القول في تأويل قوله عز وجل : يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا موفَّرًا، « وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا » يعني غاية بعيدة، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم.

وكان قتادة يقول في معنى قوله: « محضرًا » ، ما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا » ، يقول: موفَّرًا.

قال أبو جعفر: وقد زعم [ بعض ] أهل العربية أنّ معنى ذلك: واذكر يوم تجد. وقال: إن ذلك إنما جاء كذلك، لأن القرآن إنما نـزل للأمر والذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا كذا وكذا، لأنه في القرآن في غير موضع: « واتقوا يوم كذا، وحين كذا » .

وأما « ما » التي مع « عملت » ، فبمعنى « الذي » ، ولا يجوز أن تكون جزاءً، لوقوع « تجد » عليه. وأما قوله: « وما عملت من سوء » ، فإنه معطوف على قوله: « ما » الأولى، و « عملت » صلةٌ بمعنى الرّفع، لمَّا قيل: « تود » . فتأويل الكلام: يوم تَجد كل نفس الذي عملت من خير محضرًا، والذي عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا

« والأمد » الغاية التي ينتهي إليها، ومنه قول الطرماح:

كُـلُّ حَـيٍّ مُسْتَكْـمِلٌ عِدَّةَ الـ عُمْـرِ, ومُـودٍ إِذَا انْقَضَـى أَمَـدُهْ

يعني: غاية أجله. وقد:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا » ، مكانًا بعيدًا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « أمدًا بعيدًا » ، قال: أجلا.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا » ، قال: يسر أحدَهم أن لا يلقى عمله ذاكَ أبدًا يكونُ ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئةً يستلذّها.

 

القول في تأويل قوله : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ( 30 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه: أن تُسخِطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه يومَ تَجد كلُّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قِبَل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رءوف بعباده رحيمٌ بهم، وأنّ من رأفته بهم: تحذيرُه إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن في قوله: « ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد » ، قال: من رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 31 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنـزلت هذه الآية فيه. فقال بعضهم: أنـزلت في قوم قالوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: « إنا نحب ربنا » ، فأمر الله جل وعز نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: « إن كنتم صادقين فيما تقولون، فاتبعوني، فإن ذلك علامة صِدْقكم فيما قلتم من ذلك. »

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن بكر بن الأسود قال، سمعت الحسن يقول: قال قومٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا نحبّ ربنا! فأنـزل الله عز وجل: « قُل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم » ، فجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عَلَمًا لحبه، وعذاب من خالفه.

حدثني المثنى قال، حدثنا علي بن الهيثم قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أبي عبيدة قال: سمعت الحسن يقول: قال أقوامٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا لنحب ربنا! فأنـزل الله جل وعز بذلك قرآنًا: « قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم » ، فجعل الله اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم علمًا لحبه، وعذاب من خالفه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله » ، قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله، يقولون: إنا نحب ربّنا! فأمرهم الله أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجعل اتباع محمد علمًا لحبه.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « إن كنتم تحبون الله » الآية، قال: إن أقوامًا كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقًا من عمل، فقال: « إن كنتم تحبون الله » الآية، كان اتباعُ محمد صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقولهم.

وقال آخرون: بل هذا أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى: إن كان الذي تَقولونه في عيسى من عظيم القول، إنما يقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له، فاتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « قل إن كنتم تحبون الله » ، أي: إن كان هذا من قولكم - يعني: في عيسى - حبًّا لله وتعظيمًا له ، « فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم » ، أي: ما مضى من كفركم « والله غفور رحيم » .

قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قولُ محمد بن جعفر بن الزبير. لأنه لم يجر لغير وفد نجرانَ في هذه السورة ولا قبل هذه الآية، ذكرُ قوم ادَّعوا أنهم يحبُّون الله، ولا أنهم يعظمونه، فيكون قوله. « إن كنتم تحبون الله فاتبعوني » جوابًا لقولهم، على ما قاله الحسن.

وأمّا ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه، فلا خبر به عندنا يصحّ، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال. إلا أن يكون الحسن أرادَ بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفدَ نَجران من النصارى، فيكون ذلك من قوله نظير اختيارنا فيه.

فإذْ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا، ولا في الآية دليلٌ على ما وصفنا، فأولى الأمور بنا أن نُلحق تأويله بالذي عليه الدّلالة من آي السورة، وذلك هو ما وصفنا. لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها، خبرٌ عنهم، واحتجاجٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على بُطول قولهم في المسيح. فالواجب أن تكون هي أيضًا مصروفةَ المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها.

قال أبو جعفر: فإذْ كان الأمر على ما وصفنا، فتأويلُ الآية: قل، يا محمد، للوفد من نصارى نجران: إن كنتم كما تزعمون أنكم تحبون الله، وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون، حبًّا منكم ربَّكم فحققوا قولكم الذي تقولونه، إن كنتم صادقين، باتباعكم إياي، فإنكم تعلمون أني لله رسولٌ إليكم، كما كان عيسى رسولا إلى من أرسل إليه، فإنه إن اتبعتموني وصدّقتموني على ما أتيتكم به من عند الله يغفرُ لكم ذنوبكم، فيصفح لكم عن العقوبة عليها، ويعفو لكم عما مضى منها، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين، رحيمٌ بهم وبغيرهم من خلقه.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 32 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل، يا محمد، لهؤلاء الوفد من نصارى نجران: أطيعوا الله والرسول محمدًا، فإنكم قد علمتم يقينًا أنه رسولي إلى خلقي، ابتعثتُه بالحق، تجدونه مكتوبًا عندكم في الإنجيل، فإن تولَّوا فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك، وأعرضوا عنه، فأعلمهم أن الله لا يحبُّ من كفر بجحد ما عرف من الحق، وأنكره بعد علمه، وأنهم منهم، بجحودهم نبوّتك، وإنكارهم الحقّ الذي أنت عليه، بعد علمهم بصحة أمرك، وحقيقة نبوتك، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « قل أطيعوا الله والرسول » ، فأنتم تعرفونه - يعني الوفد من نصارى نجران - وتجدونه في كتابكم « فإن تولوا » على كفرهم « فإن الله لا يحبّ الكافرين » .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 33 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله اجتبى آدمَ ونوحًا واختارهما لدينهما وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه، لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبرَ الله عز وجل أنه اختار دين مَنْ ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته.

وإنما عنى ب « آل إبراهيم وآل عمران » ، المؤمنين.

وقد دللنا على أن « آل الرجل » ، أتباعه وقومه، ومن هو على دينه.

وبالذي قلنا في ذلك روي القول عن ابن عباس أنه كان يقوله.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « إن الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين » ، قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله عز وجل: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [ سورة آل عمران: 68 ] ، وهم المؤمنون.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إنّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآلَ عمران على العالمين » ، رجلان نبيَّان اصطفاهما الله على العالمين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « إنّ الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين » ، قال: ذكر الله أهلَ بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضلهم على العالمين، فكان محمدٌ من آل إبراهيم.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: « إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم » إلى قوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، قال: فضلهم الله على العالمين بالنبوّة، على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياءَ المصطفين لربهم.

 

القول في تأويل قوله : ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 34 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك: إن الله اصطفى آلَ إبراهيم وآل عمران « ذريةً بعضها من بعض » .

ف « الذرية » منصوبة على القطع من « آل إبراهيم وآل عمران » ، لأن « الذرية » ، نكرة، و « آل عمران » معرفة.

ولو قيل نصبت على تكرير « الاصطفاء » ، لكان صوابًا. لأن المعنى: اصطفى ذريةً بعضُها من بعض.

وإنما جعل « بعضهم من بعض » في الموالاة في الدين، والمؤازرة على الإسلام والحق، كما قال جل ثناؤه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ سورة التوبة: 71 ] ، وقال في موضع آخر: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [ سورة التوبة: 67 ] ، يعني: أنّ دينهم واحدٌ وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله: « ذرية بعضها من بعض » ، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ بعض، وكلمتهم واحدةٌ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ذرية بعضها من بعض » ، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له.

وقوله: « والله سميعٌ عليمٌ » ، يعني بذلك: والله ذُو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تضمره في نفسها، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا.

 

القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 35 )

يعني بقوله جل ثناؤه: « إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني » ، فـ « إذْ » من صلة سَمِيعٌ .

وأمّا « امرأة عمران » ، فهي أم مريم ابنة عمران، أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. وكان اسمها فيما ذكر لنا حَنَّة ابنة فاقوذ بن قتيل، كذلك:-

حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه وقال غير ابن حميد: ابنة فاقود - بالدال - ابن قبيل.

فأما زوجها « عمران » ، فإنه: عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحزيق بن يوثم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهفاشاط بن أسابر بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا، كذلك:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه.

وأما قوله: « رَبّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا » ، فإنّ معناه: إني جعلت لك يا رب نَذْرًا أنّ لك الذي في بطني محرّرًا لعبادتك. يعني بذلك: حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك، مفرّغة لك خاصة.

ونصب « محرّرًا » على الحال مما في الصفة من ذكر « الذي » .

« فتقبل مني » ، أي: فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ « إنك أنت السميع العليم » ، يعني: إنك أنتَ يا رب « السميع » لما أقول وأدعو « العليمُ » لما أنوي في نفسي وأريد، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته.

وكان سبب نذر حَنة ابنة فاقوذ، امرأة عمران الذي ذكره الله في هذه الآية فيما بلغنا، ما:-

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أمّ يحيى عند زكريا، وكانت أم مَريم عند عمرانَ، فهلك عمران وأم مريم حاملٌ بمريم، فهي جنينٌ في بطنها. قال: وكانت، فيما يزعمون، قد أمسك عنها الولد حتى أسنَّت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان. فبينا هي في ظلّ شجرة نظرت إلى طائر يُطعم فرخًا له، فتحرّكت نفسُها للولد، فدعت الله أن يهبَ لها ولدًا، فحملت بمريم، وهلك عمران. فلما عرفت أن في بطنها جنينًا، جعلته لله نَذيرةً و « النذيرة » ، أن تعبِّده لله، فتجعله حبيسًا في الكنيسة، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال ثم ذكر امرأة عمران وقولها: « ربّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا » أي نذرته، تقول: جعلته عتيقًا لعبادة الله، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا « فتقبَّل مني إنك أنتَ السميع العليم » .

حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله: « محررًا » ، قال: خادمًا للبِيعة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد قال: خادمًا للكنيسة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، أخبرنا إسماعيل، عن الشعبي في قوله: « إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا » ، قال: فرّغته للعبادة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في قوله: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: جعلته في الكنيسة، وفرّغته للعبادة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن إسماعيل، عن الشعبي نحوه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: للكنيسة يخدُمها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: خالصًا، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: للبيعة والكنيسة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانيّ قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: محرّرًا للعبادة.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إذ قالت امرأة عمران رَبّ إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، الآية، كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها، يقوم عليها ويكنُسها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: نذرت ولدها للكنيسة.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم » ، قال: وذلك أن امرأة عمران حملت، فظنت أن ما في بطنها غلام، فوهبته لله محرّرًا لا يعمل في الدنيا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرَت لله ما في بطنها. قال: وكانوا إنما يحرّرون الذكور، فكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: جعلت ولدها لله، وللذين يدرُسون الكتاب ويتعلَّمونه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر، عن عكرمة: أن امرأة عمران كانتْ عجوزًا عاقرًا تسمى حَنَّة، وكانت لا تلد، فجعلت تغبطُ النساء لأولادهن، فقالت: اللهمّ إنّ عليّ نذرًا شكرًا إن رزقتني ولدًا أن أتصدّق به على بيت المقدس، فيكون من سَدَنته وُخدَّامه. قال: وقوله: « نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا » إنها للحرّة ابنة الحرائر « محررًا » للكنيسة يخدمها.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « إذ قالت امرأة عمران » الآية كلها قال: نذرت ما في بطنها، ثم سيَّبَتْها.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فلما وضعتها » ، فلما وضعت حَنَّة النذيرةَ، ولذلك أنث. ولو كانت « الهاء » عائدة على « ما » التي في قوله: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ، لكان الكلام: « فلما وضعته قالتْ رب إني وضعته أنثى » .

ومعنى قوله: ( وضعتها ) « ، ولدتها. يقال منه: » وضعت المرأة تَضَع وضْعًا « . »

« قالت ربّ إني وضعتها أنثى » ، أي: ولدت النذيرة أنثى « والله أعلم بما وضعت » .

واختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة القرأة: ( وَضَعَتْ ) ، خبرًا من الله عز وجل عن نفسه: أنه العالم بما وضعت، من غير قيلها: « ربّ إني وضعتها أنثى » .

وقرأ ذلك بعض المتقدّمين: ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ ) على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة: « والله أعلم بما ولدتُ مني » .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها، لا يتدافعون صحتها. وذلك قراءة من قرأ « والله أعلم بما وضعتْ » ، ولا يعترض بالشاذّ عنها عليها.

فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم من كل خلقه بما وضعت ثم رجع جل ذكره إلى الخبر عن قولها، وأنها قالت - اعتذارًا إلى ربها مما كانت نذرتْ في حملها فحررته لخدمة ربها - : « وليس الذكر كالأنثى » ، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدْس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس « وإني سميتها مريم » ، كما:-

حدثني ابن حميد قال، ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى » ، أي: لما جعلتها محرّرًا له نذيرة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق: « وليس الذكر كالأنثى » ، لأن الذكر هو أقوى على ذلك من الأنثى.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وليس الذكر كالأنثى » ، كانت المرأة لا يستطاع أن يصنع بها ذلك يعني أن تحرر للكنيسة، فتجعل فيها، تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها مما يصيبها من الحيض والأذى، فعند ذلك قالت: « ليس الذكر كالأنثى » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « قالت رب إني وضعتها أنثى » ، وإنما كانوا يحرّرون الغلمان - قال: « وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها، وكانت على رَجاء أن يهبَ لها غلامًا، لأن المرأة لا تستطيع ذلك يعني القيامَ على الكنيسة لا تَبرحها، وتكنُسها لما يصيبها من الأذى.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن امرأة عمران ظنتّ أن ما في بطنها غلامٌ، فوهبته لله. فلما وضعت إذا هي جارية، فقالت تعتذر إلى الله: « رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى » ، تقول: إنما يحرّر الغلمان. يقول الله: « والله أعلم بما وضعت » ، فقالت: « إني سَمّيتها مريم » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر، عن عكرمة: « فلما وضعتها قالت رَبّ إني وضعتها أنثى » « وليس الذكر كالأنثى » ، يعني: في المحيض، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال أمها تقول ذلك.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( 36 )

قال أبو جعفر: تعني بقولها: « وإني أعيذُها بك وذُريتها » ، وإني أجعل مَعاذها ومَعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيم، بك.

وأصل « المعاذ » ، الموئل والملجأ والمعقل.

فاستجاب الله لها، فأعاذها الله وذرّيتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلا.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نَفْس مولود يُولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة، ولها يَستهلّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران، فإنها لما وضعتها قالت: « رب إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ، فضُرب دُونها حجاب، فطعَن فيه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود من ولد آدم له طَعنةٌ من الشيطان، وبها يستهلُّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها، فإنّ أمها قالت حين وضعتها: « إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم » ، فضرب دونهما حجاب، فطَعَن في الحجاب.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من بني آدم مولودٌ يولد إلا قد مسَّه الشيطان حين يولد، فيستهلّ صارخًا بمسِّه إياه، غير مريم وابنها. قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: « إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشمعِلّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد من بني آدم يمسُّه الشيطان بإصبعه، إلا مريم وابنها.

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا يونس سُليماً مولى أبي هريرة حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل بني آدم يمسُّه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها.

حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمران، أن أبا يونس حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا يمسُّه الشيطان، فيستهل صارخًا من مسَّةِ الشيطان، إلا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: « وإني أعيذُها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم » .

حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا وقد عَصَره الشيطان عَصرةً أو عصرتين، إلا عيسى ابن مريم ومريم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما ولد مولود إلا وقد استهلّ، غير المسيح ابن مريم، لم يسلَّط عليه الشيطان ولم يَنْهَزْه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المنذر بن النعمان الأفطس: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما وُلد عيسى أتت الشياطينُ إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رءوسها! فقال: هذا في حادث حدث! وقال: مكانَكم! فطارَ حتى جاء خَافقي الأرض، فلم يجد شيئًا، ثم جاء البحار فلم يجد شيئًا، ثم طار أيضًا فوجد عيسى قد ولد عند مِذْوَد حمار، وإذا الملائكة قد حفَّت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبيًّا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها، إلا هذه! فَأيِسوا أن تُعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفَّة والعجَلة.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وإني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: كل بني آدم طَعَن الشيطانُ في جنبه، إلا عيسى ابن مريم وأمه، جُعل بينهما وبينه حجابٌ، فأصابت الطعنة الحجابَ، ولم ينفذ إليهما شيء وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوبَ كما يصيبها سائرُ بني آدم. وذكر لنا أنّ عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر، مما أعطاه الله تعالى من اليقين والإخلاص.

حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وإني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم » ، قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: كل آدمي طَعن الشيطان في جنبه غير عيسى وأمه، كانا لا يُصيبان الذنوب كما يصيبُها بنو آدم. قال: وقال عيسى صلى الله عليه وسلم فيما يثني على ربَه: وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن له علينا سبيلٌ.

حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم يَطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه، إلا عيسى ابن مريم، ذهب يطعَن فطعَن في الحجاب.

حدثنا الربيع قال، حدثنا شعيب قال، أخبرنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: أرأيتَ هذه الصرخة التي يَصرُخها الصبيُّ حين تلده أمه؟ فإنها منها.

حدثني أحمد بن الفرج قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثنا الزُّبيديّ، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من بني آدم مولودٌ إلا يمسُّه الشيطان حين يولدُ يستهلّ صارخًا.

 

القول في تأويل قوله : فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا

قال أبو جعفر: يعني بذلك: أن الله جل ثناؤه تقبّل مريمَ من أمها حَنَّة، وتحريرَها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها « بقبول حَسن » .

« والقبول » مصدر من: « قبِلها ربُّها » ، فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل. ولو كانَ على لفظه لكان: « فتقبلها ربها تقبُّلا حسنًا » . وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا: أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم: « تكلم فلان كلامًا » ، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل: « تكلم فلان تكلمًا » . ومنه قوله: « وأنبتها نباتًا حسنًا » ، ولم يقل: إنباتًا حسنًا.

وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم نسمع العرب تضم القاف في « قبول » ، وكان القياس الضمّ، لأنه مصدر مثل: « الدُّخول، والخروج » . قال: ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يُشبهه.

حدثت بذلك عن أبي عبيد قال، أخبرني اليزيدي، عن أبي عمرو.

وأما قوله: « وأنبتها نباتًا حسنًا » ، فإن معناه: وأنبتها رَبُّها في غذائه ورزْقه نباتًا حسنًا، حتى تمّت فكملت امرأةً بالغةً تامة، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال الله عز وجل: « فتقبلها ربها بقبول حسن » ، قال: تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة، وأجرَها فيها « وأنبتها » ، قال: نبتت في غذاء الله.

 

القول في تأويل قوله : وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: « وكفلها »

فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: ( وَكَفَلَهَا ) مخففة « الفاء » . بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتبارًا بقول الله عز وجل: يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [ سورة آل عمران: 44 ] .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين. ( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ) ، بمعنى: وكفَّلها اللهُ زكريا.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: ( وَكَفَّلَهَا ) مشددة « الفاء » ، بمعنى: وكفَّلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه. لأن زكريا أيضًا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمَّها إليه بالقُرْعة التي أخرجها اللهُ له، والآية التي أظهرَها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قَرَعَ فيها من شاحَّه فيها. وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومَه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكونُ عنده، تساهموا بقِدَاحهم، فرموا بها في نهر الأردنّ. فقال بعض أهل العلم: ارْتزّ قدح زكريا، فقام ولم يجر به الماء، وجرى بقدَاح الآخرين الماء. فجعل الله ذلك لزكريا علَمًا أنه أحق المتنازعين فيها بها.

وقال آخرون: بل اصّاعدَ قدح زكريا في النهر، وانحدرت قداحُ الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علَمًا من الله في أنه أولى القوم بها.

قال أبو جعفر: وأيّ الأمرين كان من ذلك، فلا شك أن ذلك كان قضاءً من الله بها لزكريا على خصومه، بأنه أولاهم بها، وإذْ كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضمّ الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تَشاحِّهم فيها، واختصامهم في أولاهم بها.

وإذْ كان ذلك كذلك؛ كان بيِّنًا أنّ أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد « كفَّلها » .

وأما ما اعتلَّ به القارئون ذلك بتخفيف « الفاء » ، من قول الله: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وأن ذلك موجبٌ صحةَ اختيارهم التخفيفَ في قوله: « وكفلها » فحجة دالةٌ على ضَعف احتيال المحتج بها.

ذلك أنه غير ممتنع ذُو عقل من أن يقول قائل: « كفَّل فلانٌ فلانًا فكفَله فلان » . فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم: أيهم يكفُل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام.

قال أبو جعفر: وكذلك اختلفت القرأة في قراءة « زكريا » .

فقرأته عامة قرأة المدينة بالمدّ.

وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر.

وهما لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، وليس في القراءة بإحداهما خلافٌ لمعنى القراءة الأخرى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.

غيرَ أن الصوابَ عندنا - إذا مُدّ « زكريا » أن يُنصب بغير تنوين، لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجرَى، ولأن قراءتنا في « كفَّلها » بالتشديد، وتثقيل « الفاء » . فـ « زكرياء » منصوب بالفعل الواقع عليه.

وفي « زكريا » لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها، لخلافها مصاحفَ المسلمين، وهو « زكري » بحذف المدة و « الياء » الساكنة، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء، فتنوّنه وتُجْريه في أنواع الإعراب مجاريَ « ياء » النسبة.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وضمها اللهُ إلى زكريا، من قول الشاعر:

فَهُوَ لِضُلالِ الهَوَامِ كَافِل

يراد به: لما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره، ضامٌّ إلى نفسه وجامع. وقد روي:

فَهُوَ لِضُلالِ الهَوافِي كَافِلُ

بمعنى أنه لما ندّ فهرب من النعمَ ضامٌّ من قولهم: « هفا الظَّليم » ، إذا أسرَع الطيران.

يقال منه للرجل: « ما لك تكفُل كلَّ ضالة » ؟ يعني به: تضمها إليك وتأخذُها.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاويّ قال حدثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربيّ، عن عكرمة في قوله: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، قال: ألقوا أقلامهم فجرَت بها الجِرْية، إلا قلم زكريا اصّاعدَ، فكفلها زكريا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وكفلها زكريا » ، قال: ضمها إليه. قال: ألقوا أقلامهم - يقول: عصَّيهم - قال: فألقوها تلقاء جِرْية الماء، فاستقبلت عصا زكريا جِرْيةَ الماء، فَقرَعهم.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ، قال الله عز وجل: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ، فانطلقت بها أمها في خِرَقها - يعني أمّ مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب وقال بعضهم: انطلقت حين بلغتْ إلى المحراب وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه، اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذ، وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. فلما أتوا بها اقترعوا عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، تحتي أختها! فأبوا، فخرجوا إلى نهر الأردنّ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها: أيهم يقوم قلمه فيكفلها. فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قُرْنتَه كأنه في طين، فأخذ الجارية. وذلك قول الله عز وجل: « وكفلها زكريا » ، فجعلها زكريا معه في بيته، وهو المحراب.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وكفلها زكريا » ، يقول: ضمها إليه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وكفلها زكريا » ، قال: سَهمهم بقلمه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال: كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم. قال: فتشاحَّ عليها أحبارُهم، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها. قال قتادة: وكان زكريا زوجَ أختها، فكفلها، وكانت عنده وَحضَنَها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره، عن عكرمة وأبي بكر، عن عكرمة قال: ثم خرجت بها يعني: أمّ مريم بمريم في خِرَقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون، أخي موسى بن عمران. قال: وهم يومئذ يَلون من بيت المقدس ما يلي الحجبةُ من الكعبة، فقالت لهم: دُونكم هذه النذيرة، فإنّي حرّرتها، وهي ابنتي، ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردُّها إلى بيتي! فقالوا: هذه ابنة إمامنا وكان عمران يؤُمهم في الصلاة وصاحب قُرْباننا! فقال زكريا: ادفعوها إلىّ، فإن خالتها عندي. قالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا! فذلك حين اقترعوا، فاقترعوا بأقلامهم عليها - بالأقلام التي يكتبون بها التوراة - فقرعهم زكريا، فكفلها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعلها زكريا معه في محرابه، قال الله عز وجل: « وكفلها زكريا » قال حجاج قال، ابن جريج: « الكاهنُ » في كلامهم: العالمُ.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وكفلها زكريا » ، بعد أبيها وأمها، يذكرها باليتم، ثم قص خبرها وخبرَ زكريا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير قوله: « وكفلها زكريا » ، قال: كانت عنده.

حدثني علي بن سهل قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله: « وكفلها زكريا » ، قال: جعلها زكريا معه في مِحْرابه.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ، وتقارعها القومُ، فقرَع زكريا، فكفلها زكريا.

وقال آخرون: بل كان زكريا بعد ولادة حَنَّةَ ابنتها مريمَ، كفَلها بغير اقتراع ولا استهام عليها، ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها، لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها ألاشِباع ابنة فاقوذ وقد قيل. إنّ اسم أم يحيى خالة عيسى: إشبع.

حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبأيّ: أن اسم أم يحيى أشبع.

فضمها إلى خالتها أمّ يحيى، فكانت إليهم ومعهم، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذْر أمها التي نذرت فيها.

قالوا: والاقتراع فيها بالأقلام، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم، ضَعُفَ زكريا عن حمل مئونتها، فتدافعوا حملَ مؤونتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسًا عليها وعلى احتمال مؤونتها. وسنذكر قصّتها على قول من قال ذلك، إذَا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى.

حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق.

فعلى هذا التأويل، تصح قراءة من قرأ: « وكفَلها زكريا » بتخفيف « الفاء » ، لو صح التأويلُ. غير أن القول متظاهرٌ من أهل التأويل بالقول الأوّل: أن استهامَ القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سَهمه منها فالجًا على سهام خُصومه فيها. فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف.

 

القول في تأويل قوله : كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحرابَ، بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقًا من الله لغذائها.

فقيل إن ذلك الرزقَ الذي كان يجده زكريا عندها، فاكهةُ الشتاء في الصيف، وفاكهةُ الصيف في الشتاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وجد عندها رزقًا » ، قال: وجد عندَها عنبًا في مِكْتَلٍ في غير حينه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد في قوله: « كلما دخل عليها زكريا المحراب وَجد عندها رزقًا » ، قال: العنب في غير حينه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « وجد عندها رزقًا » ، قال: فاكهة في غير حينها.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو إسحاق الكوفي، عن الضحاك: أنه كان يجدُ عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف يعني في قوله: « وجد عندها رزقًا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه، عن الضحاك مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدّث، عن مجاهد قال: كان يجدُ عندها العنب في غير حينه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وجد عندها رزقًا » ، قال: عنبًا وجده زكريا عند مريم في غير زمانه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله: « وجد عندها رزقًا » ، قال: فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا » ، قال: كنا نحدَّث أنها كانت تؤتَى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « وجد عندها رزقًا » ، قال: وجد عندها ثمرةً في غير زمانها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: جعل زكريا دونها عليها سبعةَ أبواب، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهةَ الشتاء في الصيف، وفاكهةَ الصيف في الشتاء.

حدثني موسى [ بن عبد الرحمن ] قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال: جعلها زكريا معه في بيتٍ - وهو المحراب - فكان يدخل عليها في الشتاء فيجد عندها فاكهةَ الصيف، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهةَ الشتاء.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وجدَ عندها رزقًا » ، قال: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس « كلما دخل عليها زكريا المحرابَ وجد عندها رزقًا » ، قال: وجد عندها ثمارَ الجنة، فاكهةَ الصّيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم: أنّ زكريا كان يجد عندها ثمرةَ الشتاء في الصيف، وثمرةَ الصيف في الشتاء.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن قال: كان زكريا إذا دخل عليها يعني على مريم المحرابَ وجد عندها رزقًا من السماء، من الله، ليس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده، لم يسألها عنه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلا عما كان يأتيها به، الذي كان يَمُونها في تلك الأيام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: كفلها بعد هلاك أمها فضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنَذْر أمها الذي نذرت فيها، فجعلت تنبت وتزيد. قال: ثم أصابت بني إسرائيل أزْمة وهي على ذلك من حالها، حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، أتعلمون؟ والله لقد ضعفتُ عن حَمل ابنة عمران! فقالوا: ونحن لقد جُهِدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم! فتدافعوها بينهم، وهم لا يرون لهم من حملها بُدًّا، حتى تقارعوا بالأقلام، فخرج السّهم بحملها على رجل من بني إسرائيل نجار يقال لهُ جريج، قال: فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه، فكانت تقول له: يا جريج، أحسن بالله الظن! فإن الله سيرزقنا! فجعل جريج يرزق بمكانها، فيأتيها كلّ يوم من كسبه بما يُصلحها، فإذا أدخله عليها وهي في الكنيسة، أنماه الله وكثَّره، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق، وليس بقدر ما يأتيها به جُريج، فيقول: « يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا » ؟ فتقول: « هو من عند الله إنّ الله يرْزُق من يشاء بغير حساب » .

قال أبو جعفر: وأما « المحراب » ، فهو مقدم كل مجلس ومصلًّى، وهو سيد المجالس وأشرفُها وأكرمُها، وكذلك هو من المساجد، ومنه قول عديّ بن زيد:

كَــدُمَى العَـاجِ فِـي المَحَـارِيبِ أَوْ كـالبَيْضِ فِـي الرَّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ

و « المحاريب » جمع « محراب » ، وقد يجمع على « محارب » .

 

القول في تأويل قوله : قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 37 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « قال » زكريا: « يا مريم: أنَّى لك هذا » ؟ من أي وجه لك هذا الذي أرَى عندك من الرزقَ؟ قالت مريم مجيبة له: « هو من عند الله » ، تعني: أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها.

وإنما كان زكريا يقول ذلك لها، لأنه كان - فيما ذكر لنا - يُغلِق عليها سبعة أبواب، ويخرج. ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. فكان يعجب مما يرى من ذلك، ويقول لها تعجبًا مما يرى: « أنَّى لك هذا » ؟ فتقول: من عند الله.

حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، فذكر نحوه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله » ، قال: فإنه وجد عندها الفاكهة الغضّة حين لا تُوجد الفاكهة عند أحد، فكان زكريا يقول: « يا مريم أنَّى لك هذا » ؟

وأما قوله: « إنّ الله يَرْزُقُ مَن يشاء بغير حساب » ، فخبرٌ من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقَه، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبدَه. لأنه جل ثناؤه لا ينقصُ سَوْقُه ذلك إليه كذلك خزائنَه، ولا يزيدُ إعطاؤه إياه، ومحاسَبته عليه في مُلكه، وفيما لديه شيئًا، ولا يعزب عنه علمُ ما يرزقه، وإنما يُحاسب مَنْ يعطي مَا يعطيه، مَنْ يخشى النقصانَ من ملكه، ودخولَ النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف، ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب.