القول في تأويل قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا ( 60 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « ألم تر » ، يا محمد، بقلبك، فتعلم إلى الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنـزل إليك من الكتاب، وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل من قبلك من الكتب، يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت يعني إلى: من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله، « وقد أمروا أن يكفروا به » ، يقول: وقد أمرهم الله أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوتُ الذي يتحاكون إليه، فتركوا أمرَ الله واتبعوا أمر الشيطان « ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا » ، يعني: أن الشيطان يريد أن يصدَّ هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى، فيضلهم عنها ضلالا بعيدًا يعني: فيجور بهم عنها جورًا شديدًا .

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في رجل من المنافقين دعا رجلا من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهَّان، ليحكم بينهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهُرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت » ، قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود، لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين، لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة. فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهَيْنة، فأنـزل الله فيه هذه الآية: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك » حتى بلغ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك » ، فذكر نحوه وزاد فيه: فأنـزل الله: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك » ، يعني المنافقين « وما أنـزل من قبلك » ، يعني اليهود « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت » ، يقول: إلى الكاهن « وقد أمروا أن يكفروا به » ، أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه، أن يكفر بالكاهن.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم، وبين رجل من اليهود، خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك أو قال: إلى النبي لأنه قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا، فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة، قال: فنـزلت: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك » ، يعنى: الذي من الأنصار « وما أنـزل من قبلك » ، يعني: اليهوديّ « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت » ، إلى الكاهن « وقد أمروا أن يكفروا به » ، يعني: أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه. وتلا « ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا » ، وقرأ: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ إلى وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن رجلا من اليهود كان قد أسلم، فكانت بينه وبين رجل من اليهود مدارأة في حق، فقال اليهودي له: انطلق إلى نبي الله. فعرف أنه سيقضي عليه. قال: فأبى، فانطلقا إلى رجل من الكهان فتحاكما إليه. قال الله: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك » ، الآية، حتى بلغ « ضلالا بعيدًا » ، ذُكر لنا أن هذه الآية نـزلت في رجلين: رجل من الأنصار يقال له « بشر » ، وفي رجل من اليهود، في مدارأة كانت بينهما في حق، فتدارءا بينهما، فتنافرا إلى كاهن بالمدينة يحكم بينهما، وتركا نبي الله صلى الله عليه وسلم. فعاب الله عز وجل ذلك وذُكر لنا أن اليهودي كان يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وقد علم أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لن يجور عليه. فجعل الأنصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم، ويدعوه إلى الكاهن، فأنـزل الله تبارك وتعالى ما تسمعون، فعابَ ذلك على الذي يزعم أنه مسلم، وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب، فقال: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك » إلى قوله: صُدُودًا .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت » ، قال: كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم. وكانت قُرَيظة والنَّضير في الجاهلية، إذا قُتِل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة، قتلوا به منهم. فإذا قُتِل الرجل من بني قريظة قتلته النضير، أعطوْا ديتَه ستين وَسْقًا من تمر. فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير، قتل رجلٌ من بني النضير رجلا من بني قريظة، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النضيري: يا رسول الله، إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية، فنحن نعطيهم اليوم ذلك. فقالت قريظة: لا ولكنا إخوانكم في النسب والدين، ودماؤنا مثل دمائكم، ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية، فقد جاء الله بالإسلام! فأنـزل الله يُعَيِّرهم بما فعلوا فقال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ سورة المائدة: 45 ] ، فعيَّرهم، ثم ذكر قول النضيري: « كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقًا، ونقتل منهم ولا يقتلونا » ، فقال أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [ سورة المائدة: 50 ] . وأخذ النضيري فقتله بصاحبه، فتفاخرت النضير وقريظة، فقالت النضير: نحن أكرم منكم! وقالت قريظة: نحن أكرم منكم! ودخلوا المدينة إلى أبي بُرْدة، الكاهن الأسلمي، فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي بردَة ينفِّر بيننا! وقال المسلمون من قريظة والنضير: لا بل النبي صلى الله عليه وسلم يُنفِّر بيننا، فتعالوا إليه! فأبى المنافقون، وانطلقوا إلى أبي بردة فسألوه، فقال: أعظِموا اللُّقمة يقول: أعظِموا الخَطَر فقالوا: لك عشرة أوساق. قال: لا بل مئة وسْق، ديتي، فإني أخاف أن أنفِّر النضير فتقتلني قريظة، أو أنفِّر قريظة فتقتلني النضير! فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق، وأبى أن يحكم بينهم، فأنـزل الله عز وجل: « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت » وهو أبو بردة « وقد أمروا أن يكفروا به » إلى قوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .

وقال آخرون: « الطاغوت » ، في هذا الموضع، هو كعب بن الأشرف.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به » ، و « الطاغوت » رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنـزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا، بل نحاكمكم إلى كعب! فذلك قوله: « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت » ، الآية.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك » ، قال: تنازع رجلٌ من المنافقين ورجلٌ من اليهود، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف. وقال اليهودي: اذهب بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال الله تبارك وتعالى: « ألم تر إلى الذين يزعمون » الآية، والتي تليها فيهم أيضًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك » ، فذكر مثله إلا أنه قال: وقال اليهودي: اذهب بنا إلى محمد.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك » إلى قوله: « ضلالا بعيدًا » ، قال: كان رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بينهما خصومة، أحدهم مؤمن والآخر منافق، فدعاه المؤمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، فأنـزل الله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت » ، قال: تنازع رجل من المؤمنين ورجل من اليهود، فقال اليهودي: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف. وقال المؤمن: اذهب بنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال الله: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك » إلى قوله: « صُدُودًا » قال ابن جريج: « يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك » ، قال: القرآن « وما أنـزل من قبلك » ، قال: التوراة. قال: يكون بين المسلم والمنافق الحق، فيدعوه المسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحاكمه إليه، فيأبى المنافق ويدعوه إلى الطاغوت قال ابن جريج: قال مجاهد: « الطاغوت » ، كعب بن الأشرف.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت » ، هو كعب بن الأشرف.

وقد بينا معنى: « الطاغوت » في غير هذا الموضع، فكرهنا إعادته.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ( 61 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر، يا محمد، إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك من المنافقين، وإلى الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل من قبلك من أهل الكتاب، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت « وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله » ، يعني بذلك: « وإذا قيل لهم تعالوا » ، هلُمُّوا إلى حكم الله الذي أنـزله في كتابه، وإلى الرسول ليحكم بيننا « رأيت المنافقين يصدون عنك » ، يعني بذلك: يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم، ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم « صدودًا » .

وقال ابن جريج في ذلك بما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله وإلى الرسول » ، قال: دعا المسلمُ المنافقَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم، قال: « رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا » .

وأما على تأويل قول من جعل الدَّاعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديّ، والمدعوَّ إليه المنافق، على ما ذكرت من أقوال من قال ذلك في تأويل قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ فإنه على ما بيَّنت قبل.

 

القول في تأويل قوله : فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( 62 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فكيف بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك « إذا أصابتهم مصيبة » ، يعني: إذا نـزلت بهم نقمة من الله « بما قدمت أيديهم » ، يعني: بذنوبهم التي سلفت منهم، « ثم جاؤوك يحلفون بالله » ، يقول: ثم جاؤوك يحلفون بالله كذبًا وزورًا « إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا » . وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا يردعهم عن النفاق العِبر والنِّقم، وأنهم إن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى الطاغوت لم ينيبوا ولم يتوبوا، ولكنهم يحلفون بالله كذبًا وجرأة على الله: ما أردنا باحتكامنا إليه إلا الإحسان من بعضنا إلى بعض، والصوابَ فيما احتكمنا فيه إليه.

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا ( 63 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « أولئك » ، هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم « يعلم الله ما في قلوبهم » في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام إليك، وصدودهم عنك من النفاق والزيغ، وإن حلفوا بالله: ما أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا « فأعرض عنهم وعظهم » ، يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأسَ الله أن يحلّ بهم، وعقوبته أن تنـزل بدارهم، وحذِّرهم من مكروهِ ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله ، « وقل لهم في أنفسهم قولا بليغًا » ، يقول: مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم نرسل، يا محمد، رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه. يقول تعالى ذكره: فأنت، يا محمد، من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلتُه إليه.

وإنما هذا من الله توبيخ للمحتكمين من المنافقين الذين كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بما أنـزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت، صدودًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول لهم تعالى ذكره: ما أرسلتُ رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه، فمحمد صلى الله عليه وسلم من أولئك الرسل، فمن ترك طاعته والرِّضى بحكمه واحتكم إلى الطاغوت، فقد خالف أمري، وضيَّع فرضي.

ثم أخبر جل ثناؤه: أن من أطاع رسله، فإنما يطيعهم بإذنه يعني: بتقديره ذلك وقضائه السابق في علمه ومشيئته، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « إلا ليطاع بإذن الله » ، واجب لهم أن يطيعهم من شاء الله، ولا يطيعهم أحد إلا بإذن الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

قال أبو جعفر: إنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين، بأن تركهم طاعة الله وطاعة رسوله والرضى بحكمه، إنما هو للسابق لهم من خِذْلانه وغلبة الشقاء عليهم، ولولا ذلك لكانوا ممن أذن له في الرضى بحكمه، والمسارعة إلى طاعته.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ( 64 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين، الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدّوا صدودًا ، « إذ ظلموا أنفسهم » ، باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت، وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها « جاؤوك » ، يا محمد، حين فعلو ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت راضين بحكمه دون حكمك، جاؤوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم، وسأل لهم اللهَ رسولهُ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. وذلك هو معنى قوله: « فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول » .

وأما قوله: « لوجدوا الله توابًا رحيمًا » ، فإنه يقول: لو كانوا فعلوا ذلك فتابوا من ذنبهم « لوجدوا الله توابًا » ، يقول: راجعًا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون « رحيمًا » بهم، في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه.

وقال مجاهد: عُنِي بذلك اليهوديُّ والمسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « ظلموا أنفسهم » إلى قوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، قال: إن هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف.

 

القول في تأويل قوله : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( 65 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فلا » فليس الأمر كما يزعمون: أنهم يؤمنون بما أنـزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدّون عنك إذا دعوا إليك يا محمد واستأنف القسم جل ذكره فقال: « وربك » ، يا محمد « لا يؤمنون » ، أي: لا يصدقون بي وبك وبما أنـزل إليك « حتى يحكموك فيما شجر بينهم » ، يقول: حتى يجعلوك حكمًا بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه. يقال: « شجَر يشجُر شُجورًا وشَجْرًا » ، و « تشاجر القوم » ، إذا اختلفوا في الكلام والأمر، « مشاجرة وشِجارًا » .

« ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت » ، يقول: لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا مما قضيت. وإنما معناه: ثم لا تحرَج أنفسهم مما قضيت أي: لا تأثم بإنكارها ما قضيتَ، وشكّها في طاعتك، وأن الذي قضيت به بينهم حقٌّ لا يجوز لهم خلافه، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « حرجًا مما قضيت » ، قال: شكًّا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: « حرجًا مما قضيت » ، يقول: شكًّا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت » ، قال: إثمًا « ويسلموا تسليما » ، يقول: ويسلّموا لقضائك وحكمك، إذعانًا منهم بالطاعة، وإقرارًا لك بالنبوة تسليمًا.

واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نـزلت؟

فقال بعضهم: نـزلت في الزبير بن العَوَّام وخصم له من الأنصار، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور.

ذكر الرواية بذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس والليث بن سعد، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدَّثه: أن عبد الله بن الزبير حدثه، عن الزبير بن العوام: أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِرَاج من الحرّة كانا يسقيان به كَلأهما النخل، فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يمرّ! فأبى عليه، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر، ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعَى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه قال أبو جعفر: والصواب: « استوعب » وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاري. فلما أحفظَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الأنصاريُّ، استوعب للزبير حقه في صريح الحكم قال فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نـزلت إلا في ذلك: « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم » ، الآية.

حدثني يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري عن عروة، قال: خاصم الزبير رجل من الأنصار في شَرْج من شِراج الحَرَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا زبير، أَشْرِب، ثم خلِّ سبيل الماء. فقال الذي من الأنصار من بني أمية: اعدل يا نبيَّ الله، وإن كان ابن عمتك! قال: فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرف أن قد ساءه ما قال، ثم قال: يا زبير، احبس الماء إلى الجدْرِ أو: إلى الكعبين ثم خل سبيل الماء. قال: ونـزلت: « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم » .

حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال، حدثنا عبد الله بن الزبير قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن سلمة رجلٍ من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أن الزبير خاصم رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير، فقال الرجل لما قضى للزبير: أن كان ابن عمتك! فأنـزل الله: « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا » .

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في المنافق واليهوديّ اللذين وصف الله صفتهما في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما » ، قال: هذا الرجل اليهوديُّ والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، بنحوه إلا أنه قال: إلى الكاهن.

قال أبو جعفر: وهذا القول أعني قول من قال: عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ أولى بالصواب، لأن قوله: « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم » في سياق قصة الذين ابتدأ الله الخبر عنهم بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ، ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض ما « لم تأت دلالة على انقطاعه أولى. »

فإن ظن ظانٌّ أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شِراج الحرة، وقولِ من قال في خبرهما:فنـزلت « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم » ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة الآيات قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نـزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري، إذ كانت الآية دلالة دالة وإذ كان ذلك غير مستحيل، كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعضٍ، أولى، ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض، فيُعْدَل به عن معنى ما قبله.

وأما قوله: « ويسلموا » ، فإنه منصوب عطفًا، على قوله: « ثم لا يجدوا في أنفسهم » وقوله: « ثم لا يجدوا في أنفسهم » ، نصبٌ عطفًا على قوله: « حتى يحكموك فيما شجر بينهم » .