القول في تأويل قوله : وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ( 166 ) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذي أصابكم « يوم التقى الجمعان » ، وهو يوم أحد، حين التقى جمع المسلمين والمشركين. ويعني بـ « الذي أصابهم » ، ما نال من القتل مَنْ قُتِل منهم، ومن الجراح من جرح منهم « فبإذن الله، » يقول: فهو بإذن الله كان يعني: بقضائه وقدَره فيكم. .

وأجاب « ما » بالفاء، لأن « ما » حرف جزاء، وقد بينت نظير ذلك فيما مضى قبل .

« وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا » ، بمعنى: وليعلم الله المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا، أصابكم ما أصابكم يوم التقى الجمعان بأحد، ليميِّز أهلُ الإيمان بالله ورسوله المؤمنين منكم من المنافقين فيعرفونهم، لا يخفى عليهم أمر الفريقين.

وقد بينا تأويل قوله: « وليعلم المؤمنين » فيما مضى، وما وجه ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين » ، أي: ما أصابكم حين التقيتم أنتم وعدوّكم، فبإذني كان ذلك حين فعلتم ما فعلتم، بعد أن جاءكم نصري، وصدقتكم وعدي، ليميز بين المنافقين والمؤمنين، وليعلم الذين نافقوا منكم، أي: ليظهروا ما فيهم.

 

القول في تأويل قوله : وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ( 167 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن سلول المنافق وأصحابَه، الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إليهم، ولكنا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتالٌ! فأبدوْا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم: « لو نعلم قتالا لاتبعناكم » ، غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدَّث قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى أحد - في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة، انخزل عنهم عبدالله بن أبيّ ابن سلول بثلث الناس وقال: أطاعهم فخرج وعصاني! والله ما ندري علامَ نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس!! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريْب، واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم، أذكّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوّهم! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال! فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدَكم الله أعداء الله! فسيُغني الله عنكم! ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا » ، يعني: عبدالله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى عدوّه من المشركين بأحد وقوله: « لو نعلم قتالا لاتبعناكم » ، يقول: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولدفعنا عنكم، ولكن لا نظن أن يكون قتال. فظهر منهم ما كانوا يخفون في أنفسهم يقول الله عز وجل: « هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم » ، يظهرون لك الإيمان، وليس في قلوبهم، « والله أعلم بما يكتمون » ، أي: يخفون.

حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني يوم أحد- في ألف رجل، وقد وعدهم الفتحَ إن صبرُوا. فلما خرجوا، رجع عبدالله بن أبي ابن سلول في ثلثمئة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا لترجعن معنا! قال: فذكر الله أصحاب عبدالله بن أبيّ ابن سلول، وقول عبدالله بن جابر بن عبدالله الأنصاري حين دعاهم فقالوا: « ما نعلم قتالا ولئن أطعتمونا لترجعُنّ معنا » ، فقال: الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ . .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عكرمة: « قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم » ، قال: نـزلت في عبدالله بن أبيّ ابن سلول قال ابن جريج، وأخبرني عبدالله بن كثير، عن مجاهد « لو نعلم قتالا » ، قال: لو نعلم أنَّا واجدون معكم قتالا لو نعلم مكان قتال، لاتبعناكم.

واختلفوا في تأويل قوله « أو ادفعوا » .

فقال بعضهم: معناه: أو كثِّروا، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أو ادفعوا » ، يقول: أو كثِّروا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « أو ادفعوا » ، قال: بكثرتكم العدو، وإن لم يكن قتال.

وقال آخرون: معنى ذلك: أو رابِطوا إن لم تقاتلوا.

ذكر من قال ذلك:

8198م- حدثنا إسماعيل بن حفص الآيلي وعلي بن سهل الرملي قالا حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا عتبة بن ضمرة قال: سمعت أبا عون الأنصاري في قوله: « قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا » ، قال: رابطوا.

وأما قوله: « والله أعلم بما يكتمون » ، فإنه يعني به: والله أعلم من هؤلاء المنافقين الذين يقولون للمؤمنين: « لو نعلم قتالا لاتبعناكم » ، بما يضمرون في أنفسهم للمؤمنين ويكتمونه فيسترونه من العداوة والشنآن، وأنهم لو علموا قتالا ما تبعوهم ولا دافعوا عنهم، وهو تعالى ذكره محيط بما هم مخفوه من ذلك، مطلع عليه، ومحصيه عليهم، حتى يهتك أستارهم في عاجل الدنيا فيفضحهم به، ويُصليهم به الدرك الأسفل من النار في الآخرة.

القول في تأويل قوله جل ثناؤه الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 168 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « وليعلم الله الذين نافقوا » « الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا » .

فموضع « الذين » نصب على الإبدال من الَّذِينَ نَافَقُوا . وقد يجوز أن يكون رفعًا على الترجمة عما في قوله: يَكْتُمُونَ من ذكر الَّذِينَ نَافَقُوا .

فمعنى الآية: وليعلم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين بأحد يوم أحد فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم « وقعدوا » ، يعني: وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا - مما أخبر الله عز وجل عنهم من قيلهم - عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله « لو أطاعونا » ، يعني: لو أطاعنا من قتل بأحد من إخواننا وعشائرنا « ما قتلوا » يعني: ما قتلوا هنالك قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين « فادرأوا » ، يعني: فادفعوا.

من قول القائل: « درأت عن فلان القتل » ، بمعنى دفعت عنه، « أدرؤه دَرْءًا » ، ومنه قول الشاعر:

تَقُــولُ وَقَــدْ دَرَأْتُ لَهَـا وَضِينِـي أهـــذَا دِينُـــهُ أَبَــدًا وَدِينــي

يقول تعالى ذكره: قل لهم: فادفعوا إن كنتم، أيها المنافقون، صادقين في قيلكم: لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريشْ، ما قُتلوا هنالك بالسيف، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم، وتخلّفهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وشهود جهاد أعداء الله معه [ عن أنفسكم ] الموت، فإنكم قد قعدتم عن حربهم وقد تخلفتم عن جهادهم، وأنتم لا محالة ميتون. كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « الذين قالوا لإخوانهم » ، الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم « لو أطاعونا ما قتلوا » الآية، أي: أنه لا بد من الموت، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا. وذلك أنهم إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله، حرصًا على البقاء في الدنيا، وفرارًا من الموت.

*ذكر من قال: الذين قالوا لإخوانهم هذا القول، هم الذين قال الله فيهم: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا » الآية، ذكر لنا أنها نـزلت في عدوّ الله عبدالله بن أبيّ.

حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هم عبدالله بن أبيّ وأصحابه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: هو عبدالله بن أبيّ الذي قعد وقال لإخوانه الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: « لو أطاعونا ما قتلوا » ، الآية قال ابن جريج، عن مجاهد قال، قال جابر بن عبدالله: هو عبدالله بن أبيّ ابن سلول.

حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا » الآية، قال: نـزلت في عدوّ الله عبدالله بن أبيّ.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( 169 ) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: « ولا تحسبن » ، ولا تظنن. كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « ولا تحسبن » ، ولا تظنن.

وقوله: « الذين قتلوا في سبيل الله » ، يعني: الذين قتلوا بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم « أمواتًا » ، يقول: ولا تحسبنهم، يا محمد، أمواتًا، لا يحسُّون شيئًا، ولا يلتذُّون ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي، متنعمون في رزقي، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي، وحبَوْتهم به من جزيل ثوابي وعطائي، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن إسحاق عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تردُ أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحُسن مَقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا! لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب! فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم. فأنـزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الآيات.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير بن عبد الحميد وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قالا جميعًا: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق بن الأجدع قال: سألنا عبدالله بن مسعود عن هذه الآيات: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله » الآية، قال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحَهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فيطَّلع الله إليهم اطِّلاعةً فيقول: يا عبادي، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! ثلاث مرات - ثم يطلع فيقول: يا عبادي، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: رّبنا، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! إلا أنا نختار أن تُردّ أرواحنا في أجسادنا، ثم تردَّنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى « . . »

حدثنا الحسن بن يحيى المقدسي قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: سألنا عبدالله عن هذه الآية ثم ذكر نحوه وزاد فيه: إني قد قضيت أن لا ترجعوا. .

حدثنا ابن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن عبدالله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبدالله عن أرواح الشهداء، ولولا عبدالله ما أخبرنا به أحدٌ! قال: أرواح الشهداء عند الله في أجواف طير خضر في قناديل تحت العرش، تسرحُ في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها، فيطَّلع إليها ربُّها، فيقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وعبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء على بارق على نهر بباب الجنة في قبة خضراء وقال عبدة: « في روضة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنةُ بكرة وعشيًّا » .

حدثنا أبو كريب، وأنبأنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله إلا أنه قال: في قبة خضراء وقال: يخرج عليهم فيها.

حدثنا ابن وكيع، وأنبأنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق، وحدثني الحارث بن الفضيل الأنصاري، عن محمود بن لبيد الأنصاري، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني أيضًا يعني إسماعيل بن عياش عن ابن إسحاق، عن الحارث بن الفضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق، وحدثني بعض أصحابي عن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: سمعت جابر بن عبدالله يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أبشرك يا جابر؟ قال قلت: بلى، يا رسول الله! قال: إن أباك حيث أصيب بأحد، أحياه الله ثم قال له: ما تحب يا عبدالله بن عمرو أن أفعل بك؟ قال: يا رب، أحب أن تردَّني إلى الدنيا، فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى » . .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد! فأنـزل الله تبارك وتعالى في ذلك القرآن: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون » كنا نحدَّث أن أرواح الشهداء تَعارَف في طير بيض تأكل من ثمار الجنة، وأنّ مساكنهم السِّدرة. .

حدثت عن عمار، وأنبأنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بنحوه إلا أنه قال: تعارف في طير خضر وبيض وزاد فيه أيضًا: وذكر لنا عن بعضهم في قوله: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء » ، قال: هم قتلى بدر وأحد.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: قالوا: يا رب، ألا رسول لنا يخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تبارك وتعالى: أنا رسولكم، فأمر جبريل عليه السلام أن يأتي بهذه الآية: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله » ، الآيتين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عبدالله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبدالله عن هذه الآيات: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون » ، قال: أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت. قال: فاطلع إليهم ربك اطِّلاعة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا نسرح في الجنة في أيِّها شئنا! ثم اطَّلع عليهم الثالثة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقاتل في سبيلك مرة أخرى! فسكت عنهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيدة، عن عبدالله: أنهم قالوا في الثالثة حين قال لهم: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: تقرئ نبينا عنا السلام، وتخبره أن قد رضينا ورُضيَ عنا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يرغِّب المؤمنين في ثواب الجنة ويهوِّن عليهم القتل: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون » ، أي: قد أحييتهم، فهم عندي يرزقون في رَوْح الجنة وفضلها، مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك قال: كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يومًا كيوم بدر، يبلون فيه خيرًا، يرزقون فيه الشهادة، ويرزقون فيه الجنة والحياة في الرزق، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله فقال: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا » الآية.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر الشهداء فقال: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم » إلى قوله: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، زَعم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، في قناديل من ذهب معلقة بالعرش، فهي ترعى بُكرة وعشية في الجنة، تبيت في القناديل، فإذا سرحن نادى مناد: ماذا تريدون؟ ماذا تشتهون؟ فيقولون: ربنا، نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألهم ربهم أيضًا: ماذا تشتهون؟ وماذا تريدون؟ فيقولون: نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألون الثالثة، فيقولون ما قالوا: ولكنا نحب أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا! لما يرون من فضل الثواب.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عباد قال، حدثنا إبراهيم بن معمر، عن الحسن قال:، ما زال ابن آدم يتحمَّد حتى صار حيًّا ما يموت. ثم تلا هذه الآية: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون » .

حدثنا محمد بن مرزوق قال، حدثنا عمر بن يونس، عن عكرمة قال، حدثنا إسحاق بن أبي طلحة قال، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة، قال: لا أدري أربعين أو سبعين. قال: وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غارًا مشرفًا على الماء قعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلِّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال - أُراه أبو ملحان الأنصاري- : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج حتى أتى حيًّا منهم، فاحتبى أمام البيوت ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح، فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزتُ ورب الكعبة! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل قال: قال إسحاق: حدثني أنس بن مالك: إنّ الله تعالى أنـزل فيهم قرآنًا، رُفع بعد ما قرأناه زمانًا. وأنـزل الله: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون « . . »

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: لما أصيب الذين أصيبوا يوم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لقوا ربَّهم، فأكرمهم، فأصابوا الحياة والشهادة والرزق الطيب، قالوا: يا ليت بيننا وبين إخواننا من يبلغهم أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا! فقال الله تبارك وتعالى: أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم. فأنـزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم: « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون » إلى قوله: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ . فهذا النبأ الذي بلَّغ الله رسوله والمؤمنين ما قال الشهداء.

وفي نصب قوله: « فرحين » وجهان.

أحدهما: أن يكون منصوبًا على الخروج من قوله: « عند ربهم » . والآخر من قوله: « يرزقون » . ولو كان رفعًا بالردّ على قوله: « بل أحياء فرحون » ، كان جائزًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 170 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من جهاد أعداء الله مع رسوله، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه، فهم لذلك مستبشرون بهم، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك « لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » ، يعني بذلك: لا خوف عليهم، لأنهم قد أمنوا عقاب الله، وأيقنوا برضاه عنهم، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها، للخفض الذي صارُوا إليه والدعة والزُّلْفة. .

ونصب « أن لا » بمعنى: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم » الآية، يقول: لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم، لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم » الآية، قال، يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا، يلحقونا فيصيبون من كرامة الله تعالى ما أصبنا.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ذكر لنا عن بعضهم في قوله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، قال: هم قتلى بدر وأحد، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم الجنة، جُعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في الجنة، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش. فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة، قالوا: ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه! فإذا شهدوا قتالا تعجَّلوا إلى ما نحن فيه! فقال الله تعالى: إنيّ منـزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه. ففرحوا به واستبشروا، وقالوا: يخبر الله نبيكم وإخوانكم بالذي أنتم فيه، فإذا شهدوا قتالا أتوكم! قال: فذلك قوله: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إلى قوله: أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم » ، أي: ويسرون بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم، وأذهب الله عنهم الخوف والحزن. .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم » ، قال: هم إخوانهم من الشهداء ممَّن يُستشهد من بعدهم « لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » حتى بلغ: وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ .

حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما « يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم » ، فإن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله، فيقال: « يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا » ، فيستبشر حين يقدم عليه، كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا.

 

القول في تأويل قوله : يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ( 171 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « يستبشرون » ، يفرحون « بنعمة من الله » ، يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه « وفضل » يقول: وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجهاد أعدائه « وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين » ، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق: « يستبشرون بنعمة من الله وفضل » الآية، لما عاينوا من وفاء الموعود وعظيم الثواب.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين » .

فقرأ ذلك بعضهم بفتح « الألف » من « أنّ » بمعنى: يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وبأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين.

وبكسر « الألف » ، على الاستئناف. واحتج من قرأ ذلك كذلك بأنها في قراءة عبدالله: ( وَفَضْلٍ وَاللَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) . قالوا: فذلك دليل على أن قوله: « وإن الله » مستأنف غير متصل بالأول. .

ومعنى قوله: « لا يضيع أجر المؤمنين » ، لا يبطل جزاء أعمال من صدّق رسوله واتبعه، وعمل بما جاءه من عند الله.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءه من قرأ ذلك: « وأن الله » بفتح « الألف » ، لإجماع الحجة من القرأة على ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 172 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ، المستجيبين لله والرسول من بعد ما أصابهم الجرح والكلوم. .

وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك: الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حَمْراء الأسد في طلب العدّو - أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش- مُنصَرَفهم عن أحد. وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره حتى بلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، ليرى الناسُ أنّ به وأصحابِه قوةً على عدوهم. كالذي:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني حسين بن عبدالله، عن عكرمة قال: كان يوم أحد [ يوم ] السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم أحد، يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذَّن مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذَّن مؤذِّنه أن: « لا يخرجنَّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس » . فكلمه جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام فقال: يا رسول الله، إنّ أبي كان خلَّفني على أخوات لي سبع، وقال لي: « يا بني، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولستُ بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي! فتخلَّف على أخواتك » ، فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبًا للعدوّ، ليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأنّ الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، فحدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، كان شهد أحدًا قال: شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين: فلما أذَّن [ مؤذِّن ] رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ، قلت لأخي - أو قال لي- : أتفوتنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل! فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحًا منه، فكنتُ إذا غُلب حملته عُقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثًا، الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فقال الله تبارك وتعالى: « الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرحُ » ، أي: الجراح، وهم الذين سارُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغدَ من يوم أحد إلى حمراء الأسد، على ما بهم من ألم الجراح « للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم » .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح » الآية، وذلك يوم أحد، بعد القتل والجراح، وبعد ما انصرف المشركون - أبو سفيان وأصحابه- فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « ألا عِصابة تنتدبُ لأمر الله، تطلب عدوّها؟ فإنه أنكى للعدو، وأبعد للسَّمع! فانطلق عصابة منهم على ما يعلم الله تعالى من الجَهد. »

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: انطلق أبو سفيان منصرفًا من أحد، حتى بلغ بعض الطريق، ثم إنهم ندموا وقالوا: بئسما صنعتم! إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا واستأصلوهم. فقذف الله في قلوبهم الرعب، فهزموا، فأخبر الله رسوله، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، ثم رجعوا من حمراء الأسد، فأنـزل الله جل ثناؤه فيهم: « الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن الله جل وعز قذف في قلب أبي سفيان الرعب - يعني يوم أحد- بعد ما كان منه ما كان، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرّفًا، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب » ! وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدَمون المدينة في ذي القعدة، فينـزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، واشتد عليهم الذي أصابهم. وإنّ رسول الله ندب الناس لينطلقوا معه، ويتَّبعوا ما كانوا متَّبعين، وقال: إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج، ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل، فجاء الشيطان فخوَّف أولياءه، فقال: « إن الناس قد جمعوا لكم » ! فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال: « إني ذاهبٌ وإن لم يتبعني أحد » ، لأحضِّضَ الناس. فانتدب معه أبو بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وسعد، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وعبدالله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح، في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء، فأنـزل الله تعالى: « الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا أبو سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت لعبدالله بن الزبير: يا ابن أختي، أما والله إن أباك وجدك - تعني أبا بكر والزبير- لممن قال الله تعالى فيهم: « الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح » . .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرتُ أن أبا سفيان بن حرب لما راح هو وأصحابه يوم أحد، قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم عامدون إلى المدينة! فقال: إن ركبوا الخيل وتركوا الأثقال، فإنهم عامدون إلى المدينة، وإن جلسوا على الأثقال وتركوا الخيل، فقد رَعَبهم الله، وليسوا بعامديها « . فركبوا الأثقال، فرعبهم الله. ثم ندب ناسًا يتبعونهم ليروا أن بهم قوة، فاتبعوهم ليلتين أو ثلاثًا، فنـزلت: » الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح « . »

حدثني سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قالت لي عائشة: إنْ كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح - تعني أبا بكر والزبير. .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كان عبدالله من الذين استجابوا لله والرسول.

قال أبو جعفر: فوعد تعالى ذكره، مُحسنَ من ذكرنا أمره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، إذا اتقى الله فخافه، فأدى فرائضه وأطاعه في أمره ونهيه فيما يستقبل من عمره « أجرًا عظيما » ، وذلك الثواب الجزيل، والجزاء العظيم على ما قدم من صالح أعماله في الدنيا.

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ( 173 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ، « الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم » .

و « الذين » في موضع خفض مردود على الْمُؤْمِنِينَ ، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول.

و « الناس » الأوّل، هم قوم - فيما ذكر لنا- كان أبو سفيان سألهم أن يثبِّطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد.

و « الناس » الثاني، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش، الذين كانوا معه بأحد.

ويعني بقوله: « قد جمعوا لكم » ، قد جمعوا الرجال للقائكم والكرّة إليكم لحربكم « فاخشوهم » ، يقول: فاحذروهم، واتقوا لقاءهم، فإنه لا طاقة لكم بهم « فزادهم إيمانًا » ، يقول: فزادهم ذلك من تخويف من خوَّفهم أمرَ أبي سفيان وأصحابه من المشركين، يقينًا إلى يقينهم، وتصديقًا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا ثقة بالله وتوكلا عليه، إذ خوَّفهم من خوفَّهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين « حسبنا الله ونعم الوكيل » ، يعني بقوله: « حسبنا الله » ، كفانا الله، يعني: يكفينا الله « ونعم الوكيل » ، يقول: ونعم المولى لمن وليَه وكفَله.

وإنما وصف تعالى نفسه بذلك، لأن « الوكيل » ، في كلام العرب، هو المسنَد إليه القيام بأمر من أسنِد إليه القيام بأمره. فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات، قد كانوا فوَّضوا أمرهم إلى الله، ووثِقوا به، وأسندوا ذلك إليه، وصف نفسه بقيامه لهم بذلك، وتفويضِهم أمرهم إليه بالوكالة فقال: ونعم الوكيل الله تعالى لهم.

واختلف أهل التأويل في الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الناس قد جمعوا لكم » .

فقال بعضهم: قيل ذلك لهم في وجههم الذين خرجوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد إلى حمراء الأسد، في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين.

ذكر من قال ذلك، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك، ومن قائله:

حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: مرَّ به - يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم- معبدٌ الخزاعيّ بحمراء الأسد وكانت خزاعة، مسلمُهم ومشركهم، عَيْبةَ نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم معه، لا يخفون عليه شيئًا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: والله يا محمد، أما والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم! ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: أصبنا! حَدَّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟! لنَكرَّن على بقيَّتهم، فلنفرغنَّ منهم « . فلما رأى أبو سفيان معبدًا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد، قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرَّقون عليكم تحرُّقا، قد اجتمع معه من كان تخلَّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنَق عليكم شيء لم أر مثله قط! . قال: ويلك! ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل! قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم! قال: فإنّي أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتًا من شعر! قال: وما قلت؟ قال: قلت: »

كَـادَتْ تُهَـدُّ مِـنَ الأصْـوَاتِ رَاحِلَتي إِذْ سَــالَتِ الأرَضُ بِـالجُرْدِ الأبَـابيِل

تَــرْدِي بِأُسْــدٍ كِــرَامٍ لا تَنَابِلَـةٍ عِنْــد اللِّقَــاء وَلا خُـرْقٍ مَعَـازِيِل

فَظَلْـتُ عَـدْوًا, أَظُـنُّ الأرْضَ مَائِلَـةً لَمَّـا سَـمَوْا بِـرَئيسٍ غَـيْرِ مَخْـذُولِ

فَقُلْـتُ: وَيْـلَ ابْـنِ حَـرْبٍ منْ لِقَائِكُمُ إِذَا تَغَطْمَطَــتِ البَطْحَــاءُ بِـالخِيِل

إنِّـي نَذِيـرٌ لأهْـلِ البَسْـلِ ضَاحِيَـةً لِكَــلِّ ذِي إرْبَــةٍ مِنْهُـمْ وَمَعْقُـولِ

مِـنْ جَـيْشِ أَحْـمَدَ لا وَخْـشٍ قَنَابِلُـهُ وَلَيْسَ يُـوصَفُ مَـا أَنْـذَرْتُ بِـالقِيلِ

قال: فثنَى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومرَّ به ركب من عبد القيس. فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلَّغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها، وأحمِّل لكم إبلكم هذه غدًا زبيبًا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم! فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: « حسبنا الله ونعم الوكيل » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فقال الله: « الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل » ، و « الناس » الذين قالوا لهم ما قالوا النفر من عبد القيس الذين قال لهم أبو سفيان ما قال: إنّ أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم! يقول الله تبارك وتعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ الآية.

حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ندموا يعني أبا سفيان وأصحابه على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: « ارجعوا فاستأصلوهم » ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا، فلقوا أعرابيًّا فجعلوا له جُعْلا فقالوا له: إن لقيت محمدًا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم! فأخبر الله جل ثناؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فلقوا الأعرابيَّ في الطريق، فأخبرهم الخبر، فقالوا: « حسبنا الله ونعم الوكيل » ! ثم رجعوا من حمراء الأسد. فأنـزل الله تعالى فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم: « الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عِيرًا واردةَ المدينة ببضاعة لهم، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حِبال، فقال: إنّ لكم عليَّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدًا ومن معه، إن أنتم وجدتموه في طلبي، وأخبرتموه أنّي قد جمعت له جموعًا كثيرة. فاستقبلت العيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد إنا نخبرك أنّ أبا سفيان قد جمع لك جموعًا كثيرة، وأنه مقبل إلى المدينة، وإن شئت أن ترجع فافعل! فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقينًا، وقالوا: « حسبنا الله ونعم الوكيل » . فأنـزل الله تبارك وتعالى: « الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم » الآية.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابةٌ من أصحابه بعد ما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم، حتى كانوا بذي الحليفة، فجعل الأعراب والناسُ يأتون عليهم فيقولون لهم: هذا أبو سفيان مائلٌ عليكم بالناس! فقالوا: « حسبنا الله ونعم الوكيل » . فأنـزل الله تعالى فيهم: « الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل » .

وقال آخرون: بل قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له، في غزوة بدر الصغرى، وذلك في مسير النبي صلى الله عليه وسلم عامَ قابلٍ من وقعة أحد للقاء عدوِّه أبي سفيان وأصحابه، للموعد الذي كان واعده الالتقاءَ بها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم » ، قال: هذا أبو سفيان قال لمحمد: « موعدكم بدرٌ حيث قتلتم أصحابنا » ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: « عسى » ! فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نـزل بدرًا، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا، فذلك قوله تبارك وتعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ، وهي غزوة بدر الصغرى.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه وزاد فيه: وهي بدر الصغرى قال ابن جريج: لما عبَّى النبي صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش، فيقولون: « قد جمعوا لكم » ! يكيدونهم بذلك، يريدون أن يَرْعَبوهم، فيقول المؤمنون: « حسبنا الله ونعم الوكيل » ، حتى قدموا بدرًا، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد. قال: وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه السلام، وقال في ذلك:

نَفَـرَتْ قَلُـوصيِ عَـنْ خُـيولِ مُحَمَّدِ وَعَجْـــوَةٍ مَنْثُـــورَةٍ كَــالعُنْجُدِ

وَاتَّخَذَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي

قال أبو جعفر: هكذا أنشدنا القاسم، وهو خطأ، وإنما هو:

قَــدْ نَفَــرَتْ مِـنْ رُفْقَتَـيْ مُحَـمَّدِ وَعَجْــوَةٍ مِــنْ يَــثْرِبٍ كَـالعُنْجُدِ

تَهْــوِي عَــلَى دِيـنِ أَبيهَـا الأتْلَـدِ قَــدْ جَـعَلَتْ مَـاءَ قُدَيْـدٍ مَوْعِـدِي

وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الغَدِ

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: كانت بدر متجرًا في الجاهلية، فخرج ناس من المسلمين يريدونه، ولقيهم ناسٌ من المشركين فقالوا لهم: « إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم » ! فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التجارة، وقالوا: « حسبنا الله ونعم الوكيل » ! فأتوهم فلم يلقوا أحدًا، فأنـزل الله عز وجل فيهم: « إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم » قال ابن يحيى قال، عبد الرزاق قال، ابن عيينة: وأخبرني زكريا، عن الشعبي، عن عبدالله بن عمرو قال: هي كلمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، فقال: « حسبنا الله ونعم الوكيل » .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: « إن الذي قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، كان في حال خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش، مُنْصَرَفهم عن أحد إلى حمراء الأسد » . لأن الله تعالى ذكره إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم: « حسبنا الله ونعم الوكيل » ، لما قيل لهم: « إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم » ، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم بقوله: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ، ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلى حمراء الأسد.

وأما الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى، فإنه لم يكن فيهم جريح إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه وبرأ كلمُه. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى بدر الخرجة الثانية إليها، لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها، بعد سنة من غزوة أحد، في شعبان سنة أربع من الهجرة. وذلك أن وقعة أحد كانت في النصف من شوال من سنة ثلاث، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع، ولم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه، ولكن قد كان قتل في وقعة الرَّجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى. وكانت وقعة الرَّجيع فيما بين وقعة أحد وغزوة النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا الصغرى.