القول في تأويل قوله : فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف من أدعيتهم أنهم دعوا به ربُّهم، بأني لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيرًا، ذكرًا كان العامل أو أنثى.

وذكر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما بال الرجال يُذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة » ؟ فأنـزل الله تبارك وتعالى في ذلك هذه الآية.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، تُذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر؟ فنـزلت: « أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى » ، الآية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت رجلا من ولد أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنـزل الله تبارك وتعالى: « فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى » .

حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنـزل الله تعالى: « فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عملٍ عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض » .

وقيل: « فاستجاب لهم » بمعنى: فأجابهم، كما قال الشاعر:

وَدَاٍع دَعَـا يَـا مَـنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى? فَلَــم يَسْــتَجِبْهُ عِنْـدَ ذَاكَ مُجِـيبُ

بمعنى: فلم يجبه عند ذاك مجيب.

وأدخلت « من » في قوله: « من ذكر أو أنثى » على الترجمة والتفسير عن قوله: « منكم » ، بمعنى: « لا أضيع عمل عامل منكم » ، من الذكور والإناث. وليست « من » هذه بالتي يجوز إسقاطها وحذفها من الكلام في الجحد، لأنها دخلت بمعنى لا يصلح الكلام إلا به.

وزعم بعض نحويي البصرة أنها دخلت في هذا الموضع كما تدخل في قولهم: « قد كان من حديث » ، قال: و « من » ههنا أحسن، لأن النهي قد دخل في قوله: « لا أضيع » .

وأنكر ذلك بعض نحويي الكوفة وقال: لا تدخل « من » وتخرج إلا في موضع الجَحد. وقال: قوله: « لا أضيع عمل عامل منكم » ، لم يدركه الجحد، لأنك لا تقول: « لا أضرب غلام رجل في الدار ولا في البيت » ، فتدخل، « ولا » ، لأنه لم ينله الجحد، ولكن « مِنْ » مفسرة.

وأما قوله: « بعضكم من بعض » ، فإنه يعني: بعضكم أيها المؤمنون الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم من بعض، في النصرة والملة والدين، وحكم جميعكم فيما أنا بكم فاعل، على حكم أحدكم في أني لا أضيع عمل ذكرٍ منكم ولا أنثى.

 

القول في تأويل قوله : فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ( 195 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فالذين هاجروا » قومَهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله، إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله، والتصديق برسوله، « وأخرجوا من ديارهم » ، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة « وأوذوا في سبيلي » ، يعني: وأوذوا في طاعتهم ربَّهم، وعبادتهم إياه مخلصين له الدين، وذلك هو « سبيل الله » التي آذى فيها المشركون من أهل مكة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلها « وَقَاتَلُوا » يعني: وقاتلوا في سبيل الله « وقتلوا » فيها « لأكفرن عنهم سيئاتهم » ، يعني: لأمحونها عنهم، ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي، ولأغفرنها لهم « ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا » ، يعني: جزاء لهم على ما عملوا وأبلوا في الله وفي سبيله « من عند الله » ، يعني: من قبل الله لهم « والله عنده حسن الثواب » ، يعني: أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه، وذلك ما لا يبلغه وصف واصفٍ، لأنه مما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر، كما:-

حدثنا عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث: أن أبا عشانة المعافري حدثه: أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرين الذين تُتَّقَى بهم المكاره، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان، لم تقض حتى يموت وهي في صدره، وأن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول: « أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة » ، فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: « ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار، ونقدس لك، مَنْ هؤلاء الذين آثرتهم علينا » فيقول الرب جل ثناؤه: « هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي » . فتدخل الملائكة عليهم من كل باب: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ . [ سورة الرعد: 24 ]

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: « وقاتلوا وقتلوا » .

فقرأه بعضهم: ( « وَقَتَلُوا وَقُتِّلُوا » ) بالتخفيف، بمعنى: أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين.

وقرأ ذلك آخرون: ( وَقَاتَلُوا وَقُتِّلُوا ) بتشديد « قتَلوا » ، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين وقتَّلهم المشركون، بعضًا بعد بعض، وقتلا بعد قتل.

وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين: ( وَقَاتَلُوا وَقَتَلُوا ) بالتخفيف، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين وقَتَلوا.

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: « وَقُتِلُوا » بالتخفيف. « وقاتلوا » ، بمعنى: أن بعضهم قُتِل، وقاتل من بقي منهم.

قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز أن أعدوها، إحدى هاتين القراءتين، وهي: « وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا » بالتخفيف، أو « وَقَتَلُوا » بالتخفيف « وَقَاتَلُوا » لأنها القراءة المنقولة نقل وراثةٍ، وما عداهما فشاذ. وبأيّ هاتين القراءتين التي ذكرت أني لا أستجيز أن أعدوَهما، قرأ قارئ فمصيب في ذلك الصوابَ من القراءة، لاستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قرأة الإسلام، مع اتفاق معنييهما.

 

القول في تأويل قوله : لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ( 196 ) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 197 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ولا يغرنك » يا محمد ( تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ) ، يعني: تصرفهم في الأرض وضربهم فيها، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ) ، يقول: ضربهم في البلاد.

فنهى الله تعالى ذكره نبيّه صلى الله عليه وسلم عن الاغترار بضربهم في البلاد، وإمهال الله إياهم، مع شركهم، وجحودهم نعمه، وعبادتهم غيره. وخرج الخطاب بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به غيره من أتباعه وأصحابه، كما قد بينا فيما مضى قبل من أمر الله ولكن كان بأمر الله صادعًا، وإلى الحق داعيًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ) ، والله ما غرُّوا نبيَّ الله، ولا وكل إليهم شيئًا من أمر الله، حتى قبضه الله على ذلك.

وأما قوله: « متاع قليل » ، فإنه يعني: أن تقلبهم في البلاد وتصرفهم فيها، متعة يمتَّعون بها قليلا حتى يبلغوا آجالهم، فتخترمهم منياتهم « ثم مأواهم جهنم » ، بعد مماتهم.

و « المأوى » : المصير الذي يأوون إليه يوم القيامة، فيصيرون فيه.

ويعني بقوله: « وبئس المهاد » . وبئس الفراش والمضجع جهنم.

 

القول في تأويل قوله : لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ ( 198 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « لكن الذين اتقوا ربهم » ، لكن الذين اتقوا الله بطاعته واتّباع مرضاته، في العمل بما أمرهم به، واجتناب ما نهاهم عنه « لهم جنات » يعني: بساتين، « تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها » ، يقول: باقين فيها أبدًا. « نـزلا من عند الله » ، يعني: إنـزالا من الله إياهم فيها، أنـزلوها.

ونصب « نـزلا » على التفسير من قوله: « لهم جنات تجري من تحتها الأنهار » ، كما يقال: « لك عند الله جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا » ، وكما يقال: « هو لك صدقة » : و « هو لك هبة » .

وقوله: « من عند الله » يعني: من قبل الله، ومن كرامة الله إياهم، وعطاياه لهم.

وقوله: « وما عند الله خير للأبرار » ، يقول: وما عند الله من الحياة والكرامة، وحسن المآب، « خير للأبرار » ، مما يتقلب فيه الذين كفروا، فإن الذي يتقلبون فيه زائل فانٍ، وهو قليلٌ من المتاع خسيس، وما عند الله من كرامته للأبرار - وهم أهل طاعته باقٍ، غيرُ فانٍ ولا زائل.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله: « وما عند الله خير للأبرار » ، قال: لمن يطيع الله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود، عن عبد الله قال: ما من نَفْس بَرَّة ولا فاجرة إلا والموتُ خير لها. ثم قرأ عبد الله: « وما عند الله خير للأبرار » ، وقرأ هذه الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ . [ سورة آل عمران: 178 ]

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن فرج بن فضالة، عن لقمان، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول: « وما عند الله خير للأبرار » ، ويقول: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.

فقال بعضهم: عنى بها أصحمة النجاشي، وفيه أنـزلت.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عصَام بن رواد بن الجراح قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو بكر الهذليّ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « اخرجوا فصلوا على أخ لكم » . فصلى بنا، فكبر أربع تكبيرات، فقال: « هذا النجاشي أصحمة » ، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على عِلْجٍ نصرَاني لم يره قط! فأنـزل الله: « وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: يصلَّى على رجل ليس بمسلم! قال: فنـزلت: « وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله » . قال قتادة: فقالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة! فأنـزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ سورة البقرة: 115 ]

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم » ، ذكر لنا أن هذه الآية نـزلت في النَّجاشي، وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وصدَّقوا به. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم استغفر للنجاشي وصلى عليه حين بلغه موته، قال لأصحابه: « صلّوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم » ! فقال أناس من أهل النفاق: « يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه » ؟ فأنـزل الله هذه الآية: « وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: « وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم » ، قال: نـزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم واسم النجاشي، أصحْمة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال عبد الرزاق، وقال ابن عيينة: اسم النجاشي بالعربية: عطية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي، طعن في ذلك المنافقون، فنـزلت هذه الآية: « وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله » ، إلى آخر الآية.

وقال آخرون: بل عنى بذلك عبد الله بن سَلامٍ ومن معه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: نـزلت - يعني هذه الآية- في عبد الله بن سلام ومن معه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن زيد في قوله: « وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم » ، الآية كلها قال: هؤلاء يهود.

وقال آخرون: بل عنى بذلك مُسْلِمة أهل الكتاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم » ، من اليهود والنصارى، وهم مسلمة أهل الكتاب.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد. وذلك أنّ الله جل ثناؤه عَمّ بقوله: « وإنّ من أهل الكتاب » أهلَ الكتاب جميعًا، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود، ولا اليهود دون النصارى. وإنما أخبر أن من « أهل الكتاب » من يؤمن بالله. وكلا الفريقين أعني اليهود والنصارى من أهل الكتاب.

فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في الخبر الذي رويتَ عن جابر وغيره: أنها نـزلت في النجاشي وأصحابه؟

قيل: ذلك خبر في إسناده نظر. ولو كان صحيحًا لا شك فيه، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف. وذلك أنّ جابرًا ومن قال بقوله، إنما قالوا: « نـزلت في النجاشيّ » ، وقد تنـزل الآية في الشيء، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نـزلت في النجاشيّ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشيّ، حكمًا لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشيّ في اتباعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتصديق بما جاءهم به من عند الله، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين، التوراة والإنجيل.

فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: « وإن من أهل الكتاب » التوراة والإنجيل « لمن يؤمن بالله » فيقرّ بوحدانيته « وما أنـزل إليكم » ، أيها المؤمنون، يقول: وما أنـزل إليكم من كتابه ووحيه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم « وما أنـزل إليهم » ، يعني: وما أنـزل على أهل الكتاب من الكتب، وذلك التوراة والإنجيل والزبور « خاشعين لله » ، يعني: خاضعين لله بالطاعة، مستكينين له بها متذلِّلين، كما:-

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن زيد في قوله: « خاشعين لله » ، قال: الخاشع، المتذلل لله الخائف.

ونصب قوله: « خاشعين لله » ، على الحال من قوله: « لمن يؤمن بالله » ، وهو حال مما في « يؤمن » من ذكر « من » .

« لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا » ، يقول: لا يحرِّفون ما أنـزل إليهم في كتبه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيبدِّلونه، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه، لعَرَضٍ من الدنيا خسيس يُعطوْنه على ذلك التبديل، وابتغاء الرياسة على الجهال، ولكن ينقادون للحق، فيعملون بما أمرهم الله به فيما أنـزل إليهم من كتبه، وينتهون عما نهاهم عنه فيها، ويؤثرون أمرَ الله تعالى على هَوَى أنفسهم.

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 199 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه « أولئك لهم أجرهم » ، هؤلاء الذين يؤمنون بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم « لهم أجرهم عند ربهم » ، يعني: لهم عوض أعمالهم التي عملوها، وثواب طاعتهم ربَّهم فيما أطاعوه فيه « عند ربهم » يعني: مذخور ذلك لهم لديه، حتى يصيروا إليه في القيامة، فيوفِّيهم ذلك « إنّ الله سريع الحساب » ، وسرعة حسابه تعالى ذكره: أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها، وبعد ما عملوها، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك، فيقع في الإحصاء إبطاء، فلذلك قال: « إن الله سريع الحساب » .

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: « اصبروا على دينكم وصابروا الكفار ورَابطوهم » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن: أنه سمعه يقول في قول الله: « يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا » ، قال: أمرهم أن يصبروا على دينهم، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء ولا سَرَّاء ولا ضراء، وأمرهم أن يُصابروا الكفار، وأن يُرابطوا المشركين.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا » ، أي: اصبروا على طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله « واتقوا الله لعلكم تفلحون » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: « اصبروا وصابروا ورابطوا » ، يقول: صابروا المشركين، ورابطوا في سبيل الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: اصبروا على الطاعة، وصابروا أعداء الله، ورابطوا في سبيل الله.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « اصبروا وصابروا ورابطوا » ، قال: اصبروا على ما أمرتم به، وصابروا العدو ورابطوهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على دينكم، وصابروا وَعدي إياكم على طاعتكم لي، ورَابطوا أعداءكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أنه كان يقول في هذه الآية: « اصبروا وصابروا ورابطوا » ، يقول: اصبروا على دينكم، وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوِّي وعدوَّكم، حتى يترك دينه لدينكم.

وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم ورابطوهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون قال، أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم في قوله: « اصبروا وصابروا ورابطوا » ، قال: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوَّكم، ورابطوا على عدوكم.

حدثني المثنى قال، حدثنا مطرف بن عبد الله المدنّي قال، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب، فذكر له جموعًا من الروم وما يتخوَّف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما نـزل بعبد مؤمن من منـزلة شدة، يجعل الله بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عُسر يسرين، وإن الله يقول في كتابه: « يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورَابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون » .

وقال آخرون: معنى: « ورابطوا » ، أي: رابطوا على الصلوات، أي: انتظروها واحدة بعد واحدة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال، حدثني داود بن صالح قال، قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أي شيء نـزلت هذه الآية: « اصبروا وصابروا ورابطوا » ؟ قال قلت: لا! قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يُرَابَطُ فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده، عن شرحبيل، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أدلكم على ما يكفر الله به الذنوب والخطايا؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط » .

حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا محمد بن مهاجر قال، حدثني يحيى بن يزيد، عن زيد بن أبي أنيسة، عن شرحبيل، عن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفِّر به الذنوب؟ » قال: قلنا: بلى يا رسول الله! قال: « إسباغ الوضوء في أماكنها، وكثرة الخطَا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أدلكم على ما يحطُّ الله به الخطايا ويَرفع به الدرجات؟ » قالوا: بلى يا رسول الله! قال: « إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرباط » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بتأويل الآية، قول من قال في ذلك: « يا أيها الذين آمنوا » ، يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، « اصبروا » على دينكم وطاعة ربكم. وذلك أنّ الله لم يخصص من معاني « الصبر » على الدين والطاعة شيئًا، فيجوز إخراجه من ظاهر التنـزيل. فلذلك قلنا إنه عني بقوله: « اصبروا » ، الأمرَ بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها.

« وصابروا » ، يعني: وصابروا أعداءكم من المشركين.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المعروف من كلام العرب في « المفاعلة » أن تكون من فريقين، أو اثنين فصاعدًا، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة. فإذْ كان ذلك كذلك، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم، حتى يظفرهم الله بهم، ويعلي كلمته، ويخزي أعداءهم، وأن لا يكون عدوُّهم أصبر منهم.

وكذلك قوله: « ورابطوا » ، معناه: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك، في سبيل الله.

قال أبو جعفر: ورأى أن أصل « الرباط » ، ارتباط الخيل للعدوّ، كما ارتبط عدوهم لهم خيلهم، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر، كان ذا خيل قد ارتبطها، أو ذا رَجْلة لا مركب له.

وإنما قلنا معنى: « ورابطوا » ، ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني « الرباط » . وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه، دون الخفي، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه حجة يجب التسليم لها من كتاب، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من أهل التأويل.

 

القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 200 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: « واتقوا الله » ، أيها المؤمنون، واحذروه أن تخالفوا أمره أو تتقدموا نهيه « لعلكم تفلحون » ، يقول: لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد، وتنجحوا في طلباتكم عنده، كما:-

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أنه كان يقول في قوله: « واتقوا الله لعلكم تفلحون » ، واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني.

آخر تفسير سورة آل عمران.