القول في تأويل قوله : اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ( 87 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « الله لا إله إلا هو ليجمعنكم » ، المعبود الذي لا تنبغي العبودية إلا له، هو الذي له عبادة كل شيء وطاعة كل طائع.

وقوله: « ليجمعنكم إلى يوم القيامة » ، يقول: ليبعثنَّكم من بعد مماتكم، وليحشرنكم جميعًا إلى موقف الحساب الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم، ويقضي فيه بين أهل طاعته ومعصيته، وأهل الإيمان به والكفر « لا ريب فيه » ، يقول: لا شك في حقيقة ما أقول لكم من ذلك وأخبركم من خبري: أنّي جامعكم إلى يوم القيامة بعد مماتكم « ومن أصدق من الله حديثًا » ، يعني بذلك: فاعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر، فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينًا، فلا تشكوا في صحته ولا تمتروا في حقيقته، فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه، ووعدي الصدق الذي لا خُلْف له- « ومن أصدق من الله حديثًا » ، يقول: وأي ناطق أصدق من الله حديثًا؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعًا، أو يدفع به عنها ضرًّا. والله تعالى ذكره خالق الضر والنفع، فغير جائز أن يكون منه كذب، لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع إلى نفسه أو دفع ضر عنها [ داعٍ. وما من أحدٍ لا يدعوه داعٍ إلى اجتلاب نفع إلى نفسه، أو دفع ضر عنها ] ، سواه تعالى ذكره، فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه نظيرًا، [ فقال ] : « ومن أصدق من الله حديثًا » ، وخبرًا.

 

القول في تأويل قوله : فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : « فما لكم في المنافقين فئتين » ، فما شأنكم، أيها المؤمنون، في أهل النفاق فئتين مختلفتين « والله أركسَهم بما كسبوا » ، يعني بذلك: والله رَدّهم إلى أحكام أهل الشرك، في إباحة دمائهم وسَبْي ذراريهم.

و « الإركاس » ، الردُّ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

فَأُرْكِسُـوا فِـي حَـمِيمِ النَّـارِ, إِنَّهُـمُ كَـانُوا عُصَـاةً وَقَـالُوا الإفْكَ وَالزُّورَا

يقال منه: « أرْكَسهم » و « رَكَسَهم » .

وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله وأبي: ( وَاللَّهُ رَكَسَهُمْ ) ، بغير « ألف » .

واختلف أهل التأويل في الذين نـزلت فيهم هذه الآية.

فقال بعضهم :نـزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانصرفوا إلى المدينة، وقالوا لرسول الله عليه السلام ولأصحابه: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ [ سورة آل عمران: 167 ] .

ذكر من قال ذلك:

حدثني الفضل بن زياد الواسطي قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدّث، عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد، رجعت طائفة ممن كان معه، فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول: « نقتلهم » ، وفرقة تقول: « لا » . فنـزلت هذه الآية: « فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا » الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة: إنها طَيْبَة، وإنها تَنْفي خَبَثها كما تنفي النار خبثَ الفِضَّة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.

حدثني زريق بن السخت قال، حدثنا شبابة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال: ذكروا المنافقين عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فريق: « نقتلهم » ، وقال فريق: « لا نقتلهم » . فأنـزل الله تبارك وتعالى: « فما لكم في المنافقين فئتين » إلى آخر الآية

وقال آخرون: بل نـزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فما لكم في المنافقين فئتين » ، قال: قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتّجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: « هم منافقون » ، وقائل يقول: « هم مؤمنون » . فبين الله نفاقهم فأمر بقتالهم، فجاؤوا ببضائعهم يريدون المدينة، فلقيهم علي بن عويمر، أو: هلال بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم حلف وهو الذي حَصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يُقاتل قومه، فدفع عنهم بأنهم يَؤُمُّون هلالا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله بنحوه غير أنه قال: فبيّن الله نفاقهم، وأمر بقتالهم، فلم يقاتلوا يومئذ، فجاؤوا ببضائعهم يريدون هلالَ بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حِلْف.

وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فما لكم في المنافقين فئتين » ، وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلّموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحابَ محمد « عليه السلام » ، فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله أو كما قالوا ، أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلَّمتم به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارَهم، تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين، والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء، فنـزلت: « فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله » ، الآية.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فما لكم في المنافقين فئتين » الآية، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلّما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيهما ناس من أصحاب نبي الله وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم: إن دماءهما وأموالهما حلال! وقال بعضهم: لا يحلُّ لكم! فتشاجروا فيهما، فأنـزل الله في ذلك: « فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا » حتى بلغ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ .

حدثنا القاسم قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر بن راشد قال: بلغني أنّ ناسًا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذبا، فلقوهم، فاختلف فيهم المسلمون، فقالت طائفة: دماؤهم حلال! وقالت طائفة: دماؤهم حرام! فأنـزل الله: « فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا » .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فما لكم في المنافقين فئتين » ، هم ناس تخلّفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من وَلايتهم آخرون، وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا! فسماهم الله منافقين، وبرّأ المؤمنين من وَلايتهم، وأمرهم أن لا يتولَّوهم حتى يهاجروا.

وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة، أرادوا الخروج عنها نفاقًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا » ، قال: كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنّا قد أصابنا أوجاعٌ في المدينة واتَّخَمْناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظَّهر حتى نتماثل ثم نرجع، فإنا كنا أصحاب برّيّة. فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة: أعداءٌ لله منافقون! وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة: لا بل إخواننا غَمَّتهم المدينة فاتّخموها، فخرجوا إلى الظهر يتنـزهون، فإذا بَرَؤوا رجعوا. فقال الله: « فما لكم في المنافقين فئتين » ، يقول: ما لكم تكونون فيهم فئتين « والله أركسهم بما كسبوا » .

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا » ، حتى بلغ فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قال: هذا في شأن ابن أُبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم.

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن هذه الآية حين أنـزلت: « فما لكم في المنافقين فئتين » ، فقرأ حتى بلغ فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فقال سعد بن معاذ: فإنّي أبرأ إلى الله وإلى رسوله من فئته! يريد عبد الله بن أبيّ ابن سلول.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نـزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدُّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأنّ اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين: أحدهما: أنهم قوم كانوا من أهل مكة، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم.

والآخر: أنهم قوم كانوا من أهل المدينة.

وفي قول الله تعالى ذكره: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا ، أوضح الدّليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة. لأنّ الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر. فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيمًا من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرضُ هجرة، لأنه في دار الهجرة كان وطنُه ومُقامه.

واختلف أهل العربية في نصب قوله: « فئتين » .

فقال بعضهم: هو منصوب على الحال، كما تقول: « ما لَك قائما » ، يعني: ما لك في حال القيام. وهذا قول بعض البصريين.

وقال بعض نحويي الكوفيين: هو منصوب على فعل « ما لك » ، قال: ولا تُبالِ أكان المنصوب في « ما لك » معرفة أو نكرة. . قال: ويجوز في الكلام أن تقول: « ما لك السائرَ معنا » ، لأنه كالفعل الذي ينصب بـ « كان » و « أظن » وما أشبههما. قال: وكل موضع صلحت فيه « فعل » و « يفعل » من المنصوب، جاز نصب المعرفة منه والنكرة، كما تنصب « كان » و « أظن » ، لأنهن نواقصُ في المعنى، وإن ظننت أنهنّ تَامّاتٍ.

وهذا القول أولى بالصواب في ذلك، لأن المطلوب في قول القائل: « ما لك قائمًا » ، « القيام » ، فهو في مذهب « كان » وأخواتها، و « أظن » وصواحباتها.

 

القول في تأويل قوله عز وجل : وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « والله أركسهم » .

فقال بعضهم: معناه: ردَّهم، كما قلنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: « والله أركسهم بما كسبوا » ، ردَّهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: والله أوْقَعهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « والله أركسهم بما كسبوا » ، يقول: أوقعهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: أضلهم وأهلكهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: « والله أركسهم » ، قال: أهلكهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: « والله أركسهم بما كسبوا » ، أهلَكَهم بما عملوا.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « والله أركسهم بما كسبوا » ، أهلكهم.

وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل، بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ( 88 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله « أتريدون أن تهدوا من أضل الله » ، أتريدون، أيها المؤمنون، أن تهدوا إلى الإسلام فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه، من أضله الله عنه يعني بذلك: من خَذَله الله عنه، فلم يوفقه للإقرار به؟

وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية. يقول لهم جل ثناؤه: أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلَّهم الله فخذلهم عن الحق واتباع الإسلام، بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالَهم من المؤمنين؟ « ومن يُضلل الله فلن تجد له سبيلا » ، يقول: ومَن خذله عن دينه واتباع ما أمره به، من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده، فأضلَّه عنه « فلن تجد له » ، يا محمد، « سبيلا » ، يقول: فلن تجد له طريقًا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله [ عنه ] ، ولا منهجًا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه.

 

القول في تأويل قوله : وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ودوا لو تكفرون كما كفروا » ، تمنَّى هؤلاء المنافقون الذين أنتم، أيها المؤمنون، فيهم فئتان أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم، وتصديقَ نبيِّكم محمد صلى الله عليه وسلم « كما كفروا » ، يقول: كما جحدوا هم ذلك « فتكونون سواء » ، يقول: فتكونون كفّارًا مثلهم، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله « فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله » ، يقول حتى يخرجوا من دار الشرك ويفارقوا أهلها الذين هم بالله مشركون، إلى دار الإسلام وأهلها « في سبيل الله » ، يعني: في ابتغاء دين الله، وهو سبيله، فيصيروا عند ذلك مثلكم، ويكون لهم حينئذ حكمكم، كما:-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا » ، يقول: حتى يصنعوا كما صنعتم يعني الهجرةَ في سبيل الله.

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 89 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أدبر هؤلاء المنافقون عن الإقرار بالله ورسوله، وتولوا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام ومن الكفر إلى الإسلام « فخذوهم » أيها المؤمنون « واقتلوهم حيث وجدتموهم » ، من بلادهم وغير بلادهم، أين أصبْتموهم من أرض الله « ولا تتخذوا منهم وليَّا » ، يقول: ولا تتخذوا منهم خليلا يواليكم على أموركم، ولا ناصرًا ينصركم على أعدائكم، فإنهم كفار لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ .

وهذا الخبر من الله جل ثناؤه، إبانةٌ عن صحة نِفاق الذين اختلف المؤمنون في أمرهم، وتحذيرٌ لمن دفع عنهم عن المدافعة عنهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم » ، فإن تولوا عن الهجرة « فخذوهم واقتلوهم » .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم » ، يقول: إذا أظهروا كُفرهم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم.

 

القول في تأويل قوله : إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق » ، فإن تولىَّ هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان بالله ورسوله، وأبوا الهجرة فلم يهاجروا في سبيل الله، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، سوى من وَصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم مُوادعة وعهد وميثاق، فدخلوا فيهم، وصاروا منهم، ورضوا بحكمهم، فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيًا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم: أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا تغنم أموالهم، كما: -

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق » ، يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن أحدٌ منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما تجرُون على أهل الذمة.

حدثني يونس، عن ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق » ، يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: « إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق » ، قال نـزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف.

وقد زعم بعض أهل العربية، أن معنى قوله: « إلا الذين يصلون إلى قوم » ، إلا الذين يتَّصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق، من قولهم: « اتّصل الرجل » ، بمعنى: انتمى وانتسب، كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم:

إذَا اتَّصَلَـتْ قَـالَتْ: أَبَكْـرَ بنَ وَائِلٍ! وَبَكْــرٌ سَـبَتْهَا وَالأنُـوفُ رَوَاغِـمُ!

يعني بقوله: « اتصلت » ، انتسبت.

قال أبو جعفر: ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع، لأن الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد، لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم، إذا لم يكن لهم من العهد والأمان ما لهم، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيقاتل قريشًا وهم أنسباءُ السابقين الأوَّلين. ولأهل الإيمان من الحق بإيمانهم، أكثر مما لأهل العهد بعهدهم. وفي قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الإيمان منهم، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم - الدليلُ الواضح أنّ انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم، لم يكن موجبا له من العهد ما لذي العهد من انتسابه.

فإن ظن ذو غفلة أن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل من أنسباء المؤمنين من مشركي قريش، إنما كان بعد ما نُسخ قوله: « إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق » ، فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ناسخ ذلك « براءة » ، و « براءة » نـزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام.

 

القول في تأويل قوله : أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم » ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أو: إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم.

ويعني بقوله: « حصرت صدورهم » ، ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو أن يقاتلوا قومهم.

والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام: « قد حَصِرَ » ، ومنه « الحَصَرُ » في القراءة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أو جاءوكم حصرت صدورهم » ، يقول: رجعوا فدخلوا فيكم « حصرت صدورهم » ، يقول: ضاقت صدورهم « أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم » .

وفي قوله: « أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم » ، متروكٌ، ترك ذكره لدلالة الكلام عليه. وذلك أن معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم، فترك ذكر « قد » ، لأن من شأن العرب فعل مثل ذلك: تقول: « أتاني فلان ذَهَب عقله » ، بمعنى: قد ذهب عقله. ومسموع منهم: « أصبحت نظرتُ إلى ذات التَّنانير » ، بمعنى: قد نظرت. ولإضمار « قد » مع الماضي، جاز وضع الماضي من الأفعال في موضع الحال، لأن « قد » إذا دخلت معه أدْنته من الحال، وأشبهت الأسماء.

وعلى هذه القراءة أعني « حَصِرَت » ، قراءة القرأة في جميع الأمصار، وبها يقرأ لإجماع الحجة عليها.

وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: ( أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ ) ، نصبًا، وهي صحيحة في العربية فصيحة، غير أنه غير جائزة القراءة بها عندي، لشذوذها وخروجها عن قراءة قرأة الإسلام.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا ( 90 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: « ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم » ، ولو شاء الله لسلّط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون في جوارهم وذمتهم، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم عليكم، أيها المؤمنون، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن الله تعالى ذكره كفَّهم عنكم. يقول جل ثناؤه: فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفِّهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم، فيما أمركم به من الكفِّ عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاؤوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. ثم قال جل ثناؤه: « فإن اعتزلوكم » ، يقول: فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم من المنافقين، بدخولهم في أهل عهدكم، أو مصيرهم إليكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم « فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم » ، يقول: وصالحوكم.

و « السَّلَم » ، هو الاستسلام. وإنما هذا مثلٌ، كما يقول الرجل للرجل: « أعطيتك قِيادي » ، و « ألقيت إليك خِطَامي » ، إذا استسلم له وانقاد لأمره. فكذلك قوله: « وألقوا إليكم السلم » ، إنما هو: ألقوا إليكم قيادَهم واستسلموا لكم، صلحًا منهم لكم وسَلَمًا. ومن « السَّلم » قول الطرمَّاح:

وَذَاكَ أَنَّ تَمِيمًــا غَــادَرَتْ سَــلَمًا لِلأسْــدِ كُـلَّ حَصَـانٍ وَعْثَـةِ اللِّبَـدِ

يعني بقوله: « سلمًا » ، استسلامًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي جعفر: عن أبيه، عن الربيع: « فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم » ، قال: الصلح.

وأما قوله: « فما جعل الله لكم عليهم سبيلا » ، فإنه يقول: إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم، صلحًا منهم لكم « فما جعل الله لكم عليهم سبيلا » ، أي: فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقًا إلى قتل أو سباء أو غنيمة، بإباحةٍ منه ذلك لكم ولا إذْنٍ، فلا تعرَّضوا لهم في ذلك إلا سبيل خير

ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره:

فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إلى قوله: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ سورة التوبة: 5 ] .

ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن قالا قال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ إلى قوله: وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا وقال في « الممتحنة » : لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، وقال فيها: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ إلى فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ سورة الممتحنة: 8 ، 9 ] . فنسخ هؤلاء الآيات الأربعة في شأن المشركين فقال: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [ سورة التوبة: 1، 2 ] . فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، وأبطل ما كان قبل ذلك. وقال في التي تليها: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، ثم نسخ واستثنى فقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ إلى قوله: ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [ سورة التوبة: 5 ، 6 ] .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « فإن اعتزلوكم » ، قال: نسختها: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة: يقول في قوله: إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ إلى قوله: « فما جعل الله لكم عليهم سبيلا » ، ثم نسخ ذلك بعد في براءة، وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال، قال ابن زيد في قوله: إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ، الآية، قال: نسخ هذا كله أجمع، نسخه الجهاد، ضرب لهم أجل أربعة أشهر: إما أن يسلموا، وإما أن يكون الجهاد.

 

القول في تأويل قوله : سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا

قال أبو جعفر: وهؤلاء فريق آخر من المنافقين، كانوا يظهرون الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار، يعلم ذلك منهم قومهم، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يعبدونه من دون الله، ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم. يقول الله: « كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها » ، يعني: كلما دعاهم [ قومهم ] إلى الشرك بالله، ارتدُّوا فصاروا مشركين مثلهم.

واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية.

فقال بعضهم: هم ناس كانوا من أهل مكة أسلموا - على ما وصفهم الله به من التقيَّة- وهم كفار، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم. يقول الله: « كلما ردُّوا إلى الفتنة أركسوا فيها » ، يعني كلما دعاهم [ قومهم ] إلى الشرك بالله، ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم، ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم » ، قال: ناس كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا. فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويُصلحوا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها » ، يقول: كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها. وذلك أن الرجل كان يوجد قد تكلم بالإسلام، فيقرَّب إلى العُود والحجَر وإلى العقرب والخنفساء، فيقول المشركون لذلك المتكلِّم بالإسلام: « قل: هذا ربي » ، للخنفساء والعقرب.

وقال آخرون: بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم » ، قال: حيٌّ كانوا بتهامة، قالوا: « يا نبيّ الله، لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا » ، وأرادوا أن يأمنوا نبيَّ الله ويأمنوا قومهم، فأبى الله ذلك عليهم، فقال: « كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها » ، يقول: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.

وقال آخرون: نـزلت هذه الآية في نعيم بن مسعود الأشجعي.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين، ينقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، فقال: « ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة » ، يقول: إلى الشرك.

وأما تأويل قوله: « كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها » ، فإنه كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « كلما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها » ، قال: كلما ابتلُوا بها، عَمُوا فيها.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: كلما عرَض لهم بلاء، هلكوا فيه.

والقول في ذلك ما قد بينت قبلُ، وذلك أن « الفتنة » في كلام العرب، الاختبار، و « الإركاس » الرجوع. .

فتأويل الكلام: كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك، رجعوا إليه.

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ( 91 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يعتزلكم، أيها المؤمنون، هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهم كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه « ويلقوا إليكم السلم » ، ولم يستسلموا إليكم فيعطوكم المقادَ ويصالحوكم، . كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم » ، قال: الصلح.

« ويكفوا أيديهم » ، يقول: ويكفوا أيديهم عن قتالكم، « فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم » ، يقول جل ثناؤه: إن لم يفعلوا، فخذوهم أين أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها، فاقتلوهم، فإن دماءهم لكم حينئذ حلال « وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا مبينًا » ، يقول جل ثناؤه: وهؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهم على ما هم عليه من الكفران، ولم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم، جعلنا لكم حجة في قتلهم أينما لقيتموهم، بمقامهم على كفرهم، وتركهم هجرة دار الشرك « مبينًا » يعني: أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم، وإصابتكم الحق في قتلهم. وذلك قوله: « سلطانًا مبينًا » ، و « السلطان » هو الحجة، . كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة قال: ما كان في القرآن من « سلطان » ، فهو: حجّة.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « سلطانًا مبينًا » أما « السلطان المبين » ، فهو الحجة.