القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ

و « القرية » - التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها , فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا- فيما ذكر لنا: بيت المقدس .

*ذكر الرواية بذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أنبأنا عبد الرزاق قال، أنبأنا معمر , عن قتادة في قوله: ( ادخلوا هذه القرية ) ، قال: بيت المقدس.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) أما القرية، فقرية بيت المقدس.

حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع: ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) ، يعني بيت المقدس.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: سألته - يعني ابن زيد- عن قوله: ( ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم ) قال: هي أريحا , وهي قريبة من بيت المقدس .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا

يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب . وقد بينا معنى « الرغد » فيما مضى من كتابنا , وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا

أما « الباب » الذي أمروا أن يدخلوه, فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( ادخلوا الباب سجدا ) قال: باب الحطة، من باب إيلياء، من بيت المقدس.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: ( وادخلوا الباب سجدا ) ، أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه , عن ابن عباس قوله: ( وادخلوا الباب سجدا ) أنه أحد أبواب بيت المقدس , وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: ( سجدا ) فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الركع.

حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله: ( ادخلوا الباب سجدا ) ، قال: ركعا من باب صغير.

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد , عن ابن عباس في قوله: ( ادخلوا الباب سجدا ) ، قال: أمروا أن يدخلوا ركعا .

قال أبو جعفر: وأصل « السجود » الانحناء لمن سُجد له معظَّما بذلك. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو « ساجد » . ومنه قول الشاعر:

بجَـمْع تضـل البُلْـقُ فـي حَجَراتـه تــرى الأكْـم منـه سـجدا للحـوافر

يعني بقوله: « سجدا » خاشعة خاضعة . ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:

يــراوح مــن صلــوات المليـك طـــورا ســـجودا وطــورا جــؤارا

فذلك تأويل ابن عباس قوله: ( سجدا ) ركعا , لأن الراكع منحن , وإن كان الساجد أشد انحناء منه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا حِطَّةٌ

وتأويل قوله: ( حطة ) ، فعلة , من قول القائل: « حط الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة » , بمنـزلة الردة والحِدة والمِدة من حددت ومددت.

واختلف أهل التأويل في تأويله . فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: ( وقولوا حطة ) ، قال قال: الحسن وقتادة: أي احطُط عنا خطايانا.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( وقولوا حطة ) ، يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئتكم.

حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: ( قولوا حطة ) قال: يحط عنكم خطاياكم .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قوله: ( حطة ) ، مغفرة .

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله: ( حطة ) ، قال: يحط عنكم خطاياكم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في قوله: ( وقولوا حطة ) ، قال: سمعنا أنه: يحط عنهم خطاياهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا « لا إله إلا الله » ، كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم , وهو قول لا إله إلا الله .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قالا أخبرنا حفص بن عمر , قال حدثنا الحكم بن أبان , عن عكرمة: ( وقولوا حطة ) ، قال: قولوا، « لا إله إلا الله » .

وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة , إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله: الاستغفار .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي , حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: ( وقولوا حطة ) قال: أمروا أن يستغفروا.

وقال آخرون نظير قول عكرمة , إلا أنهم قالوا: القول الذي أمروا أن يقولوه، هو أن يقولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم .

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( وقولوا حطة ) ، قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم.

واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت « الحطة » .

فقال بعض نحويي البصرة: رفعت « الحطة » بمعنى « قولوا » ليكن منك حطة لذنوبنا, كما تقول للرجل: سَمْعُك.

وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة , وفرض عليهم قيلها كذلك .

وقال بعض نحويي الكوفيين: رفعت « الحطة » بضمير « هذه » , كأنه قال: وقولوا: « هذه » حطة.

وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر , كأنه قال: قولوا ما هو حطة, فتكون « حطة » حينئذ خبرا لـ « ما » .

قال أبو جعفر: والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع « حطة » بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة , وهو دخولنا الباب سجدا حطة , فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنـزيل , وهو قوله: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ، كما قال جل ثناؤه: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [ الأعراف: 164 ] ، يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم . فكذلك عندي تأويل قوله: ( وقولوا حطة ) ، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا. وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد، الذي ذكرناه آنفا .

قال أبوجعفر: وأما على تأويل قول عكرمة , فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في « حطة » , لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا: « لا إله إلا الله » , أو أن يقولوا: « نستغفر الله » , فقد قيل لهم: قولوا هذا القول , ف « قولوا » واقع حينئذ على « الحطة » , لأن « الحطة » على قول عكرمة - هي قول « لا إله إلا الله » , وإذا كانت هي قول « لا إله إلا الله » , فالقول عليها واقع , كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير فقال له: « قل خيرا » نصبا , ولم يكن صوابا أن يقول له: « قل خير » ، إلا على استكراه شديد.

وفي إجماع القَرَأَةِ على رفع « الحطة » بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: ( وقولوا حطة ) . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: ( وقولوا حطة ) ، أن تكون القراءة في « حطة » نصبا. لأن من شأن العرب - إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال، وحذفوا الأفعال- أن ينصبوا المصادر. كما قال الشاعر:

أبيــدوا بـأيدي عصبـة وسـيوفهم عـلى أمهـات الهـام ضربـا شـآميا

وكقول القائل للرجل: « سمعا وطاعة » بمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة , وكما قال جل ثناؤه: مَعَاذَ اللَّهِ [ يوسف: 23 ] بمعنى: نعوذ بالله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : نَغْفِرْ لَكُمْ

يعني بقوله: ( نغفر لكم ) نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها.

وأصل « الغفر » التغطية والستر , فكل ساتر شيئا فهو غافره . ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جُنة للرأس « مغفر » , لأنها تغطي الرأس وتجنه. ومثله « غمد السيف » , وهو ما تغمده فواراه. ولذلك قيل لزئبر الثوب: « غفرة » , لتغطيته الثوب، وحوله بين الناظر والنظر إليه . ومنه قول أوس بن حجر:

فـلا أعتـب ابـن العم إن كان جاهلا وأغفـر عنـه الجـهل إن كان أجهلا

يعني بقوله: وأغفر عنه الجهل: أستر عليه جهله بحلمي عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : خَطَايَاكُمْ

و « الخطايا » جمع « خطية » بغير همز، كما « المطايا » جمع « مطية » , والحشايا جمع حشية . وإنما ترك جمع « الخطايا » بالهمز , لأن ترك الهمز في « خطيئة » أكثر من الهمز , فجمع على « خطايا » , على أن واحدتها غير مهموزة . ولو كانت « الخطايا » مجموعة على « خطيئة » بالهمز: لقيل خطائي على مثل قبيلة وقبائل , وصحيفة وصحائف . وقد تجمع « خطيئة » بالتاء، فيهمز فيقال « خطيئات » . و « الخطيئة » فعيلة، من « خَطِئَ الرجل يخطأ خِطْأ » ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه قول الشاعر:

وإن مُهَـــــاجِرَيْن تَكَنَّفـــــاه لعمــر اللــه قــد خطئـا وخابـا

يعني: أضلا الحق وأثما.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 58 )

وتأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عباس , وهو ما:-

حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج , قال ابن عباس: ( وسنـزيد المحسنين ) ، من كان منكم محسنا زيد في إحسانه , ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته.

فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات , موسعا عليكم بغير حساب ؛ وادخلوا الباب سجدا , وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا , نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه , ونحط أوزاره عنه , وسنـزيد المحسن منكم - إلى إحساننا السالف عنده - إحسانا . ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم , وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم، واستهزائهم برسله , مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم , وعجائب ما أراهم من آياته وعبره , موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات , ومعلمهم أنهم إن تعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم , وعجائب ما أظهر على يده من الحجج بين أظهرهم - أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم ، وقص علينا أنباءهم في هذه الآيات , فقال جل ثناؤه: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْـزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ الآية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ

وتأويل قوله: ( فبدل ) ، فغير . ويعني بقوله: ( الذين ظلموا ) ، الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله . ويعني بقوله: ( قولا غير الذي قيل لهم ) ، بدلوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه، فقالوا خلافه. وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم . وكان تبديلهم - بالقول الذي أمروا أن يقولوا - قولا غيره , ما:-

حدثنا به الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله لبني إسرائيل: « ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم » , فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعيرة .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد قالا حدثنا محمد بن إسحاق , عن صالح بن كيسان , عن صالح مولى التوأمة , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:-

وحدثت عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , عن سعيد بن جبير , أو عن عكرمة , عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا منه سجدا - يزحفون على أستاههم، يقولون: حنطة في شعيرة.

وحدثني محمد بن عبد الله المحاربي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك , عن معمر , عن همام , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: حِطَّةٌ ، قال: بدلوا فقالوا: حبة .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان , عن السدي , عن أبي سعيد ، عن أبي الكنود , عن عبد الله: ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة . فأنـزل الله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان , عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) قال: ركوعا - من باب صغير ، فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم ويقولون: حنطة . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد , عن ابن عباس قال: أمروا أن يدخلوا ركعا ويقولوا: حطة . قال أمروا أن يستغفروا ، قال: فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون: حنطة - يستهزئون . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثنا الحسن بن يحيي قال، أنبأنا عبد الرازق قال، أنبأنا معمر , عن قتادة والحسن: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) قالا دخلوها على غير الجهة التي أمروا بها , فدخلوها متزحفين على أوراكهم , وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم , فقالوا حبة في شعيرة.

حدثني محمد بن عمرو الباهلي . قال، حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حطة , وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا المسجد ويقولوا: حطة . وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم , فلم يسجدوا ودخلوا على أستاهم إلى الجبل - وهو الجبل الذي تجلى له ربه- وقالوا: حنطة . فذلك التبديل الذي قال الله عز وجل: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثني موسى بن هارون الهمداني [ قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة الهمداني ] ،عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: « هطى سمقا يا ازبة هزبا » , وهو بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعيرة سوداء . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قال: فدخلوا على أستاهم مقنعي رءوسهم .

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي عن النضر بن عدي , عن عكرمة: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا فدخلوا مقنعي رءوسهم - وَقُولُوا حِطَّةٌ فقالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ، قال: فكان سجود أحدهم على خده . و ( قولوا حطة ) نحط عنكم خطاياكم , فقالوا: حنطة . وقال بعضهم: حبة في شعيرة، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم .

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم، قال: فاستهزءوا به - يعني بموسى - وقالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا، حطة حطة !! أي شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض: حنطة .

حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج , وقال ابن عباس: لما دخلوا قالوا: حبة في شعيرة .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي سعد بن محمد بن الحسن قال، أخبرني عمي , عن أبيه , عن ابن عباس قال: لما دخلوا الباب قالوا: حبة في شعيرة , « فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ

يعني بقوله: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا ) ، على الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله، من تبديلهم القول - الذي أمرهم الله جل وعز أن يقولوه - قولا غيره , ومعصيتهم إياه فيما أمرهم به، وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه، ( رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ) .

و « الرِّجز » في لغة العرب، العذاب , وهو غير « الرُّجز » . وذلك أن الرِّجز: البثر، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون أنه قال: « إنه رجز عذب به بعض الأمم الذين قبلكم » .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس , عن ابن شهاب قال، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص , عن أسامة بن زيد , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن هذا الوجع - أو السقم- رجز عذب له بعض الأمم قبلكم » .

وحدثني أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة قال، حدثنا عمر بن حفص قال، حدثنا أبي، عن الشيباني، عن رياح بن عبيدة , عن عامر بن سعد قال: شهدت أسامة بن زيد عند سعد بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الطاعون رجز أنـزل على من كان قبلكم - أو على بني إسرائيل.

وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( رجزا ) ، قال: عذابا .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ) ، قال: الرجز، الغضب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قيل لبني إسرائيل: - ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم - بعث الله جل وعز عليهم الطاعون , فلم يبق منهم أحدا. وقرأ: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ) ، قال: وبقي الأبناء ففيهم الفضل والعبادة - التي توصف في بني إسرائيل- والخير وهلك الأباء كلهم , أهلكهم الطاعون .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: االرِّجز العذاب . وكل شيء في القرآن « رِجز » ، فهو عذاب .

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( رجزا ) ، قال: كل شيء في كتاب الله من « الرِّجز » يعني به العذاب .

وقد دللنا على أن تأويل « الرِّجز » العذاب . وعذاب الله جل ثناؤه أصناف مختلفة . وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنـزل على الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء . وجائز أن يكون ذلك طاعونا , وجائز أن يكون غيره . ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت، أي أصناف ذلك كان .

فالصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: فأنـزلنا عليهم رجزا من السماء بفسقهم.

غير أنه يغلب على النفس صحة ما قاله ابن زيد، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الطاعون أنه رجز , وأنه عذب به قوم قبلنا . وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقينا، لأن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيان فيه أي أمة عذبت بذلك . وقد يجوز أن يكون الذين عذبوا به، كانوا غير الذين وصف الله صفتهم في قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 59 )

وقد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى « الفسق » ، الخروج من الشيء .

فتأويل قوله: ( بما كانوا يفسقون ) إذا: بما كانوا يتركون طاعة الله عز وجل, فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ

يعني بقوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) ، وإذ استسقانا موسى لقومه، أي سألنا أن نسقي قومه ماء . فترك ذكر المسئول ذلك , والمعنى الذي سأل موسى, إذْ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك.

وكذلك قوله: ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ) ، مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه . وذلك أن معنى الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر , فضربه، فانفجرت . فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر , إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه .

وكذلك قوله: ( قد علم كل أناس مشربهم ) ، إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم . فترك ذكر « منهم » لدلالة الكلام عليه .

وقد دللنا فيما مضى على أن « أناس » جمع لا واحد له من لفظه، وأن « الإنسان » لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية.

وقوم موسى هم بنو إسرائيل، الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات . وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه , كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد بن أبي عروبة , عن قتادة قوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) الآية قال، كان هذا إذْ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ , فأمروا بحجر طوري - أي من الطور - أن يضربه موسى بعصاه . فكانوا يحملونه معهم , فإذا نـزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم .

حدثني تميم بن المنتصرقال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا أصبغ بن زيد , عن القاسم بن أبي أيوب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال: ذلك في التيه؛ ظلل عليهم الغمام , وأنـزل عليهم المن والسلوى , وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ , وجُعل بين ظهرانيهم حجر مربع , وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر , فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون , لكل سبط عين ؛ ولا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنـزل الأول . .

حدثني عبد الكريم قال، أخبرنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان , عن أبي سعيد , عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذلك في التيه . ضرب لهم موسى الحجر , فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء , لكل سبط منهم عين يشربون منها .

وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ) لكل سبط منهم عين . كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا .

حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد قوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) ، قال: خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا , فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا ، ضربه موسى . قال ابن جريج: قال ابن عباس: « الأسباط » بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد سبطا، أمة من الناس .

وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: استسقى لهم موسى في التيه , فسقوا في حجر مثل رأس الشاة، قال: يلقونه في جوانب الجوالَق إذا ارتحلوا , ويقرعه موسى بالعصا إذا نـزل , فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا , لكل سبط منهم عين ، فكان بنو إسرائيل يشربون منه , حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون , وقيل به فألقى في جانب الجوالق . فإذا نـزل رمى به ، فقرعه بالعصا , فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثني أسباط , عن السدي قال: كان ذلك في التيه .

وأما قوله: ( قد علم كل أناس مشربهم ) ، فإنما أخبر الله عنهم بذلك. لأن معناهم - في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر، الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته- من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين، التي لا مالك لها سوى الله عز وجل . وذلك أن الله كان جعل لكل سبط من الأسباط الاثني عشر، عينا من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره. وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة، موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه. فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس . إذ كان غيرهم - في الماء الذي لا يملكه أحد- شركاء في منابعه ومسايله. وكان كل سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر - دون سائر منابعه - خاص لهم دون سائر الأسباط غيرهم. فلذلك خصوا بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ

وهذا أيضا مما استغني بذكر ما هو ظاهر منه، عن ذكره ما ترك ذكره . وذلك أن تأويل الكلام: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ، فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , قد علم كل أناس مشربهم , فقيل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله. أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المن والسلوى , وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور، الذي لا قرار له في الأرض , ولا سبيل إليه [ إلا ] لمالكيه، يتدفق بعيون الماء، ويزخر بينابيع العذب الفرات، بقدرة ذي الجلال والإكرام .

ثم تقدم جل ذكره إليهم - مع إباحتهم ما أباح، وإنعامه بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء - بالنهي عن السعي في الأرض فسادا , والعَثَا فيها استكبارا , فقال جل ثناؤه لهم: وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 60 )

يعني بقوله: ( لا تعثوا ) لا تطغوا , ولا تسعوا في الأرض مفسدين . كما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: لا تسعوا في الأرض فسادا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) لا تعث: لا تطغ .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد , عن قتادة: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، أي لا تسيروا في الأرض مفسدين .

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، لا تسعوا في الأرض .

وأصل « العَثَا » شدة الإفساد , بل هو أشد الإفساد. يقال منه: « عَثِيَ فلان في الأرض » - إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته- « يعثى عثا » مقصور , وللجماعة: هم يعثون . وفيه لغتان أخريان، إحداهما: « عثا يعثو عُثُوّا » . ومن قرأها بهذه اللغة , فإنه ينبغي له أن يضم الثاء من « يعثو » , ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته قرأ به. ومن نطق بهذه اللغة مخبرا عن نفسه قال: « عثوت أعثو » , ومن نطق باللغة الأولى قال: « عَثِيت أَعْثَى » .

والأخرى منهما: « عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا » , كل ذلك بمعنى واحد . ومن « العيث » قول رؤبة بن العجاج:

وعــاث فينــا مســتحل عـائث: مُصَـــدِّق أو تـــاجر مقــاعث

يعني بقوله: « عاث فينا » ، أفسد فينا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا

قد دللنا - فيما مضى قبل- على معنى « الصبر » وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء. فإذ كان ذلك كذلك , فمعنى الآية إذا: واذكروا إذا قلتم - يا معشر بني إسرائيل- : لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد - وذلك « الطعام الواحد » ، هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو « السلوى » في قول بعض أهل التأويل , وفي قول وهب بن منبه هو « الخبز النقي مع اللحم » - فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء ، وما سمى الله مع ذلك، وذكر أنهم سألوه موسى .

وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا , ما: -

حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد , عن قتادة قوله: ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ) قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام , وأنـزل عليهم المن والسلوى , فملوا ذلك , وذكروا عيشا كان لهم بمصر , فسألوه موسى . فقال الله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( لن نصبر على طعام واحد ) ، قال: ملوا طعامهم , وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك , قالوا: ( ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها ) الآية .

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ) ، قال: كان طعامهم السلوى , وشرابهم المن , فسألوا ما ذكر , فقيل لهم: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .

قال أبو جعفر: وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشام فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها , فقالوا: ( ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) ، وكانوا قد ظلل عليهم الغمام، وأنـزل عليهم المن والسلوى , فملوا ذلك , وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح في قوله عز وجل: ( لن نصبر على طعام واحد ) ، المن والسلوى , فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بمثله سواء .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد بمثله .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: أُعطوا في التيه ما أُعطوا , فملوا ذلك وقالوا: ( يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أنبأنا ابن زيد قال: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا , وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينـزل لهم من السماء يقال له المن , وطعامهم طير يقال له السلوى , يأكلون الطير ويشربون العسل , لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره . فقالوا: « يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا » ، فقرأ حتى بلغ: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .

وإنما قال جل ذكره: ( يخرج لنا مما تنبت الأرض ) - ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض , فيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها - لأن « من » تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها , فاكتفي بها عن ذكر التبعيض , إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه. كقول القائل: أصبح اليوم عند فلان من الطعام « يريد شيئا منه. »

وقد قال بعضهم: « من » ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط . كأن معنى الكلام عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها . واستشهد على ذلك بقول العرب: « ما رأيت من أحد » بمعنى: ما رأيت أحدا , وبقول الله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [ البقرة: 271 ] ، وبقولهم: « قد كان من حديث , فخل عني حتى أذهب , يريدون: قد كان حديث . »

وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون « من » بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام , وادعوا أن دخولها في كل موضع دخلت فيه، مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه , وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم .

فتأويل الكلام إذا - على ما وصفنا من أمر « من » - : فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها .

و « البقل » و « القثاء » و « العدس » و « البصل » , هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها .

وأما « الفوم » , فإن أهل التأويل اختلفوا فيه . فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد ومؤمل قالا حدثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن عطاء قال: الفوم:، الخبز .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان , عن ابن جريج , عن عطاء ومجاهد قوله: ( وفومها ) قالا خبزها .

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو قالا حدثنا أبو عاصم , عن عيسى بن ميمون , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( وفومها ) ، قال: الخبز .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد , عن سعيد , عن قتادة والحسن: الفوم، هو الحب الذي يختبزه الناس .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة والحسن بمثله .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين , عن أبي مالك في قوله: ( وفومها ) قال: الحنطة .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر عن السدي: ( وفومها ) ، الحنطة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم , عن يونس , عن الحسن وحصين , عن أبي مالك في قوله: ( وفومها ) ، الحنطة.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي , عن قتادة قال: الفوم، الحب الذي يختبز الناس منه .

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لى عطاء بن أبي رياح قوله: ( وفومها ) ، قال: خبزها، قالها مجاهد .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال لي ابن زيد: الفوم، الخبز.

حدثني يحيى بن عثمان السهمي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس في قوله: ( وفومها ) يقول: الحنطة والخبز .

حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( وفومها ) قال: هو البر بعينه، الحنطة.

حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا مسلم الجرمي قال، حدثنا عيسى بن يونس , عن رشدين بن كريب , عن أبيه , عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ( وفومها ) قال: الفوم، الحنطة بلسان بني هاشم .

حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد العزيز بن منصور , عن نافع بن أبي نعيم، أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله: ( وفومها ) ، قال: الحنطة، أما سمعت قول أُحَيْحة بن الجُلاح وهو يقول:

قـد كـنت أغنـى الناس شخصا واحدا وَرَد المدينــة عــن زراعـة فـوم

وقال آخرون: هو الثوم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك , عن ليث , عن مجاهد قال: هو هذا الثوم .

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قال: الفوم، الثوم .

وهو في بعض القراءات « وثومها » .

وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا « فوما » من اللغة القديمة . حكي سماعا من أهل هذه اللغة: « فوموا لنا » , بمعنى اختبزوا لنا .

وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود: « وثومها » بالثاء . فإن كان ذلك صحيحا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: « وقعوا في عاثور شر: وعافور شر » وكقولهم « » للأثافي، أثاثي؛ وللمغافير، مغاثير وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء، لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. و « المغافير » شبيه بالشيء الحلو، يشبه بالعسل، ينـزل من السماء حلوا، يقع على الشجر ونحوها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ

يعني بقوله: ( قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش , بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا؟ وذلك كان استبدالهم .

وأصل « الاستبدال » : هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك .

ومعنى قوله: ( أدنى ) أخس وأوضع وأصغر قدرا وخطرا . وأصله من قولهم: « هذا رجل دني بين الدناءة » و « إنه ليدنِّي في الأمور » بغير همز، إذا كان يتتبع خسيسها . وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك، سماعا منهم . يقولون: ما كنتَ دانئا، ولقد دنأتَ ، وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره، أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى

باســــلةُ الـــوقعِ ســـرابيلها بيــض إلــى دانِئِهــا الظــاهر

بهمز الدانئ , وأنه سمعهم يقولون: « إنه لدانئ خبيث » بالهمز . فإن كان ذلك عنهم صحيحا , فالهمز فيه لغة، وتركه أخرى .

ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم , فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه .

وقد تأول بعضهم قوله: ( الذي هو أدنى ) بمعنى: الذي هو أقرب , ووجه قوله: ( أدنى ) ، إلى أنه أفعل من « الدنو » الذي هو بمعنى القرب .

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( الذي هو أدنى ) قاله عدد من أهل التأويل في تأويله .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة قال: ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ، يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج , عن مجاهد قوله: ( الذي هو أدنى ) قال: أردأ.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ

وتأويل ذلك: فدعا موسى، فاستجبنا له , فقلنا لهم: « اهبطوا مصرا » ، وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه .

وقد دللنا - فيما مضى- على أن معنى « الهبوط » إلى المكان، إنما هو النـزول إليه والحلول به .

فتأويل الآية إذا: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش، بالذي هو خير منه. فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه , فاستجاب الله له دعاءه , فأعطاهم ما طلبوا , وقال الله لهم: ( اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) .

ثم اختلف القَرَأَة في قراءة قوله ( مصرا ) فقرأه عامة القَرَأَة: « مصرا » بتنوين « المصر » وإجرائه. وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه . فأما الذين نونوه وأجروه , فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار، لا مصرا بعينه . فتأويله - على قراءتهم- : اهبطوا مصرا من الأمصار , لأنكم في البدو , والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي , وإنما يكون في القرى والأمصار , فإن لكم - إذا هبطتموه- ما سألتم من العيش . وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين , كان تأويل الكلام عنده: « اهبطوا مصرا » البلدة التي تعرف بهذا الاسم، وهي « مصر » التي خرجوا عنها . غير أنه أجراها ونونها اتباعا منه خط المصحف , لأن في المصحف ألفا ثابتة في « مصر » , فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين، سبيل من قرأ: قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [ الإنسان: 15- 16 ] منونة اتباعا منه خط المصحف . وأما الذي لم ينون مصر فإنه لا شك أنه عنى « مصر » التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، نظير اختلاف القَرَأَة في قراءته .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة: ( اهبطوا مصرا ) ، أي مصرا من الأمصار، فإن لكم ما سألتم.

وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( اهبطوا مصرا ) من الأمصار , فإن لكم ما سألتم. فلما خرجوا من التيه، رفع المن والسلوى وأكلوا البقول .

وحدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن قتادة في قوله: ( اهبطوا مصرا ) قال: يعني مصرا من الأمصار .

وحدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد: ( اهبطوا مصرا ) قال: مصرا من الأمصار . زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( اهبطوا مصرا ) ، قال: مصرا من الأمصار . و « مصر » لا تُجْرَى في الكلام. فقيل: أي مصر. فقال: الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، وقرأ قول الله جل ثناؤه: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [ المائدة: 21 ] .

وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، حدثنا آدم , حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( اهبطوا مصرا ) قال: يعني به مصر فرعون .

حدثنا عن عمار بن الحسن , عن ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع مثله .

ومن حجة من قال إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: ( اهبطوا مصرا ) ، مصرا من الأمصار دون « مصر » فرعون بعينها - : أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر . وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ المائدة: 21- 24 ] ، فحرم الله جل وعز على قائلي ذلك - فيما ذكر لنا- دخولها حتى هلكوا في التيه. وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة , ثم أهبط ذريتهم الشأم , فأسكنهم الأرض المقدسة , وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون - بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها , فيجوز لنا أن نقرأ: « اهبطوا مصر » , ونتأوله أنه ردهم إليها .

قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء: 57- 59 ] قيل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك، فملكهم إياها ولم يردهم إليها , وجعل مساكنهم الشأم .

وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: ( اهبطوا مصرَ ) مصرَ ؛ فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء: 57- 59 ] وقوله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ الدخان: 25- 28 ] ، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم , فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها . قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها , وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها . قالوا: وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: « اهبطوا مصر » بغير ألف . قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها « مصر » بعينها .

قال أبوجعفر: والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين , ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله ، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض - على ما بينه الله جل وعز في كتابه - وهم في الأرض تائهون , فاستجاب الله لموسى دعاءه , وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك , إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار « مصر » ، وجائز أن يكون « الشأم » .

فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: ( اهبطوا مصرا ) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين , واتفاق قراءة القَرَأَة على ذلك . ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة، فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينهما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ

قال أبو جعفر: يعنى بقوله: ( وضربت ) أي فرضت . ووضعت عليهم الذلة وألزموها . من قول القائل: « ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة » و « ضرب الرجل على عبده الخراج » يعني بذلك وضعه فألزمه إياه , ومن قولهم: « ضرب الأمير على الجيش البعث » , يراد به: ألزمهموه .

وأما « الذلة » فهي « الفعلة » من قول القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة ، كـ « الصغرة » من « صغُر الأمر » , و « القِعدة » من « قعد » .

و « الذلة » هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله - إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم , فقال عز وجل: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التوبة: 29 ] كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن الحسن وقتادة في قوله: ( وضربت عليهم الذلة ) ، قالا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .

وأما « المسكنة » فإنها مصدر « المسكين » . يقال: « ما فيهم أسكن من فلان » و « ما كان مسكينا » و « لقد تمسكن مسكنة » . ومن العرب من يقول: « تمسكن تمسكنا » . و « المسكنة » في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة , وهي خشوعها وذلها ، كما:-

حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( والمسكنة ) قال: الفاقة.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي قوله: ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) ، قال: الفقر.

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) ، قال: هؤلاء يهود بني إسرائيل . قلت له: هم قبط مصر؟ قال: وما لقبط مصر وهذا، لا والله ما هم هم , ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل.

فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا وبالنعمة بؤسا , وبالرضا عنهم غضبا , جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداء وظلما منهم بغير حق , وعصيانهم له , وخلافا عليه .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وباءوا بغضب من الله ) ، انصرفوا ورجعوا . ولا يقال « باؤوا » إلا موصولا إما بخير، وإما بشر . يقال منه: « باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء » . ومنه قول الله عز وجل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [ المائدة : 29 ] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني .

فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله , قد صار عليهم من الله غضب , ووجب عليهم منه سخط . كما:-

حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله: ( وباؤوا بغضب من الله ) فحدث عليهم غضب من الله .

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله: ( وباؤوا بغضب من الله ) قال: استحقوا الغضب من الله .

وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا , فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ذلك » ضرب الذلة والمسكنة عليهم , وإحلاله غضبه بهم . فدل بقوله: « ذلك » - وهي يعني به ما وصفنا - على أن قول القائل: « ذلك » يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.

ويعني بقوله: ( بأنهم كانوا يكفرون ) ، من أجل أنهم كانوا يكفرون . يقول: فعلنا بهم - من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم- من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق , كما قال أعشى بني ثعلبة:

مليكيـــةٌ جَـــاوَرَتْ بالحجـــا ز قومـــا عـــداة وأرضــا شــطيرا

بمــا قــد تَــرَبَّع روض القطـا وروض التنــاضِب حــتى تصــــيرا

يعني بذلك: جاورت بهذا المكان، هذه المرأة، قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله - لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده - من تربعها روض القطا وروض التناضب . فكذلك قوله: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا , وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا .

وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى « الكفر » : تغطية الشيء وستره، وأن « آيات الله » حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله .

فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله، ويدفعون حقيتها , ويكذبون بها.

ويعني بقوله: ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم - لإنباء ما أرسلهم به عنه- لمن أرسلوا إليه.

وهم جماع، وأحدهم « نبي » , غير مهموز , وأصله الهمز , لأنه من « أنبأ عن الله فهو ينبئ عنه إنباء » ، وإنما الاسم منه، « منبئ » ولكنه صرف وهو « مفعل » إلى « فعيل » , كما صرف « سميع » إلى « فعيل » من « مسمع » , و « بصير » من « مبصر » , وأشباه ذلك , وأبدل مكان الهمزة من « النبيء » الياء , فقيل: « نبي » . هذا ويجمع « النبي » أيضا على « أنبياء » , وإنما جمعوه كذلك، لإلحاقهم « النبيء » ، بإبدال الهمزة منه ياء، بالنعوت التي تأتي على تقدير « فعيل » من ذوات الياء والواو . وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير « فعيل » من ذوات الياء والواو، جمعوه على « أفعلاء » كقولهم: « ولي وأولياء » ، و « وصي وأوصياء » ، و « دعى وأدعياء » . ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله ، وعلى أن الواحد « نبيء » مهموز، لجمعوه على « فعلاء » , فقيل لهم « النبآء » , على مثال « النبهاء » , لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت، كجمعهم الشريك شركاء , والعليم علماء ، والحكيم حكماء , وما أشبه ذلك . وقد حكي سماعا من العرب في جمع « النبي » « النبآء » , وذلك من لغة الذين يهمزون « النبيء » , ثم يجمعونه على « النبآء » - على ما قد بينت . ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم .

يــا خــاتم النبـآء إنـك مرسـل بـــالخير كـــلُّ هــدى الســبيل هداكــا

فقال : « يا خاتم النبآء » , على أن واحدهم « نبيء » مهموز . وقد قال بعضهم: « النبي » و « النبوة » غير مهموز ، لأنهما مأخوذان من « النَّبْوَة » , وهي مثل « النَّجْوَة » , وهو المكان المرتفع ، وكان يقول: إن أصل « النبي » الطريق , ويستشهد على ذلك ببيت القطامي:

لمــا وردن نَبِيَّــا واســتَتَبّ بهـا مُسْــحَنْفِر كخـطوط السَّـيْح مُنْسَـحِل

يقول: إنما سمى الطريق « نبيا » , لأنه ظاهر مستبين، من « النَّبوة » . ويقول: لم أسمع أحدا يهمز « النبي » . قال . وقد ذكرنا ما في ذلك، وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله.

ويعني بقوله: ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) ، أنهم كانوا يقتلون رسل الله، بغير إذن الله لهم بقتلهم، منكرين رسالتهم، جاحدين نبوتهم.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )

وقوله: ( ذلك ) ، رد على ذَلِكَ الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة, وباؤوا بغضب من الله من أجل كفرهم بآيات الله, وقتلهم النبيين بغير الحق, من أجل عصيانهم ربهم , واعتدائهم حدوده، فقال جل ثناؤه. ( ذلك بما عصوا ) ، والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين.

و « الاعتداء » ، تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره. وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك، بما عصوا أمري, وتجاوزوا حدي إلى ما نهيتهم عنه.