القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 4 )

وقوله: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) يقول تعالى ذكره: هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبرهنّ وما فيهنّ، ثم استوى على عرشه، فارتفع عليه وعلا.

وقوله: ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ) يقول تعالى ذكره: مخبرا عن صفته، وأنه لا يخفى عليه خافية من خلقه، ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ ) من خلقه. يعني بقوله: ( يَلِجَ ) : يدخل، ( وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنـزلُ مِنَ السَّمَاءِ ) إلى الأرض من شيء قطّ. ( وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ) ، فيصعد إليها من الأرض. ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ) يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سمواته السبع، ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) يقول: والله بأعمالكم التي تعملونها من حسن وسيئ، وطاعة ومعصية، ذو بصر، وهو لها محص، ليجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 5 ) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 6 )

يقول تعالى ذكره: له سلطان السموات والأرض نافذ في جميعهنّ، وفي جميع ما فيهنّ أمره. ( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ) يقول جلّ ثناؤه: وإلى الله مصير أمور جميع خلقه، فيقضي بينهم بحكمه.

وقوله: ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ) ، يعني بقوله: ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ) يدخل ما نقص من ساعات الليل في النهار، فيجعله زيادة في ساعاته، ( وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) يقول: ويدخل ما نقص من ساعات النهار في الليل، فيجعله زيادة في ساعات الليل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

وقد ذكرنا الرواية بما قالوا فيما مضى من كتابنا هذا، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر هنالك إن شاء الله تعالى .

حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة، في قوله: ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) قال: قصر هذا في طول هذا، وطول هذا في قصر هذا.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله: ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) قال: دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل.

حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله: ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) قال: قصر أيام الشتاء في طول ليله، وقصر ليل الصيف في طول نهاره.

وقوله: ( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) يقول: وهو ذو علم بضمائر صدور عباده، وما عزمت عليه نفوسهم من خير أو شرّ، أو حدّثت بهما أنفسهم، لا يخفى عليه من ذلك خافية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 )

يقول تعالى ذكره: آمنوا بالله أيها الناس، فأقرّوا بوحدانيته، وبرسوله محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فصدقوه فيما جاءكم به من عند الله واتبعوه، ( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) ، يقول جلّ ثناؤه: وأنفقوا مما خوّلكم الله، من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم، فجعلكم خلفاءهم فيه في سبيل الله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) قال: المعمرين فيه بالرزق.

وقوله: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا ) يقول: فالذين آمنوا بالله ورسوله منكم أيها الناس، وأنفقوا مما خولهم الله عمن كان قبلهم، ورزقهم من المال في سبيل الله ( لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) يقول: لهم ثواب عظيم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 8 )

يقول تعالى ذكره: ( وما لكم لا تؤمنون بالله ) ، وما شأنكم أيها الناس لا تقرّون بوحدانية الله، ورسوله محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يدعوكم إلى الإقرار بوحدانيته، وقد أتاكم من الحجج على حقيقة ذلك، ما قطع عذركم، وأزال الشكّ من قلوبكم، ( وقد أخذ ميثاقكم ) ، قيل: عني بذلك؛ وقد أخذ منكم ربكم ميثاقكم في صُلب آدم، بأن الله ربكم لا إله لكم سواه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ ) قال: في ظهر آدم.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق غير أبي عمرو ( وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ ) ، بفتح الألف من أخذ ونصب الميثاق، بمعنى: وقد أخذ ربكم ميثاقكم. وقرأ ذلك أبو عمرو: ( وَقَدْ أخَذَ مِيثاقَكُمْ ) بضمّ الألف ورفع الميثاق، على وجه ما لم يسمّ فاعله.

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وإن كان فتح الألف من أخذ ونصب الميثاق أعجب القراءتين إليّ في ذلك، لكثرة القراءة بذلك، وقلة القراءة بالقراءة الأخرى.

وقوله: ( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) يقول: إن كنتم تريدون أن تؤمنوا بالله يوما من الأيام، فالآن أحرى الأوقات، أن تؤمنوا لتتابع الحجج عليكم بالرسول وإعلامه، ودعائه إياكم إلى ما قد تقرّرت صحته عندكم بالإعلام، والأدلة والميثاق المأخوذ عليكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 9 )

يقول تعالى ذكره: الله الذي ينـزل على عبده محمد ( آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) يعني مفصلات ( لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) يقول جلّ ثناؤه: ليخرجكم أيها الناس من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن الضلالة إلى الهُدى.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) قال: من الضلالة إلى الهدى.

وقوله: ( وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) يقول تعالى ذكره: وإن الله بإنـزاله على عبده ما أنـزل عليه من الآيات البيِّنات لهدايتكم، وتبصيركم الرشاد، لذو رأفة بكم ورحمة، فمن رأفته ورحمته بكم فعل ذلك

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 10 )

يقول تعالى ذكره: وما لكم أيها الناس أن لا تنفقوا مما رزقكم الله في سبيل الله، وإلى الله صائرٌ أموالكم إن لم تنفقوها في حياتكم في سبيل الله، لأن له ميراث السموات والأرض، وإنما حثهم جل ثناؤه بذلك على حظهم، فقال لهم: أنفقوا أموالكم في سبيل الله، ليكون ذلكم لكم ذخرًا عند الله من قبل أن تموتوا، فلا تقدروا على ذلك، وتصير الأموال ميراثًا لمن له السموات والأرض.

وقوله: ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: لا يستوي منكم أيها الناس من آمن قبل فتح مكه وهاجر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) قال: آمن فأنفق، يقول: من هاجر ليس كمن لم يهاجر.

حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ) يقول: من آمن.

قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: يقول غير ذلك.

وقال آخرون: عني بالفتح فتح مكة، وبالنفقة: النفقة في جهاد المشركين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) قال: كان قتالان، أحدهما أفضل من الآخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كانت النفقة والقتال من قبل الفتح « فتح مكة » أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ) قال: فتح مكة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عياش، قال، قال زيد بن أسلم في هذه الآية ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ) قال: فتح مكة.

وقال آخرون: عني بالفتح في هذا الموضع: صلح الحديبية.

ذكر من قال ذلك:

حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية، يقول تعالى ذكره ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ... ) الآية.

حدثني حُميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عامر، في هذه الآية، قوله: ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) قال: فتح الحديبية، قال: « فصل ما بين العمرتين فتح الحديبية » .

حدثني ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر ،قال: « فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية » . وأُنـزلت ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ) .... إلى ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) فقالوا: يا رسول الله فتحٌ هو؟ قال: « نَعَمْ عَظِيمٌ » .

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، قال : « فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية، ثم تلا هنا الآية ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ ) .... الآية. »

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، قال، قال لنا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عام الحديبية: « يُوشكُ أنْ يأتي قَوْمٌ تَّحْقِرُونَ أعمالَكُمْ مَعَ أعمالِهمْ، قلنا: من هم يا رسول الله، أقريش هم؟ قال: لا وَلَكنْ أهْلُ اليمَن أرَقُّ أفْئِدَةً وألْيَنُ قُلُوبا، فقلنا: هم خير منا يا رسول الله، فقال: لَوْ كانَ لأحَدَهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَب فأنْفَقَهُ ما أدْرَكَ مُدّ أحَدِكُمْ وَلا نَصيفَهُ، ألا إنَّ هَذَا فَصْلُ ما بَيْنَنَا وَبَينَ النَّاس، ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ) ... الآية، إلى قوله: ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) » .

حدثني ابن البرْقيّ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن أبي سعيد التمار، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: « يُوشِكُ أنْ يأتي قوم تَحَقِرُون أعمالَكُمْ مع أعمالِهِمْ، فقلنا: من هم يا رسول الله، أقريش؟ قال: لا هُمْ أرَقُّ أفْئِدَةً وألْيَنُ قُلُوبا » ، وأشار بيده إلى اليمن، فقال: هُم أهْلُ اليَمَنِ، ألا إنَّ الإيمان يَمَانٍ، والحكْمَة يَمانيَهٌ، فقلنا: يا رسول الله هم خير منا؟ قال: وَالَذَّي نَفسي بيَده لَوْ كان لأحَدِهمْ جَبَلُ ذَهَب يُنْفقهُ ما أدْرَكَ مُدَّ أحَدكُمْ وَلا نَصيَفهُ، ثم جمع أصابعه، ومدّ خنصره وقال: ألا إنَّ هَذَا فَصْلُ ما بَيْنَنَا وَبَينَ النَّاس، ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: معنى ذلك لا يستوي منكم أيها الناس من أنفق في سبيل الله من قبل فتح الحُديبية، للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، الذي رويناه عن أبي سعيد الخُدريّ عنه، وقاتل المشركين، بمن أنفق بعد ذلك وقاتل، وترك ذكر من أنفق بعد ذلك وقاتل، استغناء بدلالة الكلام الذي ذُكر عليه من ذكره. ( أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين أنفقوا في سبيل الله من قبل فتح الحديبية، وقاتلوا المشركين، أعظم درجة في الجنة عند الله من الذين أنفقوا من بعد ذلك وقاتلوا.

وقوله: ( وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) يقول تعالى ذكره: وكلّ هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله، وقتالهم أعداءه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللُّهُ الْحُسْنَى ) قال: الجنة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) قال: الجنة.

وقوله: ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون من النفقة في سبيل الله، وقتال أعدائه، وغير ذلك من أعمالكم التي تعملون خبير، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميع ذلك يوم القيامة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( 11 )

يقول تعالى ذكره: من هذا الذي ينفق في سبيل الله في الدنيا، محتسبا في نفقته، مبتغيًا ما عند الله، وذلك هو القرض الحسن، يقول: فيضاعف له ربه قرضه ذلك الذي أقرضه، بإنفاقه في سبيله، فيجعل له بالواحدة سبع مئة. وكان بعض نحوّيي البصرة يقول في قوله: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) فهو كقول العرب: لي عندك قرض صدق، وقرض سَوْء إذا فعل به خيرا؛ وأنشد ذلك بيتا للشنفرى:

سَـنجْزِي سَـلامانَ بنَ مُفْرِجَ قَرْضَها بِمَــا قَــدَّمَتْ أيْــدِيهم فــأزَلَّتِ

( وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) يقول: وله ثواب وجزاء كريم، يعني بذلك الأجر: الجنة، وقد ذكرنا الرواية عن أهل التأويل في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.