القول في تأويل قوله : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ( 80 )

قال أبو جعفر: وهذا إعذارٌ من الله إلى خلقه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى ذكره لهم: من يطع منكم، أيها الناس، محمدًا فقد أطاعني بطاعته إياه، فاسمعوا قوله وأطيعوا أمرَه، فإنه مهما يأمركم به من شيء فمن أمري يأمركم، وما نهاكم عنه من شيء فمن نهيي، فلا يقولنَّ أحدكم: « إنما محمد بشر مثلنا يريد أن يتفضَّل علينا » !

ثم قال جل ثناؤه لنبيه: ومن تولى عن طاعتك، يا محمد، فأعرض عنك، فإنا لم نرسلك عليهم « حفيظًا » ، يعني: حافظًا لما يعملون محاسبًا، بل إنما أرسلناك لتبين لهم ما نـزل إليهم، وكفى بنا حافظين لأعمالهم ولهم عليها محاسبين.

ونـزلت هذه الآية، فيما ذكر، قبل أن يؤمر بالجهاد، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله: « فما أرسلناك عليهم حفيظًا » قال: هذا أول ما بعثه، قال: إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ [ سورة الشورى: 48 ] . قال: ثم جاء بعد هذا بأمره بجهادهم والغلظة عليهم حتى يسلموا.

 

القول في تأويل قوله : وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله: « ويقولون طاعة » ، يعني: الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال خَشُوا الناس كخشية الله أو أشد خشية، يقولون لنبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر: أمرك طاعة، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه « وإذا برزوا من عندك » ، يقول: فإذا خرجوا من عندك، يا محمد « بيّت طائفة منهم غير الذي تقول » ، يعني بذلك جل ثناؤه: غيَّر جماعة منهم ليلا الذي تقول لهم.

وكل عمل عُمِل ليلا فقد « بُيِّت » ، ومن ذلك « بيَّت » العدو، وهو الوقوع بهم ليلا ومنه قول عبيدة بن همام:

أَتَــوْنِي فَلَــمْ أَرْضَ مَــا بَيَّتُـوا, وَكَــانُوا أَتَــوْنِي بِشَــيْءٍ نُكُــرْ

لأنْكِــــحَ أَيِّمَهُــــمْ مُنْـــذِرًا, وَهَــلْ يُنْكِـحَ الْعَبْـدَ حُـرٌّ لِحُـرْ?!

يعني بقوله: « فلم أرض ما بيتوا » ، ليلا أي: ما أبرموه ليلا وعزموا عليه،

ومنه قول النمر بن تولب العُكْليّ:

هَبَّـتْ لِتَعْـذُلَنِي مِـنَ اللَّيْـل اسْـمَعِ! سَــفَهًا تُبَيِّتُــكِ المَلامَـةُ فَـاهْجَعِي

يقول الله جل ثناؤه: « والله يكتب ما يبيتون » ، يعني بذلك جل ثناؤه: والله يكتب ما يغيِّرون من قولك ليلا في كُتب أعمالهم التي تكتبها حَفَظته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيَّت طائفة منهم غير الذي تقول » ، قال: يغيِّرون ما عهد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم:

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف بن خالد قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « بيّت طائفة منهم غير الذي تقول » ، قال: غيَّر أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول » ، قال: غيّر أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون ) ، قال: هؤلاء المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأمر قالوا: « طاعة » ، فإذا خرجوا من عنده، غيّرت طائفة منهم ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم « والله يكتب ما يبيتون » ، يقول: ما يقولون.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: « ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول » ، قال: يغيرون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول » ، وهم ناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: « آمنا بالله ورسوله » ، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم. وإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعابهم الله، فقال: « بيت طائفة منهم غير الذي تقول » ، يقول: يغيرون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « بيت طائفة منهم غير الذي تقول » ، هم أهل النفاق.

وأما رفع « طاعة » ، فإنه بالمتروك الذي دلّ عليه الظاهر من القول وهو: أمرُك طاعة، أو: منا طاعة. وأما قوله: « بيت طائفة » ، فإن « التاء » من « بيّت » تحرِّكها بالفتح عامة قرأة المدينة والعراق وسائر القرأة، لأنها لام « فَعَّل » .

وكان بعض قرأة العراق يسكّنها، ثم يدغمها في « الطاء » ، لمقاربتها في المخرج .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ترك الإدغام، لأنها أعني « التاء » و « الطاء » من حرفين مختلفين. وإذا كان كذلك، كان ترك الإدغام أفصح اللغتين عند العرب، واللغة الأخرى جائزةٌ أعني الإدغام في ذلك محكيّةٌ.

 

القول في تأويل قوله : فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ( 81 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: « فأعرض » ، يا محمد، عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم: « أمرك طاعة » ، فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به، وغيَّروه إلى ما نهيتهم عنه، وخلّهم وما هم عليه من الضلالة، وارض لهم بي منتقمًا منهم « وتوكل » أنت يا محمد « على الله » ، يقول: وفوِّض أنت أمرك إلى الله، وثق به في أمورك، وولِّها إياه « وكفى بالله وكيلا » ، يقول: وكفاك بالله أي: وحسبك بالله « وكيلا » ، أي: فيما يأمرك، ووليًّا لها، ودافعًا عنك وناصرًا.

 

القول في تأويل قوله : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ( 82 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « أفلا يتدبرون القرآن » ، أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم، يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجّة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنـزيل من عند ربهم، لاتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضًا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا » أي: قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإنّ قول الناس يختلف.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن القرآن لا يكذّب بعضه بعضًا، ولا ينقض بعضه بعضًا، ما جهل الناس من أمرٍ، فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم! وقرأ: « ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا » . قال: فحقٌّ على المؤمن أن يقول: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، ويؤمن بالمتشابه، ولا يضرب بعضه ببعض وإذا جهل أمرًا ولم يعرف أن يقول: « الذي قال الله حق » ، ويعرف أن الله تعالى لم يقل قولا وينقضه، ينبغي أن يؤمن بحقيقة ما جاء من الله.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله: « أفلا يتدبرون القرآن » ، قال: « يتدبرون » ، النظر فيه.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به » ، وإذا جاء هذه الطائفة المبيّتة غير الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم « أمرٌ من الأمن » ، فالهاء والميم في قوله: « وإذا جاءهم » ، من ذكر الطائفة المبيتة يقول جل ثناؤه: وإذا جاءهم خبرٌ عن سريةٍ للمسلمين غازية بأنهم قد أمِنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم « أو الخوف » ، يقول: أو تخوّفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم « أذاعوا به » ، يقول: أفشوه وبثّوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل مأتَى سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم و « الهاء » في قوله: « أذاعوا به » ، من ذكر « الأمر » . وتأويله أذاعوا بالأمر من الأمن أو الخوف الذي جاءهم.

يقال منه: « أذاع فلان بهذا الخبر، وأذاعه » ، ومنه قول أبي الأسود:

أَذَاعَ بِــهِ فِـي النَّـاسِ حَـتَّى كَأَنَّـهُ بِعَلْيَــاءَ نَــارٌ أُوقِــدَتْ بِثَقُــوبِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به » ، يقول: سارعوا به وأفشوه.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به » ، يقول: إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوهم، أو أنهم خائفون منهم، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوَّهم أمرُهم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به » ، يقول: أفشوه وسعَوْا به.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به » ، قال هذا في الأخبار، إذا غزت سريّة من المسلمين تخبَّر الناس بينهم فقالوا « أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا » ، « وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا » ، فأفشوه بينهم، من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبرهم قال ابن جريج: قال ابن عباس قوله: « أذاعوا به » ، قال: أعلنوه وأفشوه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أذاعوا به » ، قال: نشروه. قال: والذين أذاعوا به، قوم: إمّا منافقون، وإما آخرون ضعفوا.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: أفشوه وسَعَوْا به، وهم أهل النفاق.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ولو ردوه » ، الأمر الذي نالهم من عدوهم [ والمسلمين ] ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي أمرهم يعني: وإلى أمرائهم وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ذو وأمرهم، هم الذين يتولّون الخبر عن ذلك، بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بطوله، فيصححوه إن كان صحيحًا، أو يبطلوه إن كان باطلا « لعلمه الذين يستنبطونه منهم » ، يقول: لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به، الذين يبحثون عنه ويستخرجونه « منهم » ، يعني: أولي الأمر « والهاء » « والميم » في قوله: « منهم » ، من ذكر أولي الأمر يقول: لعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه.

وكل مستخرج شيئًا كان مستترًا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب، فهو له: « مستنبط » ، يقال: « استنبطت الركية » ، إذا استخرجت ماءها، « ونَبَطتها أنبطها » ، و « النَّبَط » ، الماء المستنبط من الأرض، ومنه قول الشاعر:

قَــرِيبٌ ثَــرَاهُ, مـا يَنَـالُ عَـدُوُّه لَــهُ نَبَطًـا, آبِـي الهَـوَانِ قَطُـوبُ

يعني: ب « النبط » ، الماء المستنبط.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم » ، يقول: ولو سكتوا وردوا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أولي أمرهم حتى يتكلم هو به « لعلمه الذين يستنبطونه » ، يعني: عن الأخبار، وهم الذين يُنَقِّرون عن الأخبار.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم » ، يقول: إلى علمائهم ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، لعلمه الذين يفحصون عنه ويهمّهم ذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « ولو ردوه إلى الرسول » ، حتى يكون هو الذي يخبرهم « وإلى أولي الأمر منهم » ، الفقه في الدين والعقل.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم » ، العلم « الذين يستنبطونه منهم » ، يتتبعونه ويتحسسونه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث، عن مجاهد: « لعلمه الذين يستنبطونه منهم » ، قال: الذين يسألون عنه ويتحسسونه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: « يستنبطونه » ، قال: قولهم: « ما كان » ؟ « ماذا سمعتم » ؟

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « الذين يستنبطونه » ، قال: يتحسسونه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « لعلمه الذين يستنبطونه منهم » ، يقول: لعلمه الذين يتحسسونه منهم.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « يستنبطونه منهم » ، قال، يتتبعونه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ حتى بلغ « وإلى أولي الأمر منهم » ، قال: الولاة الذين يَلُون في الحرب عليهم، الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر: أصدق، أم كذب؟ أباطل فيبطلونه، أو حق فيحقونه؟ قال: وهذا في الحرب، وقرأ: أَذَاعُوا بِهِ ، ولو فعلوا غير هذا: وردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، الآية.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا ( 83 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولولا إنعام الله عليكم، أيها المؤمنون، بفضله وتوفيقه ورحمته، فأنقذكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر: طَاعَةٌ ، فإذا برزوا من عنده بيت طائفة منهم غير الذي يقول لكنتم مثلهم، فاتبعتم الشيطان إلا قليلا كما اتبعه هؤلاء الذين وصف صفتهم.

وخاطب بقوله تعالى ذكره: « ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان » ، الذين خاطبهم بقوله جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا [ سورة النساء: 71 ] .

ثم اختلف أهل التأويل في « القليل » ، الذين استثناهم في هذه الآية: من هم؟ ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم؟

فقال بعضهم: هم المستنبطون من أولي الأمر، استثناهم من قوله: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، ونفى عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: إنما هو: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إلا قليلا منهم « ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا » ، يقول: لاتبعتم الشيطان كلّكم وأما قوله: « إلا قليلا » ، فهو كقوله: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، إلا قليلا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة، عن سعيد، عن قتادة: « ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا » ، قال يقول: لاتبعتم الشيطان كلكم. وأما « إلا قليلا » ، فهو كقوله: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج نحوه يعني نحو قول قتادة وقال: لعلموه إلا قليلا.

وقال آخرون: بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: طَاعَةٌ ، فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا. ومعنى الكلام: وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا منهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا » ، فهو في أول الآية لخبر المنافقين، قال: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ، يعني بـ « القليل » ، المؤمنين، كقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا [ سورة الكهف: 1 - 2 ] يقول الحمد لله الذي أنـزل الكتاب عدلا قيّما، ولم يجعل له عوجًا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هذه الآية مقدَّمة ومؤخرة، إنما هي: أذاعوا به إلا قليلا منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير.

وقال آخرون: بل ذلك استثناء من قوله: « لاتبعتم الشيطان » . وقالوا: الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الآخرون همّوا به من اتباع الشيطان. فعرَّف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم، واستثنى الآخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الآخرين.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: في قوله: « ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا » ، قال: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا حدّثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان، إلا طائفة منهم.

وقال آخرون معنى ذلك: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعًا. قالوا: وقوله: « إلا قليلا » ، خرج مخرج الاستثناء في اللفظ، وهو دليل على الجميع والإحاطة، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحدٌ من الضلالة، فجعل قوله: « إلا قليلا » ، دليلا على الإحاطة، واستشهدوا على ذلك بقول الطرِمّاح بن حكيم، في مدح يزيد بن المهلب:

أَشَـــمُّ كَثِــيرُ يُــدِيِّ النَّــوَالِ, قَلِيـــلُ المَثَـــالِبِ وَالقَادِحَـــةْ

قالوا: فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب، ومعلوم أن معناه أنه لا مثالب فيه ولا معايب. لأن من وصف رجلا بأنّ فيه معايب، وإن وصف الذي فيه من المعايب بالقلة، فإنما ذمَّه ولم يمدحه. ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه. قالوا: فكذلك قوله: « لاتبعتم الشيطان إلا قليلا » ، إنما معناه: لاتبعتم جميعكم الشيطان.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قولُ من قال: عنى باستثناء « القليل » من « الإذاعة » ، وقال: معنى الكلام: وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا ولو ردوه إلى الرسول.

وإنما قلنا إن ذلك أولى بالصواب، لأنه لا يخلو القولُ في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا، وغير جائز أن يكون من قوله: « لاتبعتم الشيطان » ، لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته، فغير جائز أن يكون من تُبَّاع الشيطان.

وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب، سبيل، فنوجِّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون « معنى ذلك: لاتبعتم الشيطان جميعًا » ، ثم زعم أن قوله: « إلا قليلا » ، دليل على الإحاطة بالجميع. هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل.

وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، لأن علم ذلك إذا رُدَّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، فبيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم، استوى في علم ذلك كلّ مستنبطٍ حقيقتَه، فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم، وخصوص بعضهم بعلمه، مع استواء جميعهم في علمه.

وإذْ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا، ودخَل هذه الأقوال الثلاثة ما بيّنا من الخلل، فبيِّنٌ أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من « الإذاعة » .

 

القول في تأويل قوله : فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا ( 84 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك » ، فجاهد، يا محمد، أعداء الله من أهل الشرك به « في سبيل الله » ، يعني: في دينه الذي شرعه لك، وهو الإسلام، وقاتلهم فيه بنفسك.

فأما قوله: « لا تكلف إلا نفسك » فإنه يعني: لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوه وعدوك، إلا ما حمَّلك من ذلك دون ما حمَّل غيرك منه، أي: أنك إنما تُتَّبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كُلِّفته دون ما كُلِّفه غيرك.

ثم قال له: « وحرض المؤمنين » ، يعني: وحضهم على قتال من أمرتك بقتالهم معك « عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا » ، يقول: لعل الله أن يكف قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته وأنكر رسالتك، عنك وعنهم، ونكايتهم.

وقد بينا فيما مضى أن « عسى » من الله واجبة، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

« والله أشد بأسًا وأشد تنكيلا » ، يقول: والله أشد نكاية في عدوه، من أهل الكفر به منهم فيك يا محمد وفي أصحابك، فلا تنكُلَنَّ عن قتالهم، فإني راصِدُهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة، لأوهن كيدهم، وأضعف بأسهم، وأعلي الحق عليهم.

و « التنكيل » مصدر من قول القائل: « نكلت بفلان » ، فأنا أنكّل به تنكيلا « ، إذا أوجعته عقوبة، كما:- »

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « وأشد تنكيلا » ، أي عقوبة.

 

القول في تأويل قوله : مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها » ، من يَصِرْ، يا محمد، شفعًا لوتر أصحابك، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، وهو « الشفاعة الحسنة » « يكن له نصيب منها » ، يقول: يكن له من شفاعته تلك نصيب - وهو الحظ - من ثواب الله وجزيل كرامته « ومن يشفع شفاعة سيئة، يقول: ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على المؤمنين به، فيقاتلهم معهم، وذلك هو » الشفاعة السيئة « » يكن له كِفل منها « . »

يعني: بـ « الكفل » ، النصيب والحظ من الوزر والإثم. وهو مأخوذ من « كِفل البعير والمركب » ، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة. يقال منه: « جاء فلان مكتَفِلا » ، إذا جاء على مركب قد وطِّئَ له - على ما بيّنا- لركوبه.

وقد قيل إنه عنى بقوله: « من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها » الآية، شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نـزلت فيما ذكرنا، ثم عُمَّ بذلك كل شافع بخير أو شر.

وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك، لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والوعيد لمن أبى إجابته، أشبه منه من الحثّ على شفاعة الناس بعضهم لبعض، التي لم يجر لها ذكر قبل، ولا لها ذكرٌ بعد.

ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة » ، قال: شفاعة بعض الناس لبعض.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثت عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال: من يُشَفَّع شفاعة حسنة كان له فيها أجران، ولأن الله يقول: « من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها » ، ولم يقل « يشفَّع » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال: « من يشفع شفاعة حسنة » ، كتب له أجرها ما جَرَت منفعتها.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سئل ابن زيد عن قول الله: « من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها » ، قال: الشفاعة الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها، هي بينك وبينه، هما فيها شريكان « ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها » ، قال: هما شريكان فيها، كما كان أهلها شريكين.

ذكر من قال: « الكفل » : النصيب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها » ، أي حظ منها « ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها » ، و « الكفل » هو الإثم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « يكن له كفل منها » ، أما « الكفل » ، فالحظ.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « يكن له كفل منها » ، قال: حظ منها، فبئس الحظ.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « الكفل » و « النصيب » واحد. وقرأ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [ سورة الحديد: 28 ] .

 

القول في تأويل قوله : وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ( 85 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « وكان الله على كل شيء مقيتًا » .

فقال بعضهم تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظًا وشهيدًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « وكان الله على كل شيء مقيتًا » يقول: حفيظًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « مقيتًا » شهيدًا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل اسمه مجاهد، عن مجاهد مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: « مقيتًا » قال: شهيدًا، حسيبًا، حفيظًا.

حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم قال، حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد أبي الحجاج: « وكان الله على كل شيء مقيتًا » ، قال: « المقيت » ، الحسيب.

وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: « وكان الله على كل شيء مقيتًا » ، قال: « المقيت » ، الواصب.

وقال آخرون: هو القدير.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وكان الله على كل شيء مقيتًا » ، أما « المقيت » ، فالقدير.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وكان الله على كل شيء مقيتًا » قال: على كل شيء قديرًا، « المقيت » القدير.

قال أبو جعفر: والصواب من هذه الأقوال، قولُ من قال: معنى « المقيت » ، القدير. وذلك أن ذلك فيما يُذكر، كذلك بلغة قريش، وينشد للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وَذِي ضِغْــنٍ كَــفَفْتُ النَّفْسَ عَنْـهُ وَكُــنْتُ عَــلَى مَسَــاءتِهِ مُقِيتَـا

أي: قادرًا. وقد قيل إن منه قول النبي صلى الله عليه وسلم:-

« كفى بالمرء إثما أن يُضِيعَ من يُقيت » .

في رواية من رواها: « يُقيت » ، يعني: من هو تحت يديه وفي سلطانه من أهله وعياله، فيقدّر له قوته. يقال منه. « أقات فلان الشيء يقتيه إقاتة » و « قاته يقوته قياتةً وقُوتًا » ، و « القوت » الاسم. وأما « المقيت » في بيت اليهوديّ الذي يقول فيه:

لَيْــتَ شِــعْرِي, وَأَشْـعُرَنَّ إِذَا مَـا قَرَّبُوهَـــا مَنْشُـــورَةً وَدُعِيــتُ !

أَلِـيَ الْفَضْـلُ أَمْ عَـلَيَّ إذا حُوسِـبْتُ? إِنِّــي عَــلَى الْحِسَــابِ مُقِيــتُ

فإن معناه: فإنّي على الحساب موقوف، وهو من غير هذا المعنى.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وإذا حييتم بتحية » ، إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة. « فحيوا بأحسن منها أو ردُّوها » ، يقول: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم « أو ردوها » يقول: أو ردّوا التحية.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة « التحية » التي هي أحسن مما حُيِّيَ به المُحَّيي، والتي هي مثلها.

فقال بعضهم: التي هي أحسن منها: أن يقول المسلَّم عليه إذا قيل: « السلام عليكم » ، : « وعليكم السلام ورحمة الله » ، ويزيد على دعاء الداعي له. والرد أن يقول: « السلام عليكم » مثلها. كما قيل له، أو يقول: « وعليكم السلام » ، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها » ، يقول: إذا سلم عليك أحد فقل أنت: « وعليك السلام ورحمة الله » ، أو تقطع إلى « السلام عليك » ، كما قال لك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء قوله: « وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها » ، قال: في أهل الإسلام.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج فيما قرئ عليه، عن عطاء قال: في أهل الإسلام.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن شريح أنه كان يرد: « السلام عليكم » ، كما يسلم عليه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون وإسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم أنه كان يرد: « السلام عليكم ورحمة الله » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عطية، عن ابن عمر: أنه كان يرد: « وعليكم » .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فحيوا بأحسن منها أهلَ الإسلام، أو ردوها على أهل الكفر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من سلَّم عليك من خلق الله، فاردُدْ عليه وإن كان مجوسيًّا، فإن الله يقول: « وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها » .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: « وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها » ، للمسلمين « أو ردوها » ، على أهل الكتاب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها » ، للمسلمين « أو ردوها » ، على أهل الكتاب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها » ، يقول: حيوا أحسن منها، أي: على المسلمين « أو ردوها » ، أي: على أهل الكتاب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله: « وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها » ، قال: قال أبي: حق على كل مسلم حيِّي بتحية أن يحيِّي بأحسن منها، وإذا حياه غير أهل الإسلام، أن يرد عليه مثل ما قال.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، قولُ من قال: ذلك في أهل الإسلام، ووجّه معناه إلى أنه يرد السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها. وذلك أن الصِّحاح من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم ردُّ تحية كل كافر بأخَسَّ من تحيته. وقد أمر الله بردِّ الأحسن والمثل في هذه الآية، من غير تمييز منه بين المستوجب ردَّ الأحسن من تحيته عليه، والمردودِ عليه مثلها، بدلالة يعلم بها صحة قولُ من قال: « عنى برد الأحسن: المسلم، وبرد المثل: أهل الكفر » .

والصواب إذْ لم يكن في الآية دلالة على صحة ذلك، ولا صحة أثر لازم عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلَّم عليه: بين رد الأحسن، أو المثل، إلا في الموضع الذي خصَّ شيئًا من ذلك سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مسلَّمًا لها. وقد خَصّت السنة أهل الكفر بالنهي عن رد الأحسن من تحيتهم عليهم أو مثلها، إلا بأن يقال: « وعليكم » ، فلا ينبغي لأحد أن يتعدَّى ما حدَّ في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما أهل الإسلام، فإن لمن سلَّم عليه منهم في الردّ من الخيار، ما جعل الله له من ذلك.

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا، خَبَرٌ. وذلك ما:-

حدثني موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي قال، حدثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك ورحمة الله. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله. فقال له رسول الله: وعليك ورحمة الله وبركاته. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له: وعليك. فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلَّما عليك، فرددتَ عليهما أكثر مما رددت عليّ! فقال: إنك لم تدع لنا شيئًا، قال الله: « وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها » ، فرددناها عليك.

فإن قال قائل: أفواجب رد التحية على ما أمر الله به في كتابه؟

قيل: نعم، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: ما رأيته إلا يوجبه، قوله: « وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال: السلام: تطوُّع، والرد فريضة.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ( 86 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله كان على كل شيء مما تعملون، أيها الناس، من الأعمال، من طاعة ومعصية، حفيظًا عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « حسيبًا » ، قال: حفيظًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

وأصل « الحسيب » في هذا الموضع عندي، « فعيل » من « الحساب » الذي هو في معنى الإحصاء، يقال منه: « حاسبت فلانًا على كذا وكذا » ، و « فلان حاسِبُه على كذا » ، و « هو حسيبه » ، وذلك إذا كان صاحبَ حِسابه.

وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة: أن معنى « الحسيب » في هذا الموضع، الكافي. يقال منه: « أحسبني الشيء يُحسبني إحسابًا » ، بمعنى كفاني، من قولهم: « حسبي كذا وكذا » .

وهذا غلط من القول وخطأ. وذلك أنه لا يقال في « أحسبني الشيء » ، « أحسبَ على الشيء، فهو حسيب عليه » ، وإنما يقال: « هو حَسْبه وحسيبه » والله يقول: « إن الله كان على كل شيء حسيبًا » .