القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ ) بالله ( يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) يقول: ولا يأتين بكذب يكذبنه في مولود يوجد بين أيديهنّ وأرجلهن. وإنما معنى الكلام: ولا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) يقول: لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم.

وقوله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) يقول: ولا يعصينك يا محمد في معروف من أمر الله عزّ وجلّ تأمرهن به . وذكر أن ذلك المعروف الذي شرط عليهنّ أن لا يعصين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيه هو النياحة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) يقول: لا يُنْحن.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) ، قال: النوح.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، مثله.

حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سالم، مثله.

حدثنا محمد بن عبيد المحاربيّ، قال: ثنا موسى بن عمير، عن أبي صالح، في قوله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: في نياحة.

حدثنا ابن حُمَيْد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: النوح.

قال ثنا مهران، عن سفيان، عن زيد بن أسلم ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: لا يخدشن وجهًا، ولا يشققن جيبًا، ولا يدعونّ ويلا ولا ينشدن شعرًا.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: « كانت محنة النساء أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: قل لهنّ: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئا، وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة رحمة الله عليه متنكرة في النساء، فقالت: إني إن أتكلم يعرفني، وإن عرفني قتلني، إنما تنكرت فرَقا من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فسكت النسوة اللاتي مع هند، وأبين أن يتكلمن، قالت هند وهي متنكرة: كيف يقبل من النساء شيئًا لم يقبله من الرجال؟ فنطر إليها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقال لعمر: قُلْ لَهُنَّ وَلا يسْرِقْنَ، قالت هند: والله إني لأصيب من أبى سفيان الهنات وما أدري أيحلهن لي أم لا قال أبو سفيان: ما أصبت من شيء مضى، أو قد بقي، فهو لك حلال فضحك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعرفها، فدعاها فأتته، فأخذت بيده، فعاذت به، فقال: أنْتِ هنْدٌ، فقالت: عفا الله عما سلف، فصرف عنها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال ( وَلا يَزْنِينَ ) فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة؟ قال: لا والله ما تَزْنيِ الحُرة؛ قال: وَلا يَقْتُلْنَ أولادَهُن، قالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر؛ قال: وَلا يَأتِينَ بِبُهتانٍ يفْترِينهُ بَينَ أيْدِيهن وأرْجلهِنَ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ؛ قال: منعهن أن ينحن، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب وَيخدِشْن الوجوه، ويقطِّعن الشعور؛ ويدعون بالثُّبور والويل » .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) حتى بلغ ( فَبَايِعْهُنَّ ) ذُكر لنا أن نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أخذ عليهن يومئذ النياحة، ولا تحدثن الرجال، إلا رجلا منكن مَحْرَما، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبي الله إن لنا أضيافا، وأنا نغيب عن نسائنا؛ قال: فقال رسول الله: « لَيْسَ أُولَئِكَ عَنَيْتُ » .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: هو النوح أُخِذ عليهن لا ينحن، ولا يخلُونَّ بحديث الرجال إلا مع ذي محْرم؛ قال: فقال عبد الرحمن بن عوف: إنا نغيب ويكون لنا أضياف؛ قال: « وليس أولئك عنيت » .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: أخبرنا أَبو هلال، قال: ثنا قتادة، في قوله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: لا يحدثن رجلا.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن عياش، عن سليمان بن سليمان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: « جاءت أُميمة بنت رقيقة إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تبايعه على الإسلام، فقال لها النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أبايعُكِ على أن لا تُشْركي بالله شيْئا، ولا تَسْرِقي، ولا تَزْني، وَلا تَقْتُلي وَلَدَكِ، وَلا تَأتي بِبُهْتانٍ تفتَرِينَهُ بَينَ يديْكِ ورِجْلَيْكِ، وَلا تَنُوحي وَلا تَبرَّجِي تَبرجَ الجاهِليةِ الأولى » .

حدثنا ابن حُمَيْد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن أُميمة بنت رقيقة، قالت: « جاءت نسوة إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يبايعنه، فقال: فِيما اسْتَطَعْتُنَّ وأطَقْتنَّ، فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا » .

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، قال: ثنا خالد بن يزيد، عن ابن أَبي هلال، عن ابن المنكدر « أن أُمَيمة أخبرته أنها دخلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في نسوة، فقلن: يا رسول الله ابسط يدك نصافحك، فقال: إني لا أُصافحُ النِّساءَ، وَلَكِن سآخُذُ عَلَيْكُنَّ، فأخذ علينا حتى بلغ ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) فقال: » فيما أطَقْتُنَّ واسْتَطَعْتُنَّ فَقلن: الله أرحم بنا من أنفسنا .

حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن أمّ عطية الأنصارية، قالت: « كان فيما اشترط علينا من المعروف حين بايعنا أن لا ننوح، فقالت امرأة من بني فلان: إن بني فلان أسعدوني، فلا حتى أجزيهم، فانطلقت فأسعدتهم، ثم جاءت فبايعت؛ قال: فما وفى منهن غيرها وغير أمّ سليم ابنة ملحان أمّ أنس بن مالك » .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عمرو بن فروخ القتات، قال: ثنا مصعب بن نوح الأنصاريّ، قال: « أدركت عجوزا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قالت: فأتيته لأبايعه، فأخذ علينا فيما أخذ ولا تَنُحنَ، فقالت عجوز: يا نبيّ الله إن ناسًا قد كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني، وإنهم قد أصابتهم مصيبة، فأنا أريد أن أسعدهم؛ قال: فانْطلقِي فَكافِئِيهمْ، ثم إنها أتت فبايعته، قال: هو المعروف الذي قال الله ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) . »

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن يزيد، مولى الصهباء، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، في قوله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: النوح.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يونس، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن أُميمة بنت رقيقة التيمية، قالت: « بايعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في نسوة من المسلمين، فقلنا له: جئناك يا رسول الله نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرِقَ، ولا نـزنِي، ولا نقتلَ أولادنا، ولا نأتيَ ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: » فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ « ، فقلنا: اللهُ وَرَسُولُهُ أرحم بنا من أنفسنا، فقلنا: بايعنا يا رسول الله، فقال: » اذْهَبْنَ فَقَدْ بَايعْتُكُنَّ، إنَّمَا قَوْلِي لمئَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ « ، وما صافح رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم منا أحدًا. »

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن عيسى بن عبد الله التميمي، عن محمد بن المنكدر، عن أُميمة بنت رقيقة خالة فاطمة بنت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: سمعتها تقول: « بايعنا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأخذ علينا أن لا نشرك بالله شيئًا، فذكر مثل حديث محمد بن إسحاق » .

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن أُميمة بنت رقيقة، قالت: « أتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في نساء نبايعه، قالت: فأخذ علينا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بما في القرآن ( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) ... الآية، ثم قال: » فيما استَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ « فقلنا : يا رسول الله ألا تصافحنا؟ فقال: » إنّي لا أُصَافِحُ النِّسَاءَ مَا قَوْلِي لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إلا كَقَوْلِي لِمِئَةِ امْرَأَةٍ « . »

حدثنا ابن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زُهير، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن أُميمة بنت رقيقة، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه.

حدثت ، عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) والمعروف: ما اشترط عليهنّ في البيعة أن يتبعن أمره.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله: ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) فقال: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نبيه وخيرته من خلقه ثم لم يستحلّ له أمور أمر إلا بشرط لم يقل: ولا يعصينك ويترك حتى قال في معروف: فكيف ينبغي لأحد أن يُطاع في غير معروف وقد اشترط الله هذا على نبيه، قال: فالمعروف كلّ معروف أمرهنّ به في الأمور كلها وينبغي لهنّ أن لا يعصين.

حدثنا محمد بن سنان القزاز، ثنا إسحاق بن إدريس، ثنا إسحاق بن عثمان بن يعقوب، قال: ثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية، عن جدته أمّ عطية، قالت: لما قدم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم المدينة، جمع بين نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم علينا، فرددن، أو فرددنا عليه، ثم قال: أنا رسول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إليكنّ، قالت: فقلنا مرحبًا برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبرسول رسول الله، فقال: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، قالت: قلنا نعم؛ قال: فمدّ يده من خارج الباب أو البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهمّ اشهد؛ قالت: وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحيَّض والعواتق، ولا جمعة علينا، ونهانا عن اتباع الجنازة، قال إسماعيل: فسألت جدتي عن قول الله ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قالت: النياحة.

حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير، في قول الله ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: لا يخلوا الرجل بامرأة.

وقوله: ( فَبَايِعْهُنَّ ) يقول جلّ ثناؤه: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على هذه الشروط، فبايعهن، ( وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ) يقول: سل لهنّ الله أن يصفح عن ذنوبهنّ، ويسترها عليهنّ بعفوه لهنّ عنها، ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول: إن الله ذو ستر على ذنوب من تاب إليه من ذنوبه أن يعذّبه عليها بعد توبته منها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( 13 )

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) من اليهود ( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) فقال بعضهم: معنى ذلك: قد يئس هؤلاء القوم الذين غضب الله عليهم من اليهود من ثواب الله في الآخرة، وأن يُبعثوا، كما يئس الكفار الأحياء من أمواتهم الذين هم في القبور أن يرجعوا إليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) ... الآية، يعني من مات من الذين كفروا، فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم، أو يبعثهم الله.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسين أنه قال في هذه الآية: ( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) قال: الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ ) يقول: يئسوا أن يُبعثوا كما يئس الكفار أن ترجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ ) ... الآية، الكافر لا يرجو لقاء ميته ولا أجره.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) يقول من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء منهم أن يرجعوا إليهم، أو يبعثهم الله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: قد يئسوا من الآخرة أن يرحمهم الله فيها، ويغفر لهم، كما يئس الكفار الذين هم أصحاب قبور قد ماتوا وصاروا إلى القبور من رحمة الله وعفوه عنهم في الآخرة، لأنهم قد أيقنوا بعذاب الله لهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، في هذه الآية ( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ ) ... الآية قال: أصحاب القبور الذين في القبور قد يئسوا من الآخرة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) قال: من ثواب الآخرة حين تبين لهم عملهن، وعاينوا النار.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية ( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ ) ... الآية، قال: أصحاب القبور قد يئسوا من الآخرة.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال الكلبي: قد يئسوا من الآخرة، يعني اليهود والنصارى، يقول: قد يئسوا من ثواب الآخرة وكرامتها، كما يئس الكفار الذين قد ماتوا فهم في القبور من الجنة حين رأوا مقعدهم من النار.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله ( لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا ) ... الآية، قال: قد يئس هؤلاء الكفار من أن تكون لهم آخرة، كما يئس الكفار الذين ماتوا الذين في القبور من أن تكون لهم آخرة، لما عاينوا من أمر الآخرة، فكما يئس أولئك الكفار، كذلك يئس هؤلاء الكفار؛ قال: والقوم الذين غضب الله عليهم، يهودهم الذين يئسوا من أن تكون لهم آخرة، كما يئس الكفار قبلهم من أصحاب القبور، لأنهم قد علموا كتاب الله وأقاموا على الكفر به، وما صنعوا وقد علموا.

حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، في قوله: ( يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ ) ... الآية، قال: قد يئسوا أن يكون لهم ثواب الآخرة، كما يئس من في القبور من الكفار من الخير، حين عاينوا العذاب والهوان.

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: قد يئس هؤلاء الذين غضب الله عليهم من اليهود من ثواب الله لهم في الآخرة، وكرامته لكفرهم وتكذيبهم رسوله محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على علم منهم بأنه لله نبيّ، كما يئس الكفار منهم الذين مضوا قبلهم فهلكوا، فصاروا أصحاب القبور، وهم على مثل الذي هؤلاء عليه من تكذيبهم عيسى؛ صلوات الله عليه وغيره من الرسل، من ثواب الله وكرامته إياهم.

وإنما قلنا: ذلك أولى القولين بتأويل الآية، لأن الأموات قد يئسوا من رجوعهم إلى الدنيا، أو أن يُبعثوا قبل قيام الساعة المؤمنون والكفار، فلا وجه لأن يخصّ بذلك الخبر عن الكفار، وقد شركهم في الإياس من ذلك المؤمنون.

آخر تفسير سورة الممتحنة.

 

تفسير سورة الصف

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القول في تأويل قوله تعالى : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( 3 )

يقول جلّ ثناؤه: ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) السبع ( وَمَا فِي الأرْضِ ) من الخلق، مُذعنين له بالألوهة والربوبية ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) في نقمته ممن عصاه منهم، فكفر به، وخالف أمره ( الْحَكِيمُ ) في تدبيره إياهم.

وقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا صدّقوا الله ورسوله، لم تقولون القول الذي لا تصدّقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة أقوالكم ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) يقول: عظم مقتًا عند ربكم قولكم ما لا تفعلون.

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أُنـزلت هذه الآية، فقال بعضهم: أُنـزلت توبيخًا من الله لقوم من المؤمنين، تمنوا معرفة أفضل الأعمال، فعرّفهم الله إياه، فلما عرفوا قصروا، فعوتبوا بهذه الآية.

ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحبّ الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شكّ فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقرّوا به؛ فلما نـزل الجهاد، كره ذلك أُناس من المؤمنين، وشقّ عليهم أمره، فقال الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ )

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال: كان قوم يقولون: والله لو أنا نعلم ما أحب الأعمال إلى الله؟ لعملناه، فأنـزل الله على نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا ) ... إلى قوله: بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ فدلهم على أحبّ الأعمال إليه.

حدثنا ابن حُمَيْد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن محمد بن جحادة، عن أَبي صالح، قال: قالوا: لو كنا نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله وأفضل، فنـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فكرهوا، فنـزلت ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) .

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ... إلى قوله: مَرْصُوصٌ فيما بين ذلك في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا في مجلس: لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله لعملنا بها حتى نموت، فأنـزل الله هذا فيهم، فقال عبد الله بن رواحة: لا أزال حبيسًا في سبيل الله حتى أموت، فقتل شهيدا.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في توبيخ قوم من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، كان أحدهم يفتخر بالفعل من أفعال الخير التي لم يفعلها، فيقول فعلت كذا وكذا، فعذلهم الله على افتخارهم بما لم يفعلوا كذّبا.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال : ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال: بلغني أنها كانت في الجهاد، كان الرجل يقول: قاتلت وفعلت، ولم يكن فعل، فوعظهم الله في ذلك أشدّ الموعظة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) يؤذنهم ويعلمهم كما تسمعون ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ) وكانت رجال تخبر في القتال بشيء لم يفعلوه ولم يبلغوه، فوعظهم الله في ذلك موعظة بليغة، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) .. إلى قوله: كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ .

حُدثت عن الحسين ، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) أنـزل الله هذا في الرجل يقول في القتال ما لم يفعله من الضرب والطعن والقتل، قال الله ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) .

وقال آخرون: بل هذا توبيخ من الله لقوم من المنافقين، كانوا يَعِدُونَ المؤمنين النصر وهم كاذبون.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) يقولون للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه: لو خرجتم خرجنا معكم، وكنا في نصركم، وفي، وفي؛ فأخبرهم أنه ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) .

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عنى بها الذين قالوا: لو عرفنا أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به، ثم قصروا في العمل بعد ما عرفوا.

وإنما قلنا: هذا القول أولى بها، لأن الله جلّ ثناؤه خاطب بها المؤمنين، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ولو كانت نـزلت في المنافقين لم يسمْوا، ولم يوصفوا بالإيمان، ولو كانوا وصفوا أنفسهم بفعل ما لم يكونوا فعلوه، كانوا قد تعمدوا قيل الكذب، ولم يكن ذلك صفة القوم، ولكنهم عندي أمَّلوا بقولهم: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله عملناه أنهم لو علموا بذلك عملوه؛ فلما علموا ضعفت قوى قوم منهم، عن القيام بما أملوا القيام به قبل العلم، وقوي آخرون فقاموا به، وكان لهم الفضل والشرف.

واختلفت أهل العربية في معنى ذلك، وفي وجه نصب قوله: ( كَبُرَ مَقْتًا ) فقال بعض نحويي البصرة: قال: ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ) : أي كبر مقتكم مقتًا، ثم قال: ( أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) أذى قولكم. وقال بعض نحويي الكوفة: قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) . كان المسلمون يقولون: لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله لأتيناه، ولو ذهبت فيه أنفسنا وأموالنا؛ فلما كان يوم أحد، نـزلوا عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى شُجّ، وكُسرت رباعيته، فقال ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ، ثم قال: ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ) كبر ذلك مقتًا: أي فأن في موضع رفع، لأن كبر كقوله: بئس رجلا أخوك.

وقوله: ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ) وعند الذين آمنوا، أُضْمِر في كبر اسم يكون مرفوعًا.

والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله: ( مَقْتًا ) منصوب على التفسير، كقول القائل: كبر قولا هذا القول.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 )

يقول تعالى ذكره للقائلين: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لعملناه حتى نموت: ( إِنَّ اللَّهَ ) أيها القوم ( يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ) كأنهم، يعني في طريقه ودينه الذي دعا إليه ( صَفًّا ) يعني بذلك أنهم يقاتلون أعداء الله مصطفين.

وقوله : ( كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) يقول: يقاتلون في سبيل الله صفَّا مصطفَّا، كأنهم في اصطفافهم هنالك حيطان مبنية قد رصّ، فأحكم وأتقن، فلا يغادر منه شيئًا، وكان بعضهم يقول: بني بالرصاص.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحبّ أن يختلف بنيانه، كذلك تبارك وتعالى لا يختلف أمره، وإن الله وصف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) قال: والذين صدّقوا قولهم بأعمالهم هؤلاء؛ قال: وهؤلاء لم يصدّقوا قولهم بالأعمال لما خرج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نكصوا عنه وتخلفوا. وكان بعض أهل العلم يقول: إنما قال الله ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ) ليدل على أن القتال راجلا أحبّ إليه من القتال فارسًا، لأن الفرسان لا يصطفون، وإنما تصطفّ الرجالة.

ذكر من قال ذلك :

حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن أَبي بكر ابن أبي مريم، عن يحيى بن جابر الطائي، عن أَبي بحرية، قال: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض، لقول الله ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) قال: وكان أَبو بحرية يقول: إذا رأيتموني التفتّ في الصف، فجئوا في لحيي.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: واذكر يا محمد ( إِذْ قَالَ مُوسَى ) بن عمران ( لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ ) حقًا ( أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) .

وقوله: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) يقول: فلما عدلوا وجاروا عن قصد السبيل أزاغ الله قلوبهم: يقول: أمال الله قلوبهم عنه.

وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام، قال: ثنا أَبو غالب، عن أَبي أمامة في قوله: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) قال: هم الخوارج ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) يقول: والله لا يوفِّق لإصابة الحقّ القوم الذين اختاروا الكفر على الإيمان.