القول في تأويل قوله تعالى : لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 92 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لن تدركوا، أيها المؤمنون، البرَّ وهو « البر » من الله الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبادتهم له ويرجونه منه، وذلك تفضّله عليهم بإدخالهم جنته، وصرف عذابه عنهم.

ولذلك قال كثير من أهل التأويل « البر » الجنة، لأن بر الربّ بعبده في الآخرة، إكرامه إياه بإدخاله الجنة.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله: « لن تنالوا البر » ، قال: الجنة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله: « لن تنالوا البر » ، قال: البر الجنة.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لن تنالوا البر » ، أما البر فالجنة.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: لن تنالوا، أيها المؤمنون، جنة ربكم « حتى تنفقوا مما تحبون » ، يقول: حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوَوْن أن يكون لكم، من نفيس أموالكم، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » ، يقول: لن تنالوا برَّ ربكم حتى تنفقوا مما يعجبكم، ومما تهوَوْن من أموالكم.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن قوله: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » ، قال: من المال.

وأما قوله: « وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم » ، فإنه يعني به: ومهما تنفقوا من شيء فتتصدقوا به من أموالكم، فإنّ الله تعالى ذكرُه بما يتصدَّق به المتصدِّق منكم، فينفقه مما يحبّ من ماله في سبيل الله وغير ذلك - « عليم » ، يقول: هو ذو علم بذلك كله، لا يعزُبُ عنه شيء منه، حتى يجازي صاحبه عليه جزاءَه في الآخرة، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده: « وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم » ، يقول: محفوظٌ لكم ذلك، اللهُ به عليمٌ شاكرٌ له.

وبنحو التأويل الذي قلنا تأوَّل هذه الآية جماعةٌ من الصحابة والتابعين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » ، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أنْ يبتاع له جارية من جَلولاء يوم فُتحت مدائن كسرى في قتال سَعد بن أبي وقاص، فدعا بها عمر بن الخطاب فقال: إن الله يقول: « لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون » ، فأعتقها عمر وهي مثْل قول الله عز وجل: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [ سورة الإنسان: 8 ] ، و وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [ سورة الحشر: 9 ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله سواء.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: لما نـزلت هذه الآية: ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) ، أو هذه الآية: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [ سورة البقرة: 245\ الحديد: 11 ] ، قال أبو طلحة، يا رسول الله، حائطي الذي بكذا وكذا صَدَقة، ولو استطعت أن أجعله سرًّا لم أجعله علانية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها في فقراء أهلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال، قال حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: لما نـزلت هذه الآية: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » ، قال أبو طلحة: يا رسول الله، إنّ الله يسألنا من أموالنا، اشهدْ أني قد جعلت أرضي بأرْيحا لله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها في قرابتك. فجعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب.

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا ليث، عن ميمون بن مهران: أنّ رجلا سأل أبا ذَرّ: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة عمادُ الإسلام، والجهاد سَنامُ العمل، والصدقة شيء عَجبٌ! فقال: يا أبا ذر، لقد تركتَ شيئًا هو أوَثقُ عملي في نفسي، لا أراك ذكرته! قال: ما هو؟ قال: الصّيام! فقال: قُرْبة، وليس هناك! وتلا هذه الآية: « لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبُون » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني داود بن عبد الرحمن المكي، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن عمرو بن دينار قال: لما نـزلت هذه الآية: « لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون » ، جاء زيدٌ بفرس له يقال له: « سَبَل » إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تصدَّق بهذه يا رسول الله. فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه أسامة بن زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله، إنما أردت أن أتصدّق به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قُبلتْ صَدَقتك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب وغيره: أنها حين نـزلت: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » ، جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبُّها، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله. فحملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها أسامةَ بن زيد، فكأنَّ زيدًا وَجد في نفسه، فلما رأى ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما إن الله قد قبلها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 93 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه لم يكن حرَّم على بني إسرائيل وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن شيئًا من الأطعمة من قبل أن تنـزل التوراة، بل كان ذلك كله لهم حلالا إلا ما كان يعقوب حرّمه على نفسه، فإن وَلده حرّموه استنانًا بأبيهم يعقوب، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنـزيل، ولا على لسان رسولٍ له إليهم، من قبل نـزول التوراة.

ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم، هل نـزل في التوراة أم لا؟ فقال بعضهم: لما أنـزل الله عز وجل التوراةَ، حرّم عليهم من ذلك ما كانوا يحرِّمونه قبل نـزولها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين، قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » قالت اليهود: إنما نحرِّم ما حرّم إسرائيل على نفسه، وإنما حرّم إسرائيل العرُوق، كان يأخذه عِرق النَّسا، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار، فحلف لئْن الله عافاه منه لا يأكل عِرْقًا أبدًا، فحرّمه الله عليهم ثم قال: « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ، ما حرَّم هذا عليكم غيري ببغيكم، فذلك قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [ سورة النساء: 160 ]

قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل تنـزل التوراة، فإن اللهَ حرّم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرَّمه على نفسه في التوراة، ببغيهم على أنفسهم وظلمهم لها. قل يا محمد: فأتوا، أيها اليهود، إن أنكرتم ذلك بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوراة، وأنكم إنما تحرّمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.

وقال آخرون: ما كان شيءٌ من ذلك عليهم حرامًا، لا حرّمه الله عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتباعًا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله. فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه، فقال الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة فاتلوها، حتى ننظر هل ذلك فيها، أم لا؟ فيتبين كذبهم لمن يجهلُ أمرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ، قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه » إسرائيل هو يعقوب، أخذه عرق النسا فكان لا يَبيتُ الليل من وجعه، وكان لا يؤذيه بالنهار. فحلف لئن شفاهُ الله لا يأكل عِرْقًا أبدًا، وذلك قبل نـزول التوراة على موسى. فسأل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم اليهود: ما هذا الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقالوا: نـزلت التوراة بتحريم الذي حرَّم إسرائيل. فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » إلى قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وكذبوا وافتروا، لم تنـزل التوراة بذلك.

وتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل من قبل أن تنـزل التوراة وبعد نـزولها، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة بمعنى: لكن إسرائيل حرم على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة بعض ذلك. وكأن الضحاك وجّه قوله: « إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » إلى الاستثناء الذي يسميه النحويون « الاستثناء المنقطع » .

وقال آخرون: تأويل ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة، فإنّ ذلك حرامٌ على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده، من غير أن يكون الله حرّمه على إسرائيل ولا على ولده.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » فإنه حرّم على نفسه العروقَ، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا، فكان لا ينام الليل، فقال: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد وليس مكتوبًا في التوراة! وسأل محمد صلى الله عليه وسلم نفرًا من أهل الكتاب فقال: ما شأن هذا حرامًا؟ فقالوا: هو حرام علينا من قِبَل الكتاب. فقال الله عز وجل: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل » إلى « إنْ كنتم صادقين » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: أخذه - يعني إسرائيل- عرقُ النسا، فكان لا يبيتُ بالليل من شدّة الوجع ، وكان لا يؤذيه بالنهار، فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عِرقًا أبدًا، وذلك قبل أن تنـزل التوراة. فقال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: نـزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل على نفسه. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ، وكذبوا، ليس في التوراة.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: « معنى ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنـزل التوراة، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه ، فإنه كان حرامًا عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم، من غير أن يحرمه الله عليهم في تنـزيل ولا وحي قبل التوراة، حتى نـزلت التوراةُ، فحرّم الله عليهم فيها ما شاءَ، وأحلّ لهم فيها ما أحبّ » .

وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل، وهو معنى قول ابن عباس الذي ذكرناه قبل.

ذكر بعض من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة » ، وإسرائيل، هو يعقوب « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » يقول: كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنـزل التوراة. إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فلما أنـزل الله التوراة حرّم عليهم فيها ما شاء وأحلّ لهم ما شاء.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه.

واختلف أهل التأويل في الذي كان إسرائيل حرَّمه على نفسه.

فقال بعضهم: كان الذي حرّمه إسرائيل على نفسه العُرُوق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن يوسف بن مَاهَك قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال إنه جعل امرأته عليه حرامًا، قال: ليست عليك بحرام. قال: فقال الأعرابي: ولم؟ والله يقول في كتابه: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه » ؟ قال: فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما كان إسرائيل حَرّم على نفسه؟ قال: ثم أقبل على القوم يحدثهم فقال: إسرائيل عرَضتْ له الأنساءُ فأضنته، فجعل لله عليه إنَ شفاه الله منها لا يطعم عِرْقًا. قال: فلذلك اليهود تنـزع العروق من اللحم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر. قال: سمعت يوسف بن ماهك يحدثُ: أنّ أعرابيًّا أتى ابن عباس، فذكر رجلا حرّم امرأته فقال: إنها ليست بحرام. فقال الأعرابي: أرأيت قول الله عز وجل: « كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » ؟ فقال: إن إسرائيل كان به عِرْق النسا، فحلف لئن عافاه الله أن لا يأكل العرُوق من اللحم، وإنها ليست عليك بحرام.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: « كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » قال، إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا، فجعل لله عليه أو: أقسم، أو:آلى : لا يأكله من الدواب. قال: والعروق كلها تبعٌ لذلك العرق.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ الذي حرّم إسرائيل على نفسه: أنّ الأنساء أخذته ذات ليلة، فأسهرته ، فتألَّى إنِ الله شفاه لا يطعم نَسًا أبدًا، فتتبعت بنوهُ العروق بعد ذلك يخرجونها من اللحم.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه وزاد فيه. قال: فتألَّى لئن شفاه الله لا يأكل عرقًا أبدًا، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق، فيخرجونها من اللحم. وكان « الذي حرّم على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة » ، العُروق.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » قال، اشتكى إسرائيل عرق النسا فقال: إنِ الله شفاني لأحرِّمنّ العروق! فحرَّمها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان إسرائيل أخذه عرق النسا، فكان يبيتُ لهُ زُقاء، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل العروق. فأنـزل الله عز وجل: « كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه » قال سفيان: « له زقاء » ، يعني صياح.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه » قال، كان يشتكي عرق النسا، فحرَّم العروق.

حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال،: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس في قوله: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة » قال، كان إسرائيل يأخذه عرق النسا، فكان يبيت وله زقاء، فحرَّم على نفسه أن يأكل عرقًا.

وقال آخرون: بل « الذي كان إسرائيل حرَّم على نفسه » ، لحوم الإبل وألبانُها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: سمعنا أنه اشتكى شكوى، فقالوا: إنه عرق النسا، فقال: رَبّ، إن أحب الطعام إليّ لحومُ الإبل وألبانُها، فإن شفيتني فإني أحرمها عليّ قال ابن جريج، وقال عطاء بن أبي رباح: لحومَ الإبل وألبانَها حرّم إسرائيل.

حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل » قال، كان إسرائيل حرّم على نفسه لحومَ الإبل، وكانوا يزعمون أنهم يجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه لحومَ الإبل وإنما كان حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل قبل أن تنـزل التوراة، فقال الله: « فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ، فقال: لا تجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه، أي لحم الإبل.

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال، حدثنا سعيد، عن ابن عباس: أن إسرائيل أخذَه عرق النسا، فكانَ يبيت بالليل له زُقاء يعني: صياح قال: فجعل على نفسه لئن شفاه الله منه لا يأكله يعني: لحوم الإبل قال: فحرمه اليهود، وتلا هذه الآية: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ، أي: إن هذا قبل التوراة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في: « إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » قال، حرّم العروقَ ولحوم الإبل. قال: كان به عرق النسا، فأكل من لحومها فباتَ بليلةٍ يَزْقُو، فحلف أن لا يأكله أبدا.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد في قوله: « إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » . قال: حرم لحم الأنعام.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قولُ ابن عباس الذي رواه الأعمش، عن حبيب، عن سعيد عنه: أنّ ذلك، العروقُ ولحوم الإبل، لأنّ اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها، كما كان عليه من ذلك أوائلُها. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خبر، وهو: ما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا أيّ الطعام حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرضَ مرضًا شديدًا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقْمه ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه، وكان أحبّ الطعام إليه لُحمان الإبل، وأحبّ الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. »

وأما قوله: « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ، فإن معناه: قل، يا محمد، للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها : « ائتوا بالتوراة فاتلوها » ، يقول: قل لهم: جيئوا بالتوراة فاتلوها، حتى يتبين لمن خفى عليه كذبهم وقيلهم الباطلَ على الله من أمرهم: أن ذلك ليس مما أنـزلته في التوراة « إن كنتم صادقين » ، يقول: إن كنتم محقين في دعواكم أنّ الله أنـزل تحريمَ ذلك في التوراة، فأتونا بها، فاتلوا تحريمَ ذلك علينا منها.

وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدًا على صحته، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وجعل إعلامه إياه ذلك حجةً له عليهم. لأن ذلك إذْ كان يخفى على كثير من أهل ملتّهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أميٌّ من غير ملتهم، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده كان أحرَى أن لا يعلمَه. فكان ذلك له صلى الله عليه وسلم، من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم، إليهم. لأن ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفيِّ عُلومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبي أو رسول، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 94 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فمن كذَب على الله منا ومنكم، من بعد مجيئكم بالتوراة، وتلاوتكم إياها، وَعَدَمِكم ما ادّعيتم من تحريم الله العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها فيها « فأولئك هم الظالمون » يعني: فمن فعل ذلك منهم « فأولئك » ، يعني: فهؤلاء الذين يفعلون ذلك « هم الظالمون » ، يعني: فهم الكافرون، القائلون على الله الباطل، كما:-

حدثنا المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن زكريا، عن الشعبي: « فأولئك هم الظالمون » قال، نـزلت في اليهود.

 

القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه : قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 95 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « قل » ، يا محمد « صدق الله » ، فيما أخبرنا به من قوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وأن الله لم يحرم على إسرائيل ولا على ولده العروقَ ولا لحومَ الإبل وألبانَها، وأنّ ذلك إنما كان شيئًا حرّمه إسرائيل على نفسه وَوَلده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة وفي كل ما أخبر به عباده من خبر، دونكم.وأنتم، يا معشر اليهود، الكذبةُ في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة، المفتريةُ على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحق « فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين » ، يقول: فإن كنتم، أيها اليهود، محقين في دعواكم أنكم على الدّين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورُسله « فاتبعوا ملة إبراهيم » ، خليل الله، فإنكم تعلمون أنه الحق الذي ارتضَاه الله منْ خلقه دينًا، وابتعث به أنبياءَه، ذلك الحنيفية - يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه- دون اليهودية والنصرانية والمشركة.

وقوله: « وما كان من المشركين » ، يقول: لم يكن يشرك في عبادته أحدًا من خلقه. فكذلك أنتم أيضًا، أيها اليهود، فلا يتخذ بعضكم بعضًا أربابًا من دون الله تطيعونهم كطاعة إبراهيم ربه وأنتم يا معشرَ عبدة الأوثان، فلا تتخذوا الأوثان والأصنام أربابًا، ولا تعبدوا شيئًا من دون الله، فإن إبراهيم خليل الرحمن كان دينُه إخلاص العبادة لربه وحدَه، من غير إشراك أحد معه فيه. فكذلك أنتم أيضًا، فأخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه في العبادة أحدًا، فإن جميعكم مقرُّون بأنّ إبراهيم كان على حقّ وَهدْى مستقيم، فاتبعوا ما قد أجمع جميعُكم على تصويبه من ملته الحنيفية، ودعوا ما اختلفتم فيه من سائر الملل غيرها، أيها الأحزاب، فإنها بدَع ابتدعتموها إلى ما قد أجمعتم عليه أنه حق، فإن الذي أجمعتم عليه أنه صوابٌ وحق من ملة إبراهيم، هو الحق الذي ارتضيتُه وابتعثتُ به أنبيائي ورسلي، وسائرُ ذلك هو الباطل الذي لا أقبله من أحد من خلقي جاءَني به يوم القيامة.

وإنما قال جل ثناؤه: « وما كان من المشركين » ، يعني به: وما كان من عَدَدهم وأوليائهم. وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم. ونصرةِ بعضهم بعضًا. فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو [ من ] نصرائهم وأهل ولايتهم. وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين، اليهودَ والنصارَى وسائر الأديان، غير الحنيفية. قال: لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة، ولكنه كان حنيفًا مسلمًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ( 96 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: تأويله: إنّ أول بيت وضع للناس، يُعبَد الله فيه مباركًا وهُدًى للعالمين، الذي ببكة. قالوا: وليس هو أوّل بيت وضع في الأرض، لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى عليّ فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أوّل بيت وُضع في الأرض؟ فقال: لا ولكنه أول بيت وضع في البرَكة مقامِ إبراهيم، ومن دَخَله كان آمنًا.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالدَ بن عرعرة قال: سمعت عليًّا، وقيل له: « إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة » ، هو أوّل بيت كان في الأرض؟ قال: لا! قال: فأين كان قَوْم نُوح؟ وأين كان قوم هود؟ قال: ولكنه أوّل بيت وُضع للناس مبارَكًا وهدًى.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال، سأل حفْصٌ الحسنَ وأنا أسمع عن قوله: « إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا » قال، هو أول مسجد عُبد الله فيه في الأرض.

حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي قال، حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر في قوله: « إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة » قال: قد كانت قبله بيوتٌ، ولكنه أول بيت وُضع للعبادة.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن قوله: « إن أوّل بيت وضع للناس » ، يُعبد الله فيه « للذي ببكة » .

حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: « إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا » قال، وضع للعبادة.

وقال آخرون: بل هو أوّل بيت وضع للناس.

ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أوّل.

فقال بعضهم: خُلق قبل جميع الأرَضين، ثم دُحِيت الأرَضون من تحته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا شيبان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: خلق الله البيتَ قبل الأرض بألفي سنة، وكان - إذ كان عرشه على الماء- زَبْدةً بيضاءَ، فدحيتُ الأرض من تحته.

حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال: سمعت مجاهدًا يقول: إنّ أول ما خلق الله الكعبةَ، ثم دَحى الأرض من تحتها.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « إن أول بيت وضع للناس » ، كقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ سورة آل عمران: 110 ]

حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين » ، أما « أول بيت » ، فإنه يوم كانت الأرض ماء، كان زَبْدَة على الأرض، فلما خلق الله الأرضَ، خلق البيت معها، فهو أول بيت وضع في الأرض.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا ) قال، أوّل بيت وَضَعه الله عز وجل، فطاف به آدم وَمنْ بعده.

وقال آخرون: موضع الكعبة، موضع أوّل بيت وضعه الله في الأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذُكر لنا أن البيتَ هبط مع آدم حين هبط، قال: أهبِط معك بيتي يُطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بَعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمنُ الطوفان، زَمنَ أغرقَ الله قوم نوح، رَفعه الله وطهَّره من أن يصيبهُ عقوبة أهل الأرض، فصار معمورًا في السماء. ثم إنّ إبراهيم تتبع منه أثرًا بعد ذلك، فبناه على أساسٍ قديم كانَ قبله.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قال جل ثناؤه فيه: إن أول بيت مباركٍ وهُدًى وُضع للناس، للذي ببكة. ومعنى ذلك: « إن أول بيت وضع للناس » ، أي: لعبادة الله فيه « مباركًا وهدًى » ، يعني بذلك: ومآبًا لنُسْك الناسكين وطواف الطائفين، تعظيما لله وإجلالا له « للذي ببكة » لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما:-

حدثنا به محمد بن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال، قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وضع أوّل؟ قال: « المسجد الحرام. قال: ثم أيٌّ؟ قال: المسجد الأقصى. قال: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة » .

فقد بين هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ المسجد الحرام هو أوّل مسجد وضعه الله في الأرض، على ما قلنا. فأما في موضعه بيتًا، بغير معنى بيت للعبادة والهدى والبركة، ففيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضَه في هذا الموضع، وبعضه في سورة البقرة وغيرها من سُور القرآن، وبينت الصواب من القول عندنا في ذلك بما أغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

وأما قوله: « للذي ببكة مباركا » ،، فإنه يعني: للبيت الذي بمُزْدَحم الناس لطوافهم في حجهم وعمَرهم.

وأصل « البكّ » : الزحم، يقال: منه: « بكّ فلانٌ فلانًا » إذا زحمه وصدمه - « فهو يَبُكه بَكًّا، وهم يتباكُّون فيه » ، يعني به: يتزاحمون ويتصادمون فيه. فكأن « بَكَّة » « فَعْلة » من « بَكَّ فلان فلانًا » زحمه، سُميت البقعة بفعل المزدحمين بها.

فإذا كانت « بكة » ما وصفنا، وكان موضع ازدحام الناس حَوْل البيت، وكان لا طوافَ يجوز خارج المسجد كان معلومًا بذلك أن يكون ما حَوْل الكعبة من داخل المسجد، وأن ما كان خارجَ المسجد فمكة، لا « بكة » . لأنه لا معنى خارجَه يوجب على الناس التَّباكَّ فيه. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك فسادُ قول من قال: « بكة » اسم لبطن « مكة » ، ومكة اسم للحرم. .

*ذكر من قال في ذلك ما قلنا: من أن « بكة » موضع مزدحم الناس للطواف:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال،: حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري في قوله: « إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة » قال، « بكة » موضع البيت، « ومكة » ما سوى ذلك.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن أبي جعفر قال: مرت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت، فدفعها. قال أبو جعفر: إنها بَكَّةٌ، يبكّ بعضُها بعضًا.

حدثنا ابن المثني قال: حدثنا عبد الصمد قال،: حدثنا شعبة قال، حدثنا سلمة، عن مجاهد قال: إنما سميت « بكة » ، لأن الناس يتباكُّون فيها، الرجالَ والنساءَ.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد قال، قلت لأي شيء سُميت « بكة » ؟ قال: لأنهم يتباكُّون فيها قال: يعني: يزدحمون.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، عن أبيه، عن ابن الزبير قال، إنما سميت « بكة » ، لأنهم يأتونها حُجّاجًا.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا » ، فإن الله بَكَّ به الناس جميعًا، فيصلي النساءُ قدّام الرجال، ولا يصلح ببلد غيره.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « بكة » ، بكّ الناس بعضهم بعضًا، الرجال والنساء، يصلي بعضُهم بين يدَيْ بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي قال: « بكة » ، موضع البيت، و « مكة » : ما حولها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن أزهر، عن غالب بن عبيد الله: أنه سأل ابن شهاب عن « بكة » قال، « بكة » البيت، والمسجد. وسأله عن « مكة » ، فقال ابن شهاب: « مكة » : الحرم كله.

حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء ومجاهد قالا « بكة » : بكّ فيها الرجالَ والنساءَ.

حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي. قال: قال ضمرة بن ربيعة، « بكة » : المسجد،. و « مكة » : البيوت.

وقال بعضهم بما:-

حدثني به يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « إن أوّل بيت وُضع للناس للذي ببكة » قال، هي مكة.

وقيل: « مباركًا » ، لأن الطواف به مغفرةٌ للذنوب.

فأما نصب قوله: « مباركا » ، فإنه على الخروج من قوله: « وضع » ، لأن في « وضع » ذكرًا من « البيت » هو به مشغول، وهو معرفة، و « مبارك » نكرة لا يصلح أن يتبعه في الإعراب.

وأما على قول من قال: « هو أول بيت وضع للناس » ، على ما ذكرنا في ذلك قولَ من ذكرنا قوله، فإنه نصبٌ على الحال من قوله: « للذي ببكة » . لأن معنى الكلام على قولهم: إن أول بيت وضع للناس البيتُ [ الذي ] ببكة مباركًا. فـ « البيت » عندهم من صفته « الذي ببكة » ، و « الذي » بصلته معرفته، و « المبارك » نكرة، فنصب على القطع منه، في قول بعضهم وعلى الحال في قول بعضهم. و « هدى » في موضع نصب على العطف على قوله « مباركا » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك،

فقرأه قرأة الأمصار: ( فِيهِ أيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ) على جماع « آية » ، بمعنى: فيه علامات بيناتٌ.

وقرأ ذلك ابن عباس. ( فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ ) ، يعني بها: مقام إبراهيم، يراد بها: علامة واحدةٌ.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فيه آيات بينات » وما تلك الآيات؟. فقال بعضهم: مقامُ إبراهيم والمشعرُ الحرام، ونحو ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فيه آيات بينات » ، مقامُ إبراهيم، والمشعر.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة ومجاهد: « فيه آيات بينات مَقامُ إبراهيم » قال، مقامُ إبراهيم، من الآيات البينات.

وقال آخرون: « الآيات البينات » ، مقام إبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: « فيه آيات بينات » قال، « مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا » .

وقال آخرون: « الآيات البينات » ، هو مقام إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: « فيه آيات بَينات مقام إبراهيم » أما « الآيات البينات » فمقام إبراهيم.

قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوا ذلك: « فيه آية بينة » على التوحيد، فإنهم عنوا بـ « الآية البينة » ، مقام إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فيه آية بينة » ، قال: قدمَاه في المقام آية بينة. يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا قال، هذا شيء آخر.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: « فيه آية بينة مقام إبراهيم » قال، أثر قدميه في المقام، آية بينة.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: « الآيات البينات، منهنّ مقام إبراهيم » ، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما. فيكون الكلام مرادًا فيه « منهن » ، فترك ذكرُه اكتفاء بدلالة الكلام عليها.

فإن قال قائل: فهذا المقامُ من الآيات البينات، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل: « آيات بينات » ؟

قيل: منهنّ المقام، ومنهن الحجرُ، ومنهن الحطيمُ.

وأصحّ القراءتين في ذلك قراءة من قرأه: « فيه آياتٌ بيناتٌ » ، على الجماع، لإجماع قرأة أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها.

وأما اختلاف أهل التأويل في تأويل: « مقام إبراهيم » ، فقد ذكرناهُ في « سورة البقرة » ، وبينا أولى الأقوال بالصواب فيه هنالك، وأنه عندنا المقامُ المعروف به.

فتأويل الآية إذًا: إن أول بيت وُضع للناس مباركًا وهدًى للعالمين، للَّذي ببكة، فيه علاماتٌ بيناتٌ من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم، منهن أثر قَدَم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجر الذي قامَ عليه.

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: تأويله: الخبرُ عن أنّ كل من جرّ في الجاهلية جريرةً ثم عاذَ بالبيت، لم يكن بها مأخوذًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « ومن دخله كان آمنا » ، وهذا كان في الجاهلية، كان الرّجل لو جرّ كل جريرة على نفسه، ثم لجأ إلى حَرَم الله، لم يُتناول ولم يُطلب. فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، مَنْ سَرَق فيه قطع، ومن زَنى فيه أقيمَ عليه الحدّ، ومن قَتل فيه قُتل وعن قتادة: أن الحسن كان يقول: إنّ الحرم لا يمنع من حدود الله. لو أصاب حدًّا في غير الحرم، فلجأ إلى الحرم، لم يمنعه ذلك أن يُقام عليه الحدّ.

*ورأى قتادةُ ما قاله الحسن.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: « ومن دخله كان آمنًا » قال، كان ذلك في الجاهلية. فأما اليوم، فإن سرق فيه أحدٌ قطع، وإن قتل فيه قُتل، ولو قدِر فيه على المشركين قتِلوا.

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، حدثنا خصيف، عن مجاهد في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم قال: يؤخَذ، فيخرج من الحرم، ثم يقام عليه الحد. يقول: القتل.

حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، مثل قول مجاهد.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا هشام، عن الحسن وعطاء في الرجل يصيب الحدّ ويلجأ إلى الحرم يُخرج من الحرم، فيقامُ عليه الحد.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية على قول هؤلاء: فيه آيات بينات مقامُ إبراهيم، والذي دخله من الناس كان آمنًا بها في الجاهلية.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يَدْخله يكن آمنًا بها بمعنى الجزاء، كنحو قول القائل. « من قامَ لي أكرمته » ، بمعنى: من يَقم لي أكرمه. وقالوا: هذا أمرٌ كان في الجاهلية، كان الحرمُ مَفزَع كل خائف. وملجأ كل جانٍ، لأنه لم يكن يُهاج به ذو جريرة، ولا يَعرِض الرّجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء. قالوا: وكذلك هو في الإسلام، لأن الإسلام زادَه تعظيمًا وتكريمًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا مجاهد قال، قال ابن عباس: إذا أصاب الرجل الحدَّ: قتل أو سرق، فدخل الحرم، لم يُبايع ولم يُؤوَ، حتى يتبرّم فيخرج من الحرم، فيقام عليه الحد. قال. فقلت لابن عباس: ولكني لا أرَى ذلك! أرى أن يؤخذ برمُتّه، ثم يخرج من الحرَم، فيقام عليه الحد، فإن الحرم لا يزيده إلا شدّة.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء قال: أخذَ ابن الزبير سعدًا مولى معاوية - وكان في قلعة بالطائف- فأرسل إلى ابن عباس من يُشاوره فيهم: إنهم لنا عَدوّ. فأرسل إليه ابن عباس: لو وجدت قاتل أبي لم أعرض له. قال: فأرسل إليه ابن الزبير: ألا نخرجهم من الحرم؟ قال: فأرسل إليه ابن عباس: أفلا قبل أن تدخلهم الحرم؟ زاد أبو السائب في حديثه: فأخرجهم فصلبهم، ولم ينظر إلى قول ابن عباس.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: من أحدَثَ حَدَثًا في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم لم يُعرَض له، ولم يبايع، ولم يكلَّم، ولم يؤوَ حتى يخرج من الحرم. فإذا خرج من الحرم، أخذ فأقيم عليه الحد. قال: ومن أحدث في الحرم حدَثًا أقيم عليه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نَصر السّلمي، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: من أحدث حدَثًا ثم استجار بالبيت فهو آمن، وليس للمسلمين أن يعاقبوه على شيء إلى أن يخرج. فإذا خَرَج أقاموا عليه الحدّ.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حجاج، عن عطاء عن ابن عمر قال: لو وجدتُ قاتل عمر في الحرَم، ما هِجْتُه.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ليث، عن عطاء: أن الوليد بن عتبة أراد أن يُقيم الحدّ في الحرم، فقال له عُبيد بن عمير: لا تقم عليه الحد في الحرَم إلا أن يكون أصابه فيه.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مطرف، عن عامر قال: إذا أصاب الحدّ ثم هرب إلى الحرم، فقد أمن فإذا أصابه في الحرم، أقيم عليه الحدُّ في الحرم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن فراس، عن الشعبي قال: من أصاب حدًّا في الحرم أقيم عليه في الحرم. ومن أصابه خارجًا من الحرم ثم دخل الحرم، لم يكلَّم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه.

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير وعن عبد الملك، عن عطاء بن أبي رباح في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم قال: لا يبيعه أهلُ مكة ولا يشترون منه، ولا يسقونه ولا يطعمونه ولا يؤونه عد أشياء كثيرة حتى يخرج من الحرَم، فيؤخذ بذنبه.

حدثت عن عمار قال،: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنّ الرجل إذا أصاب حدًّا ثم دخل الحرم، أنه لا يُطعَم، ولا يُسقى، ولا يؤوَى، ولا يكلَّم، ولا ينكح، ولا يبايع. فإذَا خرج منه أقيم عليه الحد.

حدثني المثني قال، حدثني حجاج قال،: حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا أحدث الرجل حدَثًا ثم دخل الحرم، لم يؤْوَ، ولم يجالس، ولم يبايع، ولم يطعَم، ولم يُسْق، حتى يخرج من الحرَم.

حدثني المثني قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: « ومن دخله كان آمنًا » ، فلو أنّ رجلا قتلَ رجلا ثم أتى الكعبة فعاذّ بها، ثم لقيه أخو المقتول لم يحلّ له أبدًا أن يقتله.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن دخله يَكن آمنًا من النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا رزيق بن مسلم المخزومي قال، حدثنا زياد بن أبي عياش، عن يحيى بن جعدة في قوله: « ومن دخله كان آمنًا » قال، آمنًا من النار.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول ابن الزبير ومجاهد والحسن، ومن قال: « معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذًا به، كان آمنًا ما كان فيه، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحد، إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه. وإن كان أصابه فيه أقيمَ عليه فيه » .

فتأويل الآية إذا: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن يدخله من الناس مستجيرًا به، يكن آمنًا مما استجارَ منه ما كان فيه، حتى يخرج منه.

فإن قال قائل: وما منعك من إقامة الحد عليه فيه؟

قيل: لاتفاق جميع السلف على أنّ من كانت جريرته في غيره ثم عاذ به، فإنه لا يؤخذ بجريرته فيه. وإنما اختلفوا في صفة إخراجه منه لأخذه بها.

فقال بعضهم: صفة ذلك: منعه المعانىَ التي يضطرّ مع منعه وفقدِه إلى الخروج منه.

وقال آخرون: لا صفة لذلك غيرُ إخراجه منه بما أمكن إخراجه من المعاني التي تُوصِّل إلى إقامة حدّ الله معها.

فلذلك قلنا: غير جائز إقامة الحد عليه فيه إلا بعد إخراجه منه. فأما من أصاب الحدّ فيه، فإنه لا خلاف بين الجميع في أنه يقامُ عليه فيه الحد. فكلتا المسألتين أصل مُجمَع على حكمهما على ما وصفنا.

فإن قال لنا قائل: وما دِلالتك على أن إخراج العائذ بالبيت إذا أتاه مستجيرًا به من جريرة جرّها. أو من حدٍّ أصابه من الحرم، جائزٌ لإقامة الحد عليه، وأخذه بالجريرة، وقد أقررتَ بأن الله عز وجل قد جَعل من دخله آمنًا، ومعنى « الآمن » غير معنى « الخائف » ؟ فبما هما فيه مختلفان؟ .

قيل: قلنا ذلك، لإجماع الجميع من المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة، على أنّ إخراج العائذ به من جريرة أصابها أو فاحشةٍ أتاها وجبتْ عليه بها عقوبة منه ببعض معاني الإخراج لأخذه بما لزمه، واجبٌ على إمام المسلمين وأهلِ الإسلام معه.

وإنما اختلفوا في السبب الذي يُخرَج به منه.

فقال بعضهم: السبب الذي يَجوز إخراجه به منه: ترك جميع المسلمين مبايَعته وإطعامَه وسقيه وإيواءَه وكلامه، وما أشبه ذلك من المعاني التي لا قَرار للعائذ به فيه مع بعضها، فكيف مع جميعها؟

وقال آخرون منهم: بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة، واجبٌ بكل معاني الإخراج.

فلما كان إجماعًا من الجميع على أنّ حكم الله - فيمن عاذ بالبيت من حدّ أصابه أو جريرة جرّها- إخراجه منه، لإقامة ما فرض الله على المؤمنين إقامته عليه، ثم اختلفوا في السبب الذي يَجوز إخراجُه به منه كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأيّ معنى أمكنهم إخراجه منه، حتى يقيموا عليه الحدّ الذي لزمه خارجًا منه إذا كان لجأ إليه من خارج، على ما قد بينا قبل.

وبعدُ، فإن الله عز وجل لم يضع حدًّا من حُدُوده عن أحد من خلقه من أجل بُقعة وموضع صار إليها من لزمه ذلك،. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

« إني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة » .

ولا خلاف بين جميع الأمة أن عائذًا لو عَاذَ من عقوبة لزمته بحرَم النبي صلى الله عليه وسلم، يؤاخذ بالعقوبة فيه. ولولا ما ذكرت من إجماع السلف على أنّ حرَم إبراهيم لا يقام فيه على من عاذَ به من عقوبة لزمته حتى يخرج منه ما لزمه، لكان أحقّ البقاع أن تؤدَّى فيه فرائض الله التي ألزمها عبادَه من قتل أو غيره، أعظم البقاع إلى الله، كحرم الله وحرَم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حَرَم الله لإقامة الحد، لما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثةً.

فمعنى الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: ومن دخله كان آمنًا ما كان فيه. فإذ كان ذلك كذلك، فمن لجأ إليه من عقوبة لزمته عائذًا به، فهو آمن ما كان به حتى يخرج منه، وإنما يصير إلى الخوف بعد الخروج أو الإخراج منه، فحينئذ هو غير داخله ولا هو فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وفرضٌ واجبٌ لله على من استطاع من أهل التكليف السبيلَ إلى حجّ بيته الحرام الحج إليه.

وقد بينا فيما مضى معنى « الحج » ، ودللنا على صحة ما قلنا من معناه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: « من استطاع إليه سبيلا » ، وما السبيل التي يجبُ مع استطاعتها فرض الحج ؟

فقال بعضهم: هي الزّاد والراحلة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: « من استطاع إليه سبيلا » قال، الزاد والراحلة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار: الزاد والراحلة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي جناب، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: « من استطاع إليه سبيلا » ، قال: الزاد والبعير.

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » ، والسبيل، أن يصحّ بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يُجْحف به.

حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا النضر بن شميل قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي عبد الله البجلي قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله: « من استطاع إليه سبيلا » ، قال قال ابن عباس: من ملك ثلثمائة درهم فهو السبيل إليه.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو عاصم، عن إسحاق بن عثمان قال: سمعت عطاء يقول: السبيلُ، الزاد والراحلة.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما « من استطاع إليه سبيلا » ، فإن ابن عباس قال: السبيلُ، راحلةٌ وزادٌ.

حدثني المثني وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير: « من استطاع إليه سبيلا » ، قال: الزاد والراحلة.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، أخبرنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: الزادُ والراحلة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحسن قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: « ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا » ، فقال رجلٌ: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة.

واعتل قائلو هذه المقالة بأخبار رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما قالوا في ذلك.

*ذكر الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إبراهيم بن يزيد الخوزي قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث، عن ابن عمر قال: قام رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما السبيل؟ قال: « الزاد والراحلة » .

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم الخوزي، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله عز وجل: « من استطاع إليه سبيلا » ، قال: السبيل إلى الحج، الزاد والراحلة.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا يونس وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس عن الحسن قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » ، قالوا: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال. « الزادُ والراحلة » .

حدثنا أبو عثمان المقدمي والمثني بن إبراهيم قالا حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي قال: حدثنا أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ملك زادًا وراحلةً تبلغه إلى بيت الله فلم يحجّ فلا عليه أن يموتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا، وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه: « ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا » الآية.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال له قائل، أو رجل: يا رسول الله، ما السبيل إليه؟ قال: من وجد زادًا وراحلةً.

حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا شاذ بن فياض البصري قال، حدثنا هلال أبو هاشم، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ملك زادًا وراحلة فلم يحجّ ماتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا. وذلك أن الله يقول في كتابه: « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » الآية.

حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة وحميد، عن الحسن، أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل إليه؟ قال: الزاد والراحلة.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.

وقال آخرون: السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحج: الطاقةُ للوصول إليه. قالوا: وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه: بامتناع الطريق من العدوّ الحائل، وبقلة الماء، وما أشبه ذلك. قالوا: فلا بيان في ذلك أبين مما بيَّنه الله عز وجل، بأن يكون مستطيعًا إليه السبيل، وذلك: الوصولُ إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه، وذلك قد يكون بالمشي وحده وإنْ أعوزَه المركب، وقد يكون بالمركب وغير ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن خالد بن أبي كريمة، عن رجل، عن ابن الزبير قوله: « ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا » قال: على قدر القوة.

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « من استطاع إليه سبيلا » ، قال: الزاد والراحلة، فإن كان شابًّا صحيحًا ليس له مال، فعليه أن يُؤاجر نفسه بأكله وغُفَّته حتى يقضي حجته به، فقال له قائل: كلَّف الله الناسَ أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو أنّ لبعضهم ميراثًا بمكة، أكان تاركَه؟ والله لانطلق إليه ولو حَبوًا!! كذلك يجبُ عليه الحج.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: من وجد شيئًا يبلِّغه، فقد وَجد سبيلا كما قال الله عز وجل:. « من استطاع إليه سبيلا » .

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هانئ قال، سئل عامر عن هذه الآية: « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » ؟ قال: السبيلُ، ما يسَّره الله.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن: من وجد شيئًا يُبْلغه فقد استطاع إليه سبيلا.

وقال آخرون: السبيلُ إلى ذلك: الصحةُ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن حميد ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمثني بن إبراهيم قالوا، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا شرحبيل بن شريك المعافري: أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول في هذه الآية: « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » ، قال: السبيلُ الصحةُ.

وقال آخرون بما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل: « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » ، قال: من وجد قُوّة في النفقة والجسد والحُمْلان. قال: وإن كان في جَسده ما لا يستطيع الحج، فليس عليه الحج، وإن كان له قوة في مال، كما إذا كان صحيحَ الجسد ولا يجد مالا ولا قوة، يقولون: لا يكلف أن يَمشي.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إنّ ذلك على قدر الطاقة. لأن « السبيل » في كلام العرب: الطريقُ، فمن كان واجدًا طريقًا إلى الحج لا مانعَ له منه من زَمانة، أو عَجز، أو عدوّ، أو قلة ماء في طريقه، أو زاد، أو ضعف عن المشي، فعليه فرضُ الحج، لا يجزيه إلا أداؤه. فإن لم يكن واجدًا سبيلا أعني بذلك: فإن لم يكن مطيقًا الحجَّ، بتعذُّر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه فهو ممن لا يجدُ إليه طريقًا ولا يستطيعه. لأن الاستطاعة إلى ذلك، هو القدرة عليه. ومن كان عاجزًا عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيلَ.

وإنما قلنا: هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها، لأن الله عز وجل لم يخصُص، إذ ألزم الناسَ فرضَ الحج، بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل مستطيع إليه سبيلا بعموم الآية.

فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه: « الزاد والراحلة » ، فإنها أخبار: في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدّين.

قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة « الحج » .

فقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل المدينة والعراق بالكسر: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ ) .

وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بالفتح: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ ) .

وهما لغتان معروفتان للعرب، فالكسر لغة أهل نجد، والفتح لغة أهل العالية. ولم نر أحدًا من أهل العربية ادّعى فرقًا بينهما في معنى ولا غيره، غير ما ذكرنا من اختلاف اللغتين؛ إلا ما:-

حدثنا به أبو هشام الرفاعي قال، قال حسين الجعفي « الحَج » . مفتوح، اسم، « والحِج » مكسورٌ، عمل.

وهذا قول لم أرَ أهل المعرفة بلغات العرب ومعاني كلامهم يعرفونه، بل رأيتهم مجمعين على ما وصفت، من أنهما لغتان بمعنى واحد.

والذي نقول به في قراءة ذلك: أنّ القراءتين إذ كانتا مستفيضتين في قراءة أهل الإسلام، ولا اختلاف بينهما في معنى ولا غيره فهما قراءتان قد جاءتا مجيءَ الحجة، فبأي القراءتين - أعني: بكسر « الحاء » من « الحج » أو فتحها- قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.

وأما « مَنْ » التي مع قوله: « من استطاع » ، فإنه في موضع خفض على الإبدال من « الناس » . لأن معنى الكلام: ولله على من استطاع من الناس سبيلا إلى حجّ البيت، حَجُّه. فلما تقدم ذكر « الناس » قبل « مَنْ » ، بيَّن بقوله: « من استطاع إليه سبيلا » ، الذي عليه فرضُ ذلك منهم. لأن فرضَ ذلك على بعض الناس دون جميعهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( 97 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن جَحد ما ألزمه الله من فرض حَجّ بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غنيّ عنه وعن حجه وعمله، وعن سائر خَلقه من الجن والإنس، كما:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن أبي المجالد قال، سمعت مقسمًا، عن ابن عباس في قوله: « ومن كفر » ، قال: من زعم أنه ليس بفرض عليه.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الحجاج، عن عطاء وجويبر، عن الضحاك في قوله: « ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين » ، قالا من جحد الحجّ وكفر به.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا هشيم، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء قال، من جحد به.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عمران القطان، يقول: من زعم أن الحجّ ليس عليه.

حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن في قوله: « ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين » ، قال: من أنكره، ولا يَرَى أن ذلك عليه حقًّا، فذلك كُفرٌ.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ومن كفر » ، قال: من كفر بالحج.

حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ومن كفر فإن الله غني عن العالمين » ، قال: من كفر بالحج، كفر بالله.

حدثني المثني قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن هشام بن حسان، عن الحسن في قول الله عز وجل: « وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ » ، قال: من لم يره عليه واجبًا.

حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ومن كفر » ، قال: بالحج.

وقال آخرون: معنى ذلك: « أن لا يكون معتقِدًا في حجه أن له الأجرَ عليه، ولا أن عليه بتركه إثمًا ولا عقوبةً » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني عبد الله بن مسلم، عن مجاهد في قوله: « ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين » ، قال: هُو ما إن حجّ لم يره برًّا، وإن قعد لم يره مأثمًا.

حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: هو ما إنْ حجّ لم يره برًّا، وإن قعد لم يره مأثمًا.

حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فِطْر، عن أبي داود نفيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين » فقام رجل من هذيل، فقال: يا رسول الله، من تركه كفر؟ قال: من تركه ولا يخاف عقوبته، ومن حجّ ولا يرجو ثوابه، فهو ذاك.

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « ومن كفر فإن الله غني عن العالمين » ، يقول: من كفر بالحج، فلم يَر حجه برًّا، ولا تركه مأثمًا.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بالله واليوم الآخر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: سألته عن قوله: « ومن كفر فإن الله غني عن العالمين » ، ما هذا الكفر؟ قال: من كفر بالله واليوم الآخر.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: « ومن كفر » ، قال: من كفر بالله واليوم الآخر.

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ، قال: لما نـزلت آية الحج، جَمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ الأديان كلَّهم فقال: يا أيها الناس، إن الله عز وجل كتب عليكم الحج فحجُّوا، فآمنتْ به ملة واحدة، وهي من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وآمن به، وكفرَتْ به خمس ملل، قالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نستقبله. فأنـزل الله عز وجل: « ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين » .

حدثني أحمد بن حازم قال، أخبرنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هانئ قال، سئل عامر عن قوله: « ومن كفر » ، قال: من كفر من الخلق، فإن الله غنيّ عنه.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قول الله: « ومن كفر » ، قال: من كفر بالله واليوم الآخر.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عنْ ابن أبي نجيح، عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله عز وجل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا [ سورة آل عمران: 85 ] ، فقالت الملل: نحن مسلمون! فأنـزل الله عز وجل: « ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين » ، فحج المؤمنون، وقعد الكفار.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بهذه الآيات التي في مقام إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ومن كفر فإن الله غني عن العالمين » ، فقرأ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا ، فقرأ حتى بلغ: « من استطاع إليه سبيلا ومن كفر » ، قال: من كفر بهذه الآيات « فإن الله غني عن العالمين » ، ليس كما يقولون: « إذا لم يحج وكان غنيًّا وكانت له قوة » ، فقد كفر بها. وقال قوم من المشركين: فإنا نكفر بها ولا نفعل! فقال الله عز وجل: « فإن الله غني عن العالمين » .

وقال آخرون بما:-

حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال، أخبرنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا حماد، عن حبيب بن أبي بقية، عن عطاء بن أبي رباح، في قوله: « ومن كفر فإن الله غني عن العالمين » ، قال: من كفر بالبيت.

وقال آخرون: كفره به: تركه إياه حتى يموت.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما « من كفر » ، فمن وجدَ ما يحج به ثم لا يحجَّ، فهو كافر.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قولُ من قال: « معنى » ومن كفر « ، ومن جحد فرضَ ذلك وأنكرَ وُجوبه، فإن الله غني عنه وعن حَجه وعن العالمين جميعًا » .

وإنما قلنا ذلك أولى به، لأن قوله: « ومن كفر » بعقب قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ، بأن يكون خبرًا عن الكافر بالحج، أحقُّ منه بأن يكون خبرًا عن غيره، مع أنّ الكافر بفرض الحج على مَن فرضه الله عليه، بالله كافر وأن « الكفر » أصله الجحود، ومن كان له جاحدًا ولفرضه منكرًا، فلا شك إن حج لم يرجُ بحجه برًّا، وإن تركه فلم يحجّ لم يره مأثمًا. فهذه التأويلات، وإن اختلفت العبارات بها، فمتقاربات المعاني.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( 98 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر من ينتحل الدِّيانة بما أنـزلَ الله عز وجل من كتبه، ممن كفَر بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحد نبوَّته: « لم تكفرون بآيات الله » ، يقول: لم تجحدونُ حجج الله التي آتاها محمدًا في كتبكم وغيرها، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوَّته وحُجته. وأنتم تعلمون: يقول: لم تجحدون ذلك من أمره، وأنتم تعلمون صدقه؟ فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم متعمِّدون الكفر بالله وبرسوله على علم منهم، ومعرفةٍ من كفرهم، وقد:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله » ، أما « آيات الله » ، فمحمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: « يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون » ، قال: هم اليهودُ والنصارى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 99 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله: « لم تصدُّون عن سبيل الله » ، يقول: لم تضِلُّون عن طريق الله ومحجَّته التي شرَعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان « من آمن » ، يقول: من صدّق بالله ورَسوله وما جاء به من عند الله « تبغونها عوجًا » ، يعني: تبغون لها عوجًا.

« والهاء والألف » اللتان في قوله: « تبغونها » عائدتان على « السبيل » ، وأنثها لتأنيث « السبيل » .

ومعنى قوله: « تبغون لها عوجًا » ، من قول الشاعر، وهو سحيم عبدُ بني الحسحاس

بَغَــاك، وَمَا تَبْغِيــهِ حَتَّى وَجَدْتَــهُ كــأَنِّكَ قَدْ وَاعَدْتَــهُ أَمْسِ مَوْعِــدَا

يعني: طلبك وما تطلبه. يقال: « ابغني كذا » ، يراد: ابتغه لي. فإذا أرادوا أعِنِّي على طلبه وابتغه معي قالوا: « أبغني » بفتح الألف. وكذلك يقال: « احلُبْني » ، بمعنى: اكفني الحلب - « وأحلبني » أعني عليه. وكذلك جميع ما وَرَد من هذا النوع، فعلى هذا.

وأما « العِوَج » فهو الأوَد والميْل. وإنما يعني بذلك: الضلال عن الهدى.

يقول جل ثناؤه: لم تصدُّون عن دين الله مَنْ صَدّق الله ورسوله تبغون دينَ الله اعوجاجًا عن سننه واستقامته؟

وخرج الكلام على « السبيل » ، والمعنى لأهله. كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحق، عوجا يقول: ضلالا عن الحق، وزيغًا عن الاستقامة على الهدى والمحجَّة.

« والعِوج » بكسر أوله: الأوَد في الدين والكلام. « والعَوَج » بفتح أوله: الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم.

وأما قوله: « وأنتم شهداء » . فإنه يعني: شهداء على أنّ الذي تصدّون عنه من السبيل حقٌّ، تعلمونه وتجدونه في كتبكم « وما الله بغافل عما تعملون » ، يقول: ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعملونها مما لا يرضاه لعباده وغير ذلك من أعمالكم، حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجَّلة، أو يؤخر ذلك لكم حتى تلقَوْهُ فيجازيكم عليها.

وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ والآياتُ بعدَهما إلى قوله: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، نـزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيَّين من الأوس والخزرج بعد الإسلام، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء. فعنَّفه الله بفعله ذلك، وقبَّح له ما فعل ووبَّخه عليه، ووعظ أيضًا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَهاهم عن الافتراق والاختلاف، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف.

*ذكر الرواية بذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال، حدثني الثقة، عن زيد بن أسلم، قال: مرّ شأسُ بن قيس وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية، عظيمَ الكفر، شديد الضِّغن على المسلمين، شديدَ الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه. فغاظه ما رأى من جَماعتهم وألفتهم وصَلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع مَلأ بني قَيْلة بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم، إذا اجتمع ملأهم بها، من قرار! فأمر فَتى شابًّا من يهودَ وكان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، وذَكّرهم يَوْم بعاث وما كان قبله، وأنشدْهم بعض ما كانوا تقاوَلوا فيه من الأشعار وكان يوم بُعَاث يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفرُ فيه للأوس على الخزرج ففعل. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجُلان من الحيَّين على الرُّكَب: أوسُ بن قَيْظي، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس - وجبّار بن صخر، أحد بني سَلمة من الخزرج. فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رَدَدْناها الآن جَذَعَةً! وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ!! موعدُكم الظاهرة والظاهرةُ: الحَرَّة فخرجوا إليها. وتحاوز الناس. فانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: « يا معشرَ المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهُرِكم بعد إذْ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا؟ » فعرف القوم أنها نـزغة من الشيطان، وكيدٌ من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكَوْا، وعانقَ الرجال من الأوس والخزرج بعضُهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيدَ عدوِّ الله شَأس بن قيس وما صنع. فأنـزل الله في شأس بن قيس وما صنع: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا الآية. وأنـزل الله عز وجل في أوس بن قَيْظيّ وجبّار بن صخر ومَنْ كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس بن قيس من أمر الجاهلية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ إلى قوله: « أولئك لهم عذابٌ عظيم » .

وقيل: إنه عنى بقوله: « قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله » ، جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نـزلت هذه الآيات، والنصارى وأن صدّهم عن سبيل الله كانَ بإخبارهم من سألهم عن أمر نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم: هل يجدون ذكره في كتبهم؟. أنهم لا يجدون نعتَه في كتبهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجًا » ، كانوا إذا سألهم أحدٌ: هل تجدون محمدًا؟ قالوا: لا! فصدّوا عنه الناس، وبغوْا محمدًا عوجًا: هلاكًا.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله » ، يقول: لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله، من آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله: أن محمدًا رسول الله، وأنّ الإسلام دين الله الذي لا يَقبل غيره ولا يجزى إلا به، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل.

حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحوه.

حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: « قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله » ، قال: هم اليهودُ والنصارى، نهاهم أنْ يصدّوا المسلمين عن سبيل الله، ويريدون أن يعدِلوا الناسَ إلى الضلالة.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية على ما قاله السدي: يا معشر اليهود، لم تصدّون عن محمد، وتمنعون من اتباعه المؤمنين به، بكتمانكم صفتَه التي تجدونها في كتبكم؟. و « محمد » على هذا القول: هو « السبيل » ، « تبغونَها عوجًا » ، تبغون محمدًا هلاكًا. وأما سائر الروايات غيره والأقوال في ذلك، فإنه نحو التأويل الذي بيّناه قبل: من أن معنى « السبيل » التي ذكرها في هذا الموضع: الإسلام، وما جاء به محمد من الحقّ من عند الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ( 100 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك.

فقال بعضهم: عنى بقوله: « يا أيها الذين آمنوا » ، الأوس والخزرج، وبـ « الذين أوتوا الكتاب » ، شأس بن قيس اليهودي، على ما قد ذكرنا قبلُ من خبره عن زيد بن أسلم.

وقال آخرون، فيمن عُني بالذين آمنوا، مثل قول زيد بن أسلم غير أنهم قالوا: الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الأنصار حتى همّوا بالقتال ووجد اليهوديّ به مغمزًا فيهم: ثعلبة بن عَنَمة الأنصاري.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردُّوكم بعد إيمانكم كافرين » ، قال: نـزلت في ثعلبة بن عَنمة الأنصاري، كان بينه وبين أناس من الأنصار كلام، فمشى بينهم يهوديٌّ من قَيْنُقاع، فحمَل بعضَهم على بعضٍ، حتى همت الطائفتان من الأوس والخزرج أن يحملوا السلاحَ فيقاتلوا، فأنـزل الله عز وجل: « إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين » ، يقول: إن حملتم السلاحَ فاقتتلتم، كفرتم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج،عن مجاهد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب » ، قال: كان جِماعُ قبائل الأنصار بطنين: الأوس والخزرج، وكان بينهما في الجاهلية حربٌ ودماء وشنَآنٌ، حتى مَنَّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم، وألفَّ بينهم بالإسلام. قال: فبينا رجل من الأوس ورجلٌ من الخزرج قاعدان يتحدّثان، ومعهما يهوديّ جالسٌ، فلم يزل يذكِّرهما أيامهما والعداوةَ التي كانت بينهم، حتى استَبَّا ثم اقتتلا. قال: فنادى هذا قومه وهذا قومه، فخرجوا بالسلاح، وصفَّ بعضهم لبعض. قال: ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم شاهدٌ يومئذ بالمدينة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم، حتى رجعوا ووضعوا السلاح، فأنـزل الله عز وجل القرآن في ذلك: « يا أيها الذين آمنوا إن تُطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب » إلى قوله: عَذَابٌ عَظِيمٌ .

قال أبو جعفر: فتأويل الآية: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتابَ من أهل التوراة والإنجيل، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به، يُضِلُّوكم فيردّوكم بعد تصديقكم رسولَ ربكم، وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم، كافرين يقول: جاحدين لما قد آمنتم به وصدَّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جَلّ ثناؤه: أن ينتصحوهم، ويقبلوا منهم رأيًا أو مشورةً، ويعلِّمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوُون على غِلٍّ وغِش وحسد وبغض، كما:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين » ، قد تقدّم الله إليكم فيهم كما تسمعون، وحذَّركم وأنبأكم بضلالتهم، فلا تأتمنوهم على دينكم، ولا تنتصحوهم على أنفسكم، فإنهم الأعداءُ الحسَدَة الضُّلال. كيف تأتمنون قومًا كفروا بكتابهم، وقتلوا رُسلهم، وتحيَّروا في دينهم، وعجزوا عَنْ أنفسهم؟ أولئك والله هم أهل التُّهَمة والعداوة!

حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.