القول في تأويل قوله : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « الرجال قوّامون على النساء » ، الرجال أهل قيام على نسائهم، في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم « بما فضّل الله بعضهم على بعض » ، يعني: بما فضّل الله به الرجال على أزواجهم: من سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهنّ. وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهنّ، ولذلك صارُوا قوّامًا عليهن، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن.

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « الرجال قوّامون على النساء » ، يعني: أمرَاء، عليها أن تطيعه فيما أمرَها الله به من طاعته، وطاعته: أن تكون محسنةً إلى أهله، حافظةً لماله. وفضَّله عليها بنفقته وسعيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض » ، يقول: الرجل قائمٌ على المرأة، يأمرها بطاعة الله، فَإن أبت فله أن يضربها ضربًا غير مبرِّح، وله عليها الفضل بنفقته وسعيه.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « الرجال قوامون على النساء » ، قال: يأخذون على أيديهن ويُؤدّبونهن.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول: « بما فضل الله بعضهم على بعض » ، قال: بتفضيل الله الرجال على النساء.

وذُكر أنّ هذه الآية نـزلت في رجل لطم امرأته، فخوصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقضَى لها بالقصاص.

ذكر الخبر بذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا الحسن: أنّ رجلا لطمَ امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يُقِصّها منه، فأنـزل الله: « الرجالُ قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم » ، فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فتلاها عليه، وقال: أردتُ أمرًا وأراد الله غيرَه.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم » ، ذكر لنا أن رجلا لطم امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « الرّجال قوّامون على النساء » ، قال: صك رجل امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يُقِيدَها منه، فأنـزل الله: « الرجال قوامون على النساء » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن جرير بن حازم، عن الحسن: أنّ رجلا من الأنصار لطم امرأته، فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فنـزلت: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [ سورة طه: 114 ] ، ونـزلت: « الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضَهم على بعض » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لطم رجلٌ امرأته، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم القصاص. فبيناهم كذلك، نـزلت الآية.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما « الرجال قوامون على النساء » ، فإن رجلا من الأنصار كان بينه وبين امرأته كلامٌ فلطمها، فانطلق أهلها، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم: « الرجال قوامون على النساء » الآية.

وكان الزهري يقول: ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، سمعت الزهري يقول: لو أن رجلا شَجَّ امرأته أو جَرحها، لم يكن عليه في ذلك قَوَدٌ، وكان عليه العَقل، إلا أن يعدُوَ عليها فيقتلها، فيقتل بها.

وأما قوله: « وبما أنفقوا من أموالهم » ، فإنه يعني: وبما ساقوا إليهن من صداق، وأنفقوا عليهن من نفقة، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: فضله عليها بنفقته وسعيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول: « وبما أنفقوا من أموالهم » ، بما ساقوا من المهر.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: الرجال قوامون على نسائهم، بتفضيل الله إياهم عليهن، وبإنفاقهم عليهنّ من أموالهم.

و « ما » التي في قوله: « بما فضل الله » ، والتي في قوله: « وبما أنفقوا » ، في معنى المصدر.

 

القول في تأويل قوله : فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فالصالحات » ، المستقيمات الدين، العاملات بالخير، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا عبد الله بن المبارك قال، سمعت سفيان يقول: « فالصالحات » ، يعملن بالخير.

وقوله: « قانتات » ، يعني: مطيعات لله ولأزواجهن، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « قانتات » ، قال: مطيعات.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « قانتات » ، قال: مطيعات.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « قانتات » ، مطيعات.

حدثنا الحسن بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « قانتات » ، أي: مطيعات لله ولأزواجهن.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: « مطيعات » .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « القانتات » ، المطيعات.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: « قانتات » ، قال: مطيعات لأزواجهن.

وقد بينا معنى « القنوت » فيما مضى، وأنه الطاعة، ودللنا على صحة ذلك من الشواهد بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: « حافظات للغيب » ، فإنه يعني: حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن، في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهن من حق الله في ذلك وغيره، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « حافظات للغيب » ، يقول: حافظات لما استودعهن الله من حقه، وحافظات لغيب أزواجهن.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « حافظات للغيب بما حفظ الله » ، يقول: تحفظ على زوجها مالَه وفرجَها حتى يرجع، كما أمرَها الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء ما قوله: « حافظات للغيب » ، قال: حافظات للزوج.

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: سألت عطاء عن « حافظات للغيب » ، قال: حافظات للأزواج.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول: « حافظات للغيب » ، حافظات لأزواجهن، لما غاب من شأنهن.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا أبو معشر قال، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرُ النساء امرأةٌ إذا نظرتَ إليها سرَّتك، وإذا أمرَتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك. قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الرجال قوامون على النساء » الآية.

قال أبو جعفر: وهذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدُلّ على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأن معناه: صالحاتٌ في أديانهن، مطيعاتٌ لأزواجهن، حافظات لهم في أنفسهنّ وأموالهم.

وأما قوله: « بما حفظ الله » ، فإن القرأة اختلفت في قراءته.

فقرأته عامة القرأة في جميع أمصار الإسلام: ( بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) ، برفع اسم « الله » ، على معنى: بحفظ الله إياهن إذ صيَّرهن كذلك، كما:-

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج سألت عطاء عن قوله: « بما حفظ الله » ، قال يقول: حفظهن الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: « بما حفظ الله » ، قال: بحفظ الله إياها، أنه جعلها كذلك.

وقرأ ذلك أبو جعفر يَزيد بن القَعْقاع المدني ( بِمَا حَفِظَ اللَّهَ ) يعني: بحفظهنّ الله في طاعته وأداء حقه بما أمرهن من حفظ غَيب أزواجهن، كقول الرجل للرجل: « ما حَفِظتَ اللهَ في كذا وكذا » ، بمعنى: ما راقبته ولا حِفْتَهُ.

قال أبو جعفر: والصوابُ من القراءة في ذلك ما جاءت به قرأة المسلمين من القراءة مجيئًا يقطع عذرَ من بَلغه ويُثبّتُ عليهُ حجته، دون ما انفرد به أبو جعفر فشذّ عنهم. وتلك القراءة ترفع اسم « الله » تبارك وتعالى: ( بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) ، مع صحة ذلك في العربية وكلام العرب، وقُبح نصبه في العربية، لخروجه عن المعروف من منطق العرب.

وذلك أن العربَ لا تحذف الفاعلَ مع المصادر، من أجل أنّ الفاعل إذا حذف معها لم يكن للفعل صاحبٌ معروف.

وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه من ذكره، ومعناه: فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، فاحسِنوا إليهن وأصلحوا.

وكذلك هو فيما ذكر في قراءة ابن مسعود.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثنا عيسى الأعمى، عن طلحة بن مصرف قال: في قراءة عبد الله: ( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن واللاتي تخافون نشوزهن ) .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل. قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) ، فأحسنوا إليهنّ.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله » ، فأصلِحوا إليهن.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله » ، يعني: إذا كن هكذا، فأصلحوا إليهنّ.

 

القول في تأويل قوله : وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ

اختلف أهلُ التأويل في معنى قوله: « واللاتي تخافونُ نشوزهن » .

فقال بعضهم: معناه: واللاتي تعلمون نشوزهن. ووجه صرف « الخوف » ، في هذا الموضع، إلى « العلم » ، في قول هؤلاء، نظيرُ صرف « الظن » إلى « العلم » ، لتقارب معنييهما، إذ كان « الظن » ، شكًّا، وكان « الخوفُ » مقرونًا برَجاء، وكانا جميعًا من فعل المرء بقلبه كما قال الشاعر:

وَلا تَــدْفِنَنَّي فِــي الْفَــلاةِ فَـإِنَّني أَخَـافُ إذَا مَـا مِـتُّّ أَنْ لا أَذُوقُهَـا

معناه: فإنني أعلم، وكما قال الآخر:

أَتَــانِي كَـلامٌ عَـنْ نُصَيْـبٍ يَقُوُلُـهُ وَمَـا خِـفْتُ, يَـا سَـلامُ أَنَّـكَ عَائِبي

بمعنى: وما ظننتُ.

وقال جماعة من أهل التأويل: معنى « الخوف » في هذا الموضع: الخوف الذي هو خلاف « الرجاء » . قالوا: معنى ذلك: إذا رأيتم منهن ما تخافون أن ينشزن عليكم، من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه، ويَدخُلن ويخرجن، واسترْبتم بأمرهن، فعِظُوهن واهجروهنّ. وممن قال ذلك محمد بن كعب.

وأما قوله: « نشوزهن » ، فإنه يعني: استعلاءَهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فُرُشهم بالمعصية منهن، والخلاف عليهم فيما لزمهنّ طاعتهم فيه، بغضًا منهن وإعراضًا عنهم.

وأصل « النشوز » الارتفاع. ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض: « نَشْز » و « نَشَاز » .

« فعظوهن » ، يقول: ذكّروهن الله، وخوِّفوهن وعيدَه، في ركوبها ما حرّم الله عليها من معصية زوجها فيما أوجب عليها طاعته فيه.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال: « النشوز » ، البغضُ ومعصيةُ الزوج.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « واللاتي تخافون نشوزهن » ، قال: بغضهن.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « واللاتي تخافون نشوزهن » ، قال: التي تخاف معصيتها. قال: « النشوز » ، معصيته وخِلافه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « واللاتي تخافون نشوزهن » ، تلك المرأة تنشز، وتستخفّ بحق زوجها ولا تطيع أمره.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا روح قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: « النشوز » ، أن تحبَّ فراقَه، والرجلُ كذلك.

ذكر الرواية عمن قال ما قلنا في قوله: « فعظوهن » .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « فعظوهن » ، يعني: عظوهن بكتاب الله. قال: أمره الله إذا نشزت أن يعظَها ويذكّرها الله، ويعظِّم حقّه عليها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن » ، قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها يقول لها: « اتقي الله وارجعي إلى فراشك » ! فإن أطاعته، فلا سبيلَ له عليها.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: إذا نشزت المرأة على زوجها فليعظْها بلسانه. يقول: يأمرها بتقوى الله وطاعته.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا رأى الرجل خِفّةً في بَصرها، ومدخلَها ومخرجَها. قال يقول لها بلسانه: « قد رأيت منك كذا وكذا، فانتَهِي » ! فإن أعْتَبت، فلا سبيل له عليها. وإن أبت، هَجر مَضجعها.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « فعظوهن » ، قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها، فإنه يقول لها: « اتقي الله وارجعي » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء: « فعظوهن » ، قال: بالكلام.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: « فعظوهن » ، قال: بالألسنة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: « فعظوهن » قال: عظُوهن باللسان.

 

القول في تأويل قوله : وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: فعظوهن في نشوزهن عليكم، أيها الأزواج، فإن أبينَ مراجعة الحقّ في ذلك والواجب عليهن لكم، فاهجروهن بترك جماعهنَ في مضاجعتكم إياهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « فعظوهن واهجروهن في المضاجع » ، يعني: عظوهن، فإن أطعنكم، وإلا فاهجروهنّ.

حدثني محمد بن مسعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « واهجروهن في المضاجع » ، يعني بالهجران: أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: الهجر هجرُ الجماع.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ، فإن على زوجها أن يعظها، فإن لم تقبل فليهجرها في المضجع. يقول: يرقدُ عندها ويولِّيها ظهره ويطؤُها ولا يكلمها هكذا في كتابي: « ويطؤها ولا يكلِّمها » .

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « واهجروهن في المضاجع » ، قال: يضاجعها، ويهجر كلامها، ويولِّيها ظهره.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « واهجروهن في المضاجع » ، قال: لا يجامعها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: واهجروا كلامَهن في تركهن مضاجعتكم، حتى يرجعن إلى مضاجعتكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله: « واهجروهن في المضاجع » ، أنها لا تترك في الكلام، ولكن الهِجران في أمر المضجع.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: « واهجروهن في المضاجع » ، يقول: حتى يأتين مضاجعكم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: « واهجروهن في المضاجع » ، في الجماع.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « واهجروهن في المضاجع » ، قال: يعظها فإن هي قبلت، وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها من غير أن يَذَر نكاحها، وذلك عليها شديدٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة: « واهجروهن في المضاجع » ، الكلامَ والحديثَ.

[ وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تقربوهن في فرشهن، حتى يرجعن إلى ما تحبّون ] .

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسن بن زُرَيق الطهوي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن منصور، عن مجاهد في قوله: « واهجروهن في المضاجع » ، قال: لا تضاجعوهن.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: الهجران أن لا يضاجعها.

وبه قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر وإبراهيم قالا الهجران في المضجع، أن لا يضاجعها على فراش.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا في قوله: « واهجروهن في المضاجع » ، قالا يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يحبّ.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي أنهما كانا يقولان: « واهجروهن في المضاجع » ، قالا يهجرُها في المضجع.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مقسم: « واهجروهن في المضاجع » ، قال: هجرها في مضجعها: أن لا يقرب فراشَها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: « واهجروهن في المضاجع » ، قال: يعظها بلسانه، فإن أعتبت فلا سبيل له عليها، وإن أبتْ هجر مضجعها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: « فعظوهن واهجروهن » ، قالا إذا خاف نشوزَها وعظها. فإن قبلتْ، وإلا هجر مضجعها.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « واهجروهن في المضاجع » ، قال: تبدأ يا ابن آدم، فتعظها، فإن أبت عليك فاهجرها يعني به: فراشَها.

وقال آخرون: معنى قوله: « واهجروهن في المضاجع » ، قولوا لهن من القول هُجْرًا في تركهنّ مضاجعتكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: « واهجروهن في المضاجع » ، قال: يهجرها بلسانه، ويُغْلظ لها بالقول، ولا يدع جماعها.

وبه قال، أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن عكرمة قال: إنما الهجران بالمنطق: أنْ يغلظ لها، وليس بالجماع.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن أبي الضحى في قوله: « واهجروهن في المضاجع » ، قال: يهجر بالقول، ولا يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يريد.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن رجل عن الحسن قال: لا يهجرها إلا في المبيت، في المضجع. ليس له أن يهجر في كلام ولا شيء إلا في الفراش.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يعلى، عن سفيان في قوله: « واهجروهن في المضاجع » ، قال: في مجامعتها، ولكن يقول لها: « تعالَىْ، وافعلي » ، كلامًا فيه غلظة. فإذا فعلتْ ذلك، فلا يكلِّفْها أن تحبه، فإن قلبها ليس في يديها.

قال أبو جعفر: ولا معنى ل « الهجر » في كلام العرب إلا على أحد ثلاثة أوجه.

أحدها: « هجر الرجل كلام الرجل وحديثه » ، وذلك رفضه وتركه، يقال منه: « هَجر فلان أهله يهجرُها هجرًا وهجرانًا » .

والآخر: الإكثار من الكلام بترديد كهيئة كلام الهازئ، يقال منه: « هجر فلانٌ في كلامه يَهْجُر هَجْرًا » ، إذا هذَى ومدّد الكلمة « وما زالت تلك هِجِّيراه، وإهْجِيرَاه » ، ومنه قول ذي الرمة:

رَمَــى فَأَخْطَــأَ, وَالأقْـدَارُ غَالِبَـةٌ فَـانْصَعْنَ وَالْـوَيْلُ هِجِّـيرَاهُ وَالْحَرَبُ

والثالث: « هَجَر البعير » ، إذا ربطه صاحبه بـ « الهِجَار » ، وهو حبل يُربط في حَقْويها ورُسغها، ومنه قول امرئ القيس:

رَأَتْ هَلَكًـــا بِنِجَـــافِ الْغَبِيــطِ فَكَــادَتْ تَجُــدُّ لِــذَاكَ الْهِجَــارَا

فأما القول الذي فيه الغلظة والأذى، فإنما هو « الإهجار » ، ويقال منه: « أهجر فلان في منطقه » إذا قال « الهُجْر » ، وهو الفحش من الكلام « يُهْجر إهجارًا وهُجرًا » .

فإذ كان لا وجه لـ « الهَجْر » في الكلام إلا أحد المعاني الثلاثة وكانت المرأة المخوف نشوزُها، إنما أمر زوجها بوعظها لتنيب إلى طاعته فيما يجب عليها له من موافاته عند دعائه إياها إلى فراشه فغير جائز أن تكون عظته لذلك حتى تفيء المرأة إلى أمر الله وطاعة زوجها في ذلك، ثم يكون الزوج مأمورًا بهجرها في الأمر الذي كانت عظته إياها عليه.

وإذ كان ذلك كذلك، بطلَ قولُ من قال: « معنى قوله: » واهجروهن في المضاجع، واهجروا جماعهن « . »

أو يكون - إذ بطل هذا المعنى - بمعنى واهجروا كلامهن بسبب هجرهنّ مضاجعكم. وذلك أيضًا لا وجه له مفهومٌ. لأن الله تعالى ذكره قد أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: أنه لا يَحِل لمسلم أن يهجر أخاه فَوْقَ ثلاث. على أن ذلك لو كان حلالا لم يكن لهجرها في الكلام معنًى مفهوم. لأنها إذا كانت عنه منصرفةً وعليه ناشزًا، فمن سُرورها أن لا يكلمها ولا يَرَاها ولا تراه، فكيف يُؤْمر الرجل في حال بُغض امرأته إياه، وانصرافها عنه بترك ما في تركه سُرُورها، من ترك جماعها ومحادثتها وتكليمها؟ وهو يؤمر بضربها لترتدع عما هي عليه من ترك طاعته، إذا دعاها إلى فراشه، وغير ذلك مما يلزمها طاعته فيه. أو يكون - إذ فسد هذان الوجهان - يكون معناه واهجروا في قولكم لهنّ، بمعنى: ردّدوا عليهن كلامكم إذا كلمتموهن، بالتغليظ لهن. فإن كان ذلك معناه، فلا وجه لإعمال « الهجر » في كناية أسماء النساء الناشزات أعني في « الهاء والنون » من قوله: « واهجروهن » . لأنه إذا أريد به ذلك المعنى، كان الفعل غير واقع، إنما يقال: « هَجَر فلان في كلامه » ولا يقال: « هجر فلان فلانًا » .

فإذ كان في كلّ هذه المعاني ما ذكرنا من الخلل اللاحق، فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يكون قوله: « واهجروهن » ، موجَّهًا معناه إلى معنى الرّبط بالهجار، على ما ذكرنا من قيل العرب للبعير إذا ربطه صاحبه بحبل على ما وصفنا: « هَجَره فهو يهجره هجْرًا » .

وإذا كان ذلك معناه كان تأويل الكلام: واللاتي تخافون نشوزَهن فعظوهن في نشوزهن عليكم. فإن اتعظن فلا سبيل لكم عليهنّ، وإن أبين الأوْبة من نشوزهن فاستوثقوا منهنّ رباطًا في مضاجعهن يعني: في منازلهن وبُيوتهن التي يضطجعن فيها ويُضاجعن فيها أزواجهنّ، كما:-

حدثني عباس بن أبي طالب قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن شبل قال، سمعت أبا قزعة يحدث، عن عمرو بن دينار، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: يطعمها، ويكسوها، ولا يضرب الوجه، ولا يقبِّح، ولا يهجر إلا في البيت.

حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي قزعة، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نَحوه.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا بهز بن حكيم، عن جده قال، قلت: يا رسول الله، نساؤنا، ما نأتي منها وما نذر؟ قال: حرثُك، فأت حرثك أنَّى شئت، غير أن لا تضرب الوجهَ، ولا تقبِّح، ولا تَهجر إلا في البيت، وأطعم إذا طَعِمت، واكْس إذا اكتسيتَ، كيفَ وقد أفضى بعضكم إلا بعض؟ إلا بما حَلّ عليها.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال عدّة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الحسن قال: إذا نشزت المرأة على زوجها فليعظها بلسانه، فإن قبلت فذاك، وإلا ضَربها ضربًا غير مبرّح. فإن رجعت، فذاك، وإلا فقد حَلّ له أن يأخذ منها ويُخَلِّيها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله: « واهجروهن في المضاجع واضربوهن » ، قال: يفعل بها ذاك، ويضربها حتى تطيعه في المضاجع، فإذا أطاعته في المضجع، فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول في قوله: « واهجروهن في المضاجع واضربوهن » ضربًا غير مبرح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اضربوهن إذا عصينكم في المعروف ضربًا غير مبرّح.

قال أبو جعفر: فكلّ هؤلاء الذين ذكرنا قولهم: لم يوجبوا للهجر معنى غير الضرب. ولم يوجبوا هجرًا إذا كان هيئة من الهيئات التي تكون بها المضروبة عند الضرب، مع دلالة الخبر الذي رواه عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بضربهن إذا عصين أزواجهن في المعروف، من غير أمر منه أزواجهن بهجرهن لما وصفنا من العلة.

قال أبو جعفر: فإن ظنّ ظانٌّ أن الذي قلنا في تأويل الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عكرمة، ليس كما قلنا، وصحّ أن تركَ النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ الرجل بهجر زوجته إذا عصته في المعروف وأمره بضربها قبل الهجر، لو كان دليلا على صحة ما قلنا من أنّ معنى « الهجر » هو ما بيناه لوجب أن يكون لا معنى لأمر الله زوجَها أن يَعِظها إذا هي نشزت، إذ كان لا ذِكر للعظة في خبر عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم

فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: « إذا عصينكم في المعروف » ، دلالة بينة أنه لم يٌبح للرجل ضرب زوجته، إلا بعد عظتها من نشوزها. وذلك أنه لا تكون لهُ عاصية، إلا وقد تقدّم منه لها أمرٌ أو عِظَة بالمعروف على ما أمرَ الله به.

 

القول في تأويل قوله : وَاضْرِبُوهُنَّ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فعظوهن، أيها الرجال، في نشوزهن، فإن أبينَ الإياب إلى ما يلزمهن لكم، فشدّوهن وثاقًا في منازلهن، واضربوهن ليؤبن إلى الواجب عليهن من طاعته الله في اللازم لهنّ من حقوقكم.

وقال أهل التأويل: صفة الضرب التي أباح الله لزوج الناشز أن يضربها: الضربُ غيرُ المبرِّح.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: « واضربوهن » ، قال: ضربًا غير مبرح.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، أخبرنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: الضرب غير مبرّح.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « واضربوهن » ، قال: ضربًا غير مبرح.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « واهجروهن في المضاجع واضربوهن » ، قال: تهجرها في المضجع، فإن أقبلت، وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربًا غير مبرح، ولا تكسر لها عظمًا. فإن أقبلت، وإلا فقد حَلّ لك منها الفدية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: « واضربوهن » ، قال: ضربًا غير مبرح.

وبه قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: « واضربوهن » ؟ قال: ضربًا غير مبرح.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « واهجروهن في المضاجع واضربوهن » ، قال: تهجرها في المضجع. فإن أبت عليك، فاضربها ضربًا غير مبرح أي: غير شائن.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرّح؟ قال: السواك وشبهه، يضربها به.

حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء قال، قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته: « ضربًا غير مبرح » ، قال: السواك ونحوه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تهجروا النساء إلا في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح يقول: غير مؤثّر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء: « واضربوهن » ، قال: ضربًا غير مبرح.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا يحيى بن بشر، عن عكرمة مثله.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « واضربوهن » ، قال: إن أقبلت في الهجران، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال: تهجر مضجعها ما رأيتَ أن تنـزع. فإن لم تنـزع، ضربها ضربًا غير مبرح.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن: « واضربوهن » ، قال: ضربًا غير مبرح.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا عبد الوارث بن سعيد، عن رجل، عن الحسن قال: ضربًا غير مبرح، غير مؤثر.

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أطعنكم، أيها الناس، نساؤكم اللاتي تخافون نشوزهن عند وعظكم إياهن، فلا تهجروهن في المضاجع. فإن لم يطعنكم، فاهجروهن في المضاجع واضربوهن. فإن راجعنَ طاعتكم عند ذلك وفِئْنَ إلى الواجب عليهن، فلا تطلبوا طريقًا إلى أذاهن ومكروههن، ولا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل. وذلك أن يقول أحدكم لإحداهن وهي له مطيعة: « إنك لست تحبّيني، وأنت لي مبغضة » ، فيضربها على ذلك أو يُؤذيها. فقال الله تعالى للرجال: « فإن أطعنكم » أي: على بغضهنّ لكم فلا تجنَّوا عليهن، ولا تكلفوهن محبتكم، فإنّ ذلك ليس بأيديهن، فتضربوهن أو تؤذوهن عليه.

ومعنى قوله: « فلا تبغوا » ، لا تلتمسوا ولا تطلبوا، من قول القائل: « بغَيتُ الضالة » ، إذا التمستها، ومنه قول الشاعر في صفة الموت:

بَغَــاكَ وَمَـا تَبْغِيِـهِ, حَـتَّى وَجَدْتَـهُ كَــأَنَّكَ قَــدْ وَاعَدْتَـهُ أَمْسِ مَوْعِـدَا

بمعنى: طلبك وما تطلبه.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: « فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا » ، قال: إذا أطاعتك فلا تتجنَّ عليها العلل.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال، إذا أطاعته، فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قوله: « فلا تبغوا عليهن سبيلا » ، قال: العلل.

وقال أخبرنا عبد الرزاق قال: قال الثوري في قوله: « فإن أطعنكم » قال: إن أتت الفراش وهي تبغضه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى، عن سفيان قال: إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه، لأن قلبها ليس في يديها.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إن أطاعته فضاجعته، فإن الله يقول: « فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا » ، يقول: فإن أطاعتك، فلا تبغ عليها العلل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ( 34 )

قال أبو جعفر يقول: إن الله ذو علوّ على كل شيء، فلا تبغوا، أيها الناس، على أزواجكم إذا أطعنكم فيما ألزمهن الله لكم من حق سبيلا لعلوِّ أيديكم على أيديهن، فإنّ الله أعلى منكم ومن كل شيء عليكم، منكم عليهن وأكبر منكم ومن كل شيء، وأنتم في يده وقبضته، فاتقوا الله أن تظلموهن وتبغوا عليهن سبيلا. وهن لكم مطيعات، فينتصر لهن منكم ربُّكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء، وأكبر منكم ومن كل شيء.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه « وإن خفتم شقاق بينهما » ، وإن علمتم أيها الناس « شقاق بينهما » ، وذلك مشاقة كل واحد منهما صاحبه، وهو إتيانه ما يشق عليه من الأمور. فأما من المرأة، فالنشوز وتركها أداء حق الله عليها الذي ألزمها الله لزوجها. وأما من الزوج، فتركُه إمساكها بالمعروف أو تسريحها بإحسان.

و « الشقاق » مصدر من قول القائل: « شاقَّ فلان فلانًا » إذا أتى كل واحد منهما إلى صاحبه ما يشق عليه من الأمور « فهو يُشاقُّه مشاقَّة وشقاقًا » ، وذلك قد يكون عداوة، كما:-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: « وإن خفتم شقاق بينهما » ، قال: إن ضربها فأبت أن ترجع وشاقَّته يقول: عادته.

وإنما أضيف « الشقاق » إلى « البين » ، لأن « البين » قد يكون اسمًا، كما قال جل ثناؤه: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [ سورة الأنعام: 94 ] ، في قراءة من قرأ ذلك.

وأما قوله: « فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المخاطبين بهذه الآية: مَنِ المأمور ببعثة الحكمين؟

فقال بعضهم: المأمور بذلك: السلطانُ الذي يرفع ذلك إليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير: أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها. فإن انتهت، وإلا ضربها. فإن انتهت، وإلا رفع أمرَها إلى السلطان، فيبعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها: « يفعل بها كذا » ، ويقول الحكم الذي من أهله: « تفعل به كذا » . فأيهما كان الظالم ردَّه السلطان وأخذ فوق يديه، وإن كانت ناشزًا أمره أن يَخْلع.

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: « وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » ، قال: بل ذلك إلى السلطان.

وقال آخرون: بل المأمور بذلك: الرجل والمرأة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » ، إن ضربها. فإن رجعت، فإنه ليس له عليها سبيل. فإن أبت أن ترجع وشاقّته، فليبعث حكمًا من أهله، وتبعث حكمًا من أهلها.

ثم اختلف أهل التأويل فيما يُبعث له الحكمان، وما الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما، وكيف وَجْهُ بَعْثهِما بينهما؟

فقال بعضهم: يبعثهما الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما. وليس لهما أن يعملا شيئًا في أمرهما إلا ما وكَّلاهما به، أو وكله كل واحد منهما بما إليه، فيعملان بما وكلهما به مَن وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه، أو توكيل من وُكل منهما في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة قال: جاء رجل وامرأته بينهما شقاقٌ إلى علي رضي الله عنه، مع كل واحد منهما فِئام من الناس، فقال علي رضي الله عنه: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها. ثم قال للحكمين: تدرِيان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرِّقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله، بما عليَّ فيه ولي. قال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي رضي الله عنه: كذبتَ والله، لا تنقلب حتى تقرَّ بمثل الذي أقرَّت به.

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا هشام بن حسان وعبد الله بن عون، عن محمد: أن عليَّا رضي الله عنه أتاه رجل وامرأته، ومع كل واحد منهما فئام من الناس. فأمرهما علي رضي الله عنه أن يبعثا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، لينظرا. فلما دنا منه الحكمان، قال لهما علي رضي الله عنه: أتدريان ما لكما؟ لكما إن رأيتما أن تفرّقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما قال هشام في حديثه: فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعليّ، فقال الرجل: أما الفرقة فلا! فقال عليّ: كذبتَ والله، حتى ترضى مثل ما رضيت به وقال ابن عون في حديثه: كذبتَ والله، لا تبرَحُ حتى ترضى بمثل ما رضيت به.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: شهدت عليًّا رضي الله عنه، فذكر مثله.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: إذا هجرها في المضجع وضربها، فأبت أن ترجع وشاقّته، فليبعث حكمًا من أهله وتبعث حكمًا من أهلها. تقول المرأة لحكمها: « قد وليتك أمري، فإن أمرتني أن أرجعَ رجعت، وإن فرَّقت تفرقنا » ، وتخبره بأمرها إن كانت تريد نفقة أو كرهت شيئًا من الأشياء، وتأمره أن يرفع ذلك عنها وترجع، أو تخبره أنها لا تريد الطلاق، ويبعث الرجل حكمًا من أهله يوليه أمره، ويخبره يقول له حاجته: إن كان يريدها أو لا يريد أن يطلقها، أعطاها ما سألت وزادها في النفقة، وإلا قال له: « خذ لي منها ما لها علي، وطلقها » ، فيوليه أمره، فإن شاء طلق، وإن شاء أمسك. ثم يجتمع الحكمان، فيخبر كل واحد منهما ما يريد لصاحبه، ويجهد كل واحد منهما ما يريد لصاحبه. فإن اتفق الحكمان على شيء فهو جائز، إن طلَّقا وإن أمسكا. فهو قول الله: « فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما » . فإن بعثت المرأة حكمًا وأبى الرجل أن يبعث، فإنه لا يقربها حتى يبعث حكمًا.

وقال آخرون: إن الذي يبعث الحكمين هو السلطان، غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما، ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قِبَل صاحبه، لا التفريق بينهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن وهو قول قتادة أنهما قالا إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه. وأما الفرقة، فليست في أيديهما ولم يملَّكا ذلك يعني: « وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » ، الآية، إنما يبعث الحكمان ليصلحا. فإن أعياهما أن يصلحا، شهدا على الظالم بظلمه، وليس بأيديهما فرقة، ولا يملَّكان ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد قال: وسألت عن الحكمين، قال: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فما حكم الحكمان من شيء فهو جائزٌ، يقول الله تبارك وتعالى: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا . قال: يخلو حكم الرجل بالزوج، وحكم المرأة بالمرأة، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: « اصدقني ما في نفسك » . فإذا صَدق كل واحد منهما صاحبه، اجتمع الحكمان، وأخذ كل واحد منهما على صاحبه ميثاقًا: « لتصدقني الذي قال لك صاحبك، ولأصدقنك الذي قال لي صاحبي » ، فذاك حين أرادا الإصلاح، يوفق الله بينهما. فإذا فعلا ذلك، اطَّلع كل واحد منهما على ما أفضى به صاحبه إليه، فيعرفان عند ذلك من الظالم والناشز منهما، فأتيا عليه فحكما عليه. فإن كانت المرأة قالا « أنت الظالمة العاصية، لا ينفق عليك حتى ترجعي إلى الحق وتطيعي الله فيه » . وإن كان الرجل هو الظالم قالا « أنت الظالم المضارّ، لا تدخل لها بيتًا حتى تنفق عليها وترجع إلى الحق والعدل » . فإن أبت ذلك كانت هي الظالمةَ العاصيةَ، وأخذ منها ما لها، وهو له حلال طيب. وإن كان هو الظالمَ المسيءَ إليها المضارَّ لها طلقها، ولم يحلّ له من مالها شيء. فإن أمسكها، أمسكها بما أمر الله، وأنفق عليها وأحسن إليها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يبعث الحكمين، حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها. فيقول الحكم من أهلها: « يا فلان، ما تنقِم من زوجتك » ؟ فيقول: « أنقِم منها كذا وكذا » . قال فيقول: « أفرأيت إن نـزعَت عما تكره إلى ما تحب، هل أنت مُتقي الله فيها، ومعاشرها بالذي يحق عليك في نفقتها وكسوتها » ؟ فإذا قال: « نعم » ، قال الحكم من أهله: « يا فلانة ما تنقمين من زوجك فلان » ؟ فيقول مثل ذلك، فإن قالت: « نعم » ، جمع بينهما. قال: وقال علي رضي الله عنه: الحكمان، بهما يجمع الله وبهما يفرِّق.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن: الحكمان يحكمان في الاجتماع، ولا يحكمان في الفُرقة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ ، وهي المرأة التي تنشز على زوجها، فلزوجها أن يخلعها حين يأمر الحكمان بذلك، وهو بعد ما تقول لزوحها: « والله لا أُبرُّ لك قسمًا ولآذنَنَّ في بيتك بغير أمرك » ! ويقول السلطان: « لا نجيز لك خلعًا » حتى تقول المرأة لزوجها: « والله لا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم لك صلاة » ! فعند ذلك يقول السلطان: « اخلع المرأة » !

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن » ، قال: تعظها، فإن أبت وغَلبت، فاهجرها في مضجعها. فإن غلبت هذا أيضًا، فاضربها. فإن غلبت هذا أيضًا، بُعث حكم من أهله وحكم من أهلها. فإن غلبت هذا أيضًا وأرادت غيره، فإنَّ أبِي قال أو: كان أبي يقول ليس بيد الحكمين من الفرقة شيء، إن رأيا الظلم من ناحية الزوج قالا « أنت يا فلان ظالم، انـزع » ! فإن أبى، رفعا ذلك إلى السلطان. ليس إلى الحكمين من الفراق شيء.

وقال آخرون: بل إنما يبعث الحكمين السلطانُ، على أن حكمهما ماضٍ على الزوجين في الجمع والتفريق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » ، فهذا الرجل والمرأة، إذا تفاسد الذي بينهما، فأمر الله سبحانه أن يبعثوا رجلا صالحًا من أهل الرجل، ومثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء. فإن كان الرجل هو المسيء، حَجَبوا عنه امرأته وقَصَروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة، قصروها على زوجها، ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرّقا أو يجمعا، فأمرهما جائز. فإن رأيا أن يجمعا، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر، ثم ماتَ أحدهما، فإنّ الذي رضي يَرِث الذي كره، ولا يرث الكارهُ الراضيَ، وذلك قوله: « إن يريدا إصلاحًا » ، قال: هما الحكمان « يوفق الله بينهما » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين: أن الحكم من أهلها والحكم من أهله، يفرِّقان ويجمعان إذا رأيا ذلك « فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » .

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فقال: لم أولد إذ ذاك! فقلت: إنما أعني حَكم الشقاق. قال: يقبلان على الذي جاء التداري من عنده. فإن فعل، وإلا أقبلا على الآخر. فإن فعل، وإلا حكما. فما حكما من شيء فهو جائز.

حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر في قوله: « فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » ، قال: ما قضى الحكمان من شيء فهو جائز.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن داود، عن إبراهيم قال: ما حكما من شيء فهو جائز. إن فرّقا بينهما بثلاث تطليقات أو تطليقتين، فهو جائز. وإن فرقا بتطليقة فهو جائز. وإن حكما عليه بجزاء بهذا من ماله، فهو جائز: فإن أصلحا فهو جائز. وإن وضَعا من شيء فهو جائز.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا أبو جعفر، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: « وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » ، قال: ما صنع الحكمان من شيء فهو جائز عليهما. إن طلقا ثلاثا فهو جائز عليهما. وإن طلقا واحدة وطلقاها على جُعْل، فهو جائز، وما صنعا من شيء فهو جائز.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: إن شاء الحكمان أن يفرقا فرّقا. وإن شاءا أن يجمعا جمعَا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم، عن حصين، عن الشعبي: أن امرأة نشزت على زوجها، فاختصموا إلى شريح، فقال شريح: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها. فنظر الحكمان في أمرهما، فرأيا أن يفرِّقا بينهما، فكره ذلك الرجل، فقال شريح: ففيم كانا اليوم؟ وأجاز قولهما.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين قال معمر: بلغني أن عثمان رضي الله عنه بعثهما، وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرِّقا فرقتما.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا ابن جريج قال، حدثني ابن أبي مليكة: أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة ابنة عتبة، فكان بينهما كلام. فجاءت عثمان فذكرت ذلك له، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرقنَّ بينهما! وقال معاوية: ما كنت لأفرّق بين شيخين من بني عبد مناف! فأتياهما وقد اصطلحا. .

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » ، يكونان عَدْلين عليهما وشاهدين. وذلك إذا تدارأ الرجل والمرأة وتنازعا إلى السلطان، جعل عليهما حكمين: حكمًا من أهل الرجل، وحكمًا من أهل المرأة، يكونان أمينين عليهما جميعًا، وينظران مِن أيهما يكون الفساد. فإن كان من قبل المرأة، أجبرت على طاعة زوجها، وأمِرَ أن يتقي الله ويحسن صحبتها، وينفق عليها بقدر ما آتاه الله، إمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان. وإن كانت الإساءة من قبل الرجل، أُمر بالإحسان إليها، فإن لم يفعل قيل له: « أعطها حقها وخَلِّ سبيلها » . وإنما يلي ذلك منهما السلطان.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله: « فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » ، أن الله خاطب المسلمين بذلك، وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشِّقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما، ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض. وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين، وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين، أو من أقامه في ذلك مقام نفسه.

واختلفوا في الزوجين والسلطان، ومن المأمورُ بالبعثة في ذلك: الزوجان، أو السلطان؟ ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين، ولا أثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمة فيه مختلفة.

وإذْ كان الأمر على ما وصفنا، فأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يكون مخصوصًا من الآية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها. وإذْ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن قد شمله حكم الآية، والأمر بقوله: « فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها » ، إذْ كان مختلفًا بينهما: هل هما معنيِّان بالأمر بذلك أم لا؟ وكان ظاهر الآية قد عمهما فالواجبُ من القول، إذ كان صحيحًا ما وصفنا، صحيحًا أن يقال إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكمًا من قبله لينظر في أمرهما، وكان كل واحد منهما قد بعثه من قبله في ذلك، لما لَه على صاحبه ولصاحبه عليه، فتوكيله بذلك من وكِّل جائز له وعليه.

وإن وكَّله ببعض ولم يوكله بالجميع، كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيًا جائزًا على ما وكله به. وذلك أن يوكله أحدهما بما له دون ما عليه.

وإن لم يوكل كل واحد من الزوجين بما له وعليه، أو بما له، أو بما عليه، إلا الحكمين كليهما، [ لم يجز ] إلا ما اجتمعا عليه، دون ما انفرد به أحدهما.

وإن لم يوكلهما واحد منهما بشيء، وإنما بعثاهما للنظر بينهما ، ليعرفا الظالم من المظلوم منهما، ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما لم يكن لهما أن يُحدثا بينهما شيئًا غير ذلك من طلاق، أو أخذ مال، أو غير ذلك، ولم يلزم الزوجين ولا واحدًا منهما شيء من ذلك.

فإن قال قائل: وما معنى الحكمين، إذ كان الأمر على ما وصفت؟

قيل: قد اختلف في ذلك.

فقال بعضهم: معنى « الحكم » ، النظرُ العدلُ، كما قال الضحاك بن مزاحم في الخبر الذي ذكرناه، الذي:-

حدثنا به يحيى بن أبي طالب، عن يزيد، عن جويبر عنه: لا أنتما قاضيان تقضيان بينهما

على السبيل التي بيَّنَّا من قوله.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنهما القاضيان، يقضيان بينهما ما فوَّض إليهما الزوجان.

قال أبو جعفر: وأي الأمرين كان، فليس لهما، ولا لواحد منهما، الحكم بينهما بالفرقة، ولا بأخذ مال إلا برضى المحكوم عليه بذلك، وإلا ما لزم من حق لأحد الزوجين على الآخر في حكم الله، وذلك ما لزم الرجلَ لزوجته من النفقة والإمساك بمعروف، إن كان هو الظالم لها.

فأما غير ذلك، فليس ذلك لهما، ولا لأحد من الناس غيرهما، لا السلطان ولا غيره. وذلك أن الزوج إن كان هو الظالمَ للمرأة، فللإمام السبيلُ إلى أخذه بما يجب لها عليه من حق. وإن كانت المرأة هي الظالمةَ زوجها الناشزةَ عليه، فقد أباح الله له أخذَ الفدية منها، وجعل إليه طلاقها، على ما قد بيناه في « سورة البقرة » .

وإذْ كان الأمرُ كذلك، لم يكن لأحدٍ الفرقةُ بين رجل وامرأة بغير رضى الزوج، ولا أخذُ مال من المرأة بغير رضاها بإعطائه، إلا بحجة يجب التسليم لها من أصل أو قياس.

وإن بعث الحكمين السلطانُ، فلا يجوز لهما أن يحكما بين الزوجين بفرقة إلا بتوكيل الزوج إياهما بذلك، ولا لهما أن يحكما بأخذ مال من المرأة إلا برضى المرأة. يدل على ذلك ما قد بيناه قبلُ من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك، والقائلين بقوله. ولكن لهما أن يصلحا بين الزوجين، ويتعرفا الظالم منهما من المظلوم، ليشهدا عليه إن احتاج المظلوم منهما إلى شهادتهما.

وإنما قلنا: « ليس لهما التفريق » ، للعلة التي ذكرناها آنفًا. وإنما يبعث السلطانُ الحكمين إذا بعثهما، إذا ارتفع إليه الزوجان، فشكا كل واحد منهما صاحبه، وأشكلَ عليه المحقّ منهما من المبطل. لأنه إذا لم يشكل المحق من المبطل، فلا وجه لبعثه الحكمين في أمر قد عرف الحكم فيه.

 

القول في تأويل قوله : إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « إن يريدا إصلاحًا » ، إن يرد الحكمان إصلاحًا بين الرجل والمرأة أعني: بين الزوجين المخوف شقاقُ بينهما يقول: « يوفق الله » بين الحكمين فيتفقا على الإصلاح بينهما. وذلك إذا صدق كل واحد منهما فيما أفضى إليه: مَنْ بُعِثَ للنظر في أمر الزوجين.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد في قوله: « إن يريدا إصلاحًا » ، قال: أمَا إنه ليس بالرجل والمرأة، ولكنه الحكمان.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: « إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما » ، قال: هما الحكمان، إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما » ، وذلك الحكمان، وكذلك كل مصلح يوفقه الله للحق والصواب.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما » ، يعني بذلك الحكمين.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: « إن يريدا إصلاحًا » ، قال: إن يرد الحكمان إصلاحًا أصلحا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي هاشم، عن مجاهد: « إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما » ، يوفق الله بين الحكمين.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك قوله: « إن يريدا إصلاحًا » ، قال: هما الحكمان إذا نصحا المرأةَ والرجلَ جميعًا.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ( 35 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: « إنّ الله كان عليمًا » ، بما أراد الحكمان من إصلاح بين الزوجين وغيره « خبيرًا » ، بذلك وبغيره من أمورهما وأمور غيرهما، لا يخفى عليه شيء منه، حافظ عليهم، حتى يجازي كلا منهم جزاءه، بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة غفرانًا أو عقابًا.

 

القول في تأويل قوله جل ذكره : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وذِلُّوا لله بالطاعة، واخضعوا له بها، وأفردوه بالربوبية، وأخلصوا له الخضوع والذلة، بالانتهاء إلى أمره، والانـزجار عن نهيه، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكًا تعظمونه تعظيمكم إياه.

« وبالوالدين إحسانًا » ، يقول: وأمركم بالوالدين إحسانًا يعني برًّا بهما ولذلك نصب « الإحسان » ، لأنه أمر منه جل ثناؤه بلزوم الإحسان إلى الوالدين، على وجه الإغراء.

وقد قال بعضهم: معناه: « واستوصوا بالوالدين إحسانًا » ، وهو قريب المعنى مما قلناه.

وأما قوله: « وبذي القربى » ، فإنه يعني: وأمرَ أيضًا بذي القربى وهم ذوو قرابة أحدنا من قبل أبيه أو أمه، ممن قربت منه قرابته برحمه من أحد الطرفين إحسانًا بصلة رحمه.

وأما قوله: « واليتامى » ، فإنهم جمع « يتيم » ، وهو الطفل الذي قد مات والده وهلك.

« والمساكين » وهو جمع « مسكين » ، وهو الذي قد ركبه ذل الفاقة والحاجة، فتمسكن لذلك.

يقول تعالى ذكره: استوصوا بهؤلاء إحسانًا إليهم، وتعطفوا عليهم، والزموا وصيتي في الإحسان إليهم.

 

القول في تأويل قوله : وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار ذي القرابة والرحم منك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « والجار ذي القربى » ، يعني: الذي بينك وبينه قرابة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « والجار ذي القربى » ، يعني: ذا الرَّحم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: « والجار ذي القربى » ، قال: جارك، هو ذو قرابتك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله: « والجار ذي القربى » ، قالا القرابة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « والجار ذي القربى » ، قال: جارك الذي بينك وبينه قرابة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « والجار ذي القربى » ، جارك ذو القرابة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « والجار ذي القربى » ، إذا كان له جار له رحم، فله حقَّان اثنان: حق القرابة، وحق الجار.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « والجار ذي القربى » ، قال: الجار ذو القربى، ذو قرابتك.

وقال آخرون: بل هو جارُ ذي قرابتك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن ميمون بن مهران في قوله: « والجار ذي القربى » قال: الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك.

قال أبو جعفر: وهذا القول قولٌ مخالفٌ المعروفَ من كلام العرب. وذلك أن الموصوف بأنه « ذو القرابة » في قوله: « والجار ذي القربى » ، « الجار » دون غيره. فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة. ولو كان معنى الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل: « وجار ذي القربى » ، ولم يُقَل: « والجار ذي القربى » . فكان يكون حينئذ إذا أضيف « الجار » إلى « ذي القرابة » الوصية ببرّ جار ذي القرابة، دون الجار ذي القربى. وأما و « الجار » بالألف واللام، فغير جائز أن يكوى « ذي القربى » إلا من صفة « الجار » . وإذا كان ذلك كذلك، كانت الوصية من الله في قوله: « والجار ذي القربى » ببرّ الجار ذي القربى، دون جار ذي القرابة. وكان بينًا خطأ ما قال ميمون بن مهران في ذلك.

وقال آخرون: معنى ذلك: والجار ذي القربى منكم بالإسلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن نَوْف الشامي: « والجار ذي القربى » ، المسلم.

قال أبو جعفر: وهذا أيضًا مما لا معنى له. وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى، غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب الذين نـزل بلسانهم القرآن، المعروفِ فيهم، دون الأنكر الذي لا تتعارفه، إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها. وإذا كان ذلك كذلك وكان معلومًا أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل: « فلان ذو قرابة » ، إنما يعني به: إنه قريب الرحم منه، دون القرب بالدين كان صرفه إلى القرابة بالرحم، أولى من صرفه إلى القرب بالدين.

 

القول في تأويل قوله : وَالْجَارِ الْجُنُبِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار البعيد الذي لا قرابة بينك وبينه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « والجار الجنب » ، الذي ليس بينك وبينه قرابة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « والجار الجنب » ، يعني: الجار من قوم جنب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « والجار الجنب » ، الذي ليس بينهما قرابة، وهو جار، فله حق الجوار.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « والجار الجنب » ، الجار الغريب يكون من القوم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد: « والجار الجنب » ، جارك من قوم آخرين.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « والجار الجنب » ، جارك لا قرابة بينك وبينه، البعيد في النسب وهو جار.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله: « والجار الجنب » ، قال: المجانب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « والجار الجنب » ، الذي ليس بينك وبينه رَحمٌ ولا قرابة.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: « والجار الجنب » ، قال: من قوم آخرين.

وقال آخرون: هو الجار المشرك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف الشامي: « والجار الجنب » ، قال: اليهوديّ والنصرانيّ.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: « معنى، الجنب، في هذا الموضع: الغريبُ البعيد، مسلمًا كان أو مشركًا، يهوديًا كان أو نصرانيًا » ، لما بينا قبل من أن « الجار ذي القربى » ، هو الجار ذو القرابة والرحم. والواجب أن يكون « الجار ذو الجنابة » ، الجار البعيد، ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران قريبهم وبعيدهم.

وبعد، فإن « الجُنب » ، في كلام العرب: البعيد، كما قال أعشى بني قيس:

أَتَيْــتُ حُرَيْثًـا زَائِـرًا عَـنْ جَنَابَـةٍ فَكـانَ حُـرَيْثٌ فِـي عَطَـائِي جَـامِدَا

يعني بقوله: « عن جنابة » ، عن بعد وغُربة. ومنه، قيل: « اجتنب فلان فلانًا » ، إذا بعد منه « وتجنّبه » ، و « جنَّبه خيره » ، إذا منعه إياه. ومنه قيل للجنب: « جُنُب » ، لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل.

فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك.

فقال بعضهم: هو رفيق الرجل في سَفره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « والصاحب بالجنب » ، الرفيق.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن أبي بكير قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: « والصاحب بالجنب » ، الرفيق في السفر.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « والصاحب بالجنب » ، صاحبك في السفر.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « والصاحب بالجنب » ، وهو الرفيق في السفر.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « والصاحب بالجنب » ، الرفيق في السفر، منـزله منـزلك، وطعامه طعامك، ومسيره مسيرك.

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد: « والصاحب بالجنب » ، قالا الرفيق في السفر.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن علي وعبد الله قالا « الصاحب بالجنب » ، الرفيق الصالح.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني سليم، عن مجاهد قال: « الصاحب بالجنب » ، رفيقك في السفر، الذي يأتيك ويده مع يدك.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، قراءة على ابن جريج قال، أخبرنا سليم: أنه سمع مجاهدًا يقول: « والصاحب بالجنب » ، فذكر مثله.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « والصاحب بالجنب » ، الصاحب في السفر.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو دكين قال، حدثنا سفيان، عن أبي بكير، عن سعيد بن جبير، « والصاحب بالجنب » ، الرفيق الصالح.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن سعيد بن جبير مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « والصاحب بالجنب » ، قال: الرفيق في السفر.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله.

وقال آخرون: بل هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر أو القاسم عن علي وعبد الله رضوان الله عليهما: « والصاحب بالجنب » ، قالا هي المرأة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن بعض أصحابه، عن جابر، عن علي وعبد الله مثله.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « والصاحب بالجنب » ، يعني: الذي معك في منـزلك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنه قال في هذه الآية: « والصاحب بالجنب » ، قال: هي المرأة.

حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم: « والصاحب بالجنب » ، قال: المرأة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال الثوري، قال أبو الهيثم، عن إبراهيم: هي المرأة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن سوقة، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم مثله.

حدثني عمرو بن بَيْذَق قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن محمد بن سوقة، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم مثله.

وقال آخرون: هو الذي يلزمك ويصحبك رَجاء نفعك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « الصاحب بالجنب » ، الملازم وقال أيضًا: رفيقك الذي يرافقك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: « والصاحب بالجنب » ، الذي يلصق بك، وهو إلى جنبك، ويكون معك إلى جنبك رجاءَ خيرك ونفعك.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي: أن معنى: « الصاحب بالجنب » ، الصاحب إلى الجنب، كما يقال: « فلان بجَنب فلان، وإلى جنبه » ، وهو من قولهم: « جَنَب فلانٌ فلانًا فهو يجنُبُه جَنْبًا » ، إذا كان لجنبه. ومن ذلك: « جَنَب الخيل » ، إذا قاد بعضها إلى جنب بعض. وقد يدخل في هذا: الرفيقُ في السفر، والمرأة، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاءَ نفعه، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريبٌ منه. وقد أوصى الله تعالى بجميعهم، لوجوب حق الصاحب على المصحوب، وقد:-

حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك، عن فلان بن عبد الله، عن الثقة عنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وسلم في غَيْضِة طرفاء، فقطع قَصِيلين، أحدهما معوجٌّ، والآخر معتدل، فخرج بهما، فأعطى صاحبه المعتدل، وأخذ لنفسه المعوج، فقال الرجل: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أنت أحق بالمعتدل مني! فقال: « كلا يا فلان، إن كل صاحب يصحب صاحبًا، مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار. »

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة قال، حدثني شرحبيل بن شريك، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن خير الأصحاب عند الله تبارك وتعالى، خيرهم لصاحبه. وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره.

قال أبو جعفر: فإذ كان « الصاحب بالجنب » ، محتملا معناه ما ذكرناه: من أن يكون داخلا فيه كل من جَنَب رجلا بصحبةٍ في سفر، أو نكاح، أو انقطاع إليه واتصال به ولم يكن الله جل ثناؤه خصّ بعضَهم مما احتمله ظاهر التنـزيل فالصواب أن يقال: جميعهم معنيّون بذلك، وكلهم قد أوصى الله بالإحسان إليه.

 

القول في تأويل قوله : وَابْنِ السَّبِيلِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: « ابن السبيل » ، هو المسافر الذي يجتاز مارًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وابن السبيل » ، هو الذي يمر عليك وهو مسافر.

9484م - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وقتادة مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وابن السبيل » ، قال: هو المارُّ عليك، وإن كان في الأصل غنيًّا.

وقال آخرون: هو الضيف.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وابن السبيل » ، قال: الضيف، له حق في السفر والحضر.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وابن السبيل » ، وهو الضيف.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: « وابن السبيل » ، قال: الضيف.

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن « ابن السبيل » ، هو صاحب الطريق و « السبيل » : هو الطريق، وابنه: صاحبه الضاربُ فيه فله الحق على من مرّ به محتاجًا منقطَعًا به، إذا كان سفره في غير معصية الله، أن يعينه إن احتاج إلى معونة، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة، وأن يحمله إن احتاج إلى حُمْلان.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والذين ملكتموهم من أرقائكم فأضاف « الملك » إلى « اليمين » ، كما يقال: « تكلم فوك » ، و « مشَتْ رجلك » ، و « بطشت يدك » ، بمعنى: تكلمتَ، ومشيتَ، وبطشتَ. غير أن ما وصف به كل عضو من ذلك، فإنما أضيف إليه ما وُصف به لأنه بذلك يكون، في المتعارف في الناس، دون سائر جوارح الجسد. فكان معلومًا بوصف ذلك العضو بما وصف به من ذلك المعنى المراد من الكلام. فكذلك قوله: « وما ملكت أيمانكم » ، لأن مماليك أحدنا تحت يديه، إنما يَطعم ما تُناوله أيماننا، ويكتسي ما تكسوه، وتصرِّفه فيما أحبَّ صرفه فيه بها. فأضيف ملكهم إلى « الأيمان » لذلك.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وما ملكت أيمانكم » ، ممّا خوّلك الله. كل هذا أوصى الله به.

قال أبو جعفر: وإنما يعني مجاهد بقوله: « كل هذا أوصى الله به » ، الوالدين، وذا القربى، واليتامى، والمساكين، والجار ذا القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل. فأوصى ربنا جل جلاله بجميع هؤلاء عبادَه إحسانًا إليهم، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم. فحقٌّ على عباده حفظ وصية الله فيهم، ثم حفظ وصية رسوله صلى الله عليه.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ( 36 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « إن الله لا يحبّ من كان مختالا » ، إن الله لا يحب من كان ذا خُيَلاء.

و « المختال: » المفتعل « ، من قولك: » خال الرجل فهو يخول خَوْلا وخَالا « ، ومنه قول الشاعر: »

فَـــإنْ كُــنْتَ سَــيِّدَنَا سُــدْتَنَا وإنْ كُــنْتَ لِلْخَــالِ فَـاذْهَبْ فَخُـلْ

ومنه قول العجاج:

وَالْخَالُ ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِ الْجُهَّالْ

وأما « الفخور » ، فهو المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه، وبسط له من فضله، ولا يحمده على ما أتاه من طَوْله، ولكنه به مختال مستكبر، وعلى غيره به مُسْتطيل مفتخر. كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « إن الله لا يحب من كان مختالا » ، قال: متكبرًا، « فخورا » ، قال: يعدّ ما أُعطي، وهو لا يشكر الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهرويّ قال: لا تجد سيِّئ الملِكة إلا وجدته مختالا فخورًا. وتلا « وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورًا » ولا عاقًّا إلا وجدته جبارًا شقيًا. وتلا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [ سورة مريم: 32 ]

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يحب المختال الفخور، الذي يبخل ويأمر الناسَ بالبخل.

فـ « الذين » يحتمل أن يكون في موضع رفع، ردًّا على ما في قوله: « فخورًا » ، من ذِكرٍ ويحتمل أن يكون نصبًا على النعت ل « مَنْ » .

و « البخل » في كلام العرب: منع الرجل سائله ما لديه وعنده ما فضل عنه، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: « الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل » ، قال: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه « والشح » : أن يشٍح على ما في أيدي الناس. قال: يحبّ أن يكون له ما في أيدي الناس بالحِلِّ والحرام، لا يقنع.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « ويأمرون الناس بالبخل » .

فقرأته عامة قرأة أهل الكوفة: « بِالْبَخَلِ » بفتح « الباء » و « الخاء » .

وقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض البصريين بضم « الباء » : « بِالْبُخْلِ » .

قال أبو جعفر: وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد، وقراءتان معروفتان غير مختلفتي المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في قراءته.

وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله: « الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل » ، الذين كتموا اسمَ محمد صلى الله عليه وسلم وصفته من اليهود ولم يبينوه للناس، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرمي: « الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله » ، قال: هم اليهود، بخلوا بما عندهم من العلم وكَتَموا ذلك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل » إلى قوله: وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ، ما بين ذلك في يهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل » ، وهم أعداءُ الله أهلُ الكتاب، بخلوا بحقّ الله عليهم، وكتموا الإسلام ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما « الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل » ، فهم اليهود « ويكتمون ما آتاهم الله من فضله » ، اسمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأما: « يبخلون ويأمرون الناس بالبخل » ، يبخلون باسم محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرُ بعضهم بعضًا بكتمانه.

حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال، حدثني أبو جعفر الرازي قال، حدثنا يحيى، عن عارم، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، في قوله: « الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل » ، قال: هذا للعلم، ليس للدنيا منه شيء.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل » ، قال: هؤلاء يهود. وقرأ: « ويكتمون ما آتاهم الله من فضله » ، قال: يبخلون بما آتاهم الله من الرزق، ويكتمون ما آتاهم الله من الكتب. إذا سئلوا عن الشيء وما أنـزل الله كتموه. وقرأ: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [ سورة النساء: 53 ] من بخلهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان كَرْدَم بن زيد، حليفُ كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبَحْريّ بن عمرو، وحُيَيّ بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالا من الأنصار، وكانوا يخالطونهم، ينتصحون لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون! فأنـزل الله فيهم: « الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله » ، أي: من النبوة، التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم « وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا » ، إلى قوله: وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا .

قال أبو جعفر: فتأويل الآية على التأويل الأول: والله لا يحبّ ذوي الخُيلاء والفخر، الذين يبخلون بتبيين ما أمرهم الله بتبيينه للناس، من اسم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته التي أنـزلها في كتبه على أنبيائه، وهم به عالمون ويأمرون الناس الذين يعلمون ذلك مثل علمهم، بكتمان ما أمرهم الله بتبيينه له، ويكتمون ما آتاهم الله من علم ذلك ومعرفته مَنْ حرّم الله عليه كتمانه إيّاه.

وأما على تأويل ابن عباس وابن زيد: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ، الذين يبخلون على الناس بفضل ما رزقهم الله من أموالهم، ثم سائر تأويلهما وتأويل غيرهما سواء.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، ما قاله الذين قالوا: إن الله وصف هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآية، بالبخل بتعريف من جهل أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم أنه حقّ، وأنّ محمدًا لله نبيّ مبعوث، وغير ذلك من الحق الذي كان الله تعالى ذكره قد بيّنه فيما أوحى إلى أنبيائه من كتبه. فبخل بتبيينه للناس هؤلاء، وأمروا من كانت حاَله حالَهم في معرفتهم به: أن يكتموه من جَهِل ذلك، ولا يبيِّنوه للناس.

وإنما قلنا: هذا القول أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل، ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمرُ الناس بالبخل ديانةً ولا تخلُّقًا، بل ترى ذلك قبيحًا وتذمَّ فاعله؛ وَتمتدح - وإن هي تخلَّقَت بالبخل واستعملته في أنفسها - بالسخاء والجود، وتعدُّه من مكارم الأفعال وتحثُّ عليه. ولذلك قلنا: إنّ بخلهم الذي وصفهم الله به، إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه فبخلوا بتبيينه للناس وكتموه، دون البخل بالأموال إلا أن يكون معنى ذلك: الذين يبخلون بأموالهم التي ينفقونها في حقوق الله وُسُبله، ويأمرون الناس من أهل الإسلام بترك النفقة في ذلك. فيكون بخلهم بأموالهم، وأمرهم الناس بالبخل، بهذا المعنى - على ذكرنا من الرواية عن ابن عباس - فيكون لذلك وجه مفهومٌ في وصفهم بالبخل وأمرِهم به.

 

القول في تأويل قوله : وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( 37 )

قال أبو جعفر: يعني: بذلك جل ثناؤه: « وأعتدنا » ، وجعلنا للجاحدين نعمة الله التي أنعم بها عليهم، من المعرفة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين به بعد علمهم به، الكاتمين نعته وصفته مَنْ أمرَهم الله ببيانه له من الناس « عذابًا مهينًا » ، يعني: العقابَ المذلّ مَن عُذِّب بخلوده فيه، عَتادًا له في آخرته، إذا قَدِم على ربه وَجدَه، بما سلف منه من جحوده فرضَ الله الذي فرضَه عليه.