعضهم: إنما زيدت فيه « الميمان » ، لأنه لا ينادى بـ « يا » كما ينادى الأسماء التي لا « ألف » فيها ولا « لام » . وذلك أن الأسماء التي لا « ألف » ولا « لام » فيها تنادى بـ « يا » كقول القائل: « يا زيد، ويا عمرو » . قال: فجعلت « الميم » فيه خلفًا من « يا » ، كما قالوا: « فم، وابنم، وهم، وزُرْقُم، وُسْتهُم » ، وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف، ثم يبدل مكانه « ميم » . قال: فكذلك حذفت من « اللهم » « يا » التي ينادى بها الأسماء التي على ما وصفنا، وجعلت « الميم » خلفًا منها في آخر الاسم.

وأنكر ذلك من قولهم آخرون، وقالوا: قد سمعنا العرب تنادي: « اللهم » بـ « يا » كما تناديه ولا « ميم » ، فيه. قالوا: فلو كان الذي قال هذا القولَ مصيبًا في دعواه، لم تدخل العربُ « يا » ، وقد جاءوا بالخلف منها. وأنشدوا في ذلك سماعًا من العرب:

وَمَــا عَلَيْــكِ أَنْ تَقُــولِي كُلَّمَــا صَلَّيْــتِ أَوْ كَــبَّرتِ يَــا أَللَّهُمَـا

ارْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا

ويُرْوَى: « سبَّحت أو كبَّرت » . قالوا: ولم نر العرب زَادت مثل هذه « الميم » إلا مخففة في نواقص الأسماء مثل: « الفم، وابنم، وهم » ، قالوا: ونحن نرى أنها كلمة ضُمّ إليها « أمَّ » ، بمعنى: « يا ألله أمَّنا بخير » ، فكثرت في الكلام فاختلطت به. قالوا: فالضمة التي في « الهاء » من همزة « أم » ، لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. قالوا: ونرى أن قول العرب: « هلم إلينا » ، مثلها. إنما كان « هلم » ، « هل » ضم إليها « أمّ » ، فتركت على نصبها. قالوا: من العرب من يقول إذا طرح « الميم » : « يا اللهُ اغفر لي » و « يا أللهُ اغفر لي » ، بهمز « الألف » من « الله » مرة، ووصلها أخرى، فمن حذفها أجراها على أصلها، لأنها « ألف ولام » ، مثل « الألف واللام » اللتين يدخلان في الأسماء المعارف زائدتين. ومن همزها توهم أنها من الحرف، إذ كانت لا تسقط منه، وأنشدوا في همز الألف منها:

مُبَـــارَكٌ هُــوَّ وَمَــنْ سَــمَّاهُ عَــلَى اسْــمِكَ اللُّهُــمَّ يَــا أَللـهُ

قالوا: وقد كثرت « اللهم » في الكلام، حتى خففت ميمها في بعض اللغات، وأنشدوا:

كَحَلْفَـــةٍ مِـــنْ أَبــى رِيَــاٍح يَسْــــمَعُهَا اللَّهُـــمُ الكُبَـــار

والرواة تنشد ذلك:

يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبَارُ

وقد أنشده بعضهم: يَسْمَعُهَا اللهُ واللهُ كُبَارُ

 

القول في تأويل قوله : مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْـزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ

قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا مالك الملك، يا منْ له مُلك الدنيا والآخرة خالصًا دون وغيره، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله: « قل اللهم مالك الملك » ، أي رَبَّ العباد الملكَ، لا يقضى فيهم غيرك.

وأما قوله: « تؤتي الملك ممن تشاء » ، فإنه يعني: تُعطى الملك من تَشاء، فتملكه وتسلِّطه على من تشاء.

وقوله: « وتنـزع الملك من تشاء » ، يعني: وتنـزع الملك ممن تشاء أن تنـزعه منه، فترك ذكر « أن تنـزعه منه » ، اكتفاءً بدلالة قوله: « وتنـزع الملك ممن تشاء » ، عليه، كما يقال: « خذ ما شئتَ وكنْ فيما شئت » ، يراد: خذ ما شئت أن تأخذه، وكن فيما شئت أن تكون فيه؛ وكما قال جل ثناؤه: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [ سورة الانفطار: 8 ] يعني: في أيّ صورة شاءَ أن يركبك فيها ركبك.

وقيل: إنّ هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابًا لمسألته ربَّه أن يجعل مُلك فارسَ والروم لأمته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وذكر لنا: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل له ملك فارسَ والروم في أمته، فأنـزل الله عز وجل: « قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء » إلى إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: ذُكر لنا والله أعلم: أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، ثم ذكر مثله.

وروي عن مجاهد أنه كان يقول: معنى « الملك » في هذا الموضع: النبوة.

ذكر الرواية عنه بذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « تؤتي الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء » ، قال: النبوّة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

 

القول في تأويل قوله : وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 26 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: « وتعز من تشاء » ، بإعطائه الملك والسلطان، وَبسط القدرة له « وتذلّ من تشاء » بسلبك ملكه، وتسليط عدوه عليه « بيدك الخير » ، أي: كل ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد، لأنك على كل شيء قديرٌ، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأمِّيين من العرب إلهًا وربًّا يعبدونه من دونك، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربًّا، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله: « تؤتي الملك من تشاء » ، الآية، أي: إنّ ذلك بيدك لا إلى غيرك « إنك على كل شيء قدير » ، أي: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وُقدْرَتك.

 

القول في تأويل قوله : تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « تولج » تُدْخل، يقال منه: « قد ولَج فلان منـزله » ، إذا دخله، « فهو يَلِجه وَلْجًا ووُلوجًا ولِجَةً » - و « أولجته أنا » ، إذا أدخلته.

ويعني بقوله: « تولج الليل في النهار » تدخل ما نقصتَ من ساعات الليل في ساعات النهار، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا « وتولج النهارَ في الليل » ، وتدخل ما نقصتَ من ساعات النهار في ساعات الليل، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار، كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « تولج الليلَ في النهار وتولج النهار في الليل » ، حتى يكون الليل خمسَ عشرةَ ساعة، والنهارُ تسعَ ساعاتٍ، وتدخل النهار في الليل حتى يكون النهار خمسَ عشرة ساعة، والليل تسع ساعات.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما نقص من النهار يجعله في الليل، وما نقص من الليل يجعله في النهار.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » قال: ما ينقص من أحدهما في الآخر، يعتقبان أو: يتعاقبان، شك أبو عاصم ذلك من الساعات.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، ما ينقص من أحدهما في الآخر، يتعاقبان ذلك من الساعات.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، قال: هو نقصان أحدهما في الآخر.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، قال: يأخذ الليل من النهار، ويأخذ النهار من الليل. يقول: نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، يعني أنه يأخذ أحدُهما من الآخر، فيكون الليل أحيانًا أطول من النهار، والنهار أحيانًا أطول من الليل.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، قال: هذا طويل وهذا قصير، أخذ من هذا فأولجه في هذا، حتى صار هذا طويلا وهذا قصيرًا.

 

القول في تأويل قوله : وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: « تأويل ذلك: أنه يخرج الشيء الحيَّ من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحيّ » ، قال: هي النطفة تخرج من الرّجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيًّا وهي ميتة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، قال: الناس الأحياء من النُّطف والنُّطف ميتة، ويخرجها من الناس الأحياء، والأنعام.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك في قوله: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، فذكر نحوه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدى: « تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ » ، فالنطفة ميتة تكون، تخرج من إنسان حيّ، ويخرج إنسان حيّ من نطفة ميتة.

حدثني محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي قال، حدثنا أشعث السجستاني قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله. « تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ » ، قال: تخرج النطفة من الرجل، والرجل من النطفة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ » ، قال: تخرج الحيّ من هذه النطفة الميتة، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحيّ.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: « تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ » الآية، قال: الناس الأحياء من النطف، والنطف ميِّتةً من الناس الأحياء، ومن الأنعام والنَّبْت كذلك قال ابن جريج: وسمعت يزيد بن عويمر يخبر، عن سعيد بن جبير قال: إخراجه النطفة من الإنسان، وإخراجه الإنسان من النطفة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ » ، قال: النطفة ميتة، فتخرج منها أحياء « وتخرج الميت من الحيّ » ، تخرج النطفة من هؤلاء الأحياء، والحبّ ميتٌ تخرج منه حيًّا « وتُخرج الميت من الحيّ » ، تخرج من هذا الحيّ حبًّا ميتًا.

وقال آخرون: معنى ذلك: « أنه يخرج النخلة من النواة، والنواةَ من النخلة، والسنبل من الحب، والحبّ من السنبل، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض » .

ذكر من قال ذلك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبد الله، عن عكرمة قوله: « تخرج الحي من الميت » ، قال: هي البيضة تخرج من الحيّ وهي ميتة، ثم يخرج منها الحيّ.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله. « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، قال: النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.

وقال آخرون: « معنى ذلك: أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافرَ من المؤمن » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، يعني المؤمن من الكافر والكافرَ من المؤمن، والمؤمن عبدٌ حيُّ الفؤاد، والكافر عبدٌ ميّتُ الفؤاد.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن في قوله: « تُخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، قال: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن.

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن سعيد بن عمرو، عن الحسن قرأ: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، قال: تخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن.

حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، أو عن ابن مسعود وأكبر ظني أنه عن سلمان قال: إن الله عزّ وجل خمّر طينة آدم أربعين ليلة - أو قال: أربعين يومًا - ثم قال بيده فيه، فخرج كل طيِّب في يمينه، وخرج كل خبيث في يده الأخرى، ثم خلط بينهما، ثم خلق منها آدم، فمن ثم يخرج الحيّ من الميت ويخرجُ الميت من الحي، يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة النَّعْمة، فقال: من هذه؟ قالت إحدى خالاتك! قال: إن خَالاتي بهذه البلدة لغرائب! وأيّ خالاتي هذه؟ قالت: خالدة ابنة الأسود ابن عبد يغوث. قال: سبحان الذي يخرج الحيّ من الميت! وكانت امرأة صالحةً، وكان أبوها كافرًا.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، قال: هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنًا، وأن المؤمن يلد كافرًا؟ فقال: هو كذلك.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب، تأويلُ من قال: « يخرج الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياءَ من النُّطف الميتة وذلك إخراجُ الحيّ من الميت ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء وذلك إخراج الميت من الحيّ » .

وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده، فذلك الذي فارقه منه ميت. فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشئ الله منها إنسانًا حيًا وبهائمَ وأنعامًا أحياءً. وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه، فالذي زَايله منه ميت. وذلك هو نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ سورة البقرة: 28 ] .

وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن فإن ذلك، وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهرَ في استعمال الناس في الكلام. وتوجيهُ معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته جماعة منهم: ( تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) بالتشديد، وتثقيل « الياء » من « الميت » ، بمعنى أنه يخرج الشيء الحي من الشيء الذي قد ماتَ، ومما لم يمت.

وقرأت جماعة أخرى منهم: ( تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) بتخفيف « الياء » من « الميْت » ، بمعنى أنه يخرج الشيء الحيّ من الشيء الذي قد مات، دون الشيء الذي لم يمت، ويُخرج الشيء الميت، دون الشيء الذي لم يمت، من الشيء الحي.

وذلك أن « الميِّت » مثقل « الياء » عند العرب: ما لم يَمتْ وسيموت، وما قد مات.

وأما « الميْت » مخففًا، فهو الذي قد مات، فإذا أرادوا النعتَ قالوا: « إنك مائتٌ غدًا، وإنهم مائتون » . وكذلك كل ما لم يكن بعد، فإنه يخرج على هذا المثال الاسمُ منه. يقال: « هو الجائد بنفسه والطائبة نفسه بذلك » ، وإذا أريد معنى الاسم قيل: « هو الجوادُ بنفسه والطيِّبة نفسه » .

قال أبو جعفر: فإذا كان ذلك كذلك، فأولى القراءتين في هذه الآية بالصواب، قراءةُ من شدّد « الياء » من « الميِّت » . لأن الله جل ثناؤه يخرج الحي من النطفة التي قد فارقت الرجلَ فصارت ميِّتة، وسيخرجه منها بعد أن تُفارقه وهي في صلب الرجل « ويخرج الميِّت من الحيّ » النطفةَ التي تصير بخروجها من الرجل الحيّ ميِّتًا، وهي قبل خروجها منه حيَّة. فالتشديد أبلغ في المدح وأكملُ في الثناء.

 

القول في تأويل قوله : وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 27 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يُعطى من يشاء من خلقه فيجود عليه، بغير محاسبة منه لمن أعطاه، لأنه لا يخاف دخولَ انتقاص في خزائنه، ولا الفناءَ على ما بيده، كما:-

حدثني المثتي قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وترزق من تشاء بغير حساب » ، قال: يخرج الرزق من عنده بغير حساب، لا يخاف أن ينقُص ما عنده تبارك وتعالى.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: اللهمّ يا مالك الملك تُؤتي الملك من تَشاء، وتنـزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إله وربٌّ وعبدوه دونك، أو اتخذوه شريكًا معك، أو أنه لك ولدٌ وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء وتقدر بها على كل شيء، تُولج الليل في النهار وتُولج النهارَ في الليل، فتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتخرج من ميِّت حيًّا ومن حي ميِّتًا، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك، لا يقدر على ذلك أحدٌ سواك، ولا يستطيعه غيرك، كما:-

حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، أي: بتلك القدرة يعني: بالقدرة التي تؤتي الملك بها من تشاء وتنـزعهُ ممن تشاء « وترزُق من تشاء بغير حساب » ، لا يقدر على ذلك غيرُك، ولا يصنعه إلا أنت. أي: فإن كنتُ سلَّطتُ عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله : من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق للطير من الطين، والخبر عن الغيوب، لتجعله آية للناس، وتصديقًا له في نبوّته التي بعثته بها إلى قومه - فإنّ من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه: تمليكُ الملوك، وأمرُ النبوّة ووضعها حيث شئت، وإيلاجُ الليل في النهار والنهار في الليل، وإخراجُ الحيّ من الميت والميت من الحيّ، ورزقُ من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب. فكلّ ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملكه إياه، فلم تكن لهم في ذلك عبرةٌ وبينة: أنْ لو كان إلهًا، لكان ذلك كله إليه، وهو في علمهم يهرُب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد! !

 

القول في تأويل قوله : لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً

قال أبو جعفر: وهذا نهيٌ من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفارَ أعوانًا وأنصارًا وظهورًا، ولذلك كسر « يتخذِ » ، لأنه في موضع جزمٌ بالنهي، ولكنه كسر « الذال » منه، للساكن الذي لقيه وهي ساكنة.

ومعنى ذلك: لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنه مَنْ يفعل ذلك « فليس من الله في شيء » ، يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مُسلم بفعل، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » ، قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يُلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجةً من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفارُ عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللُّطف، ويخالفونهم في الدين. وذلك قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاةً » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الحجاجُ بن عمرو حليفُ كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد، قد بَطَنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر بن زَنْبَر، وعبد الله بن جبير، وسعد بن خيثمة، لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم! فأبى أولئك النفر إلا مُباطنتهم ولزومهم، فأنـزل الله عز وجل: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » إلى قوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » ، يقول: لا يتخذ المؤمن كافرًا وليًّا من دون المؤمنين.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين » إلى « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، أما « أولياء » فيواليهم في دينهم، ويظهرهم على عورة المؤمنين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برئ الله منه إلا أن يتقي تقاةً، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم، والبراءةَ من المؤمنين.

حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عمن حدثه، عن ابن عباس: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبُه مطمئن بالإيمان.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: ما لم يُهرِق دم مسلم، وما لم يستحلّ ماله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » ، إلا مصانعةً في الدنيا ومُخالقة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » إلى « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: قال أبو العالية: التقيَّة باللسان وليس بالعمل.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عُبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: التقيةُ باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ، فتكلم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقيَّة باللسان.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، فالتقية باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره. إنما التقية باللسان.

وقال آخرون: معنى: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، إلا أن يكون بينك وبينه قرابة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا أن تتقوا منهم تقيَّة » ، نهى الله المؤمنين أن يوادّوا الكفار أو يتولَّوْهم دون المؤمنين. وقال الله: « إلا أن تتقوا منهم تقيَّة » ، الرحم من المشركين، من غير أن يتولوهم في دينهم، إلا أن يَصل رحمًا له في المشركين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء » ، قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرًا وليًّا في دينه، وقوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: أن يكون بينك وبينه قرابة، فتصله لذلك.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: صاحبهم في الدنيا معروفًا، الرحم وغيره. فأما في الدّين فلا.

قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله قتادة تأويلٌ له وجه، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة فالأغلب من معاني هذا الكلام: إلا أن تخافوا منهم مخافةً. فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية. إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم. ووجَّهه قتادة إلى أن تأويله: إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة، فتصلون رحمها. وليس ذلك الغالب على معنى الكلام. والتأويلُ في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمَل فيهم.

وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة »

فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، على تقدير « فُعَلة » مثل: « تُخَمة، وتؤَدَة وتُكأة » ، من « اتقيت » .

وقرأ ذلك آخرون: ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً ) ، على مثال « فعيلة » .

قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءةُ عندنا، قراءةُ من قرأها: « إلا أن تتقوا منهم تُقاة » ، لثبوت حجة ذلك بأنه القراءةُ الصحيحة، بالنقل المستفيض الذي يمتنع منه الخطأ.

 

القول في تأويل قوله عز وجل : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 28 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، ويخوّفكم الله من نفسه أن تَرْكبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم وَمصيركم بعد مماتكم، ويوم حشركم لموقف الحساب يعنى بذلك: متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به، وأتيتم ما نهاكم عنهُ من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قِبَل لكم به، يقول: فاتقوه واحذرُوه أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العقاب.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 29 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « قل » يا محمد، للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين « إن تخفوا ما في صدوركم » من موالاة الكفار فتُسِرُّوه، أو تبدوا ذلكم من نفوسكم بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه « يعلمه الله » ، فلا يخفى عليه. يقول: فلا تُضمروا لهم مودّةً ولا تظهروا لهم موالاة، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به، لأنه يعلم سرّكم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء منه، وهو مُحصيه عليكم حتى يجازيَكم عليه بالإحسان إحسانًا، وبالسيئة مثلها، كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسرّوا من ذلك وما أعلنوا، فقال: « إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه » .

وأما قوله: « ويعلم ما في السموات وما في الأرض » ، فإنه يعني أنه إذ كان لا يخفى عليه شيء هو في سماء أو أرض أو حيث كان، فكيف يخفى عليه - أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين - ما في صدوركم من الميْل إليهم بالمودة والمحبة، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا.

وأما قوله: « والله على كل شيء قدير » ، فإنه يعني: والله قديرٌ على معاجلتكم بالعقوبة على مُوالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين، وعلى ما يشاء من الأمور كلها، لا يتعذَّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء طلبه.