القول في تأويل قوله : قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 84 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « أفغير دين الله تبغون » ، يا معشر اليهود، « وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون » فإن ابتغوا غيرَ دين الله، يا محمد، فقل لهم: « آمَنَّا بِاللَّهِ » ، فترك ذكر قوله: « فإن قالوا: نعم » ، أو ذكر قوله: « فإن ابتغوا غير دين الله » ، لدلالة ما ظهر من الكلام عليه.

وقوله: « قل آمنا بالله » ، يعني به: قل لهم، يا محمد، : صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا، لا إله غيره، ولا نعبد أحدًا سواه « وما أنزل علينا » ، يقول: وقل: وصدَّقنا أيضًا بما أنـزل علينا من وَحيه وتنـزيله، فأقررنا به « وما أنزل على إبراهيم » ، يقول: وصدقنا أيضًا بما أنـزل على إبراهيم خليل الله، وعلى ابنيه إسماعيل وإسحاق، وابن ابنه يعقوب وبما أنـزل على « الأسباط » ، وهم ولد يعقوب الاثنا عشر، وقد بينا أسماءَهم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. « وما أوتي موسى وعيسى » ، يقول: وصدّقنا أيضًا مع ذلك بالذي أنـزل الله على موسى وعيسى من الكتب والوَحْي، وبما أنـزل على النبيين من عنده.

والذي آتى الله موسى وعيسى مما أمرَ الله عز وجل محمدًا بتصديقهما فيه، والإيمان به التوراة التي آتاها موسى، والإنجيل الذي أتاه عيسى.

« لا نفرق بين أحد منهم » ، يقول: لا نصدّق بعضهم ونكذّب بعضَهم، ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما كفرت اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله وصدّقت بعضًا، ولكنا نؤمن بجميعهم، ونصدّقهم « ونحن له مسلمون » . يعني: ونحن ندين لله بالإسلام لا ندين غيره، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه، ومن كل ملة غيره.

ويعني بقوله: « ونحن له مسلمون » . ونحن له منقادون بالطاعة، متذللون بالعبودة، مقرّون لهُ بالألوهة والربوبية، وأنه لا إله غيره. وقد ذكرنا الروايةَ بمعنى ما قلنا في ذلك فيما مضى، وكرهنا إعادته.

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 85 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يطلب دينا غيرَ دين الإسلام ليدين به، فلن يقبل الله منه « وهو في الآخرة من الخاسرين » ، يقول: من الباخسين أنفسَهم حظوظَها من رحمة الله عز وجل.

وذُكر أنّ أهل كل ملة ادّعوا أنهم هم المسلمون، لما نـزلت هذه الآية، فأمرهم الله بالحج إن كانوا صادقين، لأن من سُنة الإسلام الحج، فامتنعوا، فأدحض الله بذلك حجتهم.

ذكر الخبر بذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال، زعم عكرمة: « ومن يبتغ غير الإسلام دينًا » ، فقالت الملل: نحن المسلمون! فأنـزل الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [ سورة آل عمران: 97 ] ، فحجَّ المسلمون، وقعدَ الكفار.

حدثني المثنى قال، حدثنا القعنبي قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: « ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه » ، قالت اليهود: فنحن المسلمون! فأنـزلَ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يحُجُّهم أنْ: ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: لما نـزلت: « ومن يبتغ غير الإسلام دينًا » إلى آخر الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون! قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم إنْ: ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ ) من أهل الملل فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ .

وقال آخرون: في هذه الآية بما:-

حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ إلى قوله: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [ سورة البقرة: 62 ] ، فأنـزل الله عز وجل بعد هذا: « ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه » .

 

القول في تأويل قوله : كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 86 ) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 87 ) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 88 ) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 89 )

اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نـزلت.

فقال بعضهم: نـزلت في الحارث بن سويد الأنصاري، وكان مسلمًا فارتدّ بعد إسلامه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لي من توبة؟ قال: فنـزلت: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم » إلى قوله: « وجاءَهم البيناتُ والله لا يهدي القوم الظالمين ... إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم » ، فأرسل إليه قومه فأسلم.

حدثني ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة بنحوه، ولم يرفعه إلى ابن عباس إلا أنه قال: فكتب إليه قومه، فقال: ما كذَبني قومي! فرجع.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حكيم بن جُميع، عن علي بن مُسْهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ارتد رجل من الأنصار، فذكر نحوه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال، أخبرنا حميد الأعرج، عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سُوَيد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنـزل الله عز وجل فيه القرآن: « كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعدَ إيمانهم » إلى « إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ » ، قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك والله ما علمتُ لصَدُوقٌ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدقُ منك، وإنّ الله عز وجل لأصدق الثلاثة. قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدُوا أنّ الرسول حق » ، قال: أنـزلت في الحارث بن سُوَيد الأنصاري، كفر بعد إيمانه، فأنـزل الله عز وجل فيه هذه الآيات، إلى: « أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » ، ثم تاب وأسلم، فنسخها الله عنه، فقال: « إلا الذين تابوا من بعد ذلك، وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءَهم البينات » ، قال: رجلٌ من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: هو رجل من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: لحق بأرض الرّوم فتنصَّر، ثم كتب إلى قومه: « أرسلوا، هل لي من توبة؟ » قال: فحسبتُ أنه آمن، ثم رَجع قال ابن جريج، قال عكرمة، نـزلت في أبي عامر الرّاهب، والحارث بن سويد بن الصامت، ووَحْوَح بن الأسلت في اثني عشر رجلا رَجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة؟ فنـزلت: « إلا الذين تابوا من بعد ذلك » ، الآيات.

وقال آخرون: عنى بهذه الآية أهل الكتاب، وفيهم نـزلت.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « كيف يهدي الله قومًا كفرُوا بعد إيمانهم » ، فهم أهلُ الكتاب، عرَفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ثم كفروا به.

حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم » الآية كلها، قال: اليهود والنصارى.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول في قوله: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم » الآية، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعتَ محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقرّوا به، وشهدوا أنه حقٌّ، فلما بُعث من غيرهم حَسدوا العربَ على ذلك فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم، حسدًا للعرب، حين بُعثَ من غيرهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم » ، قال: هم أهل الكتاب، كانوا يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم في كتابهم، ويستفتحون به، فكفروا بعد إيمانهم.

قال أبو جعفر: وأشبه القولين بظاهر التنـزيل ما قال الحسن: منْ أنّ هذه الآية معنيٌّ بها أهل الكتاب على ما قال، غيرَ أنّ الأخبار بالقول الآخر أكثر، والقائلين به أعلم، بتأويل القرآن. وجائز أن يكون الله عز وجل أنـزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام، فجمع قصّتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات. ثم عرّف عباده سُنته فيهم، فيكون داخلا في ذلك كلّ من كان مؤمنًا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أنُ يبعث، ثم كفر به بعد أن بُعث، وكلّ من كان كافرًا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد وهو حيٌّ عن إسلامه. فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين الصنفين وغيرُهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء الله.

فتأويل الآية إذًا: « كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم » ، يعني: كيف يُرشد الله للصواب ويوفّق للإيمان، قومًا جحدُوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم « بعد إيمانهم » ، أي: بعد تصديقهم إياه، وإقرارهم بما جاءَهم به من عند ربه « وَشهدوا أن الرسول حقّ » ، يقول: وبعد أن أقرّوا أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه حقًّا « وجاءهم البينات » ، يعني: وجاءهم الحجج من عند الله والدلائلُ بصحة ذلك؟ « والله لا يهدي القوم الظالمين » ، يقول: والله لا يوفّق للحق والصّواب الجماعة الظَّلمة، وهم الذين بدّلوا الحق إلى الباطل، فاختارُوا الكفر على الإيمان.

وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى « الظلم » ، وأنه وضعُ الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته.

« أولئك جزاؤهم » ، يعني: هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حَقّ - « جزاؤهم » ، ثوابهم من عملهم الذي عملوه « أنّ عليهم لعنة الله » ، يعني: أن يحلّ بهم من الله الإقصاء والبعد، ومن الملائكة والناس الدعاءُ بما يسوؤهم من العقاب « أجمعين » ، يعني: من جميعهم، لا من بعض من سمَّاه جل ثناؤه من الملائكة والناس، ولكن من جميعهم. وإنما جعل ذلك جل ثناؤه ثواب عملهم، لأن عملهم كان بالله كفرًا.

وقد بينا صفة « لعنة الناس » الكافرَ في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته.

« خالدين فيها » يعني: ماكثين فيها، يعني في عقوبة الله

« لا يخفَّف عنهم العذاب » ، لا ينقصون من العذاب شيئًا في حال من الأحوال، ولا ينفَّسون فيه « ولا هم ينظرون » ، يعني: ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون. وذلك كله عَينُ الخلود في العقوبة في الآخرة.

ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا، من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال تعالى ذكره: « إلا الذين تَابوا من بعد ذلك وأصلحوا » ، يعني: إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند ربهم « وأصلحوا » ، يعني: وعملوا الصالحات من الأعمال « فإنّ الله غفور رحيم » ، يعني: فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره « غفور » ، يعني: ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الرّدّة، فتاركٌ عقوبته عليه، وفضيحته به يوم القيامة، غيرُ مؤاخذه به إذا مَات على التوبة منه « رحيم » ، متعطِّف عليه بالرحمة.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ( 90 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضُهم: عنى الله عز وجل بقوله: « إنّ الذين كفروا » ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم « بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا » بكفرهم بمحمد « لن تقبل توبتهم » ، عند حُضور الموت وحَشرجته بنفسه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون » ، قال: اليهودُ والنصارى، لن تُقبل توبتهم عند الموت.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا » ، أولئك أعداء الله اليهود، كفروا بالإنجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم والفُرْقان.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: ازدادوا كفرًا حتى حَضرهم الموت، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت قال معمر: وقال مثلَ ذلك عطاءٌ الخراساني.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون » ، وقال: هم اليهود، كفروا بالإنجيل، ثم ازدادوا كفرًا حين بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنكرُوه، وكذبوا به.

وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد، بعد إيمانهم بأنبيائهم « ثم ازدادوا كفرًا » ، يعني: ذنوبًا « لن تقبل توبتهم » من ذنوبهم، وهم على الكفر مقيمون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال، حدثنا داود، عن رفيع: « إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا » ، ازدادوا ذنوبًا وهم كفار « لن تقبل توبتهم » من تلك الذنوب، ما كانوا على كفرهم وضَلالتهم.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية، قال، قلت: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم » ؟ قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم.

حدثنا عبد الحميد بن بيان السُّكري قال، أخبرنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية عن: الذين آمنوا ثم كفروا، فذكر نحوًا منه.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون » ، قال: هم اليهود والنصارى والمجوس، أصابوا ذنوبًا في كفرهم، فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، ألا ترى أنه يقول: « وأولئك هم الضالون » ؟

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية في قوله: « لن تقبل توبتهم » ، قال: تابوا من بعضٍ، ولم يتوبوا من الأصل.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قوله: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: هم اليهود والنصارى، يصيبون الذنوبَ فيقولون: « نتوب » ، وهم مشركون. قال الله عز وجل: لن تُقبل التوبة في الضّلالة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم « ثم ازدادوا كفرًا » ، يعني: بزيادتهم الكفر: تمامُهم عليه، حتى هلكوا وهم عليه مقيمون « لن تقبل توبتهم » ، لن تنفعهم توبتهم الأولى وإيمانهم، لكفرهم الآخِر وموتهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: « ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: تمُّوا على كفرهم قال ابن جريج: « لن تقبل توبتهم » ، يقول: إيمانهم أوّلَ مرة لن ينفعهم.

وقال آخرون: معنى قوله: « ثم ازدادوا كفرًا » ، ماتوا كفارًا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا: معنى « لن تقبل توبتهم » ، لن تقبل توبتهم عند موتهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون » ، أمّا « ازدادوا كفرًا » ، فماتوا وهم كفار. وأما « لن تقبل توبتهم » فعند موته، إذا تاب لم تقبل توبته.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية، قولُ من قال: « عنى بها اليهودَ » وأن يكون تأويله: إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مَبعثه، بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرًا بما أصَابوا من الذنوب في كفرهم ومُقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله.

وإنما قلنا: « ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب » ، لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نـزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها، إذ كانت في سياق واحد.

وإنما قلنا: « معنى ازديادهم الكفر: ما أصابوا في كفرهم من المعاصي » ، لأنه جل ثناؤه قال: « لن تقبل توبتهم » ، فكان معلومًا أن معنى قوله: « لن تقبل توبتهم » ، إنما هو معنيٌّ به: لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من كفرهم. لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [ سورة الشورى: 25 ] ، فمحالٌ أنْ يقول عز وجل: « أقبل » و « لا أقبل » في شيء واحد. وإذْ كان ذلك كذلك وكان من حُكم الله في عباده أنه قابلٌ توبةَ كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيمان أحدَ تلك الذنوب التي وعد قَبول التوبة منها بقوله: إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ علم أنّ المعنى الذي لا يقبل التوبةَ منه، غيرُ المعنى الذي يَقبل التوبة منه. وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي لا يَقبل منه التوبة، هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره، لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله. فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح، فإنّ الله - كما وصف به نفسه - غفورٌ رحيمٌ.

فإن قال قائل: وما تُنكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال: « فلن تقبل توبته من كفره عند حضور أجله وتوبته الأولى » ؟

قيل: أنكرنا ذلك، لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة، وقد وعد الله عز وجل عبادَه قَبول التوبة منهم ما دامت أرواحُهم في أجسادهم. ولا خلاف بين جميع الحجة في أنّ كافرًا لو أسلم قبل خُرُوج نفسه بطرْفة عين، أنّ حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه، والموارثة، وسائر الأحكام غيرهما. فكان معلومًا بذلك أنّ توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام، ولا منـزلةَ بين الموت والحياة، يجوزُ أن يقال: « لا يقبل الله فيها توبةَ الكافر » . فإذْ صحّ أنها في حال حياته مقبولة، ولا سبيلَ بعد الممات إليها، بطل قولُ الذي زعم أنها غير مقبولة عند حُضُور الأجل.

وأما قول من زعم أنّ معنى ذلك: « التوبة التي كانت قبل الكفر » ، فقولٌ لا معنى له. لأن الله عز وجل لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر، ثم كُفْر بعد إيمان بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان. فلم يتقدم ذلك الإيمانَ كفرٌ كان للإيمان لهم توبة منه، فيكون تأويل ذلك على ما تأوّله قائل ذلك. وتأويل القرآن على ما كان موجودًا في ظاهر التلاوة إذا لم تكن حجة تدل على باطن خاص - أولى من غيره، وإن أمكن توجيهه إلى غيره.

وأما قوله: « وأولئك هم الضالون » ، فإنه يعني بذلك: وهؤلاء الذين كفرُوا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا، هم الذين ضلوا سبيل الحقّ فأخطأوا منهجه، وتركوا نِصْف السبيل وهُدَى الدين، حَيرةً منهم، وعَمىً عنه.

وقد بينا فيما مضى معنى « الضلال » بما فيه الكفاية.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 91 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه « إنّ الذين كفروا » ، أي: جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصدقوا به وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة، يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم « وماتوا وهم كفار » ، يعني: وماتوا على ذلك من جحود نبوته وجحود ما جاء به « فلن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذَهبًا ولو افتدى به » ، يقول: فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جَزَاءٌ ولا رِشْوةٌ على ترك عقوبته على كفره، ولا جُعْلٌ على العفو عنه، ولو كان له من الذهب قدرُ ما يملأ الأرضَ من مشرقها إلى مغربها، فرَشَا وَجزَى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضًا مما الله مُحلٌّ به من عذابه. لأنّ الرُّشا إنما يقبلها من كان ذَا حاجة إلى ما رُشى. فأما من له الدنيا والآخرة، فكيف يقبل الفدية، وهو خلاق كل فدية افتدَى بها مفتدٍ منْ نفسه أو غيره؟

وقد بينا أن معنى « الفدية » العوَضُ، والجزاء من المفتدى منه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

ثم أخبر عز وجل عما لهم عنده فقال: « أولئك » ، يعني هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار « لهم عذاب أليم » ، يقول: لهم عند الله في الآخرة عذابٌ موجع « وما لهم من ناصرين » ، يعني: وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره، فيستنقذه من الله ومن عذابه كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذَاه ومكروهه؟ وقد:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملءُ الأرض ذهبًا، أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم! قال فيقال: لقد سُئلت ما هو أيسرُ من ذلك! فذلك قوله: « إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا ولو افتدى به » .

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن قوله: « إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا » ، قال: هو كل كافر.

ونصب قوله « ذهبًا » على الخروج من المقدار الذي قبله والتفسير منهُ، وهو قوله: « ملءُ الأرض » ، كقول القائل: « عندي قدرُ زِقٍّ سمنًا وقدْرُ رطل عَسلا » ، ف « العسل » مبينٌ به ما ذكر من المقدار، وهو نكرة منصوبةٌ على التفسير للمقدار والخروج منه.

وأما نحويو البصرة، فإنهم زعموا أنه نصب « الذهب » لاشتغال « الملء » بـ « الأرض » ، ومجيء « الذهب » بعدهما، فصار نصبهُا نظيرَ نصب الحال. وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شُغل بفاعله، فينصبُ كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شُغل بفاعله. قالوا: ونظير قوله: « ملء الأرض ذهبًا » في نصب « الذهب » في الكلام: « لي مثلك رجُلا » بمعنى: لي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب « الرجل » ، لاشتغال الإضافة بالاسم، فنصب كما ينصب المفعول به، لاشتغال الفعل بالفاعل.

وأدخلت الواو في قوله: « ولو افتدى به » ، لمحذوف من الكلام بعدَه، دلّ عليه دخول « الواو » ، وكالواو في قوله: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [ سورة الأنعام: 75 ] ، وتأويل الكلام: وليكون من الموقنين أرَيناه ملكوتَ السموات والأرض. فكذلك ذلك في قوله: « ولو افتدى به » ، ولو لم يكن في الكلام « واو » ، لكان الكلام صحيحًا، ولم يكن هنالك متروك، وكان: فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا لو افتدى به.