القول في تأويل قوله : وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ( 75 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « وما لكم » أيها المؤمنون « لا تقاتلون في سبيل الله » ، وفي « المستضعفين » ، يقول: عن المستضعفين منكم « من الرجال والنساء والولدان » ، فأما من « الرجال » ، فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة، فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم، وآذوهم، ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم ليفتنوهم عن دينهم، فحضَّ الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار، فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله، وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدِّهم عن دينهم؟ « من الرجال والنساء والولدان » جمع « ولد » : وهم الصبيان « الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها » ، يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، يقولون في دعائهم ربَّهم بأن ينجييهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين: « يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها » .

والعرب تسمي كل مدينة « قرية » يعني: التي قد ظلمتنا وأنفسَها أهلُها وهي في هذا الموضع، فيما فسر أهل التأويل، « مكة » .

وخفض « الظالم » لأنه من صفة « الأهل » ، وقد عادت « الهاء والألف » اللتان فيه على « القرية » ، وكذلك تفعل العرب إذا تقدمت صفة الاسم الذي معه عائد لاسم قبلها، أتبعت إعرابها إعرابَ الاسم الذي قبلها، كأنها صفة له، فتقول: « مررت بالرجلِ الكريمِ أبوه » .

« واجعل لنا من لدنك وليًّا » ، يعني: أنهم يقولون أيضًا في دعائهم: يا ربنا، واجعل لنا من عندك وليًّا، يلي أمرنا بالكفاية مما نحن فيه من فتنة أهل الكفر بك « واجعل لنا من لدنك نصيرًا » ، يقولون: واجعل لنا من عندك من ينصرنا على من ظلمنا من أهل هذه القرية الظالم أهلها، بصدِّهم إيانا عن سبيلك، حتى تظفرنا بهم، وتعلي دينك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها » ، قال: أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي المؤمنين، كانوا بمكة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان » الصبيان « الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها » ، مكة أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها » ، يقول: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين وأما « القرية » ، فمكة.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: « وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين » ، قال: وفي المستضعفين.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع محمد بن مسلم بن شهاب يقول، « وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان » ، قال: في سبيل الله وسبيل المستضعفين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: « أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها » ، قالا خرج رجل من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة، فأدركه الموت في الطريق، فنأى بصدره إلى القرية الصالحة، فما تلافاه إلا ذلك فاحتجَّت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمروا أن يقدُروا أقرب القريتين إليه، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبْرٍ وقال بعضهم: قرّب الله إليه القرية الصالحة، فتوفَّته ملائكة الرحمة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان » ، هم أناس مسلمون كانوا بمكة، لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا، فعذرهم الله، فهم أولئك وقوله: « ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها » ، فهي مكة.

9950م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها » ، قال: وما لكم لا تفعلون؟ تقاتلون لهؤلاء الضعفاء المساكين الذين يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، فهم ليس لهم قوة، فما لكم لا تقاتلون حتى يسلم الله هؤلاء ودينهم؟ قال: و « القرية الظالم أهلها » ، مكة.

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ( 76 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: الذين صدقوا الله ورسوله، وأيقنوا بموعود الله لأهل الإيمان به « يقاتلون في سبيل الله » ، يقول: في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده « والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت » ، يقول: والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم « يقاتلون في سبيل الطاغوت » ، يعني: في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله. يقول الله، مقوِّيًا عزم المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحرِّضهم على أعدائه وأعداء دينه من أهل الشرك به: « فقاتلوا » أيها المؤمنون، « أولياء الشيطان » ، يعني بذلك: الذين يتولَّونه ويطيعون أمره، في خلاف طاعة الله، والتكذيب به، وينصرونه « إن كيد الشيطان كان ضعيفًا » ، يعني بكيده: ما كاد به المؤمنين، من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل الإيمان به. يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان، فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وَهَن وضعف.

وإنما وصفهم جل ثناؤه بالضعف، لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب، ولا يتركون القتال خوف عقاب، وإنما يقاتلون حميّة أو حسدًا للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله. والمؤمنون يقاتل مَن قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب الله، ويترك القتال إن تركه على خوف من وعيد الله في تركه، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن قتل، وبما لَه من الغنيمة والظفر إن سلم. والكافر يقاتل على حذر من القتل، وإياس من معاد، فهو ذو ضعف وخوف.

 

القول في تأويل قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ

قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن يُفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شقّ عليهم ذلك، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه.

فتأويل قوله: « ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم » ، ألم تر بقلبك، يا محمد، فتعلم « إلى الذين قيل لهم » ، من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم القتال « كفوا أيديكم » ، فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم « وأقيموا الصلاة » ، يقول: وأدُّوا الصلاة التي فرضها الله عليكم بحدودها « وآتوا الزكاة » ، يقول: وأعطوا الزكاة أهلها الذين جعلها الله لهم من أموالكم، تطهيرًا لأبدانكم وأموالكم كرهوا ما أمروا به من كف الأيدي عن قتال المشركين وشق ذلك عليهم « فلما كتب عليهم القتال » ، يقول: فلما فرض عليهم القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم « إذا فريق منهم » ، يعني: جماعة منهم « يخشون الناس » ، يقول: يخافون الناس أن يقاتلوهم « كخشية الله أو أشد خشية » ، أو أشد خوفًا وقالوا جزعًا من القنال الذي فرض الله عليهم: « لم كتبت علينا القتال » ، لم فرضت علينا القتال؟ ركونًا منهم إلى الدنيا، وإيثارًا للدعة فيها والخفض، على مكروه لقاء العدوّ ومشقة حربهم وقتالهم « لولا أخرتنا » ، يخبر عنهم، قالوا: هلا أخرتنا « إلى أجل قريب » ، يعني: إلى أن يموتوا على فُرُشهم وفي منازلهم. .

وبنحو الذي قلنا إنّ هذه الآية نـزلت فيه، قال أهل التأويل.

ذكر الآثار بذلك، والرواية عمن قاله.

حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، كنا في عِزّ ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذِلة! فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا. فلما حوَّله الله إلى المدينة، أمر بالقتال فكفوا، فأنـزل الله تبارك وتعالى: « ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم » ، الآية .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: « ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم » ، عن الناس « فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم » ، نـزلت في أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابن جريج وقوله: « وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب » ، قال: إلى أن نموت موتًا، هو « الأجل القريب » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة » ، فقرأ حتى بلغ: « إلى أجل قريب » ، قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة، تسرَّعوا إلى القتال، فقالوا لنبي الله صلى الله عليه وسلم: ذَرْنا نتَّخذ مَعَاول فنقاتل بها المشركين بمكة! فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال: لم أؤمر بذلك. فلما كانت الهجرة، وأُمر بالقتال، كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » ، قال: هم قوم أسلموا قبل أن يُفرض عليهم القتال، ولم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال « فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية » الآية، إلى « إلى أجل قريبٍ » وهو الموت، قال الله: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى .

وقال آخرون: نـزلت هذه وآيات بعدها، في اليهود.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة » إلى قوله: لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا ، ما بين ذلك في اليهود.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم » إلى قوله: « لم كتبت علينا القتال » ، نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا ( 77 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « قل متاع الدنيا قليل » ، قل، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين قالوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ : عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل، لأنها فانية وما فيها فانٍ « والآخرة خير » ، يعني: ونعيم الآخرة خير، لأنها باقية ونعيمها باق دائم. وإنما قيل: « والآخرة خير » ، ومعنى الكلام ما وصفت، من أنه معنيٌّ به نعيمها - لدلالة ذكر « الآخرة » بالذي ذكرت به، على المعنى المراد منه « لمن اتقى » ، يعني: لمن اتقى الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فأطاعه في كل ذلك « ولا تظلمون فتيلا » ، يعني: ولا ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلا.

وقد بينا معنى: « الفتيل » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته ههنا.

 

القول في تأويل قوله : أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: حيثما تكونوا يَنَلكم الموت فتموتوا « ولو كنتم في بروج مشيَّدة » ، يقول: لا تجزعوا من الموت، ولا تهربوا من القتال، وتضعفوا عن لقاء عدوكم، حذرًا على أنفسكم من القتل والموت، فإن الموت بإزائكم أين كنتم، وواصلٌ إلى أنفسكم حيث كنتم، ولو تحصَّنتم منه بالحصون المنيعة.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: « ولو كنتم في بروج مشيدة » .

فقال بعضهم: يعنى به: قصور مُحصنة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولو كنتم في بروج مشيدة » ، يقول: في قصور محصنة.

حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا أبو همام قال، حدثنا كثير أبو الفضل، عن مجاهد قال: كان فيمن كان قبلكم امرأة، وكان لها أجيرٌ، فولدت جارية. فقالت لأجيرها: اقتبس لنا نارًا، فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟ قال: جارية. قال: أما إنّ هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمئة، ويتزوجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فقال الأجير في نفسه: فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمئة!! فأخذ شفرة فدخل فشق بطن الصبية. وعولجت فبرِئت، فشبَّت، وكانت تبغي، فأتت ساحلا من سواحل البحر، فأقامت عليه تبغي. ولبث الرجل ما شاء الله، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل الساحل: ابغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوجها! فقالت: ههنا امرأة من أجمل الناس، ولكنها تبغي. قال: ائتيني بها. فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير، وقد قال لي: كذا. فقلت له: كذا. فقالت: إني قد تركت البغاء، ولكن إن أراد تزوَّجته! قال: فتزوجها، فوقعت منه موقعًا. فبينا هو يومًا عندها إذ أخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية! وأرته الشق في بطنها وقد كنت أبغي، فما أدري بمئة أو أقل أو أكثر! قال: فإنّه قال لي: يكون موتها بعنكبوت. قال: فبنى لها برجًا بالصحراء وشيده. فبينما هما يومًا في ذلك البرج، إذا عنكبوت في السقف، فقالت: هذا يقتلني؟ لا يقتله أحد غيري! فحركته فسقط، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدَخَتْه، وساحَ سمه بين ظفرها واللحم، فاسودت رجلها فماتت. فنـزلت هذه الآية: « أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « ولو كنتم في بروج مشيدة » ، قال: قصور مشيدة.

وقال آخرون: معنى ذلك: قصورٌ بأعيانها في السماء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة » ، وهي قصور بيض في سماء الدنيا، مبنية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله: « أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة » ، يقول: ولو كنتم في قصور في السماء.

واختلف أهل العربية في معنى « المشيدة » .

فقال بعض أهل البصرة منهم: « المشيدة » ، الطويلة. قال: وأما « المشِيدُ » ، بالتخفيف، فإنه المزيَّن.

وقال آخر منهم نحو ذلك القول، غير أنه قال: « المَشِيد » بالتخفيف المعمول بالشِّيد، و « الشيد » الجِصُّ.

وقال بعض أهل الكوفة: « المَشيد » و « المُشَيَّد » ، أصلهما واحد، غير أن ما شدِّد منه، فإنما يشدد لنفسه، والفعل فيه في جمع، مثل قولهم: « هذه ثياب مصبَّغة » ، و « غنم مذبَّحة » ، فشدد؛ لأنها جمع يفرَّق فيها الفعل. وكذلك مثله، « قصور مشيدة » ، لأن القصور كثيرة تردد فيها التشييد، ولذلك قيل: « بروج مشيدة » ، ومنه قوله: وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ ، وكما يقال: « كسَّرت العودَ » ، إذا جعلته قطعًا، أي: قطعة بعد قطعة. وقد يجوز في ذلك التخفيف، فإذا أفرد من ذلك الواحد، فكان الفعل يتردد فيه ويكثر تردده في جمع منه، جاز التشديد عندهم والتخفيف، فيقال منه: « هذا ثوب مخرَّق » و « جلد مقطع » ، لتردد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق. وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردد، ولم يجيزوه إلا بالتخفيف، وذلك نحو قولهم: « رأيت كبشًا مذبوحًا » ولا يجيزون فيه: « مذَّبحًا » ، لأن الذبح لا يتردد فيه تردد التخرُّق في الثوب.

وقالوا: فلهذا قيل: « قصر مَشِيد » ، لأنه واحد، فجعل بمنـزلة قولهم: « كبش مذبوح » . وقالوا: جائز في القصر أن يقال: « قصر مشيَّد » بالتشديد، لتردد البناء فيه والتشييد، ولا يجوز ذلك في « كبش مذبوح » ، لما ذكرنا.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ

قل أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله » ، وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة « يقولوا هذه من عند الله » ، يعني: من قبل الله ومن تقديره « وإن تصبهم سيئة » ، يقول: وإن تنلهم شدة من عيش وهزيمة من عدو وجراح وألم، يقولوا لك يا محمد: « هذه من عندك » ، بخطئك التدبير.

وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر قالا حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك » ، قال: هذه في السراء والضراء.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك » فقرأ حتى بلغ: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا ، قال: إن هذه الآيات نـزلت في شأن الحرب. فقرأ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا فقرأ حتى بلغ: « وإن تصبهم سيئة » ، يقولوا: « هذه من عند محمد عليه السلام، أساء التدبير وأساء النظر! ما أحسن التدبير ولا النظر » .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « قل كل من عند الله » ، قل، يا محمد، لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة: « هذه من عند الله » ، وإذا أصابتهم سيئة: هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ : كل ذلك من عند الله، دوني ودون غيري، من عنده الرخاء والشدة، ومنه النصر والظفر، ومن عنده الفَلُّ والهزيمة، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: « قل كل من عند الله » ، النعم والمصائب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « كل من عند الله » ، النصر والهزيمة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا » ، يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها.

 

القول في تأويل قوله : فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ( 78 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فمال هؤلاء القوم » ، فما شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وإن تصبهم سيئة يقولوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ « لا يكادون يفقهون حديثًا » ، يقول: لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به، من أن كل ما أصابهم من خير أو شر، أو ضرّ وشدة ورخاء، فمن عند الله، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدًا سيئة إلا بتقديره، ولا ينال رخاءً ونعمة إلا بمشيئته.

وهذا إعلام من الله عبادَه أن مفاتح الأشياء كلها بيده، لا يملك شيئًا منها أحد غيره.

 

القول في تأويل قوله : مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، ما يصيبك، يا محمد، من رخاء ونعمة وعافية وسلامة، فمن فضل الله عليك، يتفضل به عليك إحسانًا منه إليك وأما قوله: « وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، يعني: وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه « فمن نفسك » ، يعني: بذنب استوجبتها به، اكتسبته نفسك، كما:-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، أما « من نفسك » ، فيقول: من ذنبك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، عقوبة، يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عَثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، يقول: « الحسنة » ، ما فتح الله عليه يوم بدر، وما أصابه من الغنيمة والفتح و « السيئة » ، ما أصابه يوم أُحُد، أنْ شُجَّ في وجهه وكسرت رَبَاعيته.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، يقول: بذنبك ثم قال: كل من عند الله، النعم والمصيبات.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبي جعفر قالا حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله: « ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، قال: هذه في الحسنات والسيئات.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، قال: عقوبةً بذنبك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، بذنبك، كما قال لأهل أُحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [ سورة آل عمران: 165 ] ، بذنوبكم.

حدثني يونس قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: « وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، قال: بذنبك، وأنا قدّرتها عليك.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: « ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » ، وأنا الذي قدّرتها عليك.

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح بمثله.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه دخول « مِن » في قوله: « ما أصابك من حسنة » و « من سيئة » ؟

قيل: اختلف في ذلك أهل العربية.

فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت « من » لأن « من » تحسن مع النفي، مثل: « ما جاءني من أحد » . قال: ودخول الخبر بالفاء، لأن « ما » بمنـزلة « مَن » .

وقال بعض نحويي الكوفة: أدخلت « مِن » مع « ما » ، كما تدخل على « إن » في الجزاء، لأنهما حرفا جزاء. وكذلك، تدخل مع « مَن » ، إذا كانت جزاء، فتقول العرب: « مَن يزرك مِن أحد فتكرمه » ، كما تقول: « إن يَزُرك من أحد فتكرمه » . قال: وأدخلوها مع « ما » و « مَنْ » ، ليعلم بدخولها معهما أنهما جزاء. قالوا: وإذا دخلت معهما لم تحذف، لأنها إذا حذفت صار الفعل رافعًا شيئين، وذلك أن « ما » في قوله: « ما أصابك من سيئة » رفع بقوله: « أصابك » ، فلو حذفت « مِن » ، رفع قوله: « أصابك » « السيئةَ » ، لأن معناه: إن تصبك سيئة فلم يجز حذف « مِن » لذلك، لأن الفعل الذي هو على « فعل » أو « يفعل » ، لا يرفع شيئين. وجاز ذلك مع « مَن » ، لأنها تشتبه بالصفات، وهي في موضع اسم. فأما « إن » فإن « مِن » تدخل معها وتخرج، ولا تخرج مع « أيٍّ » ، لأنها تعرب فيبين فيها الإعراب، ودخلت مع « ما » ، لأن الإعراب لا يظهر فيها.

 

القول في تأويل قوله : وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 79 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « وأرسلناك للناس رسولا » ، إنما جعلناك، يا محمد، رسولا بيننا وبين الخلق، تبلّغهم ما أرسلناك به من رسالة، وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت، فإن قبلوا ما أرسلت به فلأنفسهم، وإن ردُّوا فعليها « وكفى بالله » عليك وعليهم « شهيدًا » ، يقول: حسبك الله تعالى ذكره، شاهدًا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه، وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم، فإنه لا يخفى عليه أمرك وأمرهم، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدَك، ومجازيهم ما عملوا من خير وشر، جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.