القول في تأويل قوله  { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ }141

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }: ولـيختبر الله الذين صدقوا الله ورسوله فـيبتلـيهم بإدالة الـمشركين منهم حتـى يتبـين الـمؤمن منهم الـمخـلص الصحيح الإيـمان من الـمنافق. كما:

حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله، فـي قوله: { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } قال: لـيبتلـي.

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } قال: لـيـمـحص الله الـمؤمن حتـى يصدق.

حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: ثنا أحمد بن الـمفضل، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ: { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } يقول: يبتلـي الـمؤمنـين.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } قال: يبتلـيهم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } فكان تـمـحيصاً للـمؤمنـين، ومـحقاً للكافرين.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }: أي يختبر الذين آمنوا حتـى يخـلصهم بـالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صبرهم ويقـينهم.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } قال: يـمـحق من مُـحق فـي الدنـيا، وكان بقـية من يـمـحق فـي الآخرة فـي النار.

وأما قوله: { وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } فإنه يعنـي به: أنه ينقصهم ويفنـيهم، يقال منه: مـحق فلان هذا الطعام: إذا نقصه أو أفناه، يـمـحقه مـحقاً، ومنه قـيـل لـمـحاق القمر: مُـحاق، وذلك نقصانه وفناؤه. كما:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: { وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } قال: ينقصهم.

حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: { وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } قال: يـمـحق الكافر حتـى يكذبه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي يبطل من الـمنافقـين قولهم بألسنتهم ما لـيس فـي قلوبهم، حتـى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم.

 

القول في تأويل قوله  { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ }142

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أم حسبتـم يا معشر أصحاب مـحمد، وظننتـم أن تدخـلوا الـجنة، وتنالوا كرامة ربكم، وشرف الـمنازل عنده؛ { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ } يقول: ولـما يتبـين لعبـادي الـمؤمنـين، الـمـجاهد منكم فـي سبـيـل الله، علـى ما أمره به. وقد بـينت معنى قوله: { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ }: ولـيعلـم الله، وما أشبه ذلك بأدلته فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته وقوله: { وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } يعنـي: الصابرين عند البأس علـى ما ينالهم فـي ذات الله من جرح وألـم ومكروه. كما:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } وتصيبوا من ثوابـي الكرامة، ولـم أختبركم بـالشدّة، وأبتلـيكم بـالـمكاره، حتـى أعلـم صدق ذلك منكم الإيـمان بـي، والصبر علـى ما أصابكم فـيّ.

ونصب { وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } علـى الصرف، والصرف أن يجتـمع فعلان ببعض حروف النسق، وفـي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق، فـينصب الذي بعد حرف العطف علـى الصرف، لأنه مصروف عن معنى الأوّل، ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي فـي أول الكلام، وذلك كقولهم: لا يسعنـي شيء ويضيق عنك، لأن «لا» التـي مع «يسعنـي» لا يحسن إعادتها مع قوله: «ويضيق عنك»، فلذلك نصب. والقراء فـي هذا الـحرف علـى النصب؛ وقد روى عن الـحسن أنه كان يقرأ: «وَيَعْلَـمِ الصَّابِرِينَ» فـيكسر الـميـم من «يعلـم»، لأنه كان ينوي جزمها علـى العطف به علـى قوله: { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ }.

 

القول في تأويل قوله  { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }143

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ }: ولقد كنتـم يا معشر أصحاب مـحمد تـمنون الـموت يعنـي أسبـاب الـموت وذلك القتال؛ { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } فقد رأيتـم ما كنتـم تـمنونه. والهاء فـي قوله «رأيتـموه»، عائدة علـى الـموت، ومعنى: { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } يعنـي: قد رأيتـموه بـمرأى منكم ومنظر: أي بقرب منكم. وكان بعض أهل العربـية يزعم أنه قـيـل: { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } علـى وجه التوكيد للكلام، كما يقال: رأيته عياناً، ورأيته بعينـي، وسمعته بأذنـي؛ وإنـما قـيـل: { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } لأن قوماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مـمن لـم يشهد بدراً، كانوا يتـمنون قبل أُحد يوماً مثل يوم بدر، فـيِبلوا الله من أنفسهم خيراً، وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر؛ فلـما كان يوم أُحد فرّ بعضهم وصبر بعضهم، حتـى أوفـى بـما كان عاهد الله قبل ذلك، فعاتب الله من فرّ منهم، فقال: { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ }... الآية، وأثنى علـى الصابرين منهم والـموفـين بعهدهم. ذكر الأخبـار بـما ذكرنا من ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله: { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } قال: غاب رجال عن بدر، فكانوا يتـمنون مثل يوم بدر أن يـلقوه، فـيصيبوا من الـخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر. فلـما كان يوم أُحد ولـى من ولـى، فعاتبهم الله ـ أو فعابهم، أو فعتبهم ـ علـى ذلك، شك أبو عاصم.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد نـحوه، إلا أنه قال: فعاتبهم الله علـى ذلك، ولـم يشكّ.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ }: أناس من الـمؤمنـين لـم يشهدوا يوم بدر والذي أعطى الله أهل بدر من الفضل والشرف والأجر، فكانوا يتـمنون أن يرزقوا قتالاً فـيقاتلوا، فسيق إلـيهم القتال حتـى كان فـي ناحية الـمدينة يوم أُحد، فقال الله عزّ وجلّ كما تسمعون: { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ } حتـى بلغ: { ٱلشَّـٰكِرِينَ }.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } قال: كانوا يتـمنون أن يـلقوا الـمشركين فـيقاتلوهم، فلـما لقوهم يوم أُحد ولّوا.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: إن أناساً من الـمؤمنـين لـم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل، فكانوا يتـمنون أن يروا قتالاً فـيقاتلوا، فسيق إلـيهم القتال، حتـى كان بناحية الـمدينة يوم أُحد، فأنزل الله عزّ وجلّ: { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ }.

 

القول في تأويل قوله { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ }144

 

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وما مـحمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلـى خـلقه داعياً إلـى الله وإلـى طاعته، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إلـيه يقول. جلّ ثناؤه: فمـحمد صلى الله عليه وسلم إنـما هو فـيـما الله به صانع من قبضه إلـيه عند انقضاء مدة أجله كسائر مدة رسله إلـى خـلقه الذين مضوا قبله وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم. ثم قال لأصحاب مـحمد معاتبهم علـى ما كان منهم من الهلع والـجزع حين قـيـل لهم بـأُحد: إن مـحمداً قتل، ومقبحاً إلـيهم انصراف من انصرف منهم عن عدوّهم وانهزامه عنهم: { أَفَإِيْن مَّاتَ } مـحمد أيها القوم لانقضاء مدة أجله، أو قتله عدوّكم، { ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ } يعنـي ارتددتـم عن دينكم الذي بعث الله مـحمداً بـالدعاء إلـيه، ورجعتـم عنه كفـاراً بـالله بعد الإيـمان به، وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم مـحمد إلـيه، وحقـيقة ما جاءكم به من عند ربه. { وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } يعنـي بذلك: ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافراً بعد إيـمانه، { فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً } يقول: فلن يوهن ذلك عزّة الله ولا سلطانه، ولا يدخـل بذلك نقص فـي ملكه، بل نفسه يضرّ بردته، وحظّ نفسه ينقص بكفره. { وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ } يقول: وسيثـيب الله من شكره علـى توفـيقه وهدايته إياه لدينه بنبوّته علـى ما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم إن هو مات أو قتل واستقامته علـى منهاجه، وتـمسكه بدينه وملته بعده. كما:

 

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبـي روق، عن أبـي أيوب، عن علـيّ فـي قوله: { وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ }: الثابتـين علـى دينهم أبـا بكر وأصحابه. فكان علـيّ رضي الله عنه يقول: كان أبو بكر أمين الشاكرين وأمين أحبـاء الله، وكان أشكرهم وأحبهم إلـى الله.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن العلاء بن بدر، قال: إن أبـا بكر أمين الشاكرين. وتلا هذه الآية: { وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ }.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ }: أي من أطاعه وعمل بأمره.

وذكر أن هذه الآية أنزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـمن انهزم عنه بـأُحد من أصحابه. ذكر الأخبـار الواردة بذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } إلـى قوله: { وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ } ذاكم يوم أُحد حين أصابهم القرح والقتل، ثم تنازعوا نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بقـية ذلك، فقال أناس: لو كان نبـياً ما قتل

 

القول في تأويل قوله { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَٰباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي ٱلشَّٰكِرِينَ }145

 

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وما يـموت مـحمد ولا غيره من خـلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لـحياته وبقائه، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له وأذن له بـالـموت فحينئذ يـموت، فأما قبل ذلك فلن تـموت بكيد كائد ولا بحيـلة مـحتال. كما:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـٰباً مُّؤَجَّلاً }: أي أن لـمـحمد أجلاً هو بـالغه إذا أذن الله له فـي ذلك كان.

وقد قـيـل: إن معنى ذلك: وما كانت نفس لتـموت إلا بإذن الله.

وقد اختلف أهل العربـية فـي معنى الناصب قوله: { كِتَـٰباً مُّؤَجَّلاً }؛ فقال بعض نـحويـي البصرة: هو توكيد، ونصبه علـى: كتب الله كتابـاً مؤجلاً، قال: وكذلك كل شيء فـي القرآن من قوله «حقًّا»، إنـما هو: أحقّ ذلك حقًّا، وكذلك: { وَعَدَ ٱللَّهُ } و { رَحْمَةً مّن رَّبِّكَ } وَ { صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء } و { كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } إنـما هو: صنع الله هكذا صنعاً، فهكذا تفسير كل شيء فـي القرآن من نـحو هذا، فإنه كثـير.

وقال بعض نـحويـي الكوفة فـي قوله: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } معناه: كتب الله آجال النفوس، ثم قـيـل: كتابـاً مؤجلاً، فأخرج قوله: كتابـاً مؤجلاً، نصبـاً من الـمعنى الذي فـي الكلام، إذ كان قوله: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } قد أدّى عن معنى «كتب»، قال: وكذلك سائر ما فـي القرآن من نظائر ذلك، فهو علـى هذا النـحو.

وقال آخرون منهم: قول القائل: زيد قائم حقاً، بـمعنى: أقول زيد قائم حقاً، لأن كل كلام قول، فأدّى الـمقول عن القول، ثم خرج ما بعده منه، كما تقول: أقول قولاً حقًّا، وكذلك ظنًّا ويقـيناً، وكذلك وَعْدَ الله، وما أشبهه.

والصواب من القول فـي ذلك عندي، أن كل ذلك منصوب علـى الـمصدر من معنى الكلام الذي قبله، لأن فـي كل ما قبل الـمصادر التـي هي مخالفة ألفـاظها ألفـاظ ما قبلها من الكلام معانـي ألفـاظ الـمصادر وإن خالفها فـي اللفظ فنصبها من معانـي ما قبلها دون ألفـاظه.

القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه:

«ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين».

يعني بذلك جلّ ثناؤه: من يرد منكم أيها الـمؤمنون بعمله جزاء منه بعض أعراض الدنـيا دون ما عند الله من الكرامة، لـمن ابتغى بعمله ما عنده { نُؤْتِهِ مِنْهَا } يقول: نعطه منها، يعنـي: من الدنـيا، يعنـي: أنه يعطيه منها ما قسم له فـيها من رزق أيام حياته، ثم لا نصيب له فـي كرامة الله التـي أعدّها لـمن أطاعه، وطلب ما عنده فـي الآخرة.

 

القول في تأويل قوله  { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ }146

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: { وَكَأَيِّن } بهمز الألف وتشديد الـياء وقرأه آخرون: بـمدّ الألف وتـخفـيف الـياء. وهما قراءتان مشهورتان فـي قراءة الـمسلـمين، ولغتان معروفتان لا اختلاف فـي معناهما، فبأيّ القراءتـين قرأ ذلك قارىء فمصيب، لاتفـاق معنى ذلك وشهرتهما فـي كلام العرب. ومعناه: وكم من نبـيّ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ }.

اختلفت القراء فـي قراءة قوله: { قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ }؛ فقرأ ذلك جماعة من قراء الـحجاز والبصرة: «قُتِل» بضم القاف، وقرأه جماعة أخرى بفتـح القاف وبـالألف، وهي قراءة جماعة من قراء الـحجاز والكوفة. فأما من قرأ { قَاتَلَ } فإنه اختار ذلك لأنه قال: لو قتلوا لـم يكن لقوله: { فَمَا وَهَنُواْ } وجه معروف، لأنه يستـحيـل أن يوصفوا بأنهم لـم يهنوا ولـم يضعفوا بعد ما قتلوا. وأما الذين قرؤوا ذلك: «قتل»، فإنهم قالوا: إنـما عنى بـالقتل النبـيّ وبعض من معه من الربـيـين دون جميعهم، وإنـما نفـى الوهن والضعف عمن بقـي من الربـيـين مـمن لـم يقتل.

وأولـى القراءتين فـي ذلك عندنا بـالصواب، قراءة من قرأ بضمّ القاف: «قُتِل مَعَهُ رِبِّـيُون كَثِـيرٌ» لأن الله عزّ وجلّ إنـما عاتبَ بهذه الآية، والآيات التي قبلها من قوله: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ } الذين انهزموا يوم أُحد، وتركوا القتال، أو سمعوا الصائح يصيح: إن مـحمداً قد قتل، فعذلهم الله عزّ وجلّ علـى فرارهم وتركهم القتال، فقال: أفَئِنْ مات مـحمد أو قتل أيها الـمؤمنون ارتددتـم عن دينكم، وانقلبتـم علـى أعقابكم؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثـير من أتبـاع الأنبـياء قبلهم وقال لهم: هلا فعلتـم كما كان أهل الفضل والعلـم من أتبـاع الأنبـياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبـيهم من الـمضيّ علـى منهاج نبـيهم والقتال علـى دينه أعداء دين الله علـى نـحو ما كانوا يقاتلون مع نبـيهم، ولـم تهنوا ولـم تضعفوا كما لـم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلـم والبصائر من أتبـاع الأنبـياء إذا قتل نبـيهم، ولكنهم صبروا لأعدائهم حتـى حكم الله بـينهم وبـينهم! وبذلك من التأويـل جاء تأويـل الـمتأوّل.

وأما «الرّبِّـيُّون»، فإنهم مرفوعون بقوله: «معه»، لا بقوله: «قتل».

وإنـما تأويـل الكلام: وكائن من نبـيّ قتل ومعه ربـيون كثـير، فما وهنوا لـما أصابهم فـي سبـيـل الله. وفـي الكلام إضمار واو، لأنها واو تدلّ علـى معنى حال قتل النبـيّ صلى الله عليه وسلم، غير أنه اجتزأ بدلالة ما ذكر من الكلام علـيها من ذكرها، وذلك كقول القائل فـي الكلام: قتل الأمير معه جيش عظيـم، بـمعنى: قتل ومعه جيش عظيـم.

وأما الرّبِّـيُّون، فإن أهل العربـية اختلفوا فـي معناه، فقال بعض نـحويـي البصرة: هم الذين يعبدون الربّ واحدهم رِبّـيّ.

 

القول في تأويل قوله { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيۤ أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }147

 

يعني تعالى ذكره بقوله: { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ }: وما كان قول الربيين. والهاء والـميـم من ذكر أسماء الربيين. { إِلاَّ أَن قَالُواْ } يعني ما كان لهم قول سوى هذا القول إذ قتل نبيهم. وقوله: { ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } يقول: لم يعتصموا إذ قتل نبـيهم إلا بـالصبر على ما أصابهم، ومـجاهدة عدوّهم، وبمسألة ربهم الـمغفرة والنصر علـى عدوّهم. ومعنى الكلام: { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا }. وأما الإسراف: فإنه الإفراط فـي الشيء، يقال منه: أسرف فلان فـي هذا الأمر إذا تـجاوز مقداره فأفرط، ومعناه ههنا: اغفر لنا ذنوبنا الصغار منها وما أسرفنا فـيه منها فتـخطينا إلـى العظام. وكان معنى الكلام: اغفر لنا ذنوبنا، الصغائر منها والكبـائر. كما:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس فـي قول الله: { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } قال: خطايانا.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا }: خطايانا وظلـمنا أنفسنا.

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد الله بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك فـي قوله: { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } يعنـي: الـخطايا الكبـار.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو تـميـلة، عن عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك بن مزاحم، قال: الكبـائر.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } قال: خطايانا.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } يقول: خطايانا.

وأما قوله: { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } فإنه يقول: اجعلنا مـمن يثبت لـحرب عدوّك وقتالهم، ولا تـجعلنا مـمن ينهزم فـيفرّ منهم، ولا يثبت قدمه فـي مكان واحد لـحربهم. { وَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } يقول: وانصرنا علـى الذين جحدوا وحدانـيتك ونبوّة نبـيك. وإنـما هذا تأنـيب من الله عزّ وجلّ عبـاده الذين فرّوا عن العدوّ يوم أحد وتركوا قتالهم، وتأديب لهم، يقول الله عزّ وجلّ: هلا فعلتـم إذ قـيـل لكم: قتل نبـيكم، كما فعل هؤلاء الربـيون، الذين كانوا قبلكم من أتبـاع الأنبـياء، إذ قتلت أنبـياؤهم، فصبرتـم لعدوكم صبرهم، ولـم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم، فتـحاولوا الارتداد علـى أعقابكم، كما لـم يضعف هؤلاء الربـيون ولـم يستكينوا لعدوّهم، وسألتـم ربكم النصر والظفر كما سألوا، فـينصركم الله علـيهم كما نصروا، فإن الله يحبّ من صبر لأمره وعلـى جهاد عدوّه، فـيعطيه النصر والظفر علـى عدوّه. كما:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ }: أي فقولوا كما قالوا، واعلـموا أنـما ذلك بذنوب منكم، واستغفروا كما استغفروا، وامضوا علـى دينكم كما مضوا علـى دينهم، ولا ترتدّوا علـى أعقابكم راجعين، واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم، واستنصروه كما استنصروه علـى القوم الكافرين.

 

القول في تأويل قوله  { فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }148

 

يعني بذلك تعالى ذكره: فأعطى الله الذين وصفهم بما وصفهم من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم، وعلى جهاد عدوّهم، والاستعانة بالله في أمورهم، واقتفائهم مناهج إمامهم، على ما أبلوا فـي الله { ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا } يعني: جزاء فـي الدنيا، وذلك النصر على عدوّهم وعدوّ الله، والظفر والفتح عليهم، والتمكين لهم في البلاد؛ { وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلاْخِرَةِ } يعني: وخير جزاء الآخرة، على ما أسلفوا فـي الدنـيا من أعمالهم الصالـحة، وذلك الـجنة ونعيمها. كما:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } فقرأ حتـى بلغ: { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }: أي والله لآتاهم الله الفتـح والظهور والتـمكين والنصر علـى عدوّهم فـي الدنـيا، { وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلأَخِرَةِ } يقول: حسن الثواب فـي الآخرة: هي الـجنة.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } ثم ذكر نـحوه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، فـي قوله: { فَـئَاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا } قال: النصر والغنـيـمة، { وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلأَخِرَةِ } قال: رضوان الله ورحمته.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { فَـئَاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا }: حسن الظهور علـى عدوّهم، { وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلأَخِرَةِ }: الـجنة، وما أعدّ فـيها. وقوله: { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } يقول تعالـى ذكره: فعل الله ذلك بإحسانهم، فإنه يحب الـمـحسنـين، وهم الذين يفعلون مثل الذي وصف عنهم تعالـى ذكره أنهم فعلوه حين قتل نبـيهم.