القول في تأويل قوله : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( 133 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وسارعوا » ، وبادروا وسابقوا « إلى مغفرة من ربكم » ، يعني: إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها « وجنة عرضها السموات والأرض » ، يعني: وسارعوا أيضًا إلى جنة عرضها السموات والأرض.

ذكر أن معنى ذلك: وجنة عرضها كعرض السموات السبع والأرضين السبع، إذا ضم بعضها إلى بعض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وجنة عرضها السموات والأرض » ، قال: قال ابن عباس: تُقرن السموات السبع والأرضون السبع، كما تُقرن الثياب بعضها إلى بعض، فذاك عرض الجنة.

وإنما قيل: « وجنة عرضها السموات والأرض » ، فوصف عرضها بالسموات والأرضين، والمعنى ما وصفنا: من وصف عرضها بعرض السموات والأرض، تشبيها به في السعة والعظم، كما قيل: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ سورة لقمان: 28 ] ، يعني: إلا كبعث نفس واحدة، وكما قال الشاعر:

كــأَنَّ عَذِيــرَهُمْ بِجَــنُوب سِـلَّى نَعَــامٌ قَــاقَ فِــي بَلَــدٍ قِفَـارِ

أي: عذيرُ نعام، وكما قال الآخر:

حَسِــبتَ بُغَــامَ رَاحِـلَتِي عَنَاقًـا! وَمَـا هـي, وَيْـبَ غَـيْرِكَ بالعَنَـاقِ

يريد صوت عناق.

قال أبو جعفر: وقد ذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: هذه الجنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال: هذا النهار إذا جاء، أين الليل.

*ذكر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن مرة قال: لقيت التنوخيّ رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص، شيخًا كبيرًا قد فُنِّد. قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره. قال قلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية. فإذا كتاب صاحبي: « إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار؟

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أنّ ناسًا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن « جنة عرضها السموات والأرض » ، أين النار؟ قال: أرأيتم إذا جاء الليل، أن يكون النهار؟ « فقالوا: اللهم نـزعْتَ بمثَله من التوراة » .

حدثني محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نجران، فسألوه وعنده أصحابه فقالوا: أرأيت قوله: « وجنة عرضها السموات والأرض » ، فأين النار؟ فأحجم الناس، فقال عمر: « أرأيتم إذا جاء الليل، أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ » فقالوا: نـزعت مثَلها من التوراة.

حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، أخبرنا شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن طارق بن شهاب، عن عمر بنحوه، في الثلاثة الرّهط الذين أتوا عمر فسألوه: عن جنة عرضها كعرض السموات والأرض، بمثل حديث قيس بن مسلم.

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا جعفر بن عون قال، أخبرنا الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: تقولون: « جنة عرضها السموات والأرض » ، أين تكون النار؟ فقال له عمر: أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل؟ أرأيت الليل إذا جاء، أين يكون النهار؟ فقال: إنه لمثلها في التوراة، فقال له صاحبه: لم أخبرته؟ فقال له صاحبه: دعه، إنه بكلٍّ موقنٌ.

حدثني أحمد بن حازم قال، أخبرنا أبو نعيم قال، حدثنا جعفر بن برقان قال، حدثنا يزيد بن الأصم: أن رجلا من أهل الكتاب أتى ابن عباس فقال: تقولون « جنة عرضها السموات والأرض » ، فأين النار؟ فقال ابن عباس: أرأيت الليل إذا جاء، أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار، أين يكون الليل؟

قال أبو جعفر: وأما قوله: « أعدت للمتقين » فإنه يعني: إنّ الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرضين السبع، أعدها الله للمتقين، الذين اتقوا الله فأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم، فلم يتعدوا حدوده، ولم يقصِّروا في واجب حقه عليهم فيضيِّعوه. كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، « وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين » ، أي: دارًا لمن أطاعني وأطاع رسولي.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 134 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « الذين ينفقون في السراء والضراء » ، أعدت الجنة التي عرضها السموات والأرض للمتقين، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله، إما في صرفه على محتاج، وإما في تقوية مُضعِف على النهوض لجهاده في سبيل الله.

وأما قوله: « في السراء » ، فإنه يعني: في حال السرور، بكثرة المال ورخاء العيش

« والسراء » مصدر من قولهم « سرني هذا الأمر مسرَّة وسرورًا »

« والضراء » مصدر من قولهم: « قد ضُرّ فلان فهو يُضَرّ » ، إذا أصابه الضُّر، وذلك إذا أصابه الضيق، والجهد في عيشه.

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « الذين ينفقون في السراء والضراء » ، يقول: في العسر واليسر.

فأخبر جل ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها، لمن اتقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة، وفي حال الضيق والشدة، في سبيله.

وقوله: « والكاظمين الغيظ » ، يعني: والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه.

يقال منه: « كظم فلان غيظه » ، إذا تجرَّعه، فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرةٌ على إمضائه، باستمكانها ممن غاظها، وانتصارها ممن ظلمها.

وأصل ذلك من « كظم القربة » ، يقال منه: « كظمتُ القربة » ، إذا ملأتها ماء. و « فلان كظيمٌ ومكظومٌ » ، إذا كان ممتلئًا غمٌّا وحزنًا. ومنه قول الله عز وجل، وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [ سورة يوسف: 84 ] يعني: ممتلئ من الحزن. ومنه قيل لمجاري المياه: « الكظائم » ، لامتلائها بالماء. ومنه قيل: « أخذت بكَظَمِه » يعني: بمجاري نفسه.

و « الغيظ » مصدر من قول القائل: « غاظني فلان فهو يغيظني غيظًا » ، وذلك إذا أحفظه وأغضبهُ.

وأما قوله: « والعافين عن الناس » ، فإنه يعني: والصافحين عن الناس عقوبَةَ ذنوبهم إليهم وهم على الانتقام منهم قادرون، فتاركوها لهم.

وأما قوله: « والله يحب المحسنين » ، فإنه يعني: فإن الله يحب من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعدَّ للعاملين بها الجنة التي عرضُها السموات والأرض، والعاملون بها هم « احسنون » ، وإحسانهم، هو عملهم بها،. كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « الذين ينفقون في السراء والضراء » الآية: « والعافين عن الناس والله يحب المحسنين » ، أي: وذلك الإحسان، وأنا أحب من عمل به.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين » ، قوم أنفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل، ولا قوة إلا بالله. فنِعْمت والله يا ابن آدم، الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ، وأنت مظلومٌ.

حدثني موسى بن عبد الرحمن قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا محرز أبو رجاء، عن الحسن قال: يقال يوم القيامة: ليقم من كان له على الله أجر. فما يقوم إلا إنسان عفا، ثم قرأ هذه الآية: « والعافين عن الناس والله يحب المحسنين » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل، عن عم له، عن أبي هريرة في قوله: « والكاظمين الغيظ » : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظًا وهو يقدر على إنفاذه، ملأه الله أمنًا وإيمانًا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « والكاظمين الغيظ » إلى « والله يحب المحسنين » ، فـ « الكاظمين الغيظ » كقوله: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [ سورة الشورى: 37 ] ، يغضبون في الأمر لو وقعوا به كان حرامًا، فيغفرون ويعفون، يلتمسون بذلك وجه الله « والعافين عن الناس » كقوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ إلى أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [ سورة النور: 22 ] ، يقول: لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئًا واعفوا واصفحوا.

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 135 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « والذين إذا فعلوا فاحشة » ، أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين، المنفقين في السراء والضراء، والذين إذا فعلوا فاحشة. وجميع هذه النعوت من صفة « المتقين » ، الذين قال تعالى ذكره: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ، كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ، ثم قرأ: « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم » إلى « أجر العاملين » ، فقال: إن هذين النعتين لنعت رجل واحد.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم » ، قال: هذان ذنبان، « الفاحشة » ، ذنب، « وظلموا أنفسهم » ذنب.

وأما « الفاحشة » ، فهي صفة لمتروك، ومعنى الكلام: والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة.

ومعنى « الفاحشة » ، الفعلة القبيحة الخارجة عما أذِن الله عز وجل فيه. وأصل « الفحش » : القبح، والخروج عن الحد والمقدار في كل شيء. ومنه قيل للطويل المفرط الطول: « إنه لفاحش الطول » ، يراد به: قبيح الطول، خارج عن المقدار المستحسن. ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد: « كلام فاحش » ، وقيل للمتكلم به: « أفحش في كلامه » ، إذا نطق بفُحش .

وقيل: إن « الفاحشة » في هذا الموضع، معنىٌّ بها الزنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا العباس بن عبد العظيم قال، حدثنا حبان قال، حدثنا حماد، عن ثابت، عن جابر: « والذين إذا فعلوا فاحشة » ، قال: زنى القوم وربّ الكعبة.

حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « والذين إذا فعلوا فاحشة » ، أما « الفاحشة » ، فالزنا.

وقوله: « أو ظلموا أنفسهم » ، يعني به: فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها. والذي فعلوا من ذلك، ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته، كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قوله: « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم » ، قال: الظلم من الفاحشة، والفاحشة من الظلم.

وقوله: « ذكروا الله » ، يعني بذلك: ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم إياه « فاستغفروا لذنوبهم » ، يقول: فسألوا ربهم أن يستُر عليهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة عليها « ومن يغفر الذنوب إلا الله » ، يقول: وهل يغفر الذنوب - أي يعفو عن راكبها فيسترها عليه- إلا الله « ولم يصروا على ما فعلوا » ، يقول: ولم يقيموا على ذنوبهم التي أتوها، ومعصيتهم التي ركبوها « وهم يعلمون » ، يقول: لم يقيموا على ذنوبهم عامدين للمقام عليها، وهم يعلمون أنّ الله قد تقدم بالنهي عنها، وأوعد عليها العقوبةَ من ركبها.

وذكر أن هذه الآية أنـزلت خصوصًا بتخفيفها ويسرها أُمَّتَنا، مما كانت بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبى رباح: أنهم قالوا: يا نبي الله، بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه: « اجدع أذنك » ، « اجدع أنفك » ، « افعل » ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنـزلت: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ إلى قوله: « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم » ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بخير من ذلك » ؟ فقرأ هؤلاء الآيات.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني عمر بن أبي خليفة العبدي قال، حدثنا علي بن زيد بن جدعان قال: قال ابن مسعود: كانت بنو إسرائيل إذا أذنبوا أصبح مكتوبًا على بابه الذنب وكفارته، فأعطينا خيرًا من ذلك، هذه الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني قال: لما نـزلت: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ، بكى إبليس فزعًا من هذه الآية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني قال: بلغني أن إبليس حين نـزلت هذه الآية: « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم » ، بكى.

حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي قال، سمعت علي بن ربيعة يحدِّث، عن رجل من فزارة يقال له أسماء - و: ابن أسماء- ، عن علي قال: كنت إذا سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني [ منه ] ، فحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من عبد - قال شعبة: وأحسبه قال: مسلم- يذنب ذنبًا، ثم يتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب [ إلا غفر له ] » وقال شعبة: وقرأ إحدى هاتين الآيتين: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا الفضل بن إسحاق قال، حدثنا وكيع عن مسعر وسفيان، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن علي بن ربيعة الوالبي، عن أسماء بن الحكم الفزاري، عن علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدَّقته. وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يتوضأ، ثم يصلي قال أحدهما: ركعتين، وقال الآخر: « ثم يصلي ويستغفر الله، إلا غفر له » .

حدثنا الزبير بن بكار قال، حدثني سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أخيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما حدثني أحدٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لي بالله لَهُوَ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أبا بكر، فإنه كان لا يكذب. قال علي رضي الله عنه: فحدثني أبو بكر، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد يذنب ذنبًا ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ويستغفر الله من ذنبه ذلك، إلا غفره الله له.

وأما قوله « ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم » ، فإنه كما بينا تأويله.

وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق: « والذين إذا فعلوا فاحشة » ، أي إن أتوا فاحشة « أو ظلموا أنفسهم » بمعصية، ذكروا نهي الله عنها، وما حرَّم الله عليهم، فاستغفروا لها، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوبَ إلا هو.

وأما قوله: « ومن يغفر الذنوب إلا الله » ، فإن اسم « الله » مرفوع ولا جحد قبله، وإنما يرفع ما بعد « إلا » بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد، كقول القائل: « ما في الدار أحد إلا أخوك » . فأما إذا قيل: « قام القوم إلا أباك » ، فإن وجه الكلام في « الأب » النصب. و « مَنْ » بصلته في قوله: « ومن يغفر الذنوب إلا الله » ، معرفة. فإن ذلك إنما جاء رفعًا، لأن معنى الكلام: وهل يغفر الذنوب أحدٌ أو: ما يغفر الذنوب أحدٌ إلا الله. فرفع ما بعد « إلا » من [ اسم ] الله، على تأويل الكلام لا على لفظه.

وأما قوله: « ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون » ؛ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل « الإصرار » ، ومعنى هذه الكلمة.

فقال بعضهم: معنى ذلك: لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب ولم يقيموا عليه، ولكنهم تابوا واستغفروا، كما وصفهم الله به.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون » ، فإياكم والإصرار، فإنما هلك المصرُّون، الماضون قُدُمًا، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرَّمه الله عليهم، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتى أتاهم الموتُ وهم على ذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون » ؟ قال: قُدمًا قُدُمًا في معاصي الله!! لا تنهاهم مخافة الله، حتى جاءهم أمر الله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون » ، أي: لم يقيموا على معصيتي، كفعل من أشرك بي، فيما عملوا به من كفرٍ بي.

وقال آخرون: معنى ذلك: لم يواقعوا الذنب إذا همُّوا به.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: « ولم يصروا على ما فعلوا » ، قال: إتيان العبد ذنبًا إصرارٌ، حتى يتوب.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ولم يصروا على ما فعلوا » ، قال: لم يواقعوا.

وقال آخرون: معنى « الإصرار » ، السكوت على الذنب وترك الاستغفار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون » ، أما « يصروا » فيسكتوا ولا يستغفروا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قول من قال: « الإصرار » ، الإقامة على الذنب عامدًا، وترك التوبة منه. ولا معنى لقول من قال: « الإصرار على الذنب هو مواقعته » ، لأن الله عز وجل مدح بترك الإصرار على الذنب مُواقع الذنب، فقال: « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفرُ الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون » ، ولو كان المواقع الذنب مصرًّا بمواقعته إياه، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم. لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه، وجهٌ.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما أصرَّ من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة » .

حدثني بذلك الحسين بن يزيد السبيعي قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن عثمان بن واقد، عن أبي نصيرة، عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلو كان مواقع الذنب مصرًّا، لم يكن لقوله « ما أصرَّ من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة » ، معنى لأن مواقعةَ الذنب إذا كانت هي الإصرار، فلا يزيل الاسمَ الذي لزمه معنى غيره، كما لا يزيل عن الزاني اسم « زان » وعن القاتل اسم « قاتل » ، توبته منه، ولا معنى غيرها. وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصرٍّ عليه، فمعلوم بذلك أن « الإصرار » غير المواقعة، وأنه المقام عليه، على ما قلنا قبل.

واختلف أهل التأويل، في تأويل قوله: « وهم يعلمون » .

فقال بعضهم: معناه: وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما « وهم يعلمون » ، فيعلمون أنهم قد أذنبوا، ثم أقاموا فلم يستغفروا.

وقال آخرون: معنى ذلك: وهم يعلمون أن الذي أتوا معصية لله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « وهم يعلمون » ، قال: يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري.

قال أبو جعفر: وقد تقدم بياننا أولى ذلك بالصواب.

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 136 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك » ، الذين ذكر أنه أعد لهم الجنة التي عرضها السموات والأرض، من المتقين، ووصفهم بما وصفهم به. ثم قال: هؤلاء الذين هذه صفتهم « جزاؤهم » ، يعني ثوابهم من أعمالهم التي وصَفهم تعالى ذكره أنهم عملوها، « مغفرة من ربهم » ، يقول: عفوٌ لهم من الله عن عقوبتهم على ما سلف من ذنوبهم، ولهم على ما أطاعوا الله فيه من أعمالهم بالحسن منها « جنات » ، وهي البساتين « تجري من تحتها الأنهار » ، يقول: تجري خلال أشجارها الأنهار وفي أسافلها، جزاء لهم على صالح أعمالهم « خالدين فيها » يعني: دائمي المقام في هذه الجنات التي وصفها « ونعم أجر العاملين » ، يعني: ونعم جزاء العاملين لله، الجنات التي وصفها، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين » ، أي ثواب المطيعين.

 

القول في تأويل قوله : قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 137 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « قد خلت من قبلكم سنن » ، مضت وسلفت منى فيمن كان قبلكم، يا معشر أصحاب محمد وأهل الإيمان به، من نحو قوم عاد وثمود وقوم هود وقوم لوط، وغيرهم من سُلاف الأمم قبلكم « سنن » ، يعني: مثُلات سيرَ بها فيهم وفيمن كذَّبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم، بإمهالي أهلَ التكذيب بهم، واستدراجي إياهم، حتى بلغ الكتاب فيهم أجله الذي أجَّلته لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم، ثم أحللت بهم عقوبتي، وأنـزلتُ بساحتهم نِقَمي، فتركتهم لمن بعدهم أمثالا وعبرًا « فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانَ عاقبه المكذبين » ، يقول: فسيروا - أيها الظانّون، أنّ إدالتي مَنْ أدلت من أهل الشرك يوم أحُد على محمد وأصحابه، لغير استدراج مني لمن أشرك بي، وكفرَ برسلي، وخالف أمري - في ديار الأمم الذين كانوا قبلكم، ممن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذبون برسولي والجاحدون وحدانيتي، فانظروا كيف كان عاقبة تكذيبهم أنبيائي، وما الذي آل إليه غِبُّ خلافهم أمري، وإنكارهم وحدانيتي، فتعلموا عند ذلك أنّ إدالتي من أدلت من المشركين على نبيي محمد وأصحابه بأحد، إنما هي استدراج وإمهال ليبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم. ثم إما أن يؤول حالهم إلى مثل ما آل إليه حال الأمم الذين سلفوا قبلهم: من تعجيل العقوبة عليهم، أو ينيبوا إلى طاعتي واتباع رسولي.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: « قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين » ، فقال: ألم تسيروا في الأرض فتنظروا كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط وقومَ صالح، والأممَ التي عذَّب الله عز وجل؟

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « قد خلت من قبلكم سنن » ، يقول: في الكفار والمؤمنين، والخير والشرّ.

حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « قد خلت من قبلكم سنن » ، في المؤمنين والكفار.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: استقبل ذكر المصيبة التي نـزلت بهم يعني بالمسلمين يوم أحد والبلاء الذي أصابهم، والتمحيص لما كان فيهم، واتخاذه الشهداء منهم، فقال تعزية لهم وتعريفًا لهم فيما صنعوا، وما هو صانع بهم: « قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين » ، أي: قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي: عادٍ وثمودَ وقوم لوط وأصحاب مدين، فسيروا في الأرض تروْا مثُلات قد مضت فيهم، ولمن كان على مثل ما هم عليه من ذلك مني، وإن أمْليْتُ لهم، أي: لئلا تظنوا أنّ نقمتي انقطعت عن عدوكم وعدوي، للدوْلة التي أدلتها عليكم بها، لأبتليكم بذلك، لأعلم ما عندكم.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبه المكذبين » ، يقول: متَّعهم في الدنيا قليلا ثم صيرَّهم إلى النار.

قال أبو جعفر: وأما « السنن » فإنها جمع « سنَّة » ، « والسُّنَّة » ، هي المثالُ المتبع، والإمام المؤتمُّ به. يقال منه: « سنّ فلان فينا سُنة حسنة، وسنّ سُنة سيئة » ، إذا عمل عملا اتبع عليه من خير وشر، ومنه قول لبيد بن ربيعة:

مِــنْ مَعْشَـرٍ سَـنَّتْ لَهُـمْ آبـاؤُهُمْ وَلِكـــلِّ قَــوْمٍ سُــنَّةٌ وَإِمَامُهَــا

وقولُ سليمان بن قَتَّه:

وَإنَّ الألَـى بـالطَفِّ مِـنْ آل هَاشِـم تَآسَــوْا فَسَــنُّوا لِلكِــرَامِ التَّآسِـيَا

وقال ابن زيد في ذلك ما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « قد خلت من قبلكم سنن » ، قال: أمثالٌ.

 

القول في تأويل قوله عز وجل : هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ( 138 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بـ « هذا » .

فقال بعضهم: عنى بقوله « هذا » ، القرآن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: « هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين » ، قال: هذا القرآن.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة. قوله: « هذا بيان للناس » ، وهو هذا القرآن، جعله الله بيانًا للناس عامة، وهدى وموعظة للمتقين خصوصًا.

حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال في قوله: « هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين » ، خاصةً.

حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج في قوله: « هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين » ، خاصةً.

وقال آخرون: إنما أشير بقوله « هذا » ، إلى قوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ، ثم قال: هذا الذي عرَّفتكم، يا معشر أصحاب محمد، بيان للناس.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق بذلك.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: قوله: « هذا » ، إشارةٌ إلى ما تقدم هذه الآية من تذكير الله جل ثناؤه المؤمنين، وتعريفهم حدوده، وحضِّهم على لزوم طاعته والصبر على جهاد أعدائه وأعدائهم. لأن قوله: « هذا » ، إشارة إلى حاضر: إما مرئيّ وإما مسموع، وهو في هذا الموضع إلى حاضر مسموع من الآيات المتقدمة.

فمعنى الكلام: هذا الذي أوضحتُ لكم وعرفتكموه، بيانٌ للناس يعني بـ « البيان » ، الشرح والتفسير، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « هذا بيان للناس » ، أي: هذا تفسير للناس إن قبلوه.

حدثنا أحمد بن حازم والمثني قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي: « هذا بيان للناس » ، قال: من العَمى.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الشعبي، مثله.

وأما قوله: « وهدى وموعظة » ، فإنه يعني بـ « الهدى » ، الدلالةَ على سبيل الحق ومنهج الدين و بـ « الموعظة » ، التذكرة للصواب والرشاد، كما:-

حدثنا أحمد بن حازم والمثني قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي: « وهدى » ، قال: من الضلالة « وموعظة » ، من الجهل.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن بيان، عن الشعبي مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « للمتقين » ، أي: لمن أطاعني وعرَف أمري.

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 139 )

قال أبو جعفر: وهذا من الله تعالى ذكره تعزيةٌ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أصابهم من الجراح والقتل بأحد.

قال: « ولا تهنوا ولا تحزنوا » ، يا أصحاب محمد، يعني: ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم بأحد، من القتل والقروح - عن جهاد عدوكم وحربهم.

من قول القائل: « وهنَ فلان في هذا الأمر فهو يهنُ وَهْنًا » .

« ولا تحزنوا » ، ولا تأسوْا فتجزعوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ، فإنكم « أنتم الأعلون » ، يعني: الظاهرُون عليهم، ولكم العُقبَى في الظفر والنُّصرة عليهم « إن كنتم مؤمنين » ، يقول: إن كنتم مصدِّقي نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يَعدكم، وفيما ينبئكم من الخبر عما يؤول إليه أمركم وأمرهم. كما:-

حدثنا المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري قال: كثر في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم القتلُ والجراح، حتى خلص إلى كل امرئ منهم البأسُ، فأنـزل الله عز وجل القرآن، فآسَى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قومًا من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية، فقال: « ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنم مؤمنين » إلى قوله: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين » ، يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما تسمعون، ويحثهم على قتال عدوهم، وينهاهم عن العجز والوَهن في طلب عدوهم في سبيل الله.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: « ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين » ، قال: يأمر محمدًا، يقول: « ولا تهنوا » ، أن تمضوا في سبيل الله.

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ولا تهنوا » ، ولا تضعفوا.

حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: « ولا تهنوا ولا تحزنوا » ، يقول: ولا تضعفوا.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « ولا تهنوا » ، قال ابن جريج: ولا تضعفوا في أمر عدوكم، « ولا تحزنوا وأنتم الأعلون » ، قال: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعب، فقالوا: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فنعى بعضهم بعضًا، وتحدَّثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فكانوا في همّ وحزَن. فبينما هم كذلك، إذ علا خالد بن الوليد الجبلَ بخيل المشركين فوقهم، وهم أسفلُ في الشِّعب. فلما رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فرحوا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم لا قوة لنا إلا بك، وليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر » !. قال: وثاب نفرٌ من المسلمين رُماة، فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبلَ. فذلك قوله: « وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « ولا تهنوا » ، أي: لا تضعفوا « ولا تحزنوا » ، ولا تأسوا على ما أصابكم، « وأنتم الأعلون » ، أي: لكم تكون العاقبة والظهور « إن كنتم مؤمنين » إن كنتم صدَّقتم نبيي بما جاءكم به عني.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم لا يعلُون علينا » . فأنـزل الله عز وجل: « ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين » .

 

القول في تأويل قوله : إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ

قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) ، كلاهما بفتح « القاف » ، بمعنى: إن يمسسكم القتل والجراح، يا معشر أصحاب محمد، فقد مس القوم من أعدائكم من المشركين قرح قتلٌ وجراح مثله.

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قُرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قُرْحٌ مِثْلُهُ ) . [ كلاهما بضم القاف ] .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: « إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قَرْح مثله » ، بفتح « القاف » في الحرفين، لإجماع أهل التأويل على أن معناه: القتل والجراح، فذلك يدل على أن القراءة هي الفتح.

وكان بعض أهل العربية يزعُمُ أن « القَرح » و « القُرح » لغتان بمعنى واحد. والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا.

*ذكر من قال: إنّ « القَرح » ، الجراح والقتل.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قرحٌ مثله » ، قال: جراحٌ وقتلٌ.

حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: « إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله » ، قال: إن يقتلوا منكم يوم أحد، فقد قتلتم منهم يوم بدر.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله » ، والقرح الجراحة، وذاكم يوم أحد، فشا في أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتل والجراحة، فأخبرهم الله عز وجل أن القوم قد أصابهم من ذلك مثلُ الذي أصابكم، وأن الذي أصابكم عقوبة.

حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله » ، قال: ذلك يوم أحد، فشا في المسلمين الجراح، وفشا فيهم القتل، فذلك قوله: « إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله » ، يقول: إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوّكم مثله يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحثهُّم على القتال.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله » ، والقرح هي الجراحات.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « إن يمسسكم قرح » أي: جراح « فقد مس القوم قرح مثله » ، أي: جراح مثلها.

حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نام المسلمون وبهم الكلوم يعني يوم أحد قال عكرمة: وفيهم أنـزلت: « إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس » ، وفيهم أنـزلت: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [ سورة النساء: 104 ] .

وأما تأويل قوله: « إن يمسسكم قرحٌ » ، فإنه: إن يصبكم،. كما:-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « إن يمسسكم » ، إن يصبكم.

 

القول في تأويل قوله : وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره [ بقوله ] « وتلك الأيام نداولها بين الناس » ، أيام بدر وأحُد.

ويعني بقوله: « نداولها بين الناس » ، نجعلها دُوَلا بين الناس مصرَّفة. ويعني بـ « الناس » ، المسلمين والمشركين. وذلك أن الله عز وجل أدال المسلمين من المشركين ببدر، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين. وأدال المشركين من المسلمين بأحُد، فقتلوا منهم سبعين، سوى من جرحوا منهم.

يقال منه: « أدال الله فلانًا من فلان، فهو يُديله منه إدالة » ، إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المُدَال منه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: « وتلك الأيام نداولها بين الناس » ، قال جعل الله الأيام دولا أدال الكفار يوم أحُد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « وتلك الأيام نداولها بين الناس » ، إنه والله لولا الدُّوَل ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يُدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب.

حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وتلك الأيام نداولها بين الناس » ، فأظهر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين يوم بدر، وأظهر عليهم عدوَّهم يوم أحُد. وقد يدال الكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب. وأما من ابتلى منهم من المسلمين يوم أحد، فكان عقوبة بمعصيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وتلك الأيام نداولها بين الناس » ، يومًا لكم، ويومًا عليكم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: « نداولها بين الناس » ، قال: أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وتلك الأيام نداولها بين الناس » ، فإنه كان يوم أحُد بيوم بدر، قُتل المؤمنون يومَ أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين، فجعل له الدولة عليهم.

حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان قتال أحد وأصاب المسلمين ما أصابَ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد! يا محمد! ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحربُ سجال: يوم لنا ويوم لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أجيبوه، فقالوا: لا سواء، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم! فقال رَسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: اعْلُ هُبَل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل! فقال أبو سفيان: موعدكم وموعدنا بدرٌ الصغرى قال عكرمة: وفيهم أنـزلت: « وتلك الأيام نداولها بين الناس » .

حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن ابن عباس، في قوله: « وتلك الأيام نداولها بين الناس » ، فإنه أدال على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « وتلك الأيام نداولها بين الناس » ، أي نصرِّفها للناس، للبلاء والتمحيص.

حدثني إبراهيم بن عبد الله قال، أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن عون، عن محمد في قول الله: « وتلك الأيام نداولها بين الناس » ، قال: يعني الأمراء.

 

القول في تأويل قوله : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 140 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء نداولها بين الناس.

ولو لم يكن في الكلام « واو » ، لكان قوله: « ليعلم » متصلا بما قبله، وكان وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ، ليعلم الله الذين آمنوا. ولكن لما دخلت « الواو » فيه، آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها، وأن بعدها خبرًا مطلوبًا، واللام التي في قوله: « وليعلم » ، به متعلقة.

فإن قال قائل: وكيف قيل: « وليعلم الله الذين آمنوا » معرِفةً، وأنت لا تستجيز في الكلام: « قد سألت فعلمتُ عبد الله » ، وأنت تريد: علمت شخصه، إلا أن تريد: علمت صفته وما هو؟

قيل: إن ذلك إنما جاز مع « الذين » ، لأن في « الذين » تأويل « مَن » و « أيّ » ، وكذلك جائز مثله في « الألف واللام » ، كما قال تعالى ذكره: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [ سورة العنكبوت: 3 ] ، لأن في « الألف واللام » من تأويل « أيّ » ، و « مَن » ، مثل الذي في « الذي » . ولو جعل مع الاسم المعرفة اسم فيه دلالة على « أيّ » ، جاز، كما يقال: « سألت لأعلم عبد الله مِنْ عمرو » ، ويراد بذلك: لأعرف هذا من هذا.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وليعلم الله الذين آمنوا منكم، أيها القوم، من الذين نافقوا منكم، نداول بين الناس فاستغنى بقوله: « وليعلم الله الذين آمنوا منكم » ، عن ذكر قوله: « من الذين نافقوا » ، لدلالة الكلام عليه. إذ كان في قوله: « الذين آمنوا » تأويل « أيّ » على ما وصفنا. فكأنه قيل: وليعلم الله أيكم المؤمن، كما قال جل ثناؤه: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى [ سورة الكهف: 12 ] غير أن « الألف واللام » ، و « الذي » و « من » إذا وضعت مع العَلم موضع « أيّ » ، نصبت بوقوع العلم عليه، كما قيل: وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ، فأما « أيّ » فإنها ترفع.

قال أبو جعفر: وأما قوله: « ويتخذ منكم شهداء » ، فإنه يعني: « وليعلم الله الذين آمنوا » وليتخذ منكم شهداء، أي: ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها.

« والشهداء » جمع « شهيد » ، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء » ، أي: ليميِّز بين المؤمنين والمنافقين، وليكرم من أكرَم من أهل الإيمان بالشهادة.

حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج في قوله: « وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء » ، قال: فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم: « ربنا أرنا يومًا كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونُبليك فيه خيرًا، ونلتمس فيه الشهادة » ! فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء » ، فكرَّم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوِّهم، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء » ، قال: قال ابن عباس: كانوا يسألون الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء.

حدثني عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء » ، كان المسلمون يسألون ربهم أن يُريهم يومًا كيوم بدر، يبلون فيه خيرًا، ويرزقون فيه الشهادة، ويرزقون الجنة والحياة والرزق، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل فقال: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ الآية، [ سورة البقرة: 154 ] .

قال أبو جعفر: وأما قوله: « والله لا يحب الظالمين » ، فإنه يعني به: الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم،، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « والله لا يحب الظالمين » ، أي: المنافقين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة، وقلوبهم مصرَّة على المعصية.