القول في تأويل قوله : وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، « ولكم » أيها الناس « نصف ما ترك أزواجكم » ، بعد وفاتهن من مال وميراث « إن لم يكن لهن ولد » ، يوم يحدث بهن الموت، لا ذكر ولا أنثى « فإن كان لهن ولد » ، أي: فإن كان لأزواجكم يوم يحدث لهن الموت، ولد ذكر أو أنثى « فلكم الربع مما تركن » ، من مال وميراث، ميراثًا لكم عنهن « من بعد وصية يوصين بها أو دين » ، يقول: ذلكم لكم ميراثًا عنهن، مما يبقى من تركاتهن وأموالهن، من بعد قضاء ديونهن التي يمتن وهي عليهن، ومن بعد إنفاذ وصاياهن الجائزة إن كن أوصين بها.

 

القول في تأويل قوله : وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد » ولأزواجكم، أيها الناس، ربع ما تركتم بعد وفاتكم من مال وميراث، إن حدث بأحدكم حَدَثُ الوفاة ولا ولد له ذكر ولا أنثى « فإن كان لكم ولد » ، يقول: فإن حدث بأحدكم حدث الموت وله ولد ذكر أو أنثى، واحدًا كان الولد أو جماعة « فلهن الثمن مما تركتم » ، يقول: فلأزواجكم حينئذ من أموالكم وتركتكم التي تخلفونها بعد وفاتكم، الثمن من بعد قضاء ديونكم التي حدث بكم حدث الوفاة وهي عليكم، ومن بعد إنفاذ وصاياكم الجائزة التي توصون بها.

وإنما قيل: « من بعد وصية توصون بها أو دين » ، فقدم ذكر الوصية على ذكر الدين، لأن معنى الكلام: إن الذي فرضتُ لمن فرضتُ له منكم في هذه الآيات، إنما هو له من بعد إخراج أيِّ هذين كان في مال الميت منكم، من وصية أو دين. فلذلك كان سواءً تقديم ذكر الوصية قبل ذكر الدين، وتقديم ذكر الدين قبل ذكر الوصية، لأنه لم يرد من معنى ذلك إخراج الشيئين: « الدين والوصية » من ماله، فيكون ذكر الدين أولى أن يُبدأ به من ذكر الوصية.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن كان رجلٌ أو امرأة يورث كلالةً.

ثم اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأ ذلك عامة قرأة أهل الإسلام: ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) ، يعني: وإن كان رجل يورث متكلًّل النسب.

ف « الكلالة » على هذا القول، مصدر من قولهم: « تكلَّله النسب تكلُّلا وكلالة » ، بمعنى: تعطف عليه النسب.

وقرأه بعضهم: ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) ، بمعنى: وإن كان رجل يورِث من يتكلَّله، بمعنى: من يتعطف عليه بنسبه من أخ أو أخت.

واختلف أهل التأويل في « الكلالة » .

فقال بعضهم: هي ما خلا الوالد والولد.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الوليد بن شجاع السَّكوني قال، حدثني علي بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبي قال: قال أبو بكر رحمه الله عليه: إني قد رأيت في الكلالة رأيًا فإن كان صوابًا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله منه بريء : أن الكلالة ما خلا الولد والوالد. فلما استخلف عمر رحمة الله عليه قال: إني لأستحيي من الله تبارك وتعالى أن أخالف أبا بكر في رأي رآه.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عاصم الأحول قال، حدثنا الشعبي: أن أبا بكر رحمه الله قال في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله: هو ما دون الولد والوالد. قال: فلما كان عمر رحمه الله قال: إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر.

حدثنا [ يونس بن عبد الأعلى ] قال، أخبرنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن الشعبي: أن أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قالا الكلالة من لا ولد له ولا والد.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن عمران بن حدير، عن السميط قال: كان عمر رجلا أيسر، فخرج يومًا وهو يقول بيده هكذا، يديرها، إلا أنه قال، أتى عليّ حين ولست أدري ما الكلالة، ألا وإنّ الكلالة ما خلا الولد والوالد.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، عن أبي بكر قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد.

حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن جريج يحدث، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد بن الحنفية، عن ابن عباس، قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد .

حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، عن ابن عباس بمثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد السلولي، عن ابن عباس قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة » ، قال: الكلالة من لم يترك ولدًا ولا والدًا.

حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد قال: ما رأيتهم إلا قد اتفقوا أن من مات ولم يدع ولدًا ولا والدًا، أنه كلالة.

حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا إسحاق بن يوسف، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد قال: ما رأيتهم إلا قد أجمعوا أنّ الكلالة الذي ليس له ولد ولا والد.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد قال: أدركتهم وهم يقولون، إذا لم يدع الرجل ولدًا ولا والدًا، وُرِث كلالة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وإن كان رجل يورَث كلالة أو امرأة » ، والكلالة الذي لا ولد له ولا والد، لا أب ولا جد، ولا ابن ولا ابنة، فهؤلاء الأخوة من الأم.

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم قال في الكلالة: ما دون الولد والوالد.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الكلالة كل من لا يرثه والد ولا ولد، وكل من لا ولد له ولا والد فهو يورث كلالة، من رجالهم ونسائهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري وأبي إسحاق، قال: الكلالة من ليس له ولد ولا والد.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن محمد، عن معمر، عن الزهري وقتادة وأبي إسحاق مثله.

وقال آخرون: « الكلالة ما دون الولد » ، وهذا قول عن ابن عباس، وهو الخبر الذي ذكرناه قبل من رواية طاوس عنه: أنه ورَّث الإخوة من الأم السدس مع الأبوين.

وقال آخرون: الكلالة ما خلا الوالد.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن شعبة، قال: سألت الحكم عن الكلالة قال: فهو ما دون الأب.

واختلف أهل العربية في الناصب للكلالة.

فقال بعض البصريين: إن شئت نصبت « كلالة » على خبر « كان » ، وجعلت « يورث » من صفة « الرجل » . وإن شئت جعلت « كان » تستغني عن الخبر نحو « وقع » ، وجعلت نصب « كلالة » على الحال، أي: يورث كلالة، كما يقال: « يضرب قائمًا » .

وقال بعضهم قوله: « كلالة » ، خبر « كان » ، لا يكون الموروث كلالة، وإنما الوارث الكلالةُ.

قال أبو جعفر والصواب من القول في ذلك عندي أن « الكلالة » منصوب على الخروج من قوله: « يورث » ، وخبر « كان » « يورث » . و « الكلالة » وإن كانت منصوبة بالخروج من « يورث » ، فليست منصوبة على الحال، ولكن على المصدر من معنى الكلام. لأن معنى الكلام: وإن كان رجل يورَث متكلِّله النسب كلالةً ثم ترك ذكر « متكلِّله » اكتفاء بدلالة قوله: « يورث » عليه.

واختلف أهل العلم في المسمَّى « كلالة » .

فقال بعضهم: « الكلالة » الموروث، وهو الميت نفسه، يسمى بذلك إذا ورثه غير والده وولده.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله في الكلالة، قال: الذي لا يدع والدًا ولا ولدًا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كنت آخر الناس عهدًا بعمر رحمه الله، فسمعته يقول: القولُ ما قلت. قلت: وما قلت؟ قال: الكلالة من لا ولد له.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ويحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، عن ابن عباس قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد.

وقال آخرون: « الكلالة » ، هي الورثة الذين يرثون الميت، إذا كانوا إخوة أو أخوات أو غيرهم، إذا لم يكونوا ولدًا ولا والدًا، على ما قد ذكرنا من اختلافهم في ذلك.

وقال آخرون: بل « الكلالة » الميت والحي جميعًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد: الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا والد أو الحي، كلهم « كلالة » ، هذا يَرِث بالكلالة، وهذا يورَث بالكلالة .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله هؤلاء، وهو أن « الكلالة » الذين يرثون الميت، من عَدا ولده ووالده، وذلك لصحة الخبر الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أنه قال: قلت يا رسول الله؟ إنما يرثني كلالة، فكيف بالميراث وبما: -

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد قال، كنا مع حميد بن عبد الرحمن في سوق الرقيق، قال: فقام من عندنا ثم رجع، فقال: هذا آخر ثلاثة من بني سعد حدَّثوني هذا الحديث، قالوا: مرض سعد بمكة مرضًا شديدًا، قال: فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده. فقال: يا رسول الله، لي مال كثير، وليس لي وارثٌ إلا كلالة، فأوصي بمالي كله؟ فقال: لا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن العلاء بن زياد قال: جاء شيخٌ إلى عمر رضي الله عنه فقال: إنِّي شيخ، وليس لي وارث إلا كلالةُ أعراب مُتراخٍ نسبُهم، أفأوصي بثلث مالي؟ قال: لا.

فقد أنبأت هذه الأخبار عن صحة ما قلنا في معنى « الكلالة » ، وأنها ورثة الميت دون الميت، ممن عدا والده وولده.

 

القول في تأويل قوله : وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « وله أخ أو أخت » ، وللرجل الذي يورث كلالة أخ أو أخت، يعني: أخًا أو أختًا من أمه، كما:-

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن يعلى بن عطاء، عن القاسم، عن سعد أنه كان يقرأ: « وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت » قال، سعد: لأمه.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء قال: سمعت القاسم بن ربيعة يقول: قرأت على سعد: « وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت » قال، سعد: لأمه.

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن القاسم بن ربيعة بن قانف قال: قرأت على سعد، فذكر نحوه.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا يعلى بن عطاء، عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص قرأ: « وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت من أمه » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وله أخ أو أخت » فهؤلاء الإخوة من الأم: إن كان واحدًا فله السدس، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت » ، فهؤلاء الإخوة من الأم، فهم شركاء في الثلث، سواءٌ الذكر والأنثى.

قال أبو جعفر: وقوله: « فلكل واحد منهما السدس » ، إذا انفرد الأخ وحده أو الأخت وحدها، ولم يكن أخ غيره أو غيرها من أمه، فله السدس من ميراث أخيه لأمه. فإن اجتمع أخ وأخت، أو أخوان لا ثالث معهما لأمهما، أو أختان كذلك، أو أخ وأخت ليس معهما غيرهما من أمهما فلكل واحد منهما من ميراث أخيهما لأمهما السدس « فإن كانوا أكثر من ذلك » ، يعني: فإن كان الإخوة والأخوات لأم الميت الموروث كلالة أكثرَ من اثنين « فهم شركاء في الثلث » ، يقول: فالثُّلث الذي فرضت لاثنيهم إذا لم يكن غيرهما من أمهما ميراثًا لهما من أخيهما الميت الموروث كلالة، شركة بينهم، إذا كانوا أكثر من اثنين إلى ما بلغ عددهم على عدد رؤوسهم، لا يفضل ذكر منهم على أنثى في ذلك، ولكنه بينهم بالسويَّة.

فإن قال قائل: وكيف قيل: « وله أخ أو أخت » ، ولم يُقَل: « لهما أخ أو أخت » ، وقد ذكر قبل ذلك « رجل أو امرأة » ، فقيل: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ؟ قيل: إن من شأن العرب إذا قدمت ذكر اسمين قبل الخبر، فعطفت أحدهما على الآخر بـ « أو » ، ثم أتت بالخبر، أضافت الخبر إليهما أحيانًا، وأحيانًا إلى أحدهما، وإذا أضافت إلى أحدهما، كان سواء عندها إضافة ذلك إلى أيّ الاسمين اللذين ذكرتهما إضافَته، فتقول: « من كان عنده غلام أو جارية فليحسن إليه » ، يعني: فليحسن إلى الغلام - و « فليحسن إليها » ، يعني: فليحسن إلى الجارية - و « فليحسن إليهما » .

وأما قوله: « فلكل واحد منهما السدس » ، وقد تقدم ذكر الأخ والأخت بعطف أحدهما على الآخر، والدلالة على أن المراد بمعنى الكلام أحدهما في قوله: « وله أخ أو أخت » ، فإن ذلك إنما جاز، لأن معنى الكلام، فلكل واحد من المذكورين السدس.

 

القول في تأويل قوله : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 12 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « من بعد وصيه يوصي بها » ، أي: هذا الذي فرضت لأخي الميت الموروث كلالة وأخته أو إخوته وأخواته من ميراثه وتركته، إنما هو لهم من بعد قضاء دين الميت الذي كان عليه يوم حدث به حَدَثُ الموت من تركته، وبعد إنفاذ وصاياه الجائزة التي يوصي بها في حياته لمن أوصى له بها بعد وفاته، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « من بعد وصية يوصَى بها أو دين » ، والدين أحق ما بدئ به من جميع المال، فيؤدَّي عن أمانة الميت، ثم الوصية، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم.

وأما قوله: « غير مضارّ » ، فإنه يعني تعالى ذكره: من بعد وصية يوصي بها، غيرَ مضَارّ ورثته في ميراثهم عنه، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « غير مضار » ، قال: في ميراث أهله.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « غير مضار » ، قال: في ميراث أهله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « غير مضار وصية من الله » ، وإن الله تبارك وتعالى كره الضرار في الحياة وعند الموت، ونهى عنه، وقدَّم فيه، فلا تصلح مضارَّة في حياة ولا موت.

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا عبيدة بن حميد وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية جميعًا، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية: « غير مضار وصية من الله واللهُ عليم حليم » ، قال: الضرار في الوصية من الكبائر.

حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الضرار في الوصية من الكبائر.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الحيفُ في الوصية من الكبائر.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى قالا حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الضرار والحيف في الوصية من الكبائر.

حدثني موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر قال، حدثنا عمر بن المغيرة قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الضرار في الوصية من الكبائر » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو عمرو التيمي، عن أبي الضحى قال: دخلت مع مسروق على مريض، فإذا هو يوصي قال: فقال له مسروق: أعدل لا تضلل.

ونصبت « غيرَ مضارّ » على الخروج من قوله: « يوصَى بها » .

وأما قوله: « وصية » فإن نصبه من قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ، وسائر ما أوصى به في الاثنين، ثم قال: « وصية من الله » ، مصدرًا من قوله: يُوصِيكُمُ .

وقد قال بعض أهل العربية: ذلك منصوب من قوله: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ « وصية من الله » ، وقال: هو مثل قولك: « لك درهمان نفقةً إلى أهلك » .

قال أبو جعفر: والذي قلناه بالصواب أولى، لأن الله جل ثناؤه افتتح ذكر قسمةِ المواريث في هاتين الآيتين بقوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ ، ثم ختم ذلك بقوله: « وصية من الله » ، أخبر أن جميع ذلك وصية منه به عباده، فنصْبُ قوله: « وصية » على المصدر من قوله: يُوصِيكُمُ ، أولى من نصبه على التفسير من قوله: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ، لما ذكرنا.

ويعني بقوله تعالى ذكره: « وصية من الله » ، عهدًا من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم « والله عليم » ، يقول: والله ذو علم بمصالح خلقه ومضارِّهم، ومن يستحق أن يعطى من أقرباء من مات منكم وأنسبائه من ميراثه، ومن يحرم ذلك منهم، ومبلغ ما يستحق به كل من استحق منهم قسمًا، وغير ذلك من أمور عباده ومصالحهم « حليم » ، يقول: ذو حلم على خلقه، وذو أناة في تركه معاجلتهم بالعقوبة على ظلم بعضهم بعضًا، في إعطائهم الميراث لأهل الجلد والقوة من ولد الميت، وأهل الغناء والبأس منهم، دون أهل الضعف والعجز من صغار ولده وإناثهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 13 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « تلك حدود الله » . فقال بعضهم: يعني به: تلك شروط الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « تلك حدود الله » ، يقول: شروط الله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تلك طاعة الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « تلك حدود الله » ، يعني: طاعة الله، يعني المواريث التي سمَّى الله.

وقال آخرون: معنى ذلك: تلك سنة الله وأمره.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تلك فرائض الله.

وقال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما نحن مبيِّنوه، وهو أن « حدّ » كل شيء: ما فصَل بينه وبين غيره، ولذلك قيل لحدود الدار وحدود الأرضين: « حدود » ، لفصلها بين ما حُدَّ بها وبين غيره.

فكذلك قوله: « تلك حدود الله » ، معناه: هذه القسمة التي قسمها لكم ربكم، والفرائض التي فرضها لأحيائكم من موتاكم في هذه الآية على ما فرض وبيَّن في هاتين الآيتين، « حدود الله » ، يعني: فصول ما بين طاعة الله ومعصيته في قسمكم مواريث موتاكم، كما قال ابن عباس. وإنما ترك « طاعة الله » ، والمعنى بذلك: حدود طاعة الله، اكتفاء بمعرفة المخاطبين بذلك بمعنى الكلام من ذكرها. والدليل على صحة ما قلنا في ذلك قوله: « ومن يطع الله ورسوله » ، والآية التي بعدها: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .

فتأويل الآية إذًا: هذه القسمة التي قسم بينكم، أيها الناس، عليها ربكم مواريثَ موتاكم، فصولٌ فصَل بها لكم بين طاعته ومعصيته، وحدود لكم تنتهون إليها فلا تتعدَّوها، ليعلم منكم أهلَ طاعته من أهل معصيته، فيما أمركم به من قسمة مواريث موتاكم بينكم، وفيما نهاكم عنه منها.

ثم أخبر جل ثناؤه عما أعدَّ لكل فريق منهم فقال لفريق أهل طاعته في ذلك: « ومن يطع الله ورسوله » في العمل بما أمره به، والانتهاء إلى ما حدَّه له في قسمة المواريث وغيرها، ويجتنبْ ما نهاه عنه في ذلك وغيره « يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار » .

فقوله: « يدخله جنات » ، يعني: بساتين تجري من تحت غروسها وأشجارها الأنهار « خالدين فيها » ، يقول: باقين فيها أبدًا لا يموتون فيها ولا يفنون، ولا يُخْرجون منها « وذلك الفوز العظيم » .

يقول: وإدخال الله إياهم الجنانَ التي وصفها على ما وصف من ذلك « الفوز العظيم » ، يعني: الفَلَح العظيم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: « تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله » الآية، قال: في شأن المواريث التي ذكر قبل.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « تلك حدود الله » ، التي حدَّ لخلقه، وفرائضه بينهم من الميراث والقسمة، فانتهوا إليها ولا تعدَّوها إلى غيرها.

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 14 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « ومن يعص الله ورسوله » في العمل بما أمراه به من قسمة المواريث على ما أمراه بقسمة ذلك بينهم وغير ذلك من فرائض الله، مخالفًا أمرهما إلى ما نهياه عنه « ويتعدَّ حدوده » ، يقول: ويتجاوز فصُول طاعته التي جعلها تعالى فاصلة بينها وبين معصيته، إلى ما نهاه عنه من قسمة تركات موتاهم بين ورثتهم وغير ذلك من حدوده « يدخله نارًا خالدًا فيها » ، يقول: باقيًا فيها أبدًا لا يموت ولا يخرج منها أبدًا « وله عذاب مهين » ، يعني: وله عذاب مذِلٌّ من عُذِّب به مُخزٍ له.

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ومن يعص الله ورسولا ويتعد حدوده » ، الآية، في شأن المواريث التي ذكر قبل قال ابن جريج: « ومن يعص الله ورسوله » ، قال: من أصابَ من الذنوب ما يعذب الله عليه.

فإن قال قائل: أوَ مُخَلَّدٌ في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث؟ قيل: نعم، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكًّا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحادَّ الله ورسوله في أمرهما على ما ذكر ابن عباس من قول من قالَ حين نـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ إلى تمام الآيتين: أيُورَّث من لا يركب الفرس ولا يقاتل العدوَّ ولا يحوز الغنيمة، نصفَ المال أو جميع المال؟ استنكارًا منهم قسمةَ الله ما قسم لصغار ولد الميت ونسائه وإناث ولده ممن خالف قسمةَ الله ما قسم من ميراث أهل الميراث بينهم على ما قسمه في كتابه، وخالف حكمه في ذلك وحكم رسوله، استنكارًا منه حكمهما، كما استنكره الذين ذكر أمرَهم ابن عباس ممن كان بين أظهُر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين فيهم نـزلت وفي أشكالهم هذه الآية فهو من أهل الخلود في النار، لأنه باستنكاره حكمَ الله في تلك، يصير بالله كافرًا، ومن ملة الإسلام خارجًا.