القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( 52 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « أولئك » ، هؤلاء الذين وصف صفتهم أنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب وهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، هم « الذين لعنهم الله » ، يقول: أخزاهم الله فأبعدهم من رحمته، بإيمانهم بالجبت والطاغوت، وكفرهم بالله ورسوله عنادًا منهم لله ولرسوله، وبقولهم للذين كفروا: هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا « ومن يلعن الله » ، يقول: ومن يخزه الله فيبعده من رحمته « فلن تجد له نصيرًا » ، يقول: فلن تجد له، يا محمد، ناصرًا ينصره من عقوبة الله ولعنته التي تحلّ به، فيدفع ذلك عنه، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: قال كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ما قالا يعني من قولهما: هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا وهما يعلمان أنهما كاذبان، فأنـزل الله: « أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا » .

 

القول في تأويل قوله : أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ( 53 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « أم لهم نصيب من الملك » ، أم لهم حظ من الملك، يقول: ليس لهم حظ من الملك، كما:-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أم لهم نصيب من الملك » ، يقول: لو كان لهم نصيب من الملك، إذًا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: قال الله: « أم لهم نصيب من الملك » ، قال: فليس لهم نصيب من الملك، [ لم يؤتوا الناس نقيرًا ] « فإذا لا يؤتون الناس نقيرًا » ، ولو كان لهم نصيب وحظ من الملك، لم يكونوا إذًا يعطون الناس نقيرًا، من بُخْلهم.

واختلف أهل التأويل في معنى: « النقير » .

فقال بعضهم: هو النقطة التي في ظهر النواة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « نقيرًا » ، يقول: النقطة التي في ظهر النواة.

حدثني سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا محمد بن الصلت قال، حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: النقير الذي في ظهر النواة.

حدثني جعفر بن محمد الكوفي المروزي قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: النقير وَسط النواة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا » ، « النقير » نقيرُ النواة: وَسطها.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « أم لهم نصيب من الملك فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا » ، يقول: لو كان لهم نصيب من الملك، إذًا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا و « النقير » ، النكتة التي في وَسَط النواة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني طلحة بن عمرو: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول: النقير الذي في ظَهر النواة.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: « النقير » ، النقرة التي تكون في ظهر النواة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك قال: « النقير » ، الذي في ظهر النواة.

وقال آخرون: « النقير » ، الحبة التي تكون في وَسَط النواة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « نقيرًا » ، قال: « النقير » ، حبة النواة التي في وَسَطها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا » ، قال: النقير، حبة النواة التي في وسطها.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد قال: « النقير » ، في النوى.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول: « النقير » ، نقير النواة الذي في وسطها.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: « النقير » ، نقير النواة الذي يكون في وَسط النواة.

وقال آخرون: معنى ذلك: نَقْرُ الرجل الشيء بَطَرف أصابعه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن درهم أبي العلاء قال، سمعت أبا العالية: ووضع ابن عباس طرف الإبهام على ظهر السبابة، ثم رفعهما وقال: هذا النقير.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال، إن الله وصف هؤلاء الفرْقة من أهل الكتاب بالبخل باليسير من الشيء الذي لا خطر له، ولو كانوا ملوكًا وأهلَ قدرة على الأشياء الجليلة الأقدار. فإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى « النقير » ، أن يكون أصغرَ ما يكون من النُّقر. وإذا كان ذلك أولى به، فالنقرة التي في ظهر النواة من صغار النُّقر، وقد يدخل في ذلك كل ما شَاكلها من النُّقر. ورفع قوله: « لا يؤتون الناس » ، ولم ينصبْ بـ « إذَنْ » ، ومن حكمها أن تنصب الأفعال المستقبلة إذا ابتدئ الكلام بها، لأن معها « فاء » . ومن حكمها إذا دخل فيها بعضُ حروف العطف، أن توجه إلى الابتداء بها مرة، وإلى النقل عنها إلى غيرها أخرى. وهذا الموضع مما أريد بـ « الفاء » فيه، النقل عن « إذَنْ » إلى ما بعدها، وأن يكون معنى الكلام: أم لهم نصيب، فلا يؤتون الناس نقيرًا إذَنْ.

 

القول في تأويل قوله : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « أم يحسدون الناس » ، أم يحسد هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « أم يحسدون الناس » ، قال: يهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة مثله.

وأما قوله: « الناس » ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عَنَى الله به.

فقال بعضهم: عنى الله بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم خاصةً.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال، أخبرنا هشيم، عن خالد، عن عكرمة في قوله: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » ، قال: « الناس » في هذا الموضع، النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصةً.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » ، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » ، قال: « الناس » ، محمدًا صلى الله عليه وسلم.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه.

وقال آخرون: بل عنى الله به العرب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » ، أولئك اليهود، حسدوا هذا الحيَّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ الله عاتب اليهودَ الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، فقال لهم في قيلهم للمشركين من عبدة الأوثان إنهم أهدى من محمد وأصحابه سبيلا على علم منهم بأنهم في قيلهم ما قالوا من ذلك كذَبة : أتحسدون محمدًا وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن ما قبل قوله: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » ، مضى بذّم القائلين من اليهود للذين كفروا: « هؤلاء أهدىَ من الذين آمنوا سبيلا » ، فإلحاق قوله: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » ، بذمهم على ذلك، وتقريظ الذين آمنوا الذين قيل فيهم ما قيل أشبهُ وأولى، ما لم تأت دلالة على انصراف معناه عن معنى ذلك.

واختلف أهل التأويل في تأويل « الفضل » الذي أخبر الله أنه آتى الذين ذكرهم في قوله: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » . فقال بعضهم: ذلك « الفضل » هو النبوّة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » ، حسدوا هذا الحيَّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله. بعث الله منهم نبيًا، فحسدوهم على ذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: « على ما آتاهم الله من فضله » ، قال: النبوة.

وقال آخرون: بل ذلك « الفضل » الذي ذكر الله أنه آتاهموه، هو إباحته ما أباح لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من النساء، ينكح منهن ما شاء بغير عدد. قالوا: وإنما يعني: بـ « الناس » ، محمدًا صلى الله عليه وسلم، على ما ذكرتُ قبل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » الآية، وذلك أن أهل الكتاب قالوا: « زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، ليس همه إلا النكاح! فأيّ ملك أفضَلُ من هذا » ! فقال الله: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » ، يعني: محمدًا، أن ينكح ما شَاء من النساء.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » ، وذلك أن اليهود قالوا: « ما شأن محمد أُعطي النبوّة كما يزعم، وهو جائع عارٍ، وليس له هم إلا نكاحُ النساء؟ » فحسدوه على تزويج الأزواج، وأحل الله لمحمد أن ينكح منهن ما شاء أن ينكح.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، قولُ قتادة وابن جريج الذي ذكرناه قبل: أن معنى « الفضل » في هذا الموضع: النبوّة التي فضل الله بها محمدًا، وشرّف بها العرب، إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية، تدلّ على أنها تقريظٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمة الله عليهم، على ما قد بينا قبل. وليس النكاح وتزويجُ النساء وإن كان من فضْل الله جل ثناؤهُ الذي آتاه عباده بتقريظ لهم ومدح.

 

القول في تأويل قوله : فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ( 54 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أم يحسد هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآيات الناسَ على ما آتاهم الله من فضله، من أجل أنهم ليسوا منهم؟ فكيف لا يحسدون آل إبراهيم، فقد آتيناهم الكتاب ويعني بقوله: « فقد آتينا آل إبراهيم » ، فقد أعطينا آل إبراهيم، يعني: أهله وأتباعه على دينه « الكتاب » ، يعني كتاب الله الذي أوحاه إليهم، وذلك كصحف إبراهيم وموسى والزّبور، وسائر ما آتاهم من الكتب.

وأما « الحكمة » ، فما أوحى إليهم مما لم يكن كتابًا مقروءًا « وآتيناهم ملكًا عظيمًا » .

واختلف أهل التأويل في معنى « الملك العظيم » الذي عناه الله في هذه الآية.

فقال بعضهم: هو النبوّة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ، قال: يهود « على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب » ، وليسوا منهم « والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا » ، قال: النبوّة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله إلا أنه قال: « ملكًا » ، النبوّة.

وقال آخرون: بل ذلك تحليلُ النساء. قالوا: وإنما عنى الله بذلك: أم يحسدون محمدًا على ما أحلّ الله له من النساء، فقد أحل الله مثل الذي أحله له منهن، لداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء، فكيف لم يحسدوهم على ذلك، وحسدوا محمدًا عليه السلام؟

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فقد آتينا آل إبراهيم » ، سليمان وداود « الحكمة » ، يعني: النبوة « وآتيناهم ملكًا عظيمًا » ، في النساء، فما باله حَلّ لأولئك وهم أنبياء: أن ينكح داود تسعًا وتسعين امرأة، وينكح سليمان مئة، ولا يحل لمحمد أن ينكح كما نكحوا؟

وقال آخرون: بل معنى قوله: « وآتيناهم ملكًا عظيمًا » ، الذي آتى سليمان بن داود.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وآتيناهم ملكًا عظيمًا » . يعني ملكَ سليمان.

وقال آخرون: بل كانوا أُيِّدوا بالملائكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن همام بن الحارث: « وآتيناهم ملكًا عظيمًا » ، قال: أُيِّدوا بالملائكة والجنود.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية وهي قوله: « وآتيناهم ملكًا عظيمًا » القولُ الذي رُوي عن ابن عباس أنه قال: « يعني ملك سليمان » . لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، دون الذي قال إنه ملك النبوّة، ودون قول من قال: إنه تحليلُ النساء والملك عليهن. لأن كلام الله الذي خوطب به العرب، غيرُ جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه، إلا أن تأتي دلالةٌ أو تقوم حُجة على أن ذلك بخلاف ذلك، يجبُ التسليم لها. ‌‍‌

 

القول في تأويل قوله عز وجل : فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( 55 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن الذين أوتوا الكتاب من يهود بني إسرائيل، الذين قال لهم جل ثناؤه: آمِنُوا بِمَا نَـزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا « مَنْ آمن به » ، يقول: من صدَّق بما أنـزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم مصدّقًا لما معهم « ومنهم من صدّ عنه » ، ومنهم من أعرَض عن التصديق به، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فمنهم من آمن به » ، قال: بما أنـزل على محمد من يهود « ومنهم من صدّ عنه » .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة على أن الذين صدّوا عما أنـزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، من يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما رَفعَ عنهم وعيدَ الله الذي توعِّدهم به في قوله: آمِنُوا بِمَا نَـزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا في الدنيا، وأخرت عقوبتهم إلى يوم القيامة، لإيمان من آمن منهم، وأن الوعيدَ لهم من الله بتعجيل العقوبة في الدنيا، إنما كان على مقام جميعهم على الكفر بما أنـزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فلما آمن بَعضُهم، خرجوا من الوعيد الذي توعَّده في عاجل الدنيا، وأخرت عقوبةُ المقيمين على التكذيب إلى الآخرة، فقال لهم: كفاكم بجهنم سعيرًا.

ويعني بقوله: « وكفى بجهنم سعيرًا » ، وحسبكم، أيها المكذبون بما أنـزلت على محمد نبيي ورسولي « بجهنم سعيرًا » ، يعني: بنار جهنم، تُسعَر عليكم أي: تُوقدُ عليكم.

وقيل: « سعيرًا » ، أصله « مسعورًا » ، من « سُعِرت تُسعَر فهي مسعورة » ، كما قال الله: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ [ سورة التكوير: 12 ] ، ولكنها صرفت إلى « فعيل » ، كما قيل: « كف خضيب » ، و « لحية دهين » ، بمعنى: مخضوبة ومدهونة - و « السعير » ، الوقود.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ

قال أبو جعفر: هذا وعيد من الله جل ثناؤه للذين أقاموا على تكذيبهم بما أنـزل الله على محمد من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر الكفار، وبرسوله. يقول الله لهم: إن الذين جحدوا ما أنـزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم، من آياتي يعني: من آيات تنـزيله، ووَحي كتابه، وهي دلالاته وحججه على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فلم يصدقوا به من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر أهل الكفر به « سوف نصليهم نارًا » ، يقول: سوف ننضجهم في نارٍ يُصلون فيها أي يشوون فيها « كلما نضجت جلودهم » ، يقول: كلما انشوت بها جلودهم فاحترقت « بدلناهم جلودًا غيرها » ، يعني: غير الجلود التي قد نضجت فانشوت، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن ثوير، عن ابن عمر: « كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها » ، قال: إذا احترقت جلودهم بدّلناهم جلودًا بيضًا أمثالَ القراطيس.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرَها » ، يقول: كلما احترقت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرَها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « كلما نضجت جلودهم » ، قال: سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأول: جلدُ أحدهم أربعون ذراعًا، وسِنُّه سبعون ذراعًا، وبطنه لو وضع فيه جبل وَسِعه. فإذا أكلت النار جلودهم بُدّلوا جلودًا غيرها.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قال: بلغني عن الحسن: « كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها » ، قال: ننضجهم في اليوم سبعين ألف مرة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو عبيدة الحداد، عن هشام بن حسان، عن الحسن قوله: « كلما نضجت جلودهم بدلناهم غيرها » ، قال: تنضج النار كل يوم سبعين ألف جلد. قال: وغلظ جلد الكافر أربعون ذراعًا، والله أعلم بأيِّ ذراع! .

قال أبو جعفر: فإن سأل سائل فقال: وما معنى قوله جل ثناؤه: « كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها » ؟ وهل يجوز أن يبدّلوا جلودًا غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا، فيعذَّبوا فيها؟ فإن جاز ذلك عندك، فأجز أن يُبدَّلوا أجسامًا وأرواحًا غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت لهم في الدنيا فتعذّب! وإن أجزت ذلك، لزمك أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار، غيرُ الذين أوعدهم الله العقابَ على كفرهم به ومعصيتهم إياه، وأن يكون الكفار قد ارتفعَ عنهم العذاب!!

قيل: إن الناس اختلفوا في معنى ذلك.

فقال بعضهم: العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب. وأما الجلد واللحم، فلا يألمان. قالوا: فسواء أعيد على الكافر جلدهُ الذي كان له في الدنيا أو جلدٌ غيره، إذ كانت الجلود غير آلمة ولا معذَّبة، وإنما الآلمةُ المعذبةُ: النفسُ التي تُحِس الألم، ويصل إليها الوجع. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فغير مستحيل أن يُخْلق لكل كافر في النار في كل لحظة وساعة من الجلود ما لا يحصى عدده، ويحرق ذلك عليه، ليصل إلى نفسه ألم العذاب، إذ كانت الجلود لا تألَمُ.

وقال آخرون: بل الجلودُ تألم، واللحمُ وسائرُ أجزاء جِرْم بني آدم. وإذا أحرق جلدهُ أو غيره من أجزاء جسده، وصل ألم ذلك إلى جميعه. قالوا: ومعنى قوله: « كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها » : بدلناهم جلودًا غير محترقة. وذلك أنها تعاد جديدة، والأولى كانت قد احترقتْ، فأعيدت غير محترقة، فلذلك قيل: « غيرها » ، لأنها غير الجلود التي كانت لهم في الدنيا، التي عصوا الله وهى لهم. قالوا: وذلك نظيرُ قول العرب للصّائغ إذا استصاغته خاتمًا من خاتم مَصُوغ، بتحويله عن صياغته التي هُو بها، إلى صياغة أخرى: « صُغْ لي من هذا الخاتم خاتمًا غيره » ، فيكسره ويصوغ له منه خاتمًا غيره، والخاتم المصوغ بالصّياغة الثانية هو الأول، ولكنه لما أعيد بعد كسره خاتمًا قيل: « هو غيره » . قالوا: فكذلك معنى قوله: « كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها » ، لما احترقت الجلود ثم أعيدت جديدة بعد الاحتراق، قيل: « هي غيرها » ، على ذلك المعنى.

وقال آخرون: معنى ذلك: « كلما نضجت جلودهم » ، سرابيلهم، بدلناهم سرابيل من قَطِران غيرها. فجعلت السرابيل [ من ] القطران لهم جلودًا، كما يقال للشيء الخاص بالإنسان: « هو جِلدة ما بين عينيه ووجهه » ، لخصُوصه به. قالوا: فكذلك سرابيل القطران التي قال الله في كتابه: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [ سورة إبراهيم: 50 ] ، لما صارت لهم لباسًا لا تفارق أجسامهم، جعلت لهم جلودًا، فقيل: كلما اشتعل القَطِران في أجسامهم واحترق، بدلوا سرابيل من قطران آخر. قالوا: وأما جلود أهل الكفر من أهل النار، فإنها لا تحترق، لأن في احتراقها إلى حال إعادتها فناءَها، وفي فنائها رَاحتها. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنها: أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها. قالوا: وجلود الكفار أحد أجسامهم، ولو جاز أن يحترق منها شيء فيفنى ثم يعاد بعد الفناء في النار، جاز ذلك في جميع أجزائها. وإذا جاز ذلك، وجب أن يكون جائزًا عليهم الفناء، ثم الإعادة والموت، ثم الإحياء، وقد أخبر الله عنهم أنهم لا يموتون. قالوا: وفي خبره عنهم أنهم لا يموتون، دليل واضح أنه لا يموت شيء من أجزاء أجسامهم، والجلود أحدُ تلك الأجزاء.

وأما معنى قوله: « ليذوقوا العذاب » ، فإنه يقول: فعلنا ذلك بهم، ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته، بما كانوا في الدنيا يكذّبون آيات الله ويجحدونها.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 56 )

قال أبو جعفر: يقول: إن الله لم يزل « عزيزًا » في انتقامه ممن انتقم منه من خلقه، لا يقدر على الامتناع منه أحد أرادَه بضرّ، ولا الانتصار منه أحدٌ أحلّ به عقوبة « حكيمًا » في تدبيره وقضائه.

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا ( 57 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « والذين آمنوا وعملوا الصالحات » ، والذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وصدّقوا بما أنـزل الله على محمد مصدّقًا لما معهم من يهود بني إسرائيل وسائر الأمم غيرهم « وعملوا الصالحات » ، يقول: وأدّوا ما أمرهم الله به من فرائضه، واجتنبوا ما حرّم الله عليهم من معاصيه، وذلك هو « الصالح » من أعمالهم « سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار » ، يقول: سوف يدخلهم الله يوم القيامة « جنات » ، يعني: بساتين « تجري من تحتها الأنهار » ، يقول: تجري من تحت تلك الجنات الأنهار « خالدين فيها أبدًا » ، يقول: باقين فيها أبدًا بغير نهاية ولا انقطاع، دائمًا ذلك لهم فيها أبدًا « لهم فيها أزواج » ، يقول: لهم في تلك الجنات التي وصف صفتها « أزواج مطهرة » ، يعني: بريئات من الأدناس والرَّيْب والحيض والغائط والبول والحَبَل والبُصاق، وسائر ما يكون في نساء أهل الدنيا. وقد ذكرنا ما في ذلك من الآثار فيما مضى قبل، وأغنى ذلك عن إعادتها.

وأما قوله: « وندخلهم ظِلا ظليلا » ، فإنه يقول: وندخلهم ظلا كَنينًا، كما قال جل ثناؤه: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [ سورة الواقعة: 30 ] ، وكما:-

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قالا جميعًا، حدثنا شعبة قال، سمعت أبا الضحاك يحدّث، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ في الجنة لشجرةً يسيرُ الراكب في ظلّها مئة عام لا يقطعها، شجرةُ الخلد.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية.

فقال بعضهم: عني بها ولاة أمور المسلمين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي مكين، عن زيد بن أسلم قال: نـزلت هذه الآية: « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » ، في ولاة الأمر.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ليث، عن شهر قال: نـزلت في الأمراء خاصة « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا إسماعيل، عن مصعب بن سعد قال، قال علي رضي الله عنه كلماتٍ أصاب فيهن: « حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنـزل الله، وأن يؤدِّيَ الأمانة، وإذا فعل ذلك، فحقّ على الناس أن يسمعوا، وأن يُطيعوا، وأن يجيبوا إذا دُعوا » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل عن مصعب بن سعد، عن علي بنحوه.

حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا موسى بن عمير، عن مكحول في قول الله: وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ، قال: هم أهلُ الآية التي قبلها: « إن الله يأمرُكم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها » ، إلى آخر الآية.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن زيد قال، قال أبي: هم الوُلاة، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها.

وقال آخرون: أمر السلطان بذلك: أن يعِظوا النساء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « إن الله يأمرُكم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » ، قال: يعني السلطان، يعظون النساء.

وقال آخرون: الذي خوطب بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في مفتاح الكعبة، أمر برَدّها على عثمان بن طلحة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » ، قال: نـزلت في عُثمان بن طلحة بن أبي طلحة، قَبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة، ودخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح. قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية: فداهُ أبي وأمي! ما سمعته يَتلوها قبل ذلك!

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: أعينوه.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قولُ من قال: هو خطاب من الله ولاةَ أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من وَلُوا أمره في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم، بالعدل بينهم في القضية، والقَسْم بينهم بالسوية. يدل على ذلك ما وَعظ به الرعية في: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ، فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الرّاعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) قال: قال أبي: هم السلاطين. وقرأ ابن زيد: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْـزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ [ سورة آل عمران: 26 ] ، وإنما نقول: هم العلماء الذي يُطيفون على السلطان، ألا ترى أنه أمرهم فبدأ بهم، بالولاة فقال « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » ؟ و « الأمانات » ، هي الفيء الذي استأمنهم على جمعه وقَسْمه، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمها « وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل » الآية كلها. فأمر بهذا الولاة. ثم أقبل علينا نحن فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ .

وأما الذي قال ابن جريج من أنّ هذه الآية نـزلت في عثمان بن طلحة، فإنه جائز أن تكون نـزلت فيه، وأريد به كل مؤتمن على أمانة، فدخلَ فيه ولاة أمور المسلمين، وكلّ مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا. ولذلك قال من قال: عُني به قضاءُ الدين، وردّ حقوق الناس، كالذي:-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » ، فإنه لم يرخص لموسِر ولا معسر أن يُمسكها.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » ، عن الحسن: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا إذ كان الأمر على ما وصفنا : إن الله يأمركم، يا معشر ولاة أمور المسلمين، أن تؤدوا ما ائتمنتكم عليه رعيّتكم من فَيْئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم، على ما أمركم الله بأداء كل شيء من ذلك إلى من هو له، بعد أن تصير في أيديكم، لا تظلموها أهلها، ولا تستأثروا بشيء منها، ولا تضعوا شيئًا منها في غير موضعه، ولا تأخذوها إلا ممن أذن الله لكم بأخذها منه قبل أن تصيرَ في أيديكم ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف، وذلك حكمُ الله الذي أنـزله في كتابه، وبيّنه على لسان رسوله، لا تعدُوا ذلك فتجورُوا عليهم.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 58 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر ولاة أمور المسلمين، إن الله نعم الشيء يَعظكم به، ونعمت العظة يعظكم بها في أمره إياكم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بين الناس بالعدل

« إن الله كان سميعًا » ، يقول: إن الله لم يزل سميعًا بما تقولون وتنطقون، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم بين الناس ولما تُحاورونهم به « بصيرًا » بما تفعلون فيما ائتمنتم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، وما تقضون به بينهم من أحكامكم: بعدل تحكمون أو جَوْر، لا يخفى عليه شيء من ذلك، حافظٌ ذلك كلَّه، حتى يجازي محسنكم بإحسانه، ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، وأطيعوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن في طاعتكم إياه لربكم طاعة، وذلك أنكم تطيعونه لأمر الله إياكم بطاعته، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » .

فقال بعضهم: ذلك أمرٌ من الله باتباع سنته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » ، قال: طاعة الرسول، اتباع سُنته.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن عبيد، عن عبد الملك، عن عطاء: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » ، قال: طاعة الرسول، اتباع الكتاب والسنة.

وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك، عن عطاء مثله.

وقال آخرون: ذلك أمرٌ من الله بطاعة الرّسول في حياته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » ، إن كان حيًّا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هو أمرٌ من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمرَ ونهى، وبعد وفاته باتباع سنته. وذلك أن الله عمّ بالأمر بطاعته، ولم يخصص بذلك في حال دون حال، فهو على العموم حتى يخصّ ذلك ما يجبُ التسليم له.

واختلف أهل التأويل في « أولي الأمر » الذين أمر الله عبادَه بطاعتهم في هذه الآية.

فقال بعضهم: هم الأمراء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » ، قال: هم الأمراء.

حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال، حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: « يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » ، نـزلت في رجل بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على سرية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبيد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن هذه الآية نـزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس السهمي، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في السرية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث قال: سأل مسلمةُ ميمونَ بن مهران عن قوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » ، قال: أصحاب السرايا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » ، قال. قال أبي: هم السلاطين. قال وقال ابن زيد في قوله: « وأولي الأمر منكم » ، قال أبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطاعةَ الطاعة، وفي الطاعة بلاء. وقال: ولو شاء الله لجعل الأمر في الأنبياء يعني: لقد جعلت [ الأمر ] إليهم والأنبياء معهم، ألا ترى حين حكموا في قتل يحيى بن ز كريا؟

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » ، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريَّة عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قِبَل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريبًا منهم عرَّسوا، وأتاهم ذو العُيَيْنَتين فأخبرهم، فأصبحوا قد هربوا، غير رجل أمر أهله فجمعوا متاعهم، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإنّ قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غدًا، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك، فأقم. فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل، فأخذه وأخذ ماله. فبلغ عمارًا الخبر، فأتى خالدًا، فقال: خلِّ عن الرجل، فإنه قد أسلم، وهو في أمان مني. فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبَّا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستبَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول الله، أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خالد، لا تسبَّ عمارًا، فإنه من سب عمارًا سبه الله، ومن أبغض عمارًا أبغضه الله، ومن لعن عمارًا لعنه الله. فغضب عمار فقام، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنـزل الله تعالى قوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » .

وقال آخرون: هم أهل العلم والفقه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله.....

.... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم « ، قال: أولي الفقه منكم. »

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث، عن مجاهد في قوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » ، قال: أولي الفقه والعلم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح: « وأولي الأمر منكم » ، قال: أولي الفقه في الدين والعقل.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » ، يعني: أهل الفقه والدين.

حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن مجاهد: « وأولي الأمر منكم » ، قال: أهل العلم.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء بن السائب في قوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » ، قال: أولي العلم والفقه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء: « وأولي الأمر منكم » ، قال: الفقهاء والعلماء.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: « وأولي الأمر منكم » ، قال: هم العلماء.

قال، وأخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: « وأولي الأمر منكم » ، قال: هم أهل الفقه والعلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « وأولي الأمر منكم » ، قال: هم أهل العلم، ألا ترى أنه يقول: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [ سورة النساء: 83 ] ؟

وقال آخرون: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » ، قال: كان مجاهد يقول: أصحاب محمد قال: وربما قال: أولي العقل والفقه ودين الله.

وقال آخرون: هم أبو بكر وعمر رحمهما الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال، حدثنا حفص بن عمر العدني قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » ، قال: أبو بكر وعمر.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان [ لله ] طاعةً، وللمسلمين مصلحة، كالذي:-

حدثني علي بن مسلم الطوسي قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البَرُّ ببِرِّه، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلُّوا وراءهم. فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى، عن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: على المرء المسلم، الطاعةُ فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية؛ فمن أمر بمعصية فلا طاعة.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثني خالد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

فإذ كان معلومًا أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » بطاعة ذَوِي أمرنا كان معلومًا أن الذين أمرَ بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا، هم الأئمة ومن ولَّوْه المسلمين، دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضًا القبول من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه، إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعيّة، فإن على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية.

وإذ كان ذلك كذلك، كان معلومًا بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره.

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن اختلفتم، أيها المؤمنون، في شيء من أمر دينكم: أنتم فيما بينكم، أو أنتم وولاة أمركم، فاشتجرتم فيه « فردوه إلى الله » ، يعني بذلك: فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم أنتم بينكم، أو أنتم وأولو أمركم فيه من عند الله، يعني بذلك: من كتاب الله، فاتبعوا ما وجدتم وأما قوله: « والرسول » ، فإنه يقول: فإن لم تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلا فارتادوا معرفة ذلك أيضًا من عند الرسول إن كان حيًا، وإن كان ميتًا فمن سنته « إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر » ، يقول: افعلوا ذلك إن كنتم تصدقون بالله « واليوم الآخر » ، يعني: بالمعاد الذي فيه الثواب والعقاب، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك. فلكم من الله الجزيل من الثواب، وإن لم تفعلوا ذلك فلكم الأليم من العقاب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث، عن مجاهد في قوله: « فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول » ، قال: فإن تنازع العلماء ردّوه إلى الله والرسول. قال يقول: فردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله.

ثم قرأ مجاهد هذه الآية: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [ سورة النساء: 83 ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد في قوله: « فردوه إلى الله والرسول » ، قال: كتاب، الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد في قوله: « فردوه إلى الله والرسول » ، قال: إلى الله « ، إلى كتابه وإلى » الرسول « ، إلى سنة نبيه. »

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، قال: سأل مسلمةُ ميمونَ بن مهران عن قوله: « فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول » ، قال: « الله » ، كتابه، و « رسوله » سنته، فكأنما ألقمه حجرًا.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، أخبرنا جعفر بن مروان، عن ميمون بن مهران: « فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول » ، قال: الرد إلى الله، الردّ إلى كتابه والرد إلى رسوله إن كان حيًا، فإن قبضه الله إليه فالردّ إلى السنة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول » ، يقول: ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله « إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر » .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول » ، إن كان الرسول حيًا و « إلى الله » قال: إلى كتابه.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ( 59 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ذلك » ، فردُّ ما تنازعتم فيه من شيء إلى الله والرسول، « خير » لكم عند الله في معادكم، وأصلح لكم في دنياكم، لأن ذلك يدعوكم إلى الألفة، وترك التنازع والفرقة « وأحسن تأويلا » ، يعني: وأحمد مَوْئلا ومغبّة، وأجمل عاقبة.

وقد بينا فيما مضى أن « التأويل » « التفعيل » من « تأوّل » ، وأنّ قول القائل: « تأوّل » ، « تفعّل » ، من قولهم: « آل هذا الأمر إلى كذا » ، أي: رجع بما أغنى عن إعادته.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وأحسن تأويلا » ، قال: حسن جزاء.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ذلك خير وأحسن تأويلا » ، يقول: ذلك أحسنُ ثوابًا، وخير عاقبةً.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وأحسن تأويلا » قال: عاقبة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ذلك خير وأحسن تأويلا » ، قال: وأحسن عاقبة قال: و « التأويل » ، التصديق.

=