القول في تأويل قوله : رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْـزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( 53 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم قالوا: « ربنا آمنا » ، أي: صدّقنا « بما أنـزلت » ، يعني: بما أنـزلتَ على نبيك عيسى من كتابك « واتبعنا الرسول » ، يعني بذلك: صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به، وأعوانه على الحق الذي أرسلتَه به إلى عبادك وقوله: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، يقول: فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق، وأقرُّوا لك بالتوحيد، وصدّقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك، وأحِلَّنا محلهم، ولا تجعلنا ممن كفر بك، وصدَّ عن سبيلك، وخالف أمرك ونهيك.

يعرّف خلقه جل ثناؤه بذلك سبيلَ الذين رضي أقوالهم وأفعالهم، ليحتذوا طريقهم، ويتبعوا منهاجهم، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته ويكذّب بذلك الذين انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة، في دعواهم على أنبياء الله أنهم كانوا على غيرها ويحتجُّ به على الوفد الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجران: بأنّ قِيلَ مَنْ رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قِيلهم، ومنهاجهم غير منهاجهم، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ربنا آمنا بما أنـزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين » ، أي: هكذا كان قولهم وإيمانهم.

 

القول في تأويل قوله : وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( 54 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل، وهم الذين ذكر الله أنّ عيسى أحسّ منهم الكفر.

وكان مكرهم الذي وصفهم الله به، مُواطأة بعضهم بعضًا على الفتك بعيسى وقَتْله، وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، بعد إخراج قومه إياه وأمّه من بين أظهُرِهم، عاد إليهم، فيما:-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن عيسى سار بهم يعني: بالحواريين الذين كانوا يصطادون السمك، فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم حتى أتى بني إسرائيل ليلا فصَاح فيهم، فذلك قوله: فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ الآية [ سورة الصف: 14 ] .

وأما مكر الله بهم: فإنه - فيما ذكر السدي - إلقاؤه شبَه عيسى على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى، وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن بني إسرائيل حَصروا عيسى وتسعةَ عشر رجلا من الحواريِّين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصُعِد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله: « ومكرُوا ومكر الله والله خير الماكرين » . فلما خرج الحواريون أبصرُوهم تسعةَ عشر، فأخبروهم أن عيسى قد صُعد به إلى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فيجدُونهم ينقصون رجلا من العِدّة، ويرون صورةَ عيسى فيهم، فشكُّوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يُرَوْن أنه عيسى وصَلبوه، فذلك قول الله عز وجل: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [ سورة النساء: 157 ] .

وقد يحتمل أن يكون معنى « مكر الله بهم » ، استدراجُه إياهم ليبلغ الكتاب أجله، كما قد بينا ذلك في قول الله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [ سورة البقرة: 15 ] .

 

القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتلَ عيسى مع كفرهم بالله، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم إذ قال الله جل ثناؤه: « إني متوفيك » ، فـ « إذ » صلةٌ من قوله: وَمَكَرَ اللَّهُ ، يعني: ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى « إني متوفيك ورافعك إليّ، فتوفاه ورفعه إليه. »

ثم اختلف أهل التأويل في معنى « الوفاة » التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية.

فقال بعضهم: « هي وفاة نَوْم » ، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني مُنِيمك ورافعك في نومك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « إني متوفيك » ، قال: يعني وفاةَ المنام، رفعه الله في منامه قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: « إن عيسَى لم يمتْ، وإنه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة. »

وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، فرافعك إليّ، قالوا: ومعنى « الوفاة » ، القبض، لما يقال: « توفَّيت من فلان ما لي عليه » ، بمعنى: قبضته واستوفيته. قالوا: فمعنى قوله: « إني متوفيك ورافعك » ، أي: قابضك من الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذُك إلى ما عندي بغير موت، ورافعُك من بين المشركين وأهل الكفر بك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق في قول الله: « إني متوفيك » ، قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: « إني متوفيك » ، قال: متوفيك من الأرض.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا » ، قال: فرفعه إياه إليه، توفِّيه إياه، وتطهيره من الذين كفروا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح: أن كعب الأحبار قال: ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم، إنما بعثه الله داعيًا ومبشرًا يدعو إليه وحده، فلما رأى عيسى قِلة من اتبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه: « إني متوفيك ورافعك إليّ » ، وليس مَنْ رفعته عندي ميتًا، وإني سأبعثك على الأعوَر الدجّال فتقتله، ثم تعيش بعد ذلك أربعًا وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحيّ.

قال كعب الأحبار: وذلك يصدّق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: كيف تهلك أمة أنا في أوّلها، وعيسى في آخرها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « يا عيسى إني متوفيك » ، أي قابضُك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « إني متوفيك ورافعك إليّ » ، قال: « متوفيك » : قابضك قال: « ومتوفيك » و « رافعك » ، واحدٌ قال: ولم يمت بعدُ، حتى يقتل الدجالَ، وسيموتُ. وقرأ قول الله عز وجل: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا ، قال: رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا قال: وينـزل كهلا.

حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله عز وجل: « يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي » ، الآية كلها، قال: رفعه الله إليه، فهو عنده في السماء.

وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاةَ موتٍ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « إني متوفيك » ، يقول: إني مميتك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال: توفى الله عيسى ابن مريم ثلاثَ ساعات من النهار حتى رفعه إليه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياهُ الله.

وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنـزالي إياك إلى الدنيا. وقال: هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا، قولُ من قال: « معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ » ، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينـزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدة ذكَرها، اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليهبطنّ اللهُ عيسى ابن مريم حَكمًا عدلا وإمامًا مُقسِطًا، يكسر الصَّليب، ويقتل الخنـزير، ويضَعُ الجزية، ويُفيضُ المالَ حتى لا يجد من يأخذه، وليسكنّ الرّوْحاء حاجًا أو معتمرًا، أو ليُثَنِّينَّ بهما جميعًا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأنبياء إخوَةٌ لعَلاتٍ، أمَّهاتهم شتى، ودينهم واحد. وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وأنه خليفتي على أمتي. وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: فإنه رجل مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سَبط الشعر، كأن شَعرَه يقطُر، وإن لم يصبه بَللٌ، بين مُمصَّرَتين، يدق الصّليبَ، ويقتل الخنـزير، ويُفيضُ المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه المِللَ كلها، ويهلك الله في زمانه مسيحَ الضّلالة الكذّاب الدجال وتقعُ في الأرض الأمَنَةُ حتى ترتع الأسُود مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغلمانُ بالحيات، لا يَضرُّ بعضُهم بعضًا، فيثبت في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى، ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه.

قال أبو جعفر: ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل، لم يكن بالذي يميته مِيتةً أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يُميتهم ثم يُحييهم، كما قال جلّ ثناؤه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [ سورة الروم: 40 ] .

فتأويل الآية إذًا: قال الله لعيسى: يا عيسى، إني قابضك من الأرض، ورافعك إليّ، ومطهرك من الذين كفروا فجحدوا نبوّتك.

وهذا الخبر، وإن كان مخرجه مخرجَ خبر، فإن فيه من الله عز وجل احتجاجًا على الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من وفد نجرانَ بأن عيسى لم يُقتَل ولم يُصْلب كما زعموا، وأنهم واليهودَ الذين أقرُّوا بذلك وادَّعوا على عيسى - كذَبةٌ في دعواهم وزعمهم، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ثم أخبرهم - يعني الوفد من نجران - وردّ عليهم فيما أقرُّوا لليهود بصلبه، كيفَ رفعه وطهره منهم، فقال: « إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ » .

وأما « مطهِّرك من الذين كفروا » ، فإنه يعني: منظّفك، فمخلّصك ممن كفر بك، وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ومطهرك من الذين كفروا » ، قال: إذْ همُّوا منك بما همّوا.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: « ومطهرك من الذين كفروا » ، قال: طهَّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه.

 

القول في تأويل قوله عز وجل : وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجاعل الذين اتبعوك على منهاجِك وملَّتك من الإسلام وفطرته، فوق الذين جحدوا نبوّتك وخالفوا سبيلهم [ من ] جميع أهل الملل، فكذّبوا بما جئت به وصدّوا عن الإقرار به، فمصيِّرهم فوقهم ظاهرين عليهم، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، هم أهلُ الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسُنته، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، ثم ذكر نحوه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، ثم ذكر نحوه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، قال: ناصرُ من اتبعك على الإسلام، على الذين كفروا إلى يوم القيامة.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، أما « الذين اتبعوك » ، فيقال: هم المؤمنون، ويقال: بل هم الرّوم.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، قال: جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. قال: المسلمون من فوقهم، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام إلى يوم القيامة.

وقال آخرون: معنى ذلك: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، قال: الذين كفروا من بني إسرائيل « وجاعل الذين اتبعوك » ، قال: الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم « فوق الذين كفروا » ، النصارى فوقَ اليهود إلى يوم القيامة. قال: فليس بلدٌ فيه أحدٌ من النصارى، إلا وهم فوق يهودَ، في شرقٍ ولا غرب، هم في البلدان كلِّها مستذلون.

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 55 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « ثم إليّ » ، ثم إلى الله، أيها المختلفون في عيسى « مرجعكم » ، يعني: مصيركم يوم القيامة « فأحكم بينكم » ، يقول: فأقضي حينئذ بين جَميعكم في أمر عيسى بالحق « فيما كنتم فيه تختلفون » من أمره.

وهذا من الكلام الذي صُرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة، وذلك أن قوله: « ثم إليَّ مرجعكم » ، إنما قُصد به الخبرُ عن متَّبعي عيسى والكافرين به.

وتأويل الكلام: وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليّ مَرجعُ الفريقين: الذين اتبعوك، والذين كفروا بك، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. ولكن ردَّ الكلام إلى الخطاب لسبوق القول، على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج على وجه الحكاية، كما قال: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ] .

 

القول في تأويل قوله : فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 56 ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 57 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فأما الذين كفروا » ، فأما الذين جَحدوا نبوّتك يا عيسى، وخالفوا ملتك، وكذّبوا بما جئتهم به من الحق، وقالوا فيك الباطلَ، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يُضيفوك إليه، من اليهود والنصارى وسائر أصناف الأديان، فإني أعذبهم عذابًا شديدًا، أما في الدنيا فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة، وأما في الآخرة فبنار جهنم خالدين فيها أبدًا « وما لهم من ناصرين » ، يقول: وما لهم من عذاب الله مانعٌ، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوة ولا شفاعة، لأنه العزيز ذُو الانتقام.

وأما قوله: « وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات » ، فإنه يعني تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بك يا عيسى - يقول: صدّقوك - فأقروا بنبوتك وبما جئتهم به من الحقّ من عندي، ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به، وعملوا بما فرضتُ من فرائضي على لسانك، وشرعتُ من شرائعي، وسننتُ من سنني. كما:

حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « وعملوا الصالحات » ، يقول: أدوا فرائضي.

« فيوفيهم أجورَهم » ، يقول: فيعطيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة كاملا لا يُبخسون منه شيئًا ولا يُنقصونه.

وأما قوله: « والله لا يحب الظالمين » ، فإنه يعني: والله لا يحبُّ من ظلم غيرَه حقًا له، أو وضع شيئًا في غير موضعه.

فنفى جل ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عبادَه، فيجازي المسيءَ ممن كفر جزاءَ المحسنين ممن آمن به، أو يجازي المحسنَ ممن آمن به واتبعَ أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه، جزاءَ المسيئين ممن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه. فقال: إني لا أحبّ الظالمين، فكيف أظلم خلقي؟

وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان خرج مخرج الخبر، فإنه وعيدٌ منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله، لأنه أعلم الفريقين جميعًا أنه لا يبخسُ هذا المؤمن حقه، ولا يظلمُ كرامته فيضعها فيمن كفر به وخالف أمره ونهيه، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالمًا.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( 58 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ذلك » ، هذه الأنباءَ التي أنبأ بها نبيه عن عيسى وأمِّه مريم، وأمِّها حَنَّة وزكريا وابنه يحيى، وما قصَّ من أمر الحواريين واليهودَ من بنى إسرائيل « نتلوها عليك » ، يا محمد، يقول: نقرؤها عليك يا محمد على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم، بوحيناها إليك « من الآيات » ، يقول: من العبر والحجج على من حاجَّك من وفد نصارى نجران، ويهود بني إسرائيل الذين كذَّبوك وكذبوا ما جئتهم به من الحق من عندي « والذكر » ، يعني: والقرآن « الحكيم » ، يعني: ذي الحكمة الفاصلة بين الحقّ والباطل، وبينك وبين ناسبي المسيح إلى غير نسبه، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم » ، القاطع الفاصل الحقّ، الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنّ خبرًا غيره.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم » ، قال: القرآن.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: « والذكر » ، يقول: القرآن « الحكيم » الذي قد كمَلَ في حكمته.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 59 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير فحل فأخبرْ به، يا محمد، الوفدَ من نصارى نجران عندي، كشبه آدمَ الذي خلقتُه من تراب ثم قلت له: « كن » ، فكان من غير فحل ولا ذكر ولا أنثى. يقول: فليس خلقي عيسى من أمه من غير فحل، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى، وأمري إذ أمرته أن يكون فكان لحمًا. يقول: فكذلك خلقى عيسى: أمرتُه أن يكون فكانَ.

وذكر أهل التأويل أن الله عز وجل أنـزل هذه الآية احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الوفد من نصارى نجران الذين حاجُّوه في عيسى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى في عيسى قولا فكانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله عز وجل هذه الآية في سورة آل عمران: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ، إلى قوله فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ، وذلك أن رهطًا من أهل نجران قدموا على محمد صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيّد والعاقب فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسَى، تزعم أنه عبدُ الله! فقال محمد: أجل، إنه عبد الله. قالوا له: فهل رأيت مثلَ عيسى، أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر ربِّنا السميع العليم فقال: قل لهم إذا أتوك: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم » ، إلى آخر الآية.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ، ذكر لنا أنّ سيِّديْ أهل نجران وأسقُفَّيْهم: السيد والعاقبُ، لقيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن عيسى فقالا كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنـزل الله عز وجل فيه هذه الآية: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إن مَثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب » ، لما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع به أهل نجران، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم. منهم: العاقب، والسيد، وما سَرجس، ومار يحز. فسألوه ما يقول في عيسى، فقال: هو عبد الله ورُوحُه وكلمته. قالوا هم: لا! ولكنه هو الله، نـزل من ملكه فدَخل في جوف مريم، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمرَه! فهل رأيتَ قَط إنسانًا خُلق من غير أب؟ فأنـزل الله عز وجل: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » . 7164 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح، عن عكرمة قوله: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ، قال: نـزلت في العاقب والسيد من أهل نجران، وهما نصرانيان. قال ابن جريج: بلغنا أنّ نصارى أهل نجران قدم وفدُهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم السيد والعاقبُ، وهما يومئذ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد، فيما تشتمُ صاحبنا؟ قال: من صاحبكما! قالا عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أجل، إنه عبدُ الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه. فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقًا فأرنا عبدًا يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، الآية، لكنه الله. فسكتَ حتى أتاه جبريلُ فقال: يا محمد: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [ سورة المائدة: 17، 72 ] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، إنهم سألوني أن أخبرَهم بمثَل عيسى. قال جبريل: مثلُ عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كُن فيكون. فلما أصبحوا عادُوا، فقرأ عليهم الآيات. »

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « إن مثل عيسى عند الله » ، فاسمع، « كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين » ، فإن قالوا: خُلق عيسى من غير ذكر، فقد خلقت آدمَ من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كانَ عيسى لحمًا ودمًا وشعرًا وبَشرًا، فليس خلقُ عيسى من غير ذكر بأعجبَ من هذا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب » ، قال: أتى نجرانيَّان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا له: هل علمتَ أنّ أحدًا وُلد من غير ذكر، فيكون عيسى كذلك؟ قال: فأنـزل الله عز وجل: « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ، أكان لآدم أب أو أم! ! كما خلقت هذا في بطن هذه؟

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فكيف قال: « كمثل آدم خلقه » ، « وآدم » معرفة، والمعارفُ لا تُوصَل؟

قيل: إن قوله: « خلقه من تراب » غير صلة لآدم، وإنما هو بيان عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه، وكيف كان.

وأما قوله: « ثم قال له كن فيكون » ، فإنما قال: « فيكون » وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم، وذلك خبر عن أمر قد تقضَّى، وقد أخرجَ الخبر عنه مُخرَج الخبر عما قد مضَى فقال جل ثناؤه: « خلقه من تراب ثم قال له كن » ، لأنه بمعنى الإعلام من الله نبيَّه أن تكوينه الأشياء بقوله: « كن » ، ثم قال: « فيكون » ، خبرًا مبتدأ، وقد تناهى الخبر عن أمر آدم عند قوله: « كنْ » .

فتأويل الكلام إذًا: « إن مثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن » ، واعلم، يا محمد، أن ما قال له ربك « كن » ، فهو كائن.

فلما كان في قوله: « كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن » ، دلالةٌ على أن الكلام يرادُ به إعلام نبي الله صلى الله عليه وسلم وسائر خلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداءً من غير أصل ولا أوّل ولا عُنصر، استغنى بدلالة الكلام على المعنى، وقيل: « فيكون » ، فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى.

وقد قال بعض أهل العربية: « فيكون » ، رفع على الابتداء، ومعناه: كن فكان، فكأنه قال: فإذا هو كائن.

 

القول في تأويل قوله : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 60 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذي أنبأتك به من خبر عيسى، وأنَّ مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له ربه كُنْ هو الحق من ربك، يقول: هو الخبر الذي هو من عند ربك « فلا تكن من الممترين » ، يعني: فلا تكن من الشاكين في أنّ ذلك كذلك، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « الحق من ربك فلا تكن من الممترين » ، يعني: فلا تكن في شكّ من عيسى أنه كمثل آدم، عبدُ الله ورسوله، وكلمةُ الله ورُوحه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « الحق من ربك فلا تكن من الممترين » ، يقول: فلا تكن في شكّ مما قصصنا عليك أنّ عيسى عبدُ الله ورسوله، وكلمةٌ منه ورُوحٌ، وأنّ مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تُراب ثم قال له كن فيكون.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « الحق من ربك » ، ما جاءك من الخبر عن عيسى « فلا تكن من الممترين » ، أي: قد جاءك الحق من ربك فلا تمتَرِ فيه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فلا تكن من الممترين » ، قال: والممترون الشاكون.

« والمرية » « والشك » « والريب » ، واحد سواءٌ، كهيئة ما تقول: « أعطني » « وناولني » « وهلم » ، فهذا مختلف في الكلام وهو واحد.

 

القول في تأويل قوله : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( 61 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فمن حاجك فيه » ، فمن جادلك، يا محمد، في المسيح عيسى ابن مريم.

والهاء في قوله: « فيه » ، عائدة على ذكر عيسى. وجائز أن تكون عائدة على « الحق » الذي قال تعالى ذكره: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ .

ويعني بقوله: « من بعد ما جاءك من العلم » ، من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بيَّنته لك في عيسى أنه عبد الله « فقل تعالوا » ، هلموا فلندع « أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل » ، يقول: ثم نلتعن.

يقال في الكلام: « ما لهُ؟ بَهَله الله » أي: لعنه الله « وما له؟ عليه بُهْلةُ الله » ، يريد اللعن، وقال لبيد، وذكر قومًا هلكوا فقال:

* نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهِلْ *

يعني: دعا عليهم بالهلاك.

« فنجعل لعنة الله على الكاذبين » منا ومنكم في أنه عيسى، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم » ، أي: في عيسى: أنه عبدُ الله ورسوله، من كلمة الله وروحه « فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم » ، إلى قوله: « على الكاذبين » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم » ، أي: من بعد ما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره « فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم » ، الآية.

حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم » ، يقول: من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين » ، قال: منا ومنكم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، وحدثني ابن لهيعة، عن سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « ليتَ بيني وبيني أهل نجرانَ حجابًا فلا أراهم ولا يروني! من شْدّة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم. »