القول في تأويل قوله : إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 62 ) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( 63 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن هذا الذي أنبأتك به، يا محمد، من أمر عيسى فقصصته عليك من أنبائه، وأنه عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتها إلى مريم وروح منّي، لهو القصَص والنبأ الحق، فاعلم ذلك. واعلم أنه ليس للخلق معبودٌ يستوجبُ عليهم العبادةَ بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبُدُه، وهو الله العزيز الحكيم.

ويعني بقوله: الْعَزِيزُ ، العزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، وادعى معه إلهًا غيرَه، أو عبد ربًّا سواه الْحَكِيمُ في تدبيره، لا يدخل ما دبره وَهَنٌ، ولا يلحقه خللٌ.

« فإن تولوا » ، يعني: فإن أدبر هؤلاء الذين حاجُّوك في عيسى، عما جاءك من الحق من عند ربك في عيسى وغيره من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان، فأعرضوا عنه ولم يقبلوه

« فإن الله عليم بالمفسدين » ، يقول: فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه، وذلك هو إفسادهم. يقول تعالى ذكره: فهو عالم بهم وبأعمالهم، يحصيها عليهم ويحفظها، حتى يجازيهم عليها جزاءَهم.

وبنحو ما قلنا قي ذلك قال أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) ، أي: إن هذا الذي جئتَ به من الخبر عن عيسى، ( لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) ، من أمره.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ ) ، إن هذا الذي قُلنا في عيسى ( لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) ، قال: إن هذا القصصَ الحقّ في عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدَّى هذا ولا يُجاوزُه: أنْ يتعدّى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروحًا منه، وعبدَ الله ورسوله.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) ، إنّ هذا الذي قلنا في عيسى، هو الحق وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ ، الآية.

فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين الوفد من نصارى نجران، بالقضاء الفاصل والحكم العادل، أمرَه إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله، وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأنّ عيسى عبدُه ورسوله، وأبوا إلا الجدلَ والخصومة أن يدعوَهم إلى الملاعنة. ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، انخزلوا فامتنعوا من الملاعنة، ودعوا إلى المصالحة، كالذي:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: فأمِر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - بملاعنتهم - يعني: بملاعنة أهل نجران - بقوله: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، الآية. فتواعدوا أن يلاعنوه وواعدوه الغدَ. فانطلقوا إلى السيد والعاقب، وكانا أعقلهم، فتابعاهم. فانطلقوا إلى رجل منهم عاقل، فذكروا له ما فارقوا عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما صنعتم!! ونَدَّمهم، وقال لهم: إن كان نبيًّا ثم دعا عليكم لا يغضبُه الله فيكم أبدًا، ولئن كان ملِكًا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدًا. قالوا: فكيف لنا وقد واعدنا! فقال لهم: إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه، فقولوا: « نعوذ بالله » ! فإن دعاكم أيضًا فقولوا له: « نعوذ بالله » ! ولعله أن يعفيَكم من ذلك. فلما غدَوْا غدَا النبّي صلى الله عليه وسلم محتضِنًا حسَنًا آخذًا بيد الحسين، وفاطمة تمشي خلفه. فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس، فقالوا: « نعوذ الله » ! ثم دعاهم فقالوا: « نعوذ بالله » ! مرارًا قال: فَإن أبيتم فأسلموا ولكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين كما قال الله عز وجل، فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون كما قال الله عز وجل. قالوا: ما نملك إلا أنفسنا! قال: فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء كما قال الله عز وجل. قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكن نؤدّي الجزية. قال: فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة، ألفًا في رجب، وألفًا في صفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أتاني البشير بهلكه أهل نجران، حتى الطير على الشجر أو: العصافيرُ على الشجر لو تمُّوا على الملاعنة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال: فقلت للمغيرة: إن الناس يروُون في حديث أهل نجران أن عليًّا كان معهم! فقال: أما الشعبي فلم يذكره، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في عليّ، أو لم يكن في الحديث!

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) إلى قوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ، فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجة. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من الله عنه، والفصلُ من القضاء بينه وبينهم، وأمره بما أمره به من ملاعنتهم، إنْ ردُّوا عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نُريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رَأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ قال: والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أنّ محمدًا لنبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قَوْمٌ نبيًّا قط فبقي كبيرُهم ولا نبتَ صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلْفَ دينكم، والإقامةَ على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادِعوا الرجلَ، ثم انصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمنٌ رَأيه. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنَك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضَاهُ لنا، يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رِضًى.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن زيد بن علي في قوله: تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ الآية، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، الآية، فأخذ - يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم - بيد الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا. فخرجَ معهم، فلم يخرج يومئذ النصارَى، وقالوا: إنا نخاف أن يكون هذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس دعوة النبيّ كغيرها ! ! فتخلفوا عنه يومئذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لو خرجوا لاحترقوا! فصالحوه على صلح: على أنّ له عليهم ثمانين ألفًا، فما عجزت الدراهم ففي العُرُوض: الحُلة بأربعين وعلى أن له عليهم ثلاثًا وثلاثين درعًا، وثلاثًا وثلاثين بعيرًا، وأربعة وثلاثين فرسًا غازيةً كلّ سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَامنٌ لها حتى نُؤدّيها إليهم. »

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا وفدًا من وفد نجران من النصارى، وهم الذين حاجوه، في عيسى، فنكصُوا عن ذلك وخافوا وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: والذي نفس محمد بيده، إن كان العذاب لقد تَدَلَّى على أهل نجران، ولو فعلوا لاستُؤصلوا عن جديد الأرض.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ، قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خرج ليُداعي أهل نجران، فلما رأوه خرج، هابوا وفَرِقوا، فَرَجعوا قال معمر، قال قتادة: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أهل نَجران، أخذَ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة: اتبعينا. فلما رأى ذلك أعداءُ الله، رجعوا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لو خرج الذين يُباهلون النبّي صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زكريا، عن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحدٌ إلا أهلك الله الكاذبين.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لاعنت القوم، بمن كنتَ تأتي حين قلت « أبناءَنا وأبناءَكم » ؟ قال: حسن وحسين.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا المنذر بن ثعلبة قال، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري قال: لما نـزلت هذه الآية: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ، الآية، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عليّ وفاطمةَ وابنيهما الحسن والحسين، ودعا اليهود ليُلاعنهم، فقال شاب من اليهود، ويحكم! أليس عهدُكم بالأمس إخوانُكم الذين مُسخوا قردةً وخنازير؟! لا تُلاعنوا! فانتهَوْا.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( 64 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « قل » ، يا محمد، لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل « تعالوا » ، هلموا « إلى كلمة سواء » ، يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل، هي أن نوحِّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا.

وقوله: « ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا » ، يقول: ولا يدين بعضُنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظِّمه بالسجود له كما يسجدُ لربه « فإن تولوا » ، يقول: فإن أعرضوا عما دعوتَهم إليه من الكلمة السواء التي أمرُتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها « فقولوا » ، أيها المؤمنون، للمتولِّين عن ذلك « اشهدوا بأنا مسلمون » .

واختلف أهل التأويل فيمن نـزلت فيه هذه الآية.

فقال بعضهم: نـزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حَوالى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم دَعا اليهود إلى كلمة السَّواء.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل المدينة إلى ذلك، فأبوا عليه، فجاهدهم قال: دعاهم إلى قول الله عز وجل: « قل يا أهل الكتاب تَعالوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » ، الآية.

وقال آخرون: بل نـزلت في الوفد من نصارى نجران.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » الآية، إلى قوله: « فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون » ، قال: فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجةَ - يعني وفد نجران.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم دعاهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم. - يعني الوفدَ من نصارى نجران - فقال: « يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » ، الآية.

حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال قال: يعني جل ثناؤه: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ، في عيسى على ما قد بيناه فيما مضى قال: فأبوا - يعني الوفدَ من نجران - فقال: ادعهم إلى أيسر من هذا، « قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » ، فقرأ حتى بلغ: « أربابًا من دون الله » ، فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخر.

قال أبو جعفر: وإنما قلنا عنى بقوله: « يا أهل الكتاب » ، أهلَ الكتابين، لأنهما جميعًا من أهل الكتاب، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله: « يا أهل الكتاب » بعضًا دون بعض. فليس بأن يكون موجَّهًا ذلك إلى أنه مقصود به أهلُ التوراة، بأولى منه بأن يكون موجهًا إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دُون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحدُ الفريقين بذلك بأولى من الآخر لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر، ولا أثر صحيح فالواجب أن يكون كل كتابيّ معنيًّا به. لأن إفرادَ العبادة لله وحدَه، وإخلاصَ التوحيد له، واجبٌ على كل مأمور منهيٍّ من خلق الله. واسم « أهل الكتاب » ، يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل، فكان معلومًا بذلك أنه عني به الفريقان جميعًا.

وأما تأويل قوله: « تعالوا » ، فإنه: أقبلوا وهلمُّوا. وإنما « هو تفاعلوا » من « العلوّ » فكأن القائل لصاحبه: « تعالَ إليّ » ، قائلٌ « تفاعل » من « العلوّ » ، كما يقال: « تَدَانَ مني » من « الدنوّ » ، و « تقارَبْ مني » ، من « القرب » .

وقوله: « إلى كلمة سواء » . فإنها الكلمة العدلُ، « والسَّواء » من نعتِ « الكلمة » .

وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع « سواء » في الإعراب « لكلمة » ، وهو اسمٌ لا صفة.

فقال بعض نحويي البصرة: جر « سواء » لأنها من صفة « الكلمة » وهي العدل، وأراد مستوية. قال: ولو أراد « استواء » ، كان النصب. وإن شاء أن يجعلها على « الاستواء » ويجرّ، جاز، ويجعله من صفة « الكلمة » ، مثل « الخلق » ، لأن « الخلق » هو « المخلوق » . « والخلق » قد يكونُ صفةً واسمًا، ويجعل « الاستواء » مثل « المستوى » ، قال عز وجل: الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [ سورة الحج: 25 ] ، لأن « السواء » للآخر، وهو اسمٌ ليس بصفة فيجرى على الأول، وذلك إذا أراد به « الاستواء » . فإن أراد به « مستويًا » جاز أن يُجرَي على الأول. والرفع في ذا المعنى جيدٌ، لأنها لا تغيَّر عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل « عدل » و « رضًى » و « جُنُب » ، وما أشبه ذلك. وقالوا: [ في قوله ] : أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ [ سورة الجاثية: 21 ] ، فـ « السواء » للمحيا والممات بهذا، المبتدأ.

وإن شئت أجريته على الأول، وجعلتَه صفة مقدمة، كأنها من سبب الأول فجرت عليه. وذلك إذا جعلته في معنى « مستوى » . والرفع وجه الكلام كما فسَّرتُ لك.

وقال بعض نحويي الكوفة: « سواء » مصدرٌ وضع موضع الفعل، يعني موضع « متساوية » : و « متساو » ، فمرة يأتي على الفعل، ومرّةً على المصدر. وقد يقال في « سواء » ، بمعنى عدل: « سِوًى وسُوًى » ، كما قال جل ثناؤه: مَكَانًا سُوًى و سُوًى [ سورة طه: 58 ] ، يراد به: عدل ونصَفٌ بيننا وبينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك ( إِلَى كَلَمَةٍ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم « ) . »

وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله: « إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » ، بأن « السواء » هو العدلٍ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » ، عدل بيننا وبينكم « ألا نعبد إلا الله » ، الآية.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا » ، بمثله.

وقال آخرون: هو قولُ « لا إله إلا الله » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، قال أبو العالية: « كلمة السواء » ، لا إله إلا الله.

وأما قوله: « ألا نعبُدَ إلا الله » ، فإنّ « أنْ » في موضع خفض على معنى: تعالوا إلى أنْ لا نعبد إلا الله.

وقد بينا - معنى « العبادة » في كلام العرب فيما مضى، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: « ولا يتخذ بعضُنا بعضًا أربابًا » ، فإنّ « اتخاذ بعضهم بعضًا » ، ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من معاصي الله، وتركِهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [ سورة التوبة: 31 ] ، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: « ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله » ، يقول: لا يطع بعضُنا بعضًا في معصية الله. ويقال إنّ تلك الرُّبوبية: أن يطيعَ الناس سادَتهم وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلُّوا لهم.

وقال آخرون: « اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا » ، سجودُ بعضهم لبعض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: « ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله » ، قال: سجود بعضهم لبعض.

وأما قوله: « فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون » ، فإنه يعني: فإن تولَّى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا، فقولوا أنتم، أيها المؤمنون، لهم: اشهدوا علينا بأنا بما تولَّيتم عنه، من توحيد الله، وإخلاص العبودية له، وأنه الإلهُ الذي لا شريك له « مسلمون » ، يعني: خاضعون لله به، متذلِّلون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا.

وقد بينا معنى « الإسلام » فيما مضى، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 65 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « يا أهل الكتاب » ، يا أهل التوراة والإنجيل « لم تحاجون » ، لم تجادلون « في إبراهيم » وتخاصمون فيه، يعني: في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه.

وكان حجِاجهم فيه: ادّعاءُ كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان منهم، وأنه كان يدين دينَ أهل نِحْلته. فعابهم الله عز وجل بادِّعائهم ذلك، ودلّ على مُناقضتهم ودعواهم، فقال: وكيف تدَّعون أنه كان على ملتكم ودينكم، ودينُكم إما يهودية أو نصرانية، واليهودي منكم يزعُم أنّ دينه إقامةُ التوراة والعملُ بما فيها، والنصراني منكم يزعم أنّ دينه إقامةُ الإنجيل وما فيه، وهذان كتابان لم ينـزلا إلا بعد حين من مَهلِك إبراهيم ووفاته؟ فكيف يكون منكم؟ فما وجه اختصامكم فيه، وادعاؤكم أنه منكم، والأمر فيه على ما قد علمتم؟

وقيل: نـزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبارُ يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيمُ إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا! فأنـزل الله عز وجل فيهم: « يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنـزلت التوراةُ والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون » ، قالت النصارى: كان نصرانيًّا! وقالت اليهود: كان يهوديًّا! فأخبرهم الله أنّ التوراة والإنجيل ما أنـزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يا أهل الكتاب لم تحاجُّون في إبراهيم » ، يقول: « لم تحاجون في إبراهيم » وتزعمون أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، « وما أنـزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده » ، فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد الإنجيل، « أفلا تعقلون » ؟

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء، وهم الذين حاجُّوا في إبراهيم، وزعموا أنه مات يهوديًّا. فأكذبهم الله عز وجل ونفاهم منه فقال: « يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنـزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون » .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم » ، قال: اليهود والنصارى، برَّأه الله عز وجل منهم، حين ادعت كل أمة أنه منهم، وألحق به المؤمنين، مَنْ كان من أهل الحنيفية.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

وأما قوله: « أفلا تعقلون » فإنه يعني: « أفلا تعقلون » ، تفقَهون خطأ قيلكم: إنّ إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وقد علمتم أنّ اليهودية والنصرانية حدَثَت من بعد مَهلكه بحين؟

 

القول في تأويل قوله : هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 66 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ها أنتم » ، القومَ الذين [ قالوا في إبراهيم ما قالوا « حاججتم » ] ، خاصمتم وجادلتم « فيما لكم به علم » ، من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته « فلم تحاجون » ، يقول: فلم تجادلون وتخاصمون « فيما ليس لكم به علم » ، يعني: في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه؟ كما:-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجُّون فيما ليس لكم به علم، أما » الذي لهم به علم « ، فما حرّم عليهم وما أمروا به. وأما » الذي ليس لهم به علم « ، فشأن إبراهيم. »

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم » ، يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم « فلم تحاجُّون فيما ليس لكم به علم » ، فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا « والله يعلم وأنتم لا تعلمون » .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

وقوله: « والله يعلم وأنتم لا تعلمون » ، يقول: والله يعلم ما غَاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه، ولم تأتكم به رسلُه من أمر إبراهيم وغيره من الأمور ومما تجادلون فيه، لأنه لا يغيب عنه شيء، ولا يعزُبُ عنه علم شيء في السموات ولا في الأرض « وأنتم لا تعلمون » ، من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم، أو أدركتم علمه بالإخبار والسَّماع.

 

القول في تأويل قوله : مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 67 )

قال أبو جعفر: وهذا تكذيبٌ من الله عز وجل دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادَّعوا أنه كان على ملتهم وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون وقضاءٌ منه عز وجل لأهل الإسلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه، دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم.

يقول الله عز وجل: ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا كان من المشركين، الذين يعبدون الأصنامَ والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم « ولكن كان حنيفًا » ، يعني: متبعًا أمرَ الله وطاعته، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها « مسلمًا » ، يعني: خاشعًا لله بقلبه، متذللا له بجوارحه، مذعنًا لما فَرَض عليه وألزمه من أحكامه.

وقد بينا اختلاف أهل التأويل في معنى « الحنيف » فيما مضى، ودللنا على القول الذي هو أولى بالصحة من أقوالهم، بما أغنى عن إعادته.

وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا. وقالت النصارى: هو على ديننا. فأنـزل الله عز وجل: « ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا » الآية، فأكذبهم الله، وأدحض حجتهم - يعني: اليهودَ الذين ادّعوا أن إبراهيم ماتَ يهوديًّا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله - لا أراه إلا يحدثه عن أبيه - : أنّ زيد بن عمرو بن نفيل خرَج إلى الشام يسأل عن الدِّين، ويتبعه، فلقي عالمًا من اليهود، فسأله عن دينه، وقال: إني لعلِّي أنْ أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. فقال له اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غَضب الله شيئًا أبدًا وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا! قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يك يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وكان لا يعبد إلا الله. فخرج من عنده فلقي عالمًا من النصارى، فسأله عن دينه فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. قال: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: لا أحتمل من لعنة الله شيئًا، ولا من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحوًا مما قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. فخرج من عنده، وقد رَضِي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم، فلم يزل رافعًا يديه إلى الله وقال: اللهم إني أشهِدك أني على دين إبراهيم.

أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، حدثنا محمد بن جرير الطبري:

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ( 68 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « إنّ أولى الناس بإبراهيم » ، إنّ أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته « للذين اتبعوه » ، يعني: الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه، فوحَّدوا الله مخلصين له الدين، وسنُّوا سُنته، وشرَعوا شرائعه، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به « وهذا النبي » ، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم « والذين آمنوا » ، يعني: والذين صدّقوا محمدًا، وبما جاءهم به من عند الله « والله ولي المؤمنين » ، يقول: والله ناصرُ المؤمنين بمحمد، المصدِّقين له في نبوّته وفيما جاءهم به من عنده، على من خالفهم من أهل الملل والأديان.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه » ، يقول: الذين اتبعوه على ملّته وسنَّته ومنهاجه وفطرته « وهذا النبي » ، وهو نبي الله محمد « والذين آمنوا » معه، وهم المؤمنون الذين صدّقوا نبيّ الله واتبعوه. كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين، أولى الناس بإبراهيم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

حدثنا محمد بن المثنى، وجابر بن الكردي، والحسن بن أبي يحيى المقدسي، قالوا: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبيّ ولاةً من النبيين، وإن وليِّي منهم أبِي وخليل رَبّي، ثم قرأ: « إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين » .

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، أراه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: « إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه » ، وهم المؤمنون.

 

القول في تأويل قوله : وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 69 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ودّت » ، تمنت « طائفة » ، يعني جماعة « من أهل الكتاب » ، وهم أهل التوراة من اليهود، وأهل الإنجيل من النصارى « لو يضلُّونكم » ، يقولون: لو يصدّونكم أيها المؤمنون، عن الإسلام، ويردُّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك.

و « الإضلال » في هذا الموضع، الإهلاكُ، من قول الله عز وجل: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [ سورة السجدة: 10 ] ، يعني: إذا هلكنا، ومنه قول الأخطل في هجاء جرير:

كُـنْتَ القَـذَى فِـي مَـوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ قَــذَفَ الأتِـيُّ بِـهِ فَضَـلّ ضـلالا

يعنى: هلك هلاكًا، وقول نابغة بني ذبيان:

فَــآبَ مُضِلُّــوهُ بِعَيْــنٍ جَلِيَّــةٍ وَغُــودِرَ بِـالجَوْلانِ حَـزْمٌ ونَـائِلُ

يعني مهلكوه.

« وما يضلون إلا أنفسهم » ، وما يهلكون - بما يفعلون من محاولتهم صدّكم عن دينكم - أحدًا غير أنفسهم، يعني بـ « أنفسهم » : أتباعهم وأشياعَهم على ملَّتِهم وأديانهم، وإنما أهلكوا أنفسَهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخَطه، واستحقاقهم به غَضَبه ولعنته، لكفرهم بالله، ونقضِهم الميثاقَ الذي أخذ الله عليهم في كتابهم، في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، والإقرار بنبوّته.

ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة والردى، على جهل منهم بما اللهُ بهمُ محلٌّ من عقوبته، ومدَّخِر لهم من أليم عذابه، فقال تعالى ذكره: « وما يشعرون » أنهم لا يضلون إلا أنفسهم، بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون.

ومعنى قوله: « وما يشعرون » ، وما يدرون ولا يعلمون.

وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ( 70 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « يا أهل الكتاب » ، من اليهود والنصارى « لم تكفرون » ، يقول: لم تجحدون « بآيات الله » ، يعني: بما في كتاب الله الذي أنـزله إليكم على ألسن أنبيائكم، من آيه وأدلته « وأنتم تشهدون » أنه حق من عند ربكم.

وإنما هذا من الله عز وجل، توبيخٌ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته، وهم يجدونه في كتبهم، مع شَهادتهم أن ما في كتبهم حقٌّ، وأنه من عند الله، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون » ، يقول: تشهدون أن نَعتَ محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل: النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ .

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون » ، يقول: تشهدون أن نعتَ محمد في كتابكم، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل: « النبيّ الأميّ » .

حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون » ، « آيات الله » محمد، وأما « تشهدون » ، فيشهدون أنه الحق، يجدونه مكتوبًا عندهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: « يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون » أنّ الدين عند الله الإسلام، ليس لله دين غيره.