القول في تأويل قوله : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أهل التوراة والإنجيل « لم تلبسون » ، يقول: لم تخلطون « الحق بالباطل » .

وكان خلطهم الحقّ بالباطل، إظهارهم بألسنتهم من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، غيرَ الذي في قلوبهم من اليهودية والنصرانية.

كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيِّف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنـزل على محمد وأصحابه غُدْوةً ونكفُر به عشيةً، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنعُ، فيرجعوا عن دينهم! فأنـزل الله عز وجل فيهم: « يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل » إلى قوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل » ، يقول: لم تلبسون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أنّ دين الله الذي لا يقبل غيرَه، الإسلام، ولا يجزي إلا به؟

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله إلا أنه قال: الذي لا يقبل من أحد غيرَه، الإسلامُ ولم يقل: « ولا يجزي إلا به » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل » ، الإسلامَ باليهودية والنصرانية.

وقال آخرون: في ذلك بما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل: « لم تلبسون الحق بالباطل » ، قال: « الحقّ » التوراة التي أنـزل الله على موسى، و « الباطل » ، الذي كتبوه بأيديهم.

قال أبو جعفر: وقد بينا معنى « اللبس » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 71 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم تكتمون، يا أهل الكتاب، الحقّ؟

و « الحق » الذي كتموه: ما في كتُبهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه ونبوّته، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وتكتمون الحق وأنتم تعلمون » ، كتموا شأنَ محمد، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وَينهاهم عن المنكر.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وتكتمون الحق وأنتم تعلمون » ، يقول: يكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « تكتمون الحق » ، الإسلام، وأمرَ محمد صلى الله عليه وسلم « وأنتم تعلمون » أنّ محمدًا رسولُ الله، وأنّ الدين الإسلامُ.

وأما قوله: « وأنتم تعلمون » ، فإنه يعني به: وأنتم تعلمون أنّ الذي تكتمونه من الحق حقّ، وأنه من عند الله. وهذا القول من الله عز وجل، خبرٌ عن تعمُّد أهل الكتاب الكفرَ به، وكتمانِهم ما قد علموا من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وَوَجدوه في كتبهم، وجاءَتهم به أنبياؤهم.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 72 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به هذه الطائفة مَنْ أمرَت به: من الإيمان وجهَ النهار، وكفرٍ آخره.

فقال بعضهم: كان ذلك أمرًا منهم إياهم بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوّته وما جاء به من عند الله، وأنه حق، في الظاهر من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره » ، فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أوّل النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدّقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدَرُ أن يرجعوا عن دينهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قوله: « آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره » ، قال: قالت اليهود: آمنوا معهم أوّل النهار، واكفروا آخره، لعلهم يرجعون معكم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون » ، كان أحبارُ قُرَى عربيةَ اثني عشر حبرًا، فقالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: « نشهد أن محمدًا حقّ صادقٌ » ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: « إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدَّثونا أن محمدًا كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم » ، لعلهم يشكّون، يقولون: هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار، فما بالهم؟ فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: قالت اليهود بعضهم لبعض: أسلِموا أول النهار، وارتدُّوا آخره لعلهم يرجعون. فأطلع الله على سرّهم، فأنـزل الله عز وجل: « وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون » .

وقال آخرون: بل الذي أمرَت به من الإيمان: الصلاةُ، وحضورها معهم أول النهار، وتركُ ذلك آخرَه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار » ، يهودُ تقوله. صلَّت مع محمد صلاةَ الصبح، وكفروا آخرَ النهار، مكرًا منهم، ليُرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالةُ، بعد أن كانوا اتَّبعوه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار » ، الآية، وذلك أنّ طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم أوّل النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهلُ الكتاب، وهم أعلم منا! لعلهم ينقلبون عن دينهم، ولا تُؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: « وقالت طائفة من أهل الكتاب » ، يعني: من اليهود الذين يقرأون التوراة « آمنوا » صدّقوا « بالذي أنـزل على الذين آمنوا » ، وذلك ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين الحقّ وشرائعه وسننه « وجه النهار » ، يعني: أوّل النهار.

وسمَّى أوّله « وجهًا » له، لأنه أحسنه، وأوّلُ ما يواجه الناظرَ فيراه منه، كما يقال لأول الثوب: « وجهه » ، وكما قال ربيع بن زياد:

مَـنْ كَـانَ مَسْـرُورًا بمَقْتَـلِ مَـالِكٍ فَلْيَــأْتِ نِسْــوَتَنَا بِوَجْــهِ نَهَــارِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وجه النهار » ، أوّلَ النهار.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وجه النهار » ، أول النهار « واكفروا آخره » ، يقول: آخر النهار.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ) ، قال قال: صلوا معهم الصبح، ولا تصلّوا معهم آخرَ النهار، لعلكم تستزلُّونهم بذلك.

وأما قوله: « واكفروا آخره » ، فإنه يعني به، أنهم قالوا: واجحدوا ما صدَّقتم به من دينهم في وَجه النهار، في آخر النهار « لعلهم يرجعون » : يعني بذلك: لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويَدَعونه: كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « لعلهم يرجعون » ، يقول: لعلهم يدَعون دينهم، ويرجعون إلى الذي أنتم عليه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « لعلهم يرجعون » ، لعلهم ينقلبون عن دينهم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لعلهم يرجعون » ، لعلهم يشكّون.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « لعلهم يرجعون » ، قال: يرجعون عن دينهم.

 

القول في تأويل قوله : وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديًّا.

وهذا خبر من الله عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من اليهود: « آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار » .

و « اللام » التي في قوله: « لمن تبع دينكم » ، نظيرة « اللام » التي في قوله: عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ، بمعنى: ردفكم، بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [ سورة النمل: 72 ] .

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » ، هذا قول بعضهم لبعض.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

7247 م - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » قال: لا تؤمنوا إلا لمن تبع اليهودية.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن يزيد في قوله: « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » ، قال: لا تؤمنوا إلا لمن آمن بدينكم، ومَنْ خالفه فلا تؤمنوا له.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: قوله: « قل إنّ الهدى هدى الله » ، اعتراضٌ به في وسط الكلام، خبرًا من الله عن أن البيان بيانُه والهدى هُداه. قالوا: وسائرُ الكلام بعدَ ذلك متصلٌ بالكلام الأول، خبرًا عن قِيل اليهود بعضها لبعض. فمعنى الكلام عندهم: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، أو أنْ يحاجُّوكم عند ربكم أي: ولا تؤمنوا أن يحاجّكم أحدٌ عند ربكم. ثم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، و « إن الهدى هدى الله » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » ، حسدًا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادةَ أن يُتَّبعوا على دينهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

وقال آخرون: تأويل ذلك: قل يا محمد: « إن الهدى هدى الله » ، إنّ البيان بيانُ الله « أن يؤتى أحدٌ » ، قالوا: ومعناه: لا يؤتى أحدٌ من الأمم مثل ما أوتيتم، كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ سورة النساء: 176 ] ، بمعنى: لا تضلون، وكقوله: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ [ سورة الشعراء: 200- 201 ] ، يعني: أن لا يؤمنوا « مثل ما أوتيتم » ، يقول: مثل ما أوتيتَ، أنت يا محمد، وأمتك من الإسلام والهدى « أو يحاجوكم عند ربكم » ، قالوا: ومعنى « أو » : « إلا » ، أيْ: إلا أن « يحاجوكم » ، يعني: إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فَعل بهم ربُّكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: « قل إنّ الهدى هُدَى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم » ، يقول، مثل ما أوتيتم يا أمة محمد « أو يحاجوكم عند ربكم » ، تقول اليهود: فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة، حتى أنـزل علينا المن والسلوى فإن الذي أعطيتكم أفضلُ فقولوا: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، الآية.

فعلى هذا التأويل، جميع هذا الكلام، [ أمرٌ ] من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود، وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فيه. و « الهدى » الثاني ردّ على « الهدى » الأول، و « أن » في موضع رفع على أنه خبر عن « الهدى » .

وقال آخرون: بل هذا أمر من الله نبيَّه أن يقوله لليهود. وقالوا: تأويله: « قل » يا محمد « إن الهدى هُدى الله أن يؤتى أحد » من الناس « مثل ما أوتيتم » ، يقول: مثل الذي أوتيتموه أنتُم يا معشر اليهود من كتاب الله، ومثل نبيكم، فلا تحسدوا المؤمنين على ما أعطيتهم، مثلَ الذي أعطيتكم من فضلي، فإن الفضل بيدي أوتيه من أشاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « قل إن الهدى هدى الله أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم » ، يقول: لما أنـزل الله كتابًا مثلَ كتابكم، وبعثَ نبيًّا مثل نبيكم، حسدتموهم على ذلك « قلْ إنّ الفضلَ بيد الله » ، الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

وقال آخرون: بل تأويل ذلك: « قل » يا محمد: « إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله. قالوا: وهذا آخر القول الذي أمرَ الله به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود من هذه الآية. قالوا: وقوله: « أو يحاجوكم » ، مردود على قوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ .

وتأويل الكلام - على قول أهل هذه المقالة - : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فتتركوا الحقَّ: أنّ يحاجُّوكم به عند ربكم من اتبعتم دينه فاخترتموه: أنه محقٌّ، وأنكم تجدون نعته في كتابكم. فيكون حينئذ قوله: « أو يحاجوكم » مردودًا على جواب نهي متروك، على قول هؤلاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » ، يقول: هذا الأمر الذي أنتم عليه: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم « أو يحاجوكم عند ربكم » ، قال: قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما بيَّن الله لكم في كتابه، ليحاجُّوكم قال: ليخاصموكم به عند ربكم « قل إن الهدى هدى الله » .

[ قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون قوله: « قل إن الهدى هُدى الله » ] معترضًا به، وسائر الكلام متَّسِقٌ على سياقٍ واحد. فيكون تأويله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم بمعنى: لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم « أو يحاجوكم عند ربكم » ، بمعنى: أو أن يحاجوكم عند ربكم . . . . . . . . أحد بإيمانكم، لأنكم أكرمُ على الله بما فضلكم به عليهم. فيكون الكلام كله خبرًا عن قول الطائفة التي قال الله عز وجل: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ سوى قوله: « قلُ إن الهدى هدى الله » . ثم يكون الكلامُ مبتدأ بتكذيبهم في قولهم: « قل » ، يا محمد، للقائلين ما قولوا من الطائفة التي وصفتُ لك قولها لتُبَّاعها من اليهود « إن الهدى هدى الله » ، إن التوفيق توفيقُ الله والبيانَ بيانُه، « وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء » لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود.

وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها، لأنه أصحها معنًى، وأحسنُها استقامةً، على معنى كلام العرب، وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من القول، فانتزاع يبعُد من الصحة، على استكراه شديدٍ للكلام.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 73 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « قل » يا محمد، لهؤلاء اليهود الذين وصفتُ قولهم لأوليائهم « إنّ الفضل بيد الله » ، إنّ التوفيق للإيمان والهدايةَ للإسلام، بيد الله وإليه، دونكم ودون سائر خلقه « يؤتيه من يشاء » من خلقه، يعني: يعطيه من أراد من عباده، تكذيبًا من الله عز وجل لهم في قولهم لتُبّاعهم: « لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » . فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: ليس ذلك إليكم، إنما هو إلى الله الذي بيده الأشياء كلها، وإليه الفضل، وبيده، يُعطيه من يشاء « والله واسع عليم » ، يعني: والله ذُو سعةٍ بفضله على من يشاء أن يتفضل عليه « عليم » ، ذو علم بمن هو منهم للفضل أهل.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن ابن جريج في قوله: « قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء » ، قال: الإسلام.

 

القول في تأويل قوله : يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 74 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « يختص برحمته من يشاء » ، « يفتعل » من قول القائل: « خصصت فلانًا بكذا، أخُصُّه به » .

وأما « رحمته » ، في هذا الموضع، فالإسلام والقرآن، مع النبوّة، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يختص برحمته من يشاء » ، قال: النبوّة، يخصُّ بها من يشاء.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « يختص برحمته من يشاء » ، قال: يختص بالنبوة من يشاء.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن ابن جريج: « يختص برحمته من يشاء » ، قال: القرآن والإسلام.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج مثله.

« والله ذو الفضل العظيم » ، يقول: ذو فضل يتفضَّل به على من أحبّ وشاء من خلقه. ثم وصف فضله بالعِظَم فقال: « فضله عظيم » ، لأنه غير مشبهه في عِظَم موقعه ممن أفضله عليه [ فضلٌ ] من إفضال خلقه، ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يُدانيه.

 

القول في تأويل قوله : وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل: أنّ من أهل الكتاب - وهم اليهود من بني إسرائيل - أهلَ أمانة يؤدُّونها ولا يخونونها، ومنهم الخائن أمانته، الفاجرُ في يمينه المستحِلُّ.

فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك: منهم المؤدِّي أمانته والخائنُها؟

قيل: إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم - على ما بينه في كتابه بهذه الآيات - تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم، وتخويفهم الاغترارَ بهم، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين.

فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه، يا محمد، على عظيم من المال كثير، يؤدِّه إليك ولا يخنْك فيه، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنْك فيه فلا يؤدِّه إليك، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.

و « الباء » في قوله: « بدينار » و « على » يتعاقبان في هذا الموضع، كما يقال: « مررت به، ومررت عليه » .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « إلا ما دمت عليه قائمًا » .

فقال بعضهم: « إلا ما دمت له متقاضيًا » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « إلا ما دمت عليه قائمًا » ، إلا ما طلبته واتبعته.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « إلا ما دمت عليه قائمًا » ، قال: تقتضيه إياه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إلا ما دمت عليه قائمًا » ، قال: مواظبًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك: « إلا ما دمتَ قائمًا على رأسه » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « إلا ما دمت عليه قائمًا » ، يقول: يعترف بأمانته ما دمت قائمًا على رأسه، فإذا قمتَ ثم جئت تطلبهُ كافرك الذي يؤدِّي، والذي يجحد.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: « معنى ذلك: إلا ما دمت عليه قائمًا بالمطالبة والاقتضاء » . من قولهم: « قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي » ، أي عمل في تخليصه، وسَعى في استخراجه منه حتى استخرجه. لأن الله عز وجل إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين، وأنّ منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة. وليس القيام على رأس الذي عليه الدين، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهابَ بما عليه لربّ الحقّ - إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة. فذلك الاقتضاء، هو قيام ربِّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ من استحلّ الخيانةَ من اليهود، وجحودَ حقوق العربيّ التي هي له عليه، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربيُّ عليه إلا ما دامَ له متقاضيًا مطالبًا من أجل أنه يقول: لا حرَج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ولا إثم، لأنهم على غير الحق، وأنهم مشركون.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو قولنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل » الآية، قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيلٌ.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ليس علينا في الأميين سبيل » ، قال: ليس علينا في المشركين سبيل يعنون من ليس من أهل الكتاب.

حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل » ، قال: يقال له: ما بالك لا تؤدِّي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلَّها الله لنا! !

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: لما نـزلت « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبَ أعداءُ الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ إلى البر والفاجر.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عبيد الله، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما قالت اليهود: « ليس علينا في الأميين سبيل » ، يعنون أخذَ أموالهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: إلا وهو تحت قدميّ هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ ولم يزد على ذلك.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » ، وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أمِّيُّون. فذلك قوله: ( ليس علينا في الأميين سبيل ) ، إلى آخر الآية.

وقال آخرون في ذلك، ما:-

حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل » ، قال: بايع اليهودَ رجالٌ من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم ثمنَ بُيوعهم، فقالوا: ليس لكم علينا أمانةٌ، ولا قضاءَ لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! قال: وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، فقال الله عز وجل: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صعصعة قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو أهلَ الكتاب فنصيبُ من ثمارهم؟ قال: وتقولون كما قال أهلُ الكتاب: « ليس علينا في الأميين سبيل!! »

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن صعصعة: أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزْو أو: [ العذق ] ، الشك من الحسن من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس! قال: هذا كما قال أهل الكتاب: « ليس علينا في الأميين سبيل » ! إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيِب أنفسهم.

 

القول في تأويل قوله : وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 75 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن القائلين منهم: « ليس علينا في أموال الأميين من العرب حَرَجٌ أن نختانهم إياه » ، يقولون بقيلهم إنّ الله أحل لنا ذلك، فلا حرجَ علينا في خيانتهم إياه، وترك قضائهم الكذبَ على الله عامدين الإثمَ بقيل الكذب على الله، إنه أحلّ ذلك لهم. وذلك قوله عز وجل: « وهم يعلمون » ، كما:-

حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فيقول على الله الكذب وهو يعلم يعني الذي يقول منهم - إذا قيل له: ما لك لا تؤدي أمانتك؟ - : ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا!

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: « ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون » ، يعني: ادّعاءهم أنهم وجدُوا في كتابهم قولهم: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ .

 

القول في تأويل قوله : بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( 76 )

قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله عز وجل عمَّا لمنْ أدَّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبتَه، عنده. فقال جل ثناؤه: ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود، من أنه ليس عليهم في أموَال الأميين حرج ولا إثم، ثمّ قال: بلى، ولكن من أوفى بعهده واتقى - يعني: ولكن الذي أوفى بعهده، وذلك وصيته إياهم التي أوصاهم بها في التوراة، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به.

و « الهاء » في قوله: « من أوفى بعهده » ، عائدة على اسم « الله » في قوله: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ .

يقول: بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصَدّق به وبما جاء به من الله، من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها، وغير ذلك من أمر الله ونهيه « واتقى » ، يقول: واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به، وسائر معاصيه التي حرّمها عليه، فاجتنبَ ذلك مراقبةَ وعيد الله وخوفَ عقابه « فإنّ الله يحبّ المتقين » ، يعني: فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه، فيجتنبون ما نهاهم عنه وحرّمه عليهم، ويطيعونه فيما أمرهم به.

وقد روى عن ابن عباس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « بلى من أوفى بعهده واتقى » يقول: اتقى الشرك « فإنّ الله يحب المتقين » ، يقول: الذين يتقون الشرك.

وقد بينا اختلافَ أهل التأويل في ذلك والصوابَ من القول فيه، بالأدلة الدّالة عليه، فيما مضى من كتابنا، بما فيه الكفاية عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 77 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين يستبدلون - بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم، ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنـزلها الله إلى أنبيائه، باتباع محمد وتصديقه والإقرار به وما جاء به من عند الله - وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرّم الله عليهم من أموال الناس التي ائتمنوا عليها « ثمنًا » ، يعني عوضًا وبدلا خسيسًا من عرض الدنيا وحُطامها « أولئك لا خلاق لهم في الآخرة » ، يقول: فإن الذين يفعلون ذلك لا حظ لهم في خيرات الآخرة، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة وما أعدّ الله لأهلها فيها دون غيرهم.

وقد بينا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في معنى « الخلاق » ، ودللنا على أولى أقوالهم في ذلك بالصواب، بما فيه الكفاية.

وأما قوله: « ولا يكلمهم الله » ، فإنه يعني: ولا يكلمهم الله بما يسرُّهم « ولا ينظر إليهم » ، يقول: ولا يعطف عليهم بخير، مقتًا من الله لهم، كقول القائل لآخر: « انظُر إليّ نَظر الله إليك » ، بمعنى: تعطف عليّ تعطّف الله عليك بخير ورحمة وكما يقال للرجل: « لا سمع الله لك دعاءَك » ، يراد: لا استجاب الله لك، والله لا يخفى عليه خافية، وكما قال الشاعر:

دَعَــوْتُ اللــهَ حَـتى خِـفْتُ أَنْ لا يَكْــونَ اللــهُ يَسْــمَعُ مَـا أَقُـولُ

وقوله « ولا يُزكيهم » ، يعني: ولا يطهرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم « ولهم عذاب أليم » ، يعني: ولهم عذابٌ موجع.

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنـزلت هذه الآية، ومن عني بها.

فقال بعضهم نـزلت في أحبار من أحبار اليهود.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: نـزلت هذه الآية: « إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » ، في أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحُييّ بن أخطب.

وقال آخرون: بل نـزلت في الأشعث بن قيس وخصم له.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من حَلف على يمين هو فيها فاجرٌ ليقتطع بها مالَ امرئ مسلم، لقيَ اللهَ وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك: كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك بيِّنة؟ قلت: لا! فقال لليهودي: » احلفْ. قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف فيذهبَ مالي! فأنـزل الله عز وجل: « إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » الآية.

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جرير بن حازم، عن عدي بن عدي، عن رجاء بن حيوة والعُرس أنهما حدثاه، عن أبيه عدي بن عميرة قال: كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومةٌ، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي: « بيِّنَتَك، وإلا فيمينه » . قال: يا رسول الله، إن حلف ذهب بأرضي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حقّ أخيه ، لقي الله وهو عليه غضبان. فقال امرؤ القيس: يا رسول الله، فما لمن تركها، وهو يعلم أنها حقّ؟ قال: الجنة. قال: فإني أشهدك أني قد تركتها قال جرير: فكنت مع أيوب السختياني حين سمعنا هذا الحديث من عدي، فقال أيوب: إنّ عديًّا قال في حديث العُرْس بن عميرة: فنـزلت هذه الآية: « إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » إلى آخر الآية قال جرير: ولم أحفظ يومئذ من عدي.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال آخرون: إن الأشعث بن قيس اختصم هو ورجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض كانت في يده لذلك الرجل، أخذها لتعزُّزه في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أقم بينتك. قال الرجل: ليس يشهد لي أحدٌ على الأشعث! قال: فلك يمينه. فقام الأشعث ليحلف، فأنـزل الله عز وجل هذه الآية، فنكلَ الأشعَث وقال: إني أشهد الله وأشهدكم أنّ خصمي صادق. فرد إليه أرضَه، وزاده من أرض نفسه زيادةً كثيرةً، مخافة أن يبقى في يده شيء من حقه، فهي لعقب ذلك الرجل بعده. »

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن شقيق، عن عبد الله قال: من حلف على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان، ثم أنـزل الله تصديق ذلك: « إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » الآية. ثم إن الأشعث بن قيس خَرَج إلينا فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه بما قال، فقال: صَدَق، لفيَّ أنـزلت! كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « شاهداك أو يمينه. فقلت: إذًا يحلف ولا يُبالي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: » من حلف على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان « ، ثم أنـزل الله عز وجل تصديقَ ذلك: » إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا « ، الآية. »

وقال آخرون بما:-

حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب قال، أخبرني داود بن أبي هند، عن عامر: أنّ رجلا أقام سِلعته أوّل النهار، فلما كان آخرُه جاء رجل يساومه، فحلفَ لقد منعها أوّل النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها به، فأنـزل الله عز وجل: « إن الذي يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » .

حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن رجل، عن مجاهد نحوه.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا ) الآية، إلى: « ولهم عذاب أليم » ، أنـزلهم الله بمنـزلة السَّحَرة.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن عمران بن حصين كان يقول: من حَلفَ على يمين فاجرة يقتطع بها مالَ أخيه، فليتبوَّأ مقعده من النار. فقال له قائل: شيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لهم: إنكم لتجدون ذلك. ثم قرأ هذه الآية: « إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » الآية.

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام قال، قال محمد، عن عمران بن حصين: من حلف على يمين مَصْبورَة فليتبوّأ بوجهه مقعده من النار. ثم قرأ هذه الآية كلها: « إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: إن اليمين الفاجرة من الكبائر. ثم تلا « إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » .

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن عبد الله بن مسعود كان يقول: كنا نَرى ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ من الذنب الذي لا يُغفر: يمين الصَّبر، إذا فجر فيها صاحبها.