الجزء الثالث والعشرون

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ( 28 ) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ( 29 )

يقول تعالى ذكره: وما أنـزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتله قومه لدعائه إياهم إلى الله ونصيحته لهم ( مِنْ بَعْدِهِ ) يعني: من بعد مهلكه ( مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ ) .

واختلف أهل التأويل في معنى الجند الذي أخبر الله أنه لم ينـزل إلى قوم هذا المؤمن بعد قتلهموه فقال بعضهم: عُنِي بذلك أنه لم ينـزل الله بعد ذلك إليهم رسالة، ولا بعث إليهم نبيًّا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ ) قال: رسالة .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حَكَّام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَمَا أَنـزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنـزلِينَ ) قال: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله ( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) .

وقال آخرون: بل عني بذلك أن الله تعالى ذكره لم يبعث لهم جنودًا يقاتلهم بها، ولكنه أهلكهم بصيحة واحدة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، أن عبد الله بن مسعود، قال: غضب الله له، يعني لهذا المؤمن، لاستضعافهم إياه غضبةً لم تبق من القوم شيئًا، فعجَّل لهم النقمة بما استحلوا منه، وقال: ( وَمَا أَنـزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنـزلِينَ ) يقول: ما كاثرناهم بالجموع أي الأمر أيسر علينا من ذلك ( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) فأهلك الله ذلك الملك وأهل أنطاكية، فبادوا عن وجه الأرض، فلم تبق منهم باقية .

وهذا القول الثاني أولى القولين بتأويل الآية، وذلك أن الرسالة لا يقال لها جند إلا أن يكون أراد مجاهد بذلك الرُّسُل، فيكون وجهًا، وإن كان أيضًا من المفهوم بظاهر الآية بعيدًا، وذلك أن الرسل من بني آدم لا ينـزلون من السماء والخبر في ظاهر هذه الآية عن أنه لم ينـزل من السماء بعد مَهْلِك هذا المؤمن على قومه جندًا وذلك بالملائكة أشبه منه ببني آدم.

وقوله ( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) يقول: ما كانت هَلَكتهم إلا صيحة واحدة أنـزلها الله من السماء عليهم.

واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار ( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) نصبا على التأويل الذي ذكرت، وأنّ في كانت مضمرًا وذُكر عن أبي جعفر المدني أنه قرأه ( إلا صيْحَةٌ وَاحِدَةٌ ) رفعًا على أنها مرفوعة بكان، ولا مضمر في كان.

والصواب من القراءة في ذلك عندي النصب لإجماع الحجة على ذلك، وعلى أن في كانت مضمرًا.

وقوله ( فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) يقول: فإذا هم هالكون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 30 )

يقول تعالى ذكره: يا حسرةً من العباد على أنفسها وتندّما وتلهفا في استهزائهم برسل الله ( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ ) من الله ( إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) وذكر أن ذلك في بعض القراءات ( يَاحَسْرَةَ العِبَادِ عَلى أنْفُسِهَا ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ) أي: يا حسرة العباد على أنفسها على ما ضَيَّعت من أمر الله، وفرّطت في جنب الله. قال: وفي بعض القراءات: ( يَاحَسْرَةَ العِبَادِ عَلى أنْفُسِهَا ) .

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن؛ قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ) قال: كان حسرة عليهم استهزاؤهم بالرسل .

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ) يقول: يا ويلا للعباد. وكان بعض أهل العربية يقول: معنى ذلك: يا لها حسرة على العباد .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ( 31 ) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 32 )

يقول تعالى ذكره: ألم ير هؤلاء المشركون بالله من قومك يا محمد كم أهلكنا قبلهم بتكذيبهم رسلنا، وكفرهم بآياتنا من القرون الخالية ( أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ) يقول: ألم يَرَوا أنهم إليهم لا يرجعون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ) قال: عاد وثمود، وقرون بين ذلك كثير.

و « كَمْ » من قوله ( كَمْ أَهْلَكْنَا ) في موضع نصب إن شئت بوقوع يروا عليها. وقد ذَكر أن ذلك في قراءة عبد الله: ( ألَمْ يَرَوْا مَنْ أهْلَكْنَا ) وإن شئت بوقوع أهلكنا عليها؛ وأما « أنهم » ، فإن الألف منها فتحت بوقوع يروا عليها. وذُكر عن بعضهم أنه كسر الألف منها على وجه الاستئناف بها، وترك إعمال يروا فيها.

وقوله ( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) يقول تعالى ذكره: وإن كل هذه القرون التي أهلكناها والذين لم نهلكهم وغيرهم عندنا يوم القيامة جميعهم محضرون.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة ( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) أي هم يوم القيامة .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَإنْ كُلٌّ لَمَا ) بالتخفيف توجيها منهم إلى أن ذلك « ما » أدخلت عليها اللام التي تدخل جوابًا لإنْ وأن معنى الكلام: وإن كلّ لجميع لدينا محضرون. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة ( لَمَّا ) بتشديد الميم. ولتشديدهم ذلك عندنا وجهان: أحدهما: أن يكون الكلام عندهم كان مرادًا به: وإن كلّ لمما جميع، ثم حذفت إحدى الميمات لما كثرت، كما قال الشاعر:

غَـدَاةَ طَفَـتْ عَلْمَـاءِ بَكْـرُ بنُ وَائِلٍ وَعُجْنَـا صُـدُورَ الخَـيْلِ نَحْـوَ تَمِيـمٍ

والآخر: أن يكونوا أرادوا أن تكون ( لَمَّا ) بمعنى إلا مع إنْ خاصة فتكون نظيرة إنما إذا وضعت موضع « إلا » . وقد كان بعض نحويِّي الكوفة يقول: كأنها « لَمْ » ضمت إليها « ما » ، فصارتا جميعا استثناء، وخرجتا من حد الجحد. وكان بعض أهل العربية يقول: لا أعرف وجه « لمَّا » بالتشديد.

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( 33 ) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ( 34 )

يقول تعالى ذكره: ودلالة لهؤلاء المشركين على قُدرة الله على ما يشاء، وعلى إحيائه من مات من خلقه وإعادته بعد فنائه، كهيئته قبل مماته إحياؤه الأرض الميتة، التي لا نبت فيها ولا زرع بالغيث الذي ينـزله من السماء حتى يخرج زرعها، ثم إخراجه منها الحب الذي هو قوت لهم وغذاء، فمنه يأكلون.

وقوله ( وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) يقول تعالى ذكره: وجعلنا في هذه الأرض التي أحييناها بعد موتها بساتين من نخيل وأعناب ( وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ) يقول: وأنبعنا فيها من عيون الماء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( 35 )

يقول تعالى ذكره: أنشأنا هذه الجنات في هذه الأرض ليأكل عبادي من ثمره، وما عملت أيديهم يقول: ليأكلوا من ثمر الجنات التي أنشأنا لهم، وما عملت أيديهم مما غرسوا هم وزرعوا. و « ما » التي في قوله ( وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ) في موضع خفض عطفًا على الثمر، بمعنى: ومن الذي عملت؛ وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر: ( وَممَّا عَمِلَتْهُ ) بالهاء على هذا المعنى ، فالهاء في قراءتنا مضمرة، لأن العرب تضمرها أحيانًا، وتظهرها في صلات: من، وما، والذي. ولو قيل: « ما » بمعنى المصدر كان مذهبًا، فيكون معنى الكلام: ومن عمل أيديهم ، ولو قيل: إنها بمعنى الجحد ولا موضع لها كان أيضًا مذهبا، فيكون معنى الكلام: ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم. وقوله ( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) يقول: أفلا يشكر هؤلاء القوم الذين رزقناهم هذا الرزق من هذه الأرض الميتة التي أحييناها لهم مَنْ رزقهم ذلك وأنعم عليهم به؟

 

القول في تأويل قوله تعالى : سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ( 36 )

يقول تعالى ذكره تنـزيها وتبرئة للذي خلق الألوان المختلفة كلها من نبات الأرض، ومن أنفسهم، يقول: وخلق من أولادهم ذكورًا وإناثًا، ومما لا يعلمون أيضًا من الأشياء التي لم يطلعهم عليها، خلق كذلك أزواجًا مما يضيف إليه هؤلاء المشركون، ويصفونه به من الشركاء وغير ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ( 37 ) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 38 )

يقول تعالى ذكره: ودليل لهم أيضًا على قدرة الله على فعل كل ما شاء ( اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ) يقول: ننـزع عنه النهار. ومعنى « منه » في هذا الموضع: عنه، كأنه قيل: نسلخ عنه النهار، فنأتي بالظلمة ونذهب بالنهار. ومنه قوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا أي: خرج منها وتركها، فكذلك انسلاخ الليل من النهار. وقوله ( فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ) يقول: فإذا هم قد صاروا في ظلمة بمجيء الليل.

وقال قتادة في ذلك ماحدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ) قال: يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل ، وهذا الذي قاله قتادة في ذلك عندي، من معنى سلخ النهار من الليل، بعيد ، وذلك أن إيلاج الليل في النهار، إنما هو زيادة ما نقص من ساعات هذا في ساعات الآخر، وليس السلْخ من ذلك في شيء، لأن النهار يسلخ من الليل كله، وكذلك الليل من النهار كله، وليس يولج كلّ الليل في كلّ النهار، ولا كلّ النهار في كلّ الليل.

وقوله ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) يقول تعالى ذكره: والشمس تجري لموضع قرارها، بمعنى: إلى موضع قرارها؛ وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .

* ذكر الرواية بذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذرَ الغفاريّ، قال: كنت جالسا عند النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في المسجد، فلما غَرَبت الشمس، قال: يا أبا ذَرّ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب فتسجد بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا ، ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ بالرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا ، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَكَانِهَا وَذَلِكَ مُسْتَقَرّها « . »

وقال بعضهم في ذلك بما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) قال: وقت واحد لا تعدوه .

وقال آخرون: معنى ذلك: تجري لمجرى لها إلى مقادير مواضعها، بمعنى: أنها تجري إلى أبعد منازلها في الغروب، ثم ترجع ولا تجاوزه. قالوا: وذلك أنها لا تزال تتقدم كلّ ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع.

وقوله ( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) يقول: هذا الذي وصفنا من جري الشمس لمستقر لها، تقدير العزيز في انتقامه من أعدائه، العليم بمصالح خلقه، وغير ذلك من الأشياء كلها، لا يخفي عليه خافية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ( 39 ) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( 40 )

اختلفت القراء في قراءة قوله ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ) فقرأه بعض المكيين وبعض المدنيين وبعض البصريين: ( وَالقَمَرُ ) رفعا عطفًا بها على الشمس، إذ كانت الشمس معطوفة على الليل، فأتبعوا القمر أيضًا الشمس في الإعراب، لأنه أيضًا من الآيات، كما الليل والنهار آيتان، فعلى هذه القراءة تأويل الكلام: وآية لهم القمرُ قدّرناه منازل. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وبعض البصريين، وعامة قرّاء الكوفة نصبا ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ ) بمعنى: وقدّرنا القمر منازل، كما فعلنا ذلك بالشمس، فردّوه على الهاء من الشمس في المعنى، لأن الواو التي فيها للفعل المتأخر.

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، فتأويل الكلام: وآية لهم، تقديرنا القمر منازل للنقصان بعد تناهيه وتمامه واستوائه، حتى عاد كالعرجون القديم ؛ والعرجون: من العذق من الموضع النابت في النخلة إلى موضع الشماريخ ؛ وإنما شبهه جل ثناوه بالعرجون القديم، والقديم هو اليابس، لأن ذلك من العِذْق، لا يكاد يوجد إلا متقوّسًا منحنيًا إذا قدم ويبس، ولا يكاد أن يُصاب مستويًا معتدلا كأغصان سائر الأشجار وفروعها، فكذلك القمرُ إذا كان في آخر الشهر قبل استسراره، صار في انحنائه وتقوّسه نظير ذلك العرجون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) يقول: أصل العِذق العتيق .

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) يعني بالعُرجون: العذقَ اليابس .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال: كعِذْق النخلة إذا قدُم فانحنى .

حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقيّ، قال: ثنا أبو يزيد الخرّاز، يعني خالد بن حيان الرقيِّ، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصمّ في قوله ( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال: عذق النخلة إذا قدُم انحنى .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عيسى بن عبيد، عن عكرمة، في قوله ( كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال: النخلة القديمة .

حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى عن مجاهد ( كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال: العِذْق اليابس .

حدثني محمد بن عمر بن عليّ المقدمي وابن سنان القزّاز، قالا ثنا أبو عاصم والمقدمي، قال: سمعت أبا عاصم يقول: سمعت سليمان التيمي في قوله ( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال: العذْق .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال: قدّره الله منازل، فجعل ينقص حتى كان مثل عذق النخلة، شبهه بعذق النخلة .

وقوله ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) يقول تعالى ذكره: لا الشمس يصلح لها إدراك القمر، فيذهب ضوؤها بضوئه، فتكون الأوقات كلها نهارًا لا ليل فيها ( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) يقول تعالى ذكره: ولا الليل بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه، فتكون الأوقات كلها ليلا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في ألفاظهم في تأويل ذلك، إلا أن معاني عامتهم الذي قلناه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد في قوله ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) قال: لا يشبه ضوءها ضوء الآخر، لا ينبغي لها ذلك .

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) قال: لا يُشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر، ولا ينبغي ذلك لهما

وفي قوله ( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) قال: يتطالبان حَثيثين ينسلخ أحدهما من الآخر.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) قال: لا يدرك هذا ضوءَ هذا ولا هذا ضوء هذا .

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) وهذا في ضوء القمر وضوء الشمس، إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر بضوئه لم يكن للشمس ضوء ( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) قال: في قضاء الله وعلمه أن لا يفوت الليل النهار حتى يدركه، فيذهب ظلمته، وفي قضاء الله أن لا يفوت النهار الليل حتى يدركه، فيذهب بضوئه .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) ولكلٍّ حدٌّ وعلم لا يعدوه، ولا يقصر دونه؛ إذا جاء سلطان هذا، ذهب سلطان هذا، وإذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا .

ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) يقول: إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر، فإذا غابا غاب أحدهما بين يدي الآخر ، وأنْ من قوله ( أَنْ تُدْرِكَ ) في موضع رفع بقوله: ينبغي.

وقوله ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يقول: وكل ما ذكرنا من الشمس والقمر والليل والنهار في فلك يجرون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي، قال: ثنا شعبة، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) قال: في فلك كفلك المِغْزَل .

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: مجرى كلّ واحد منهما، يعني الليل والنهار، في فَلَك يسبحون: يجرون .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) أي: في فلك السماء يسبحون .

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) دورانا، يقول: دورانا يسبحون؛ يقول: يجرون .

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يعني: كلّ في فلك في السماوات ؟.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 41 ) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ( 42 ) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ( 43 ) إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ( 44 )

يقول تعالى ذكره: ودليل لهم أيضًا، وعلامة على قُدرتنا على كلّ ما نشاء، حملنا ذرّيتهم ، يعني من نجا من ولد آدم في سفينة نوح، وإياها عنى جلّ ثناؤه بالفُلك المشحون؛ والفلك: هي السفينة، والمشحون: المملوء الموقر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله ( أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يقول: الممتلئ .

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يعني المثقل .

حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد ( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال: الموقَر .

حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا يونس، عن الحسن، في قوله ( الْمَشْحُونِ ) قال: المحمول .

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يعني: سفينة نوح عليه السلام .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) الموقر، يعني سفينة نوح .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال: الفلك المشحون: المَرْكَب الذي كان فيه نوح، والذرية التي كانت في ذلك المركب؛ قال: والمشحون: الذي قد شُحِن، الذي قد جعل فيه ليركبه أهله، جعلوا فيه ما يريدون، فربما امتلأ وربما لم يمتلىء .

حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: أتدرون ما الفُلك المشحون؟ قلنا: لا قال: هو المُوقَر .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلِي، قال: ثنا هارون، عن جُوَيبر، عن الضحاك، في قوله ( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال: المُوقَر .

وقوله ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) يقول تعالى ذكره: وخلقنا لهؤلاء المشركين المكذّبيك يا محمد، تفضلا منا عليهم، من مثل ذلك الفلك الذي كنا حملنا من ذرية آدم مَنْ حملنا فيه الذي يركبونه من المراكب.

ثم اختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله ( مَا يَرْكَبُونَ ) فقال بعضهم: هي السفن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: تدرون ما ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) ؟ قلنا: لا. قال: هي السفن جُعِلت من بعد سفينة نوح على مِثْلها .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك في قوله ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال: السفن الصغار .

قال: ثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك، في قوله ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال: السفن الصغار، ألا ترى أنه قال ( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ) ؟

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن في هذه الآية ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال: السفن الصغار .

حدثنا حاتم بن بكر الضَّبي، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن شعبة، عن إسماعيل، عن أبي صالح: ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال: السفن الصغار .

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) يعني: السفن التي اتخذت بعدها، يعني بعد سفينة نوح .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال: هي السفن التي ينتفع بها .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال: وهي هذه الفلك .

حدثني يونس، قال: ثنا محمد بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال: نعم من مثل سفينة .

وقال آخرون: بل عني بذلك الإبل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) يعني: الإبل، خَلَقها الله كما رأيت، فهي سفن البر، يحملون عليها ويركبونها .

حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثنا غندر، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال: الإبل .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، قال: قال عبد الله بن شداد ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) هي الإبل .

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال: من الأنعام .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الحسن: هي الإبل .

وأشبه القولين بتأويل ذلك قول من قال: عُنِي بذلك السفن، وذلك لدلالة قوله ( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ) على أن ذلك كذلك، وذلك أن الغرق معلوم أن لا يكون إلا في الماء، ولا غرق في البرّ.

وقوله ( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ) يقول تعالى ذكره: وإن نشأ نغرق هؤلاء المشركين إذا ركبوا الفُلك في البحر ( فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ) يقول: فلا مُغِيث لهم إذا نحن غرّقناهم يُغِيثهم، فينجيهم من الغرق.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ) أي: لا مُغِيث

وقوله ( وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ) يقول: ولا هو ينقذهم من الغرق شيء إن نحن أغرقناهم في البحر، إلا أن ننقذهم نحن رحمة منا لهم، فننجيهم منه.

وقوله ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) يقول: ولنمتعهم إلى أجل هم بالغوه، فكأنه قال: ولا هم يُنْقذُونَ، إلا أن نرحمهم فنمتعهم إلى أجل .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) أي: إلى الموت .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 45 ) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 46 )

يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المشركين بالله، المكذّبين رسوله محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم الله وَمثُلاته بمن حلّ ذلك به من الأمم قبلكم أن يحلّ مثله بكم بشرككم وتكذيبكم رسوله. ( وَمَا خَلْفَكُمْ ) يقول: وما بعد هلاككم مما أنتم لاقوه إن هلكتم على كفركم الذي أنتم عليه ( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) يقول: ليرحمكم ربكم إن أنتم حذرتم ذلك، واتقيتموه بالتوبة من شرككم والإيمان به، ولزوم طاعته فيما أوجب عليكم من فرائضه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ) : وقائع الله فيمن خلا قبلهم من الأمم وما خلفهم من أمر الساعة.

وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ) قال: ما مضى من ذنوبهم ، وهذا القول قريب المعنى من القول الذي قلنا، لأن معناه: اتقوا عقوبة ما بين أيديكم من ذنوبكم، وما خلفكم مما تعملون من الذنوب ولم تعملوه بعد، فذلك بعد تخويف لهم العقاب على كفرهم.

وقوله ( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ) يقول تعالى ذكره: وما تجيء هؤلاء المشركين من قريش آية، يعني حجة من حُجَج الله، وعلامة من علاماته على حقيقة توحيده، وتصديق رَسُوله، إلا كانوا عنها معرضين، لا يتفكرون فيها، ولا يتدبرونها، فيعلموا بها ما احتجّ الله عليهم بها.

فإن قال قائل: وأين جواب قوله ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ) ؟ قيل: جوابه وجواب قوله ( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ ) ... قوله ( إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ) لأن الإعراض منهم كان عن كل آية لله، فاكتفي بالجواب عن قوله ( اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ) وعن قوله ( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ) بالخبر عن إعراضهم عنها لذلك، لأن معنى الكلام: وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أعرضوا، وإذا أتتهم آية أعرضوا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 47 )

يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المشركين بالله: أنفقوا من رزق الله الذي رزقكم، فأدوا منه ما فرض الله عليكم فيه لأهل حاجتكم ومسكنتكم، قال الذين أنكروا وحدانية الله، وعبدوا من دونه للذين آمنوا بالله ورسوله: أنطعم أموالنا وطعامنا مَنْ لو يشاء الله أطعمه.

وفي قوله ( إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وجهان: أحدهما أن يكون من قيل الكفار للمؤمنين، فيكون تأويل الكلام حينئذ: ما أنتم أيها القومُ في قيلكم لنا: أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم، إلا في ذهاب عن الحق، وجور عن الرشد مُبين لمن تأمله وتدبره، أنه في ضلال ، وهذا أولى وجهيه بتأويله. والوجه الآخر: أن يكون ذلك من قيل الله للمشركين، فيكون تأويله حينئذ: ما أنتم أيها الكافرون في قيلكم للمؤمنين: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، إلا في ضلال مبين، عن أن قيلكم ذلك لهم ضلال.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 48 )

يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون المكذبون وعيد الله، والبعثَ بعد الممات، يستعجلون ربهم بالعذاب ( مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ) أي: الوعد بقيام الساعة ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أيها القوم، وهذا قولهم لأهل الإيمان بالله ورسوله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ( 49 ) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ( 50 )

يقول تعالى ذكره: ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون بوعيد الله إياهم، إلا صيحة واحدة تأخذهم، وذلك نفخة الفَزَع عند قيام الساعة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت الآثار.

ذكر من قال ذلك، وما فيه من الأثر: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر، قالا ثنا عوف بن أبي جميلة عن أبي المغيرة القواس، عن عبد الله بن عمرو، قال: ليُنْفَخَنّ في الصور، والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان، فما يُرسله أحدهما من يده حتى يُنفَخ في الصور، وحتى إن الرجل ليغدو من بيته فلا يرجع حتى ينفخ في الصُّور، وهي التي قال الله ( مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ) ... الآية « . »

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) ذُكر لنا أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول: « تَهِيجُ السَّاعَةُ بالنَّاسِ وَالرَّجُلُ يَسْقِي ماشِيَتَهُ، والرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، والرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي سُوقِهِ والرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ، وَتَهِيجُ بِهِمْ وَهُمْ كَذلكَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونِ » .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) قال: النفخة نفخة واحدة .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع، عمن ذكره، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : « إِنَّ الله لمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمواتِ والأرْضِ خَلَقَ الصُّورَ، فأعْطاهُ إسْرافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلى فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلى العَرْش يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ ، قال أبو هريرة: يا رسول الله: وما الصور؟ قال: قَرْنٌ قال: وكَيْفَ هُوَ؟ قال: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ، الأولى نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثَّانِيِةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثَّالِثَةُ نَفْخَةُ القِيام لِرَب العالَمِينَ، يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولى فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّمَاوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ اللهُ، ويَأْمُرُهُ اللهُ فَيُدِيمُهَا ويُطَوِّلُها، فَلا يَفْتُرُ، وَهِيَ التي يَقُولُ اللهُ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ثُمَّ يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بنَفْخَةِ الصَّعْقِ، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيَصْعَقُ أهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ اللهُ، فإذَا هُمْ خَامِدُونَ، ثُمَّ يُمِيتُ مَنْ بَقِيَ، فَإِذاَ لمَْ يَبْقَ إِلا اللَّه الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، بَدَّلَ الأرْضَ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، فَيَبْسُطُهَا وَيَسْطَحُهَا، وَيَمُدُّهَا مَدَّ الأدِيمِ الْعُكَاظِي، لا تَرَى فِيهَا عِوَجا وَلا أَمْتا، ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً، فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْمُبَدَّلَةِ فِي مِثْلِ مَوَاضِعِهِمْ مِنَ الأولى ما كانَ في بَطْنها كان في بَطْنِها، وَما كانَ على ظَهْرِها كانَ عَلى ظَهْرِها » .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) فقرأ ذلك بعض قراء المدينة: ( وَهُمْ يَخْصّمُون ) بسكون الخاء وتشديد الصاد، فجمع بين الساكنين، بمعنى: يختصمون، ثم أدغم التاء في الصاد فجعلها صادا مشددة، وترك الخاء على سكونها في الأصل. وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: ( وَهُمْ يَخَصّمُون ) بفتح الخاء وتشديد الصاد بمعنى: يختصمون، غير أنهم نقلوا حركة التاء وهي الفتحة التي في يفتعلون إلى الخاء منها، فحرّكوها بتحريكها، وأدغموا التاء في الصاد وشددوها. وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة: ( يَخِصِّمُونَ ) بكسر الخاء وتشديد الصاد، فكسروا الخاء بكسر الصاد وأدغموا التاء في الصاد وشددوها. وقرأ ذلك آخرون منهم: ( يَخْصِمُون ) بسكون الخاء وتخفيف الصاد، بمعنى ( يَفْعِلُون ) من الخصومة، وكأن معنى قارئ ذلك كذلك: كأنهم يتكلمون، أو يكون معناه عنده: كان وهم عند أنفسهم يَخْصِمُون مَن وعدهم مجيء الساعة، وقيام القيامة، ويغلبونه بالجدل في ذلك.

والصواب من القول في ذلك عندنا أن هذه قراءات مشهورات معروفات في قرّاء الأمصار، متقاربات المعاني، فبأيتهنّ قرأ القارئ فمصيب.

وقوله ( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ) يقول تعالى ذكره: فلا يستطيع هؤلاء المشركون عند النفخ في الصُّور أن يوصوا في أموالهم أحدا ( وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) يقول: ولا يستطيع من كان منهم خارجا عن أهله أن يرجع إليهم، لأنهم لا يُمْهَلون بذلك. ولكن يُعَجَّلون بالهلاك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ) أي: فيما في أيديهم ( وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) قال: أُعْجِلوا عن ذلك .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ... الآية، قال: هذا مبتدأ يوم القيامة، وقرأ ( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ) حتى بلغ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ( 51 ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( 52 ) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 53 )

يقول تعالى ذكره ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) وقد ذكرنا اختلاف المختلفين والصواب من القول فيه بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، ويُعْنَى بهذه النفخة، نفخة البعث.

وقوله ( فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ ) يعني من أجداثهم، وهي قبورهم، واحدها جدث، وفيها لغتان، فأما أهل العالية، فتقوله بالثاء: جَدَث، وأما أهل السافلة فتقوله بالفاء جَدَف.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) يقول: من القبور.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ ) أي: من القبور .

وقوله ( إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) يقول: إلى ربهم يخرجون سراعا، والنَّسَلان: الإسراع في المشي.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( يَنْسِلُونَ ) يقول: يخرجون .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) أي: يخرجون .

وقوله ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون لما نفخ في الصور نفخة البعث لموقف القيامة فردت أرواحهم إلى أجسامهم، وذلك بعد نومة ناموها ( يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) وقد قيل: إن ذلك نومة بين النفختين.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن خيثمة، عن الحسن، عن أُبي بن كعب، في قوله ( يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) قال: ناموا نومة قبل البعث .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن رجل يقال له خيثمة في قوله ( يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) قال: ينامون نومة قبل البعث .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) هذا قول أهل الضلالة. والرَّقدة: ما بين النفختين.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا ) قال: الكافرون يقولونه .

ويعني بقوله ( مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا ) من أيقظنا من منامنا، وهو من قولهم: بعث فلان ناقته فانبعثت، إذا أثارها فثارت. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود: ( مِنْ أّهَبَّنَاِ مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا ) .. وفي قوله ( هَذَا ) وجهان: أحدهما: أن تكون إشارة إلى « ما » ، ويكون ذلك كلاما مبتدأ بعد تناهي الخبر الأول بقوله ( مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) فتكون « ما » حينئذ مرفوعة بهذا، ويكون معنى الكلام: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلون. والوجه الآخر: أن تكون من صفة المرقد، وتكون خفضا وردا على المرقد، وعند تمام الخبر عن الأول، فيكون معنى الكلام: من بعثنا من مرقدنا هذا، ثم يبتدىء الكلام فيقال: ما وعد الرحمن، بمعنى: بعثكم وعد الرحمن، فتكون « ما » حينئذ رفعا على هذا المعنى.

وقد اختلف أهل التأويل في الذي يقول حينئذ: هذا ما وعد الرحمن، فقال بعضهم: يقول ذلك أهل الإيمان بالله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ ) مما سر المؤمنون يقولون هذا حين البعث .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله ( هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) قال: قال أهل الهدى: هذا ما وعد الرَّحْمَنُ وصدق المرسلون .

وقال آخرون: بل كلا القولين، أعني ( يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) : من قول الكفار.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) ثم قال بعضهم لبعض ( هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) كانوا أخبرونا أنا نبعث بعد الموت، ونُحاسب ونُجازَى .

والقول الأول أشبه بظاهر التنـزيل، وهو أن يكون من كلام المؤمنين، لأن الكفار في قيلهم ( مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) دليل على أنهم كانوا بمن بعثهم من مَرْقَدهم جُهَّالا ولذلك من جهلهم استثبتوا، ومحال أن يكونوا استثبتوا ذلك إلا من غيرهم، ممن خالفت صفته صفتهم في ذلك.

وقوله ( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن كانت إعادتهم أحياء بعد مماتهم إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الثالثة في الصور ( فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) يقول: فإذا هم مجتمعون لدينا قد أُحْضروا، فأشهدوا مَوْقفَ العرض والحساب، لم يتخلف عنه منهم أحد. وقد بينا اختلاف المختلفين في قراءتهم ( إِلا صَيْحَةً ) بالنصب والرفع فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 54 )

يقول تعالى ذكره ( فَالْيَوْمَ ) يعني يوم القيامة ( لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) كذلك ربنا لا يظلم نفسا شيئا، فلا يوفيها جزاء عملها الصالح، ولا يحمل عليها وِزْر غيرها، ولكنه يوفي كلّ نفس أجر ما عملت من صالح، ولا يعاقبها إلا بما اجترمت واكتسبت من شيء ( وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول: ولا تكافئون إلا مكافأة أعمالكم التي كنتم تعملونها في الدنيا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ( 55 )

وقوله ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) اختلف أهل التأويل في معنى الشغل الذي وصف الله جلّ ثناؤه أصحاب الجنة أنهم فيه يوم القيامة، فقال بعضهم: ذلك افتضاض العذارَى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شَمِر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود، في قوله ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قال: شغلهم افتضاض العذارى .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قال: افتضاض الأبكار .

حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قال: افتضاض الأبكار .

حدثني الحسن بن زُرَيْق الطُّهَوِي، قال: ثنا أسباط بن محمد، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.

حدثني الحسين بن علي الصُّدائي، قال: ثنا أبو النضر، عن الأشجعي، عن وائل بن داود، عن سعيد بن المسيب، في قوله ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قال: في افتضاض العذارى وقال آخرون: بل عُنِي بذلك: أنهم في نعمة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ ) قال: في نعمة .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان، عن جويبر، عن أبي سهل، عن الحسن، في قول الله ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) .. الآية، قال: شغلهم النعيم عما فيه أهل النار من العذاب .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم في شغل عما فيه أهل النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا نصر بن عليّ الجَهْضَمِيّ، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن أبان بن تغلب، عن إسماعيل بن أبي خالد ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) ... الآية، قال: في شغل عما يلقى أهلُ النار .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) وهم أهلها ( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) بنعم تأتيهم في شغل، وذلك الشغل الذي هم فيه نعمة، وافتضاض أبكار، ولهو ولذة، وشغل عما يلقى أهل النار.

وقد اختلفت القراء في قراءة قوله ( فِي شُغُلٍ ) فقرأت ذلك عامة قراء المدينة وبعض البصريين على اختلاف عنه: ( فِي شُغْلٍ ) بضم الشين وتسكين الغين. وقد رُوي عن أبي عمرو الضم في الشين والتسكين في الغين، والفتح في الشين والغين جميعًا في شغل.وقرأ ذلك بعض أهل المدينة والبصرة وعامة قراء أهل الكوفة ( فِي شُغُلٍ ) بضم الشين والغين.

والصواب في ذلك عندي قراءته بضم الشين والغين، أو بضم الشين وسكون الغين، بأي ذلك قرأه القارئ فهو مصيب، لأن ذلك هو القراءة المعروفة في قراء الأمصار مع تقارب معنييهما. وأما قراءته بفتع الشين والغين، فغير جائزة عندي، لإجماع الحجة من القراء على خلافها.

واختلفوا أيضًا في قراءة قوله ( فَاكِهُونَ ) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار ( فَاكِهُونَ ) بالألف. وذُكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤه: ( فَكِهُونَ ) بغير ألف.

والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بالألف، لأن ذلك هو القراءة المعروفة.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فَرِحون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) يقول: فرحون .

وقال آخرون: معناه: عجبون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( فَاكِهُونَ ) قال: عجبون .

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَكِهُونَ ) قال: عَجِبون .

واختلف أهل العلم بكلام العرب في ذلك، فقال بعض البصريين: منهم الفكه الذي يتفكَّه. وقال: تقول العرب للرجل الذي يتفكَّه بالطعام أو بالفاكهة، أو بأعراض الناس: إن فلانا لفكِه بأعراض الناس، قال: ومن قرأها ( فَاكِهُونَ ) جعله كثير الفواكه صاحب فاكهة، واستشهد لقوله ذلك ببيت الحُطَيئة:

وَدَعَـــوْتَنِي وَزَعَمْـــتَ أنَّــكَ لابــــنٌ بـــالصَّيْفِ تـــامِرْ

أي عنده لبن كثير، وتمر كثير، وكذلك عاسل، ولاحم، وشاحم. وقال بعض الكوفيين: ذلك بمنـزلة حاذرون وحذرون، وهذا القول الثاني أشبه بالكلمة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( 56 ) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ( 57 ) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( 58 )

يعني تعالى بقوله ( هُمْ ) أصحاب الجنة ( وَأَزْوَاجُهُمْ ) من أهل الجنة في الجنة.

كما حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ووقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ ) قال: حلائلهم في ظلل .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: ( فِي ظُلَلٍ ) بمعنى: جمع ظلة، كما تُجمع الْحُلة حُلَلا. وقرأه آخرون ( في ظِلالٍ ) ؛ وإذا قرىء ذلك كذلك كان له وجهان: أحدهما أن يكون مُرادًا به جمع الظُّلَل الذي هو بمعنى الكِنّ، فيكون معنى الكلمة حينئذ: هم وأزواجهم في كِنّ لا يضْحَوْن لشمس كما يَضْحَى لها أهلُ الدنيا، لأنه لا شمس فيها. والآخر: أن يكون مرادا به جمع ظلة، فيكون وجه جمعها كذلك نظير جمعهم الخلة في الكثرة: الخلال، والقُلَّة: قِلال.

وقوله ( عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ) والأرائك: هي الحِجال فيها السُرر والفُرُش: واحدتها أريكة، وكان بعضهم يزعم أن كل فِراش فأريكة، ويستشهد لقوله ذلك بقول ذي الرمة:

....................... كأنَّمـا يُبَاشِـرْنَ بالمَعزاءِ مَسَّ الأرَائِكِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حُصَيْن، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله ( عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ) قال: هي السُّرُر في الحِجال .

حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن مجاهد، في قول الله ( عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ) قال: الأرائك: السُّرر عليها الحِجال .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا حصين، عن مجاهد، في قوله ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ ) قال: الأرائك: السُّرُر في الحِجال .

حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حُصَيْن، عن مجاهد، في قوله ( عَلَى الأرَائِكِ ) قال: سُرُر عليها الحِجال .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: زعم محمد أن عكرمة قال: الأرائك: السُّرُر في الحِجال .

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن، وسأله رجل عن الأرائك قال: هي الحجال. أهل اليمن يقولون: أريكة فلان. وسمعت عكرمة وسئل عنها فقال: هي الحجال على السُّرر .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ) قال: هي الحِجال فيها السرر .

وقوله ( لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ) يقول لهؤلاء الذين ذكرهم تبارك وتعالى من أهل الجنة في الجنة فاكهة ( وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) يقول: ولهم فيها ما يتَمنُّون. وذُكر عن العرب أنها تقول: دع عليّ ما شئت أي: تمنّ عليّ ما شئت.

وقوله ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) في رفع سلامٌ وجهان في قول بعض نحويّي الكوفة؛ أحدهما: أن يكون خبرا لما يدّعون، فيكون معنى الكلام: ولهم ما يدّعون مسلَّم لهم خالص. وإذا وُجِّه معنى الكلام إلى ذلك كان القول حينئذ منصوبا توكيدا خارجا من السلام، كأنه قيل: ولهم فيها ما يدّعون مسلَّم خالص حقا، كأنه قيل: قاله قولا. والوجه الثاني: أن يكون قوله ( سَلامٌ ) مرفوعا على المدح، بمعنى: هو سلام لهم قولا من الله. وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله: ( سَلامًا قَوْلا ) على أن الخبر متناه عند قوله ( وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) ثم نصب سلاما على التوكيد، بمعنى: مسلما قولا. وكان بعضُ نحويّي البصرة يقول: انتصب قولا على البدل من اللفظ بالفعل، كأنه قال: أقول ذلك قولا. قال: ومن نصبها نصبها على خبر المعرفة على قوله ( وَلَهُمْ ) فيها ( مَا يَدَّعُونَ ) .

والذي هو أولى بالصواب على ما جاء به الخبر عن محمد بن كعب القُرَظِيّ، أن يكون ( سَلامٌ ) خبرا لقوله ( وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) فيكون معنى ذلك: ولهم فيها ما يدعون، وذلك هو سلام من الله عليهم، بمعنى: تسليم من الله، ويكون قَولا ترجمة ما يدعون، ويكون القول خارجا من قوله: سلام.

وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لما حَدَّثنا به إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقري عن حرملة، عن سليمان بن حميد، قال: سمعت محمد بن كعب، يحدث عمر بن عبد العزيز، قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار، أقبل يمشي في ظُلَل من الغمام والملائكة، فيقف على أول أهل درجة، فيسلم عليهم، فيردون عليه السلام، وهو في القرآن ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) فيقول: سَلُوا، فيقولون: ما نسألك وعزتك وجلالك، لو أنك قسمت بيننا أرزاق الثَّقَلين لأطعمناهم وسقيناهم وكسوناهم، فيقول: سَلُوا، فيقولون: نسألك رضاك، فيقول: رضائي أحلَّكم دار كرامتي، فيفعل ذلك بأهل كلّ درجة حتى ينتهي، قال: ولو أن امرأة من الحُور العِين طلعت لأطفأ ضوء سِوَارَيْها الشمس والقمر، فكيف بالمُسَوَّرة « . »

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا حرملة، عن سليمان بن حميد، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عمر بن عبد العزيز، قال: إذ فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار، أقبل في ظُلَل من الغمام والملائكة، قال: فيسلم على أهل الجنة، فيردون عليه السلام، قال القُرظي: وهذا في كتاب الله ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) ؟ فيقول: سَلُوني، فيقولون: ماذا نسألك، أي رَبّ؟ قال: بل سلوني قالوا: نسألك أي ربّ رضاك، قال: رضائي أحلكم دار كرامتي، قالوا: يا رب وما الذي نسألك! فوعزتك وجلالك، وارتفاع مكانك، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم، ولأسقيناهم، ولألبسناهم ولأخدمناهم، لا يُنقصنا ذلك شيئا، قال: إن لدي مزيدا، قال: فيفعل الله ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه، قال: ثم تأتيهم التحف من الله تحملها إليهم الملائكة. ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن سنان القزاز، قال: ثنا أبو عبد الرحمن، قال: ثنا حرملة، قال: ثنا سليمان بن حميد، أنه سمع محمد بن كعب القرظي يحدث عمر بن عبد العزيز، قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار، أقبل يمشي في ظُلل من الغمام ويقف، قال: ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: فيقولون: فماذا نسألك يا رب، فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك، لو أنك قسمت علينا أرزاق الثقلين، الجن والإنس، لأطعمناهم، ولسقيناهم، ولأخدمناهم، من غير أن ينتقص ذلك شيئًا مما عندنا، قال: بلى فسلوفي، قالوا: نسألك رضاك، قال: رضائي أحلَّكم دار كرامتي، فيفعل هذا بأهل كلّ درجة، حتى ينتهي إلى مجلسه. وسائر الحديث مثله « . فهذا القول الذي قاله محمد بن كعب، ينبىء عن أنَّ » سلام « بيان عن قوله ( مَا يَدَّعُونَ ) ، وأن القول خارج من السلام. وقوله ( مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) يعني: رحيم بهم إذ لم يعاقبهم بما سلف لهم من جُرْم في الدنيا. »

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ( 59 ) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 60 ) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 61 )

يعني بقوله ( وَامْتَازُوا ) : تَميزوا؛ وهي افتعلوا، من ماز يميز، فعل يفعل منه: امتاز يمتاز امتيازا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) قال: عُزِلوا عن كل خير .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع، عمن حدثه، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: « إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أمَرَ اللهُ جَهَنَّمَ فَيَخْرُجُ مِنْها عُنُقٌ ساطِعٌ مُظْلِمٌ، ثُمَّ يَقُولُ: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ) .. الآية، إلى قوله هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) فيَتَمَيَّزُ النَّاسُ ويَجْثُونَ، وَهِيَ قَوْلُ اللهِ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ ... الآية » .

فتأويل الكلام إذن: وتميزوا من المؤمنين اليوم أيها الكافرون بالله، فإنكم واردون غير موردهم، داخلون غير مدخلهم.

وقول ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه منه، وهو: ثم يقال: ألم أعهد إليكم يا بني آدم، يقول: ألم أوصكم وآمركم في الدنيا أن لا تعبدوا الشيطان فتطيعوه في معصية الله ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) يقول: وأقول لكم: إن الشيطان لكم عدو مبين، قد أبان لكم عداوته بامتناعه من السجود، لأبيكم آدم، حسدًا منه له، على ما كان الله أعطاه من الكرامة، وغُروره إياه، حتى أخرجه وزوجته من الجنة.

وقوله ( وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) يقول: وألم أعهد إليكم أن اعبدوني دون كلّ ما سواي من الآلهة والأنداد، وإياي فأطيعوا، فإن إخلاص عبادتي، وإفراد طاعتي، ومعصية الشيطان، هو الدين الصحيح، والطريق المستقيم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ( 62 ) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 63 ) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 64 )

يعني تعالى ذكره بقوله ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا ) : ولقد صد الشيطان منكم خلقًا كثيرا عن طاعتي، وإفرادي بالألوهة حتى عبدوه، واتخذوا من دوني آلهة يعبدونها.

كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا ) قال: خلقا .

واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين ( جِبِلا ) بكسر الجيم وتشديد اللام، وكان بعض المكِّيين وعامة قراء الكوفة يقرءونه ( جُبُلا ) بضم الجيم والباء وتخفيف اللام. وكان بعض قراء البصرة يقرؤه: ( جُبْلا ) بضم الجيم وتسكين الباء، وكل هذه لغات معروفات، غير أني لا أحب القراءة في ذلك إلا بإحدى القراءتين اللتين إحداهما بكسر الجيم وتشديد اللام، والأخرى: ضم الجيم والباء وتخفيف اللام، لأن ذلك هو القراءة التي عليها عامة قراء الأمصار.

وقوله ( أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) يقول: أفلم تكونوا تعقلون أيها المشركون، إذ أطعتم الشيطان في عبادة غير الله، أنه لا ينبغي لكم أن تطيعوا عدوكم وعدو الله، وتعبدوا غير الله. وقوله ( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) يقول: هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على كفركم بالله، وتكذيبكم رسله، فكنتم بها تكذبون. وقيل: إن جهنم أول باب من أبواب النار. وقوله ( اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) يقول: احترقُوا بها اليوم ورِدُوها؛ يعني باليوم: يوم القيامة ( بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) : يقول: بما كنتم تَجْحدونها في الدنيا، وتكذبون بها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 65 )

يعني تعالى ذكره بقوله ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ) : اليوم نطبع على أفواه المشركين، وذلك يوم القيامة ( وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ ) بما عملوا في الدنيا من معاصي الله ( وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) قيل: إن الذي ينطق من أرجلهم: أفخاذهم من الرجل اليُسرى ( بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) في الدنيا من الآثام.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا يونس بن عبيد، عن حميد بن هلال، قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى: يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فيعرض عليه ربُّه عمله فيما بينه وبينه، فيعترف فيقول: نعم أي رب عملت عملت عملت، قال: فيغفر الله له ذنوبه، ويستره منها، فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئًا، وتبدو حسناته، فود أن الناس كلهم يرونها؛ ويدعى الكافر والمنافق للحساب، فيعرض عليه ربه عمله فيجحده، ويقول أي: رب، وعزتك لقد كتب عليّ هذا الملك ما لم أعمل، فيقول له الملك: أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا؟ فيقول: لا وعزتك أي رب، ما عملته، فإذا فعل ذلك ختم على فيه. قال الأشعري: فإني أحسب أول ما ينطق منه لفخذه اليمنى، ثم تلا ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنى يحيى، عن أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن الشعبي، قال: يقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا، فيقول: ما عملت، فيختم على فيه، وتنطق جوارحه، فيقول لجوارحه: أبعدكن الله، ما خاصمت إلا فيكن .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ) .... الآية، قال: قد كانت خصومات وكلام، فكان هذا آخره، ( نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ) .

حدثني محمد بن عوف الطائي، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن عقبة بن عامر، أنه سمع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: « أوَّلُ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ مِنَ الإنْسانِ، يَوْمَ يَخْتِمُ اللهُ على الأفْوَاهِ، فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ اليُسْرَى » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ( 66 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ( 67 )

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) فقال بعضهم: معنى ذلك: ولو نشاء لأعميناهم عن الهدى، وأضللناهم عن قصد المَحَجَّة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله ( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ) يقول: أضللتهم وأعميتهم عن الهدى وقال آخرون: معنى ذلك: ولو نشاء لتركناهم عميا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله ( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) قال: لو يشاء لطمس على أعينهم فتركهم عميًا يترددون .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) يقول: لو شئنا لتركناهم عميا يترددون . وهذا القول الذي ذكرناه عن الحسن وقتادة أشبه بتأويل الكلام، لأن الله إنما تهدد به قومًا كفارا، فلا وجه لأن يقال: وهم كفار، لو نشاء لأضللناهم وقد أضلهم، ولكنه قال: لو نشاء لعاقبناهم على كفرهم، فطمسنا على أعينهم فصيرناهم عميا لا يبصرون طريقا، ولا يهتدون له؛ والطَّمْس على العين: هو أن لا يكون بين جفني العين غرٌّ، وذلك هو الشق الذي بين الجفنين كما تطمس الريح الأثر، يقال: أعمى مطموس وطميس.

وقوله ( فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) يقول: فابتدروا الطريق.

كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) قال الطريق .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) أي: الطريق .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) قال: الصراط، الطريق .

وقوله ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) يقول: فأي وجه يبصرون أن يسلكوه من الطرق، وقد طمسنا على أعينهم.

كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) وقد طمسنا على أعينهم .

وقال الذين وجهوا تأويل قوله ( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ) إلى أنه معني به العمى عن الهدى، تأويل قوله ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) : فأنى يهتدون للحق .

ذكر من قال ذلك:

- حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) يقول: فكيف يهتدون .

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) يقول: لا يبصرون الحق .

وقوله ( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ) يقول تعالى ذكره: ولو نشاء لأقعدنا هؤلاء المشركين من أرجلهم في منازلهم ( فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ) يقول: فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم، ولا أن يرجعوا وراءهم.

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن ( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ) قال: لو نشاء لأقعدناهُمْ .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، ثنا سعيد عن قتادة ( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ) أي: لأقعدناهم على أرجلهم ( فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ) فلم يستطيعوا أن يتقدموا ولا يتأخروا .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولو نشاء لأهلكناهم في منازلهم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ) يقول: ولو نشاء أهلكناهم في مساكنهم ، والمكانة والمكان بمعنى واحد. وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ( 68 ) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ( 69 ) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 70 )

يقول تعالى ذكره ( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ ) فنمُد له في العمر ( نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ) نرده إلى مثل حاله في الصبا من الهرم والكبر، وذلك هو النكس في الخلق، فيصير لا يعلم شيئا بعد العلم الذي كان يعلمه.

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ) يقول: من نمد له في العمر ننكسه في الخلق، لكيلا يعلم بعد علم شيئا، يعني الهَرَم .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( نُنَكِّسْهُ ) فقرأه عامة قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( نَنْكِسْهُ ) بفتح النون الأولى وتسكين الثانية، وقرأته عامة قراء الكوفة ( نُنَكِّسْهُ ) بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الكاف.

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن التي عليها عامة قراء الكوفيين أعجبُ إليّ، لأن التنكيس من الله في الخلق إنما هو حال بعد حال، وشيء بعد شيء، فذلك تأييد للتشديد.

وكذلك اختلفوا في قراءة قوله ( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) فقرأته قراء المدينة ( أفَلا تَعْقِلُونَ ) بالتاء على وجه الخطاب. وقرأته قراء الكوفة بالياء على الخبر، وقراءة ذلك بالياء أشبه بظاهر التنـزيل، لأنه احتجاج من الله على المشركين الذين قال فيهم وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فإخراج ذلك خبرا على نحو ما خرج قوله لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ أعجب إلي، وإن كان الآخر غير مدفوع.

ويعني تعالى ذكره بقوله ( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) : أفلا يعقل هؤلاء المشركون قُدْرة الله على ما يشاء بمعاينتهم ما يعاينون من تصريفه خلقه فيما شاء وأحب من صغر إلى كبر، ومن تنكيس بعد كبر في هرم.

وقوله ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) يقول تعالى ذكره: وما علَّمنا محمدا الشعر، وما ينبغي له أن يكون شاعرا.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) قال: قيل لعائشة: هل كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان يتمثَّل ببيت أخي بني قيس، فيجعل آخره أوله، وأوله آخره، فقال له أبو بكر: إنه ليس هكذا، فقال نبي الله: « إني وَاللهِ ما أنا بِشاعِرٍ، وَلا يَنْبَغِي لي » .

وقوله ( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ ) يقول تعالى ذكره: ما هو إلا ذكر، يعني بقوله ) إنْ هُوَ ) أي: محمد إلا ذكر لكم أيها الناس، ذكركم الله بإرساله إياه إليكم، ونبهكم به على حظكم ( وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) يقول: وهذا الذي جاءكم به محمد قرآن مبين، يقول: يَبِين لمن تدبَّره بعقل ولب، أنه تنـزيل من الله أنـزله إلى محمد، وأنه ليس بشعر ولا مع كاهن.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) قال: هذا القرآن .

وقوله ( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ) يقول: إن محمد إلا ذكر لكم لينذر منكم أيها الناس من كان حي القلب، يعقل ما يقال له، ويفهم ما يُبين له، غير ميت الفؤاد بليد.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو معاوية، عن رجل، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، في قوله ( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ) قال: من كان عاقلا .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ) : حي القلب، حي البصر .

قوله ( وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) يقول: ويحق العذاب على أهل الكفر بالله، المولِّين عن اتباعه، المعرضين عما أتاهم به من عند الله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) بأعمالهم .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ( 71 ) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( 72 )

يقول تعالى ذكره ( أَوَلَمْ يَرَوْا ) هؤلاء المشركون بالله الآلهة والأوثان ( أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ) يقول: مما خلقنا من الخلق ( أَنْعَامًا ) وهي المواشي التي خلقها الله لبني آدم، فسخَّرها لهم من الإبل والبقر والغنم ( فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) يقول: فهم لها مصرِّفون كيف شاءوا بالقهر منهم لها والضبط.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) أي: ضابطون .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) فقيل له: أهي الإبل؟ فقال: نعم، قال: والبقر من الأنعام، وليست بداخلة في هذه الآية، قال: والإبل والبقر والغنم من الأنعام، وقرأ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ قال: والبقر والإبل هي النعم، وليست تدخل الشاء في النعم .

وقوله ( وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ) يقول: وذللنا لهم هذه الأنعام ( فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ ) يقول: فمنها ما يركبون كالإبل يسافرون عليها؛ يقال: هذه دابة ركوب، والرُّكوب بالضم: هو الفعل ( وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ) لحومها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ ) : يركبونها يسافرون عليها ( وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ) لحومها .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( 73 ) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ( 74 )

يقول تعالى ذكره: ولهم في هذه الأنعام منافع، وذلك منافع في أصوافها وأوبارها وأشعارها باتخاذهم من ذلك أثاثًا ومتاعًا، ومن جلودها أكنانا، ومشارب يشربون ألبانها.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ) يلبسون أصوافها ( وَمَشَارِبُ ) يشربون ألبانها .

وقوله ( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) يقول: أفلا يشكرون نعمتي هذه، وإحساني إليهم بطاعتي، وإفراد الألوهية والعبادة، وترك طاعة الشيطان وعبادة الأصنام.

قوله ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ) يقول: واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونها ( لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ) يقول: طمعا أن تنصرهم تلك الآلهة من عقاب الله وعذابه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ( 75 ) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 76 )

يقول تعالى ذكره: لا تستطيع هذه الآلهة نصرهم من الله إن أراد بهم سوءا، ولا تدفع عنهم ضرا.

وقوله ( وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) يقول: وهؤلاء المشركون لآلهتهم جند محضَرون.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( مُحْضَرُونَ ) وأين حضورهم إياهم، فقال بعضهم: عني بذلك: وهم لهم جند محضرون عند الحساب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) قال: عند الحساب .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهم لهم جند محضَرون في الدنيا يغضبون لهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ) الآلهة ( وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيرا، ولا تدفع عنهم سوءا، إنما هي أصنام .

وهذا الذي قاله قتادة أولى القولين عندنا بالصواب في تأويل ذلك، لأن المشركين عند الحساب تتبرأ منهم الأصنام، وما كانوا يعبدونه، فكيف يكونون لها جندا حينئذ، ولكنهم في الدنيا لهم جند يغضبون لهم، ويقاتلون دونهم.

وقوله تعالى ( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فلا يحْزُنْك يا محمد قول هؤلاء المشركين بالله من قومك لك: إنك شاعر، وما جئتنا به شعر، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوتك.

وقوله ( إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) يقول تعالى ذكره: إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك الحسد، وهم يعلمون أن الذي جئتهم به ليس بشعر، ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذاب، فنعلم ما يسرون من معرفتهم بحقيقة ما تدعوهم إليه، وما يعلنون من جحودهم ذلك بألسنتهم علانية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ( 77 ) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( 78 ) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( 79 )

يقول تعالى ذكره ( أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ ) واخُتلف في الإنسان الذي عُني بقوله ( أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ ) فقال بعضهم: عُني به أُبي بن خلف.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عُمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي يحيى عن مجاهد، في قوله ( مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) قال: أُبي بن خَلَف أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعَظْم .

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا ) أبي بن خلف .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) : ذُكر لنا أن أُبيَّ بن خلف، أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعظم حائل، ففتَّه، ثم ذراه في الريح، ثم قال: يا محمد من يحيي هذا وهو رميم؟ قال: « والله يحييه، ثم يميته، ثم يُدخلك النار ؛ قال: فقتله رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم أُحد . »

وقال آخرون: بل عني به: العاص بن وائل السَّهمي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: جاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعظْم حائل، ففته بين يديه، فقال: يا محمد أيبعث الله هذا حيا بعد ما أرم؟ قال: نَعَمْ يَبْعَثُ اللهُ هَذَا، ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْييكَ، ثُمَّ يُدْخِلُك نَار جَهَنَّم « قال: ونـزلت الآيات ( أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) .. » وإلى آخر الآية .

وقال آخرون: بل عُنِي به: عبد الله بن أُبي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ) .. إلى قوله ( وَهِيَ رَمِيمٌ ) قال: جاء عبد الله بن أبي إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعظْم حائل فكسره بيده، ثم قال: يا محمد كيف يبعث الله هذا وهو رميم؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يَبْعَثُ اللهُ هَذَا، ويُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ ، فقال الله ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

فتأويل الكلام إذن: أو لم ير هذا الإنسان الذي يقول ( مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) أنا خلقناه من نطفة فسويناه خلقا سَوِيًّا ( فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ ) يقول: فإذا هو ذو خصومة لربه، يخاصمه فيما قال له ربه إني فاعل، وذلك إخبار لله إياه أنه مُحْيي خلقه بعد مماتهم، فيقول: مَنْ يحيي هذه العظام وهي رميم؟ إنكارا منه لقُدرة الله على إحيائها.

وقوله ( مُبِينٌ ) يقول: يبين لمن سمع خُصومته وقيله ذلك أنه مخاصم ربه الذي خلقه. وقوله ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) يقول: ومثَّل لنا شبها بقوله ( مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) إذ كان لا يقدر على إحياء ذلك أحد، يقول: فجعلنا كمن لا يقدر على إحياء ذلك من الخلق ( وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) يقول: ونسي خَلْقَنا إياه كيف خلقناه، وأنه لم يكن إلا نطفة، فجعلناها خلقا سَوِيًّا ناطقا، يقول: فلم يفكر في خلقناه، فيعلم أن من خلقه من نطفة حتى صار بشرا سويا ناطقا متصرفا، لا يعْجِز أن يعيد الأموات أحياء، والعظام الرَّميم بشَرا كهيئتهم التي كانوا بها قبل الفناء ، يقول الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( قُلْ ) لهذا المشرك القائل لك: من يُحيي العظام وهي رميم ( يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يقول: يحييها الذي ابتدع خلْقها أول مرة ولم تكن شيئا ( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) يقول: وهو بجميع خلقه ذو علم كيف يميت، وكيف يحيي، وكيف يبدىء، وكيف يعيد، لا يخفي عليه شيء من أمر خلقه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ( 80 ) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ( 81 )

يقول تعالى ذكره: قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا ) يقول: الذي أخرج لكم من الشجر الأخضر نارا تُحْرق الشجر، لا يمتنع عليه فعل ما أراد، ولا يعجز عن إحياء العظام التي قد رَمَّت، وإعادتها بشَرا سويا، وخلقا جديدا، كما بدأها أول مرة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا ) يقول: الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر أن يبعثه .

قوله ( فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) يقول: فإذا أنتم من هذا الشجر توقدون النار؛ وقال ( مِنْهُ ) والهاء من ذكر الشجر، ولم يقل: منها، والشجر جمع شجرة، لأنه خرج مخرج الثمر والحصَى، ولو قيل: منها كان صوابا أيضًا، لأن العرب تذكِّر مثل هذا وتؤنِّثه.

( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) يقول تعالى ذكره منبها هذا الكافر الذي قال مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ على خطأ قوله، وعظيم جهله ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ) السبع ( وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ ) مثلكم، فإن خلق مثلكم من العظام الرميم ليس بأعظم من خلق السَّمَواتِ والأرض. يقول: فمن لم يتعذر عليه خلق ما هو أعظم من خلقكم، فكيف يتعذر عليه إحياء العظام بعد ما قد رمَّت وبلِيَت؟ وقوله ( بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) يقول: بلى هو قادر على أن يخلق مثلهم وهو الخلاق لما يشاء، الفعَّال لما يريد، العليم بكل ما خلق ويخلق ، لا يخفي عليه خافية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 82 ) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 83 )

يقول تعالى ذكره ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ قال: هذا مثل إنما أمر. إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، قال: ليس من كلام العرب شيء هو أخف من ذلك، ولا أهون، فأمر الله كذلك .

وقوله ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يقول تعالى ذكره: فتنـزيه الذي بيده ملك كل شيء وخزائنه. وقوله ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يقول: وإليه تردون وتصيرون بعد مماتكم.

آخر تفسير سورة يس

 

تفسير سورة الصافات

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ( 1 ) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ( 2 ) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ( 3 )

قال أبو جعفر: أقسم الله تعالى ذكره بالصافات، والزاجرات، والتاليات ذكرا; فأما الصافات: فإنها الملائكة الصافات لربها في السماء وهي جمع صافَّة، فالصافات: جَمْعُ جَمْعٍ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني سلْم بن جنادة، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، قال: كان مسروق يقول في الصَّافَّات: هي الملائكة.

حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا شُعْبة، عن سليمان، قال: سمعت أبا الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، بمثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) قال: قسم أقسم الله بخلق، ثم خلق، ثم خلق، والصافات: الملائكة صُفوفا في السماء.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( وَالصَّافَّاتِ ) قال: هم الملائكة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) قال: هذا قسم أقسم الله به.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( فالزاجرات زجرا ) فقال بعضهم: هي الملائكة تزجُر السحاب تسوقه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ) قال: الملائكة.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: ( فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ) قال: هم الملائكة.

وقال آخرون: بل ذلك آي القرآن التي زجر الله بها عما زَجر بها عنه في القرآن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ) قال: ما زَجَر الله عنه في القرآن.

والذي هو أولى بتأويل الآية عندنا ما قال مجاهد، ومن قال هم الملائكة، لأن الله تعالى ذكره، ابتدأ القسم بنوع من الملائكة، وهم الصافون بإجماع من أهل التأويل، فلأن يكون الذي بعده قسما بسائر أصنافهم أشبه.

وقوله ( فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ) يقول: فالقارئات كتابا.

واختلف أهل التأويل في المعني بذلك، فقال بعضهم: هم الملائكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فالتاليات ذكرا ) قال: الملائكة.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي ( فالتاليات ذكرا ) قال: هم الملائكة.

وقال آخرون: هو ما يُتلى في القرآن من أخبار الأمم قبلنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ) قال: ما يُتلى عليكم في القرآن من أخبار الناس والأمم قبلكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ( 4 ) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ( 5 ) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ( 6 ) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ( 7 ) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ( 8 ) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ( 9 ) إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ( 10 )

يعني تعالى ذكره بقوله: ( إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) والصافات صفا إن معبودكم الذي يستوجب عليكم أيها الناس العبادة، وإخلاص الطاعة منكم له لواحد لا ثاني له ولا شريك. يقول: فأخلصوا العبادة وإياه فأفردوا بالطاعة، ولا تجعلوا له في عبادتكم إياه شريكا.

وقوله ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) يقول: هو واحد خالق السموات السبع وما بينهما من الخلق، ومالك ذلك كله، والقيِّم على جميع ذلك، يقول: فالعبادة لا تصلح إلا لمن هذه صفته، فلا تعبدوا غيره، ولا تشركوا معه في عبادتكم إياه من لا يضر ولا ينفع، ولا يخلق شيئا ولا يُفْنيه.

واختلف أهل العربية في وجه رفع رب السموات، فقال بعض نحويي البصرة، رُفع على معنى: إن إلهكم لرب. وقال غيره: هو رَد على « إن إلهكم لواحد » ثم فَسَّر الواحد، فقال: رب السموات، وهو رد على واحد. وهذا القول عندي أشبه بالصواب في ذلك، لأن الخبر هو قوله ( لَوَاحِدٌ ) ، وقوله ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ ) ترجمة عنه، وبيان مردود على إعرابه.

وقوله ( وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ) يقول: ومدبر مشارق الشمس في الشتاء والصيف ومغاربها، والقيِّم على ذلك ومصلحه، وترك ذكر المغارب لدلالة الكلام عليه، واستغني بذكر المشارق من ذكرها، إذ كان معلوما أن معها المغارب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) وقع القسم على هذا إن إلهكم لواحد ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ) قال: مشارق الشمس في الشتاء والصيف.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله ( رَبُّ الْمَشَارِقِ ) قال: المشارق ستون وثلاث مئة مَشْرِق، والمغارب مثلها، عدد أيام السنة

وقوله ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ) اختلفت القراء في قراءة قوله ( بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة بزينة الكواكب بإضافة الزينة إلى الكواكب، وخفض الكواكب ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ) التي تليكم أيها الناس وهي الدنيا إليكم بتزيينها الكواكب: أي بأن زينتها الكواكب. وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة ( بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ) بتنوين زينة، وخفض الكواكب ردا لها على الزينة، بمعنى: إنا زينا السماء الدنيا بزينة هي الكواكب، كأنه قال: زيناها بالكواكب. ورُوِي عن بعض قراء الكوفة أنه كان ينون الزِّينة وينصب الكواكبَ، بمعنى: إنا زينا السماء الدنيا بتزييننا الكواكبَ. ولو كانت القراءة في الكواكب جاءت رفعا إذ نونت الزينة، لم يكن لحنا، وكان صوابا في العربية، وكان معناه: إنا زينا السماء الدنيا بتزيينها الكواكب: أي بأن زينتها الكواكب وذلك أن الزينة مصدر، فجائز توجيهها إلى أيِّ هذه الوجوه التي وُصِفت في العربية.

وأما القراءة فأعجبها إلي بإضافة الزينة إلى الكواكب وخفض الكواكب لصحة معنى ذلك في التأول والعربية، وأنها قراءة أكثر قراء الأمصار وإن كان التنوين في الزينة وخفض الكواكب عندي صحيحا أيضا. فأما النصب في الكواكب والرفع، فلا أستجيز القراءة بهما، لإجماع الحجة من القراء على خلافهما، وإن كان لهما في الإعراب والمعنى وجه صحيح.

وقد اختلف أهل العربية في تأويل ذلك إذا أضيفت الزينة إلى الكواكب، فكان بعض نحويي البصرة يقول: إذا قرئ ذلك كذلك فليس يعني بعضَها، ولكن زينتها حسنها، وكان غيره يقول: معنى ذلك: إذا قرئ كذلك: إنا زينا السماء الدنيا بأن زينتها الكواكب.

وقد بيَّنا الصواب في ذلك عندنا.

وقوله ( وَحِفْظا ) يقول تعالى ذكره: ( وحفظا ) للسماء الدنيا زيناها بزينة الكواكب.

وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب قوله ( وحِفْظا ) فقال بعض نحويي البصرة: قال وحفظا، لأنه بدل من اللفظ بالفعل، كأنه قال: وحفظناها حفظا. وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هو من صلة التزيين أنا زينا السماء الدنيا حفظا لها، فأدخل الواو على التكرير: أي وزيناها حفظا لها، فجعله من التزيين، وقد بيّنا القول فيه عندنا. وتأويل الكلام: وحفظا لها من كل شيطان عات خبيث زيناها.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَحِفْظا ) يقول: جعلتها حفظا من كل، شيطان مارد.

وقوله ( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى ) اختلفت القراء في قراءة قوله ( لا يَسَّمَّعُونَ ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة، وبعض الكوفيين: ( لا يَسْمَعُونَ ) بتخفيف السين من يسمعون، بمعنى أنهم يتسمَّعون ولا يسمعون. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين بعد لا يسمعون بمعنى: لا يتسمعون، ثم أدغموا التاء في السين فشددوها.

وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالتخفيف، لأن الأخبار الواردة عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعن أصحابه، أن الشياطين قد تتسمع الوحي، ولكنها ترمى بالشهب لئلا تسمع.

* ذكر رواية بعض ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: كانت للشياطين مقاعد في السماء، قال: فكانوا يسمعون الوحي، قال: وكانت النجوم لا تجري، وكانت الشياطين لا ترمى، قال: فإذا سمعوا الوحي نـزلوا إلى الأرض، فزادوا في الكلمة تسعا; قال: فلما بُعِثَ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جعل الشيطانُ إذا قعد مقعده جاء شهاب، فلم يُخْطِهِ حتى يحرقه، قال: فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هو إلا لأمر حدث ; قال: فبعث جنوده، فإذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قائم يصلي بين جبلي نخلة; قال أبو كُرَيب: قال وكيع: يعني بطن نخلة، قال: فرجعوا إلى إبليس فأخبروه، قال: فقال هذا الذي حدث.

حدثنا ابن وكيع وأحمد بن يحيى الصوفي قالا ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: كانت الجن يصعدون إلى السماء الدنيا يستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيكون باطلا فلما بُعث النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مُنِعوا مقاعدَهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يُرْمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا إلا لأمر حدث في الأرض، فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قائما يصلي، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: كانت الجن لهم مقاعد، ثم ذكر نحوه.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني الزهري، عن عليّ بن الحسين، عن أبي إسحاق، عن ابن عباس، قال: حدثني رهط من الأنصار، قالوا: « بينا نحن جلوس ذات ليلة مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، إذ رأى كوكبا رُمي به، فقال: » ما تقولون في هذا الكوكب الذي يرمي به؟ « فقلنا: يولد مولود، أو يهلك هالك، ويموت ملك ويملك ملك، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : » لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللهَ كان إذا قَضَى أمْرًا فِي السَّمَاءِ سَبَّحَ لِذَلِكَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، فَيُسَبِّحُ لِتَسْبِيحِهِمْ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ تَحْتِهِمْ مِنَ الْمَلائِكَةِ، فَمَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ التَّسْبِيحُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ أهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْمَلائِكَةِ مِمَّ سَبَّحْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا نَدْرِي: سَمِعْنَا مَنْ فَوْقَنَا مِنَ الْمَلائِكَةِ سَبَّحُوا فَسَبَّحْنَا اللهَ لِتَسْبِيحِهِمْ وَلَكِنَّا سَنَسْأَلُ، فَيَسْأَلُونَ مَنْ فَوْقَهُمْ، فَمَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حتى يَنْتَهِيَ إلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ، فَيَقُولُوَن: قَضَى اللهُ كَذَا وَكَذَا، فَيُخْبِرُونَ بِهِ مَنْ يَلِيهِمْ حتى يَنْتَهُوا إلى السَّمَاءِ الدُّنْيا، فَتَسْتَرِقُ الجِنُّ مَا يَقُولُونَ، فَيَنـزلُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ مِنَ الإنْسِ فَيُلْقُونَهُ على ألْسِنَتِهِمْ بِتَوَهُّمٍ مِنْهُمْ، فَيُخْبِرُونَهُمْ بِهِ، فَيَكُونُ بَعْضُهُ حَقًّا وبَعْضُهُ كَذِبًا، فَلَمْ تَزَلِ الجِنّ كذلكَ حتى رُمُوا بِهذهِ الشُّهُبِ « »

وحدثنا ابن وكيع وابن المثنى، قالا ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن عليّ بن حسين، عن ابن عباس، قال بينما النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في نفر من الأنصار، إذ رمي بنجم فاستنار، فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :ما كُنتم تقولون لِمثلِ هذا في الجاهليةِ إذا رأيتموهُ؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :فإنهُ لا يرمى به لموتِ أحد ولا لحياتهِ، ولكنَّ ربنا تباركَ اسمهُ إذا قضَى أمرًا سبحَ حملةُ العرشِ، ثمَّ سبحَ أهلُ السماءِ الذينَ يلونهمْ، ثمَّ الذينَ يلونهمْ حتى يبلغَ التسبيحُ أهلَ هذه السماءِ ثمَّ يسألُ أهلُ السماءِ السابعة حملة العرش: ماذا قال ربنا؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهلُ كل سماء، حتى يبلع الخبر أهل السماءِ الدنيا، وتخطُف الشياطين السمع، فيرمونَ، فيقذفونهُ إلى أوليائهمْ، فما جاءُوا به على وجههِ فهوَ حق، ولكنهمْ يزيدونَ « . »

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرنا معمر، قال: ثنا ابن شهاب، عن عليّ بن حسين، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جالسا في نفر من أصحابه، قال: فرمي بنجم، ثم ذكر نحوه، إلا أنه زاد فيه: قلت للزهري: أكان يُرْمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنها غلظت حين بُعث النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عاصم بن عليّ، قال: ثنا أبي عليّ بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: « كان للجن مقاعد في السماء يسمعون الوحي، وكان الوحي إذا أُوحِي سمعت الملائكة كهيئة الحديدة يُرْمى بها على الصَّفْوان، فإذا سمعت الملائكة صلصلة الوحي خر لجباههم مَنْ في السماء من الملائكة، فإذا نـزل عليهم أصحاب الوحي قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قال: فيتنادون، قال: ربكم الحق وهو العلي الكبير; قال: فإذا أنـزل إلى السماء الدنيا، قالوا: يكون في الأرض كذا وكذا موتا، وكذا وكذا حياة. وكذا وكذا جدوبة، وكذا وكذا خِصْبا، وما يريد أن يصنع، وما يريد أن يبتدئ تبارك وتعالى، فنـزلت الجن. فأوحوا إلى أوليائهم من الإنس، مما يكون في الأرض ،فبيناهم كذلك، إذ بعث الله النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فزجرت الشياطين عن السماء ورَمَوْهم بكواكب، فجعل لا يصعد أحد منهم إلا احترق، وفزع أهل الأرض لِمَا رأوا في الكواكب، ولم يكن قبل ذلك، وقالوا: هلك مَنْ في السماء، وكان أهل الطائف أول من فزع، فينطلق الرجل إلى إبله، فينحر كل يوم بعيرا لآلهتهم، وينطلق صاحب الغنم، فيذبح كل يوم شاة، وينطلق صاحب البقر. فيذبح كل يوم بقرة، فقال لهم رجل: ويلكم لا تهلكوا أموالكم، فإن معالمكم من الكواكب التي تهتدون بها لم يسقط منها شيء، فأقلعوا وقد أسرعوا في أموالهم. وقال إبليس: حدث في الأرض حدث، فأتي من كل أرض بتربة، فجعل لا يؤتى بتربة أرض إلا شمها، فلما أتي بتربة تهامة قال: ها هنا حدث الحدث، وصرف الله إليه نفرا من الجن وهو يقرأ القرآن، فقالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا حتى ختم الآية...، فولَّوا إلى قومهم منذرين. »

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: « إنَّ الملائكةَ تنـزلُ في العنانِ- وهوَ السحابُ- فتذكرُ ما قضيَ في السماءِ، فتسترقُ الشياطينُ السمعَ، فتسمعهُ فتوحيهِ إلى الكهانِ، فيكذبونَ معها مئةَ كذبةٍ من عند أنفسهمْ . »

فهذه الأخبار تُنبئ عن أن الشياطين تسمع، ولكنها تُرْمى بالشهب لئلا تسمع.

فإن ظن ظان أنه لما كان في الكلام « إلى » ، كان التسمع أولى بالكلام من السمع، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن العرب تقول: سمعت فلانا يقول كذا، وسمعت إلى فلان يقول كذا، وسمعت من فلان.

وتأويل الكلام: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب. وحفظا من كل شيطان مارد أن لا يسمع إلى الملإ الأعلى، فحذفت « إن » اكتفاء بدلالة الكلام عليها، كما قيل: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بمعنى: أن لا يؤمنوا به; ولو كان مكان « لا » أن، لكان فصيحا، كما قيل: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا بمعنى: أن لا تضلوا، وكما قال: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ بمعنى: أن لا تميد بكم. والعرب قد تجزم مع « لا » في مثل هذا الموضع من الكلام، فتقول: ربطت الفرس لا يَنْفَلِتْ، كما قال بعض بني عقيل:

وحــتى رأينـا أحسـن الـود بيننـا مُســاكنةً لا يقـرِف الشـرَّ قـارفُ

ويُروى: لا يقرف رفعا، والرفع لغة أهل الحجاز فيما قيل: وقال قتادة في ذلك ما:

حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى ) قال: منعوها. ويعني بقوله ( إلَى المَلإ ) : إلى جماعة الملائكة التي هم أعلى ممن هم دونهم.

وقوله ( وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا ) ويرمون من كل جانب من جوانب السماء دُحُورا

والدحور: مصدر من قولك: دَحَرْته أدْحَرُه دَحْرا ودُحورا، والدَّحْر: الدفع والإبعاد، يقال منه: ادْحَرْ عنك الشيطان: أي ادفعه عنك وأبعده.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا ) قذفا بالشهب.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَيُقْذَفُونَ ) يرمون ( مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ) قال: من كل مكان. وقوله ( دُحُورًا ) قال: مطرودين.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا ) قال: الشياطين يدحرون بها عن الاستماع، وقرأ وقال: ( إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب ثاقب ) .

وقوله ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) يقول تعالى ذكره: ولهذه الشياطين المسترِقة السمع عذاب من الله واصب.

واختلف أهل التأويل في معنى الواصب، فقال بعضهم: معناه: الموجع.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح ( ولهم عذاب واصب ) قال: موجع.

وحدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط ، عن السديّ، في قوله ( عَذَابٌ وَاصِبٌ ) قال: الموجع.

وقال آخرون: بل معناه: الدائم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) : أي دائم.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( عَذَابٌ وَاصِبٌ ) قال: دائم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) يقول: لهم عذاب دائم.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عمن ذكره، عن عكرمة ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) قال: دائم.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) قال: الواصب: الدائب.

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال: معناه: دائم خالص، وذلك أن الله قال وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا فمعلوم أنه لم يصفه بالإيلام والإيجاع، وإنما وصفه بالثبات والخلوص; ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:

لا أشــتري الحــمد القليـل بقـاؤه يؤمــا بـذم الدهـر أجـمع واصبـا

أي دائما.

وقوله ( إلا من خطف الخطفة ) يقول: إلا من استرق السمع منهم ( فأتبعه شهاب ثاقب ) يعني: مضيء متوقد.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) من نار وثقوبه: ضوءه.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله ( شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) قال: شهاب مضيء يحرقه حين يُرْمى به.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( فَأتْبَعَهُ شِهَابٌ ) قال: كان ابن عباس يقول: لا يقتلون بالشهاب، ولا يموتون، ولكنها تحرقهم من غير قتل، وتُخَبِّل وتُخْدِج من غير قتل.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَأتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) قال: والثاقب: المستوقد، قال: والرجل يقول: أَثقِب نارك، ويقول استثقِب نارك استوقد نارك.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله، قال: سُئل الضحاك هل للشياطين أجنحة؟ فقال: كيف يطيرون إلى السماء إلا ولهم أجنحة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ( 11 ) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ( 12 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فاستفت يا محمد هؤلاء المشركين الذي يُنكرون البعث بعد الممات والنشور بعد البلاء: يقول: فسَلْهم: أهم أشد خلقا؟ يقول: أخلقُهم أشد أم خلق من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين والسموات والأرض؟

وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود: « أهُمْ أشَدُّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنَا » ؟.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أهُمْ أشَدُّ خَلْقا أمْ مَنْ خَلَقْنَا ) ؟ قال: السموات والأرض والجبال.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح ،قال: ثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك أنه قرأ « أهُمْ أَشَدُّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنَا » ؟ وفي قراءة عبد الله بن مسعود « عَدَدْنَا » يقول: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ يقول: أهم أشد خلقا، أم السموات والأرض؟ يقول: السموات والأرض أشد خلقا منهم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَاسْتَفْتِهِمْ أهُمْ أَشَدُّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنَا ) من خلق السموات والأرض، قال اللهُ: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ... الآية.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي ( فَاسْتَفْتِهِمْ أهُمْ أشَدُّ خَلْقَا ) قال: يعني المشركين، سلهم أهم أشد خلقا ( أمْ مَنْ خَلَقْنَا )

وقوله ( إنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) يقول: إنا خلقناهم من طين لاصق. وإنما وصفه جل ثناؤه باللُّزوب، لأنه تراب مخلوط بماء، وكذلك خَلْق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء; والتراب إذا خُلط بماء صار طينا لازبا، والعرب تُبدل أحيانًا هذه الباء ميما، فتقول: طين لازم; ومنه قول النجاشي الحارثي:

بنـى اللـؤم بيتـا فاسـتقرت عمـاده عليكــم بنـي النجـار ضربـة لازم

ومن اللازب قول نابغة بني ذُبيان:

ولا يحسـبون الخـير لا شـرَّ بعـدهُ ولا يحســبون الشـر ضربـة لازب

وربما أبدلوا الزاي التي في اللازب تاء، فيقولون: طين لاتب، وذُكر أن ذلك في قَيس ، زعم الفرّاء أن أبا الجراح أنشده:

صــداعٌ وتـوصيمُ العظـامِ وفـترة وغثـي مـع الإشراق في الجوف لاتب

بمعنى: لازم، والفعل من لازب: لَزِبَ يَلْزُب، لزْبا ولُزوبا وكذلك من لاتب: لَتَبَ يَلْتُب لُتُوبا.

وبنحو الذي قلنا في معنى ( لازِبٍ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبيد الله بن يوسف الجُبَيري، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله ( مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال: هو الطين الحر الجيد اللزج.

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: اللازب: الجيد.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: اللازب: اللَّزج الطيب.

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله ( مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) يقول: ملتصق.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله ( إنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال: من التراب والماء فيصير طينا يَلْزَق.

حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله ( إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال: اللازب: اللَّزِج.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك ( إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) واللازب: الطين الجيد.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله ( إنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) واللازب: الذي يَلْزَق باليد.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال: لازم.

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلي، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: ثنا جُوَيبر، عن الضحاك، في قوله ( مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال: هو اللازق.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال: اللازب: الذي يلتصق كأنه غِراء، ذلك اللازب.

قوله ( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) اختلفت القرّاء فى قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الكوفة: ( بلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ ) بضم التاء من عجبت، بمعنى: بل عظم عندي وكبر اتخاذهم لي شريكا، وتكذيبهم تنـزيلي وهم يسخرون. وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة ( بَلْ عَجِبْتَ ) بفتح التاء بمعنى: بل عجبت أنت يا محمد ويسخرون من هذا القرآن.

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

فإن قال قائل: وكيف يكون مصيبا القارئ بهما مع اختلاف معنييهما؟ قيل: إنهما وإن اختلف معنياهما فكل واحد من معنييه صحيح، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل، وسخر منه أهل الشرك بالله، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله، وسَخِر المشركون بما قالوه.

فإن قال: أكان التنـزيل بإحداهما أو بكلتيهما؟ قيل: التنـزيل بكلتيهما. فإن قال: وكيف يكون تنـزيل حرف مرتين ؟ قيل: إنه لم ينـزل مرتين، إنما أنـزل مرة، ولكنه أمر صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يقرأ بالقراءتين كلتيهما، ولهذا مَوضع سنستقصي إن شاء الله فيه البيان عنه بما فيه الكفاية.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) قال: عجب محمد عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن حين أُعطيه، وسخر منه أهل الضلالة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ( 13 ) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ( 14 )

يقول تعالى ذكره: وإذا ذُكِّر هؤلاء المشركون حُجَجَ الله عليهم ليعتبروا ويتفكروا، فينيبوا إلى طاعة الله ( لا يَذْكرُون ) : يقول: لا ينتفعون بالتذكير فيتذكروا.

بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ) : أي لا ينتفعون ولا يُبْصرون.

وقوله ( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) يقول: وإذا رأوا حُجَّة من حجج الله عليهم، ودلالة على نبوة نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يستسخرون: يقول: يسخرون ويستهزءون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) : يسخرون منها ويستهزئون.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) قال: يستهزِئون، يَسْتَسْخِرُونَ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 15 ) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( 16 ) أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ( 17 ) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ( 18 ) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ( 19 )

يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون من قُرَيش بالله لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ما هذا الذي جئتنا به إلا سحرٌ مبين.

يقول: يبين لمن تأمله ورآه أنه سحر ( أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ) يقولون، منكرين بعث الله إياهم بعد بلائهم: أئنا لمبعوثون أحياء من قبورنا بعد مماتنا، ومصيرنا ترابا وعظاما، قد ذهب عنها اللحوم

( أوآباؤنا الأولون ) الذين مضوا من قبلنا، فبادوا وهلكوا.

يقول الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء: نعم أنتم مبعوثون بعد مصيركم ترابا وعظاما أحياء كما كنتم قبل مماتكم، وأنتم داخرون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أو آباؤنا الأولون ) تكذيبا بالبعث ( قل نعم وأنتم داخرون )

وقوله ( وأنتم داخرون ) يقول تعالى ذكره: وأنتم صاغرون أشد الصَّغَر; من قولهم: صاغر داخر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وأنتم داخرون ) : أي صاغرون.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( وأنْتُمْ دَاخِرُونَ ) قال: صاغرون.

وقوله ( فإنَّما هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ) يقول تعالى ذكره: فإنما هي صيحة واحدة، وذلك هو النفخ في الصور ( فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ) يقول: فإذا هم شاخصة أبصارهم ينظرون إلى ما كانوا يوعدونه من قيام الساعة ويعاينونه.

كما حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ) قال: هي النفخة

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ( 20 ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 21 )

يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون المكذبون إذا زجرت زجرة واحدة، ونُفخ في الصور نفخة واحدة: ( يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ) يقولون: هذا يوم الجزاء والمحاسبة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ) قال: يدين الله فيه العباد بأعمالهم.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ) قال: يوم الحساب.

وقوله ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) يقول تعالى ذكره: هذا يوم فصل الله بين خلقه بالعدل من قضائه الذي كنتم به تكذبون في الدنيا فتنكرونه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) يعني: يوم القيامة.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ ) قال: يوم يُقضى بين أهل الجنة وأهل النار .

 

القول في تأويل قوله تعالى : احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ( 22 ) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ( 23 )

وفي هذا الكلام متروك استغني بدلالة ما ذكر عما ترك، وهو: فيقال: احشروا الذين ظلموا، ومعنى ذلك اجمعوا الذين كفروا بالله في الدنيا وعصوه وأزواجهم وأشياعهم على ما كانوا عليه من الكفر بالله وما كانوا يعبدون من دون الله من الآلهة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير، عن عمر بن الخطاب ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) قال: ضرباءهم.

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجهُمْ ) يقول: نظراءهم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) يعني: أتباعهم، ومن أشبههم من الظلمة.

حدثنا محمد بن المثني، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، قال: سألت أبا العالية، عن قول الله: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) قال: الذين ظلموا وأشياعهم.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن أبي العالية، أنه قال في هذه الآية، ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) قال: وأشياعهم.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا داود، عن أبي العالية مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأزْوَاجهُمْ ) : أي وأشياعهم الكفار مع الكفار.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأزْوَاجهُمْ ) قال: وأشباههم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأزْوَاجهُمْ ) قال: أزواجهم في الأعمال، وقرأ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ فالسابقون زوج وأصحاب الميمنة زوج، وأصحاب الشمال زوج، قال: كل من كان من هذا حشره الله معه. وقرأ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: زوجت على الأعمال، لكل واحد من هؤلاء زوج، زوج الله بعض هؤلاء بعضا، زوج أصحاب اليمين أصحاب اليمين، وأصحاب المشأمة أصحاب المشأمة، والسابقين السابقين، قال: فهذا قوله ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) قال: أزواج الأعمال التي زوجهن الله.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَأَزْوَاجَهُمْ ) قال: أمثالهم.

وقوله ( وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلى صِراطِ الجَحِيمِ ) يقول تعالى ذكره: احشروا هؤلاء المشركين وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، فوجهوهم إلى طريق الجحيم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) الأصنام.

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله ( فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) يقول: وجِّهوهم، وقيل: إن الجحيم الباب الرابع من أبواب النار.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ( 24 )

يقول تعالى ذكره: ( وَقِفُوهُمْ ) : احبسوهم: أي احبسوا أيها الملائكة هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم، وما كانوا يعبدون من دون الله من الآلهة ( إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ) فاختلف أهل التأويل في المعنى الذي يأمر الله تعالى ذكره بوقفهم لمسألتهم عنه، فقال بعضهم: يسألهم هل يعجبهم ورود النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، قال: كنا عند عبد الله، فذكر قصة، ثم قال: يتمثل الله للخلق فيلقاهم، فليس أحد من الخلق كان يعبد من دون الله شيئا إلا وهو مرفوع له يتبعه قال: فيلقى اليهود فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزيرا، قال: فيقول: هل يسركم الماء؟ فيقولون: نعم، فيريهم جهنم وهي كهيئة السَّراب، ثم قرأ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا قال: ثم يلقى النصارى فيقول: من تعبدون؟ فيقول: المسيح، فيقول: هل يسركم الماء؟ فيقولون: نعم، فيريهم جهنم، وهي كهيئة السراب، ثم كذلك لمن كان يعبد من دون الله شيئا، ثم قرأ عبد الله ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ )

وقال آخرون: بل ذلك للسؤال عن أعمالهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا معتمر، عن ليث، عن رجل، عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: « أيمَا رَجُلٍ دَعَا رَجُلا إلى شَيْءٍ كَانَ مَوْقُوفًا لازِما بِهِ، لا يُغَادِرُهُ، وَلا يُفارِقُهُ » ثُمَّ قَرأ هَذِهِ الآيَةَ ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ )

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقفوا هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم إنهم مسئولون عما كانوا يعبدون من دون الله .

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ( 25 ) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ( 26 ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 27 )

وقوله ( مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ) يقول: ما لكم أيها المشركون بالله لا ينصر بعضكم بعضا ( بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) يقول: بل هم اليوم مستسلمون لأمر الله فيهم وقضائه، موقنون بعذابه. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ) لا والله لا يتناصرون، ولا يدفع بعضهم عن بعض ( بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) في عذاب الله.

وقوله ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) قيل: معنى ذلك: وأقبل الإنس على الجن، يتساءلون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) الإنس على الجن.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ( 28 ) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 29 ) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ( 30 )

يقول تعالى ذكره: قالت الإنس للجن: إنكم أيها الجن كنتم تأتوننا من قِبَل الدين والحق فتخدعوننا بأقوى الوجوه، واليمين: القوة والقدرة في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:

إذَا مــا رَايــةٌ رُفِعــتْ لمَجْــدٍ تَلقَّاهــــا عَرَابـــةٌ بـــالْيَمِين

يعني: بالقوة والقدرة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) قال: عن الحق، الكفار تقوله للشياطين.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) قال: قالت الإنس للجن: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين، قال: من قبل الخير، فتنهوننا عنه، وتبطِّئوننا عنه.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) قال: تأتوننا من قبل الحق تزينون لنا الباطل، وتصدوننا عن الحق.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) قال: قال بنو آدم للشياطين الذين كفروا: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين، قال: تحولون بيننا وبين الخير، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان، والعمل بالخير الذي أمر الله به.

وقوله ( قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) يقول تعالى ذكره: قالت الجن للإنس مجيبة لهم: بل لم تكونوا بتوحيد الله مُقِرين، وكنتم للأصنام عابدين

( وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) يقول: قالوا: وما كان لنا عليكم من حُجَّة، فنصدَّكم بها عن الإيمان، ونحول بينكم من أجلها وبين اتباع الحق ( بَلْ كُنْتُمْ قَوْما طَاغِينَ ) يقول: قالوا لهم: بل كنتم أيها المشركون قوما طاغين على الله، متعدين إلى ما ليس لكم التعدي إليه من معصية الله وخلاف أمره.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قالت لهم الجن ( بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) حتى بلغ ( قَوْما طَاغِينَ )

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله: ( وَما كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) قال: الحجة وفي قوله ( بَلْ كُنْتُمْ قَوْما طَاغِينَ ) قال: كفَّار ضُلال.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ( 31 ) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ( 32 ) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( 33 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( 34 )

يقول تعالى ذكره: فحق علينا قول ربنا، فوجب علينا عذاب ربنا، إنا لذائقون العذاب نحن وأنتم بما قدمنا من ذنوبنا ومعصيتنا في الدنيا; فهذا خبر من الله عن قيل الجن والإنس.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنا ) ..........الآية. قال: هذا قول الجن.

وقوله ( فأغْويْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ) يقول: فأضللناكم عن سبيل الله والإيمان به إنا كنا ضالين; وهذا أيضا خبر من الله عن قيل الجن والإنس، قال الله ( فإنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) يقول: فإن الإنس الذين كفروا بالله وأزواجهم، وما كانوا يعبدون من دون الله، والَّذين أَغْوَوا الإنس من الجن يوم القيامة في العذاب مشتركون جميعا في النار، كما اشتركوا في الدنيا في معصية الله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( فإنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) قال: هم والشياطين. ( إِنَّا كذلكَ نَفْعَلُ بالمُجْرِمِينَ ) يقول تعالى ذكره: إنا هكذا نفعل بالذين اختاروا معاصي الله في الدنيا على طاعته، والكفر به على الإيمان، فنذيقهم العذاب الأليم، ونجمع بينهم وبين قرنائهم في النار.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ( 35 ) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ( 36 ) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( 37 )

يقول تعالى ذكره: وإن هؤلاء المشركين بالله الذين وصف صفتهم في هذه الآيات كانوا في الدنيا إذا قيل لهم: قولوا ( لا إِلهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) يقول: يتعظَّمون عن قِيل ذلك ويتكبرون; وترك من الكلام قولوا، اكتفاء بدلالة الكلام عليه من ذكره.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( إذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) قال: يعني المشركين خاصة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) قال: قال عمر بن الخطاب: احْضُروا موتاكم ، ولقنوهم لا إله إلا الله، فإنهم يرون ويسمعون.

وقوله ( وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ) يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون من قريش،أنترك عبادة آلهتنا لشاعر مجنون يقول: لاتباع شاعر مجنون، يعنون بذلك نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونقول: لا إله إلا الله.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُون ) يعنون محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقوله ( بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ ) وهذا خبر من الله مكذبا للمشركين الذين قالوا للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شاعر مجنون، كذبوا، ما محمد كما وصفوه به من أنه شاعر مجنون، بل هو لله نبي جاء بالحق من عنده، وهو القرآن الذي أنـزله عليه، وصدق المرسلين الذين كانوا من قبله.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ ) بالقرآن ( وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ) : أي صدق من كان قبله من المرسلين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ ( 38 ) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 39 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 40 ) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ( 41 )

يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من أهل مكة، القائلين لمحمد: شاعر مجنون ( إنَّكُمْ ) أيها المشركون ( لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيم ) الموجع في الآخرة ( وَمَا تُجْزَوْنَ ) يقول: وما تثابون في الآخرة إذا ذقتم العذاب الأليم فيها ( إلا ) ثواب ( مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) في الدنيا، معاصِيَ الله. وقوله ( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) يقول: إلا عباد الله الذين أخلصهم يوم خلقهم لرحمته، وكتب لهم السعادة في أم الكتاب، فإنهم لا يذوقون العذاب، لأنهم أهل طاعة الله، وأهل الإيمان به.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) قال: هذه ثَنِية الله.

وقوله ( أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) يقول: هؤلاء هم عباد الله المخلصون لهم رزق معلوم; وذلك الرزق المعلوم: هو الفواكه التي خلقها الله لهم في الجنة.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) في الجنة.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) قال: في الجنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ( 42 ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 43 ) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ( 44 ) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ( 45 ) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ( 46 ) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ( 47 )

قوله ( فَوَاكِهُ ) ردا على الرزق المعلوم تفسيرا له، ولذلك رفعت وقوله ( وَهُمْ مُكْرَمُونَ ) يقول: وهم مع الذي لهم من الرزق المعلوم في الجنة، مكرمون بكرامة الله التي أكرمهم الله بها

( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) يعني: في بساتين النعيم

( عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) يعني: أن بعضهم يقابل بعضا، ولا ينظر بعضهم في قفا بعض. وقوله ( يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) يقول تعالى ذكره: يطوف الخدم عليهم بكأس من خمر جارية ظاهرة لأعينهم غير غائرة.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) قال: كأس من خمر جارية، والمعين: هي الجارية.

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم، في قوله ( بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) قال: كل كأس في القرآن فهو خمر.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الله بن داود، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم، قال: كل كأس في القرآن فهو خمر

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) قال: الخمر. والكأس عند العرب: كل إناء فيه شراب، فإن لم يكن فيه شراب لم يكن كأسا، ولكنه يكون إناء.

وقوله ( بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) يعني بالبيضاء: الكأس، ولتأنيث الكأس أنثت البيضاء، ولم يقل أبيض، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: صفراء.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( بَيْضَاءَ ) قال السدي: في قراءة عبد الله:صفراء

وقوله ( لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) يقول: هذه الخمر لذة يلتذها شاربوها.

وقوله ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) يقول: لا في هذه الخمر غول، وهو أن تغتال عقولهم: يقول: لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها، كما قال الشاعر:

وَمــا زَالَــتِ الكــأْسُ تَغْتَالُنَــا وَتَـــــذْهَبُ بِــــالأوَّلِ الأوَّلِ

والعرب تقول: ليس فيها غيلة وغائلة وغَوْل بمعنى واحد; ورفع غول ولم ينصب بلا لدخول حرف الصفة بينها وبين الغول، وكذلك تفعل العرب في التبرِئة إذا حالت بين لا والاسم بحرف من حروف الصفات رفعوا الاسم ولم ينصبوه ، وقد يحتمل قوله ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) أن يكون معنيا به: ليس فيها ما يؤذيهم من مكروه، وذلك أن العرب تقول للرجل يصاب بأمر مكروه، أو ينال بداهية عظيمة: غالَ فلانا غولٌ وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: ليس فيها صُداع.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) يقول: ليس فيها صداع.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليس فيها أذى فتشكَّى منه بطونهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) قال: هي الخمر ليس فيها وجع بطن.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) قال: وجع بطن.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) قال: الغول ما يوجع البطون، وشارب الخمر ههنا يشتكي بطنه.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) يقول: ليس فيها وجع بطن، ولا صُداع رأس.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنها لا تغول عقولهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) قال: لا تغتال عقولهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليس فيها أذًى ولا مكروه.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبَير، في قوله ( لا فيها غَوْلٌ ) قال: أذًى ولا مكروه.

حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا عبد الله بن يزيعة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جُبَير، في قوله: ( لا فيها غَوْلٌ ) قال: ليس فيها أذًى ولا مكروه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليس فيها إثم.

ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها وجه، وذلك أن الغَوْل في كلام العرب: هو ما غال الإنسان فذهب به، فكل من ناله أمر يكرهه ضربوا له بذلك المثل، فقالوا: غالت فلانا غول، فالذاهب العقل من شرب الشراب، والمشتكي البطن منه، والمصدع الرأس من ذلك، والذي ناله منه مكروه كلهم قد غالته غُول.

فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد نفى عن شراب الجنة أن يكون فيه غَوْل، فالذي هو أولى بصفته أن يقال فيه كما قال جل ثناؤه ( لا فِيها غَوْلٌ ) فيعم بنفي كل معاني الغَوْل عنه، وأعم ذلك أن يقال: لا أذى فيها ولا مكروه على شاربيها في جسم ولا عقل، ولا غير ذلك.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( وَلا هُمْ عَنْها يُنـزفُونَ ) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة ( يُنـزفُونَ ) بفتح الزاي، بمعنى: ولا هم عن شربها تُنـزف عقولهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة: ( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنـزفُونَ ) بكسر الزاي، بمعنى: ولا هم عن شربها يَنْفَد شرابهم.

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى غير مختلفتيه، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن أهل الجنة لا ينفد شرابهم، ولا يُسكرهم شربهم إياه، فيُذْهب عقولهم.

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: لا تذهب عقولهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس ( وَلا هُمْ عنْها يُنـزفُونَ ) يقول: لا تذهب عقولهم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنـزفُونَ ) قال: لا تُنـزف فتذهب عقولهم.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنـزفُونَ ) قال: لا تذهب عقولهم.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنـزفُونَ ) قال: لا تُنـزف عقولهم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنـزفُونَ ) قال: لا تُنـزف العقول.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنـزفُونَ ) قال: لا تغلبهم على عقولهم.

وهذا التأويل الذي ذكرناه عمَّن ذكرنا عنه لم تفصل لنا رواته القراءة الذي هذا تأويلها، وقد يحتمل أن يكون ذلك تأويل قراءة من قرأها ينـزفُونَ ويُنـزفُونَ كلتيهما، وذلك أن العرب تقول: قد نـزف الرجل فهو منـزوف: إذا ذهب عقله من السكر، وأنـزف فهو مُنـزف، محكية عنهم اللغتان كلتاهما في ذهاب العقل من السكر; وأما إذا فَنِيت خمر القوم فإني لم أسمع فيه إلا أنـزفَ القوم بالألف، ومن الإنـزاف بمعنى: ذهاب العقل من السكر، قول الأبَيْرد:

لَعَمْـرِي لَئِـنْ أنزفْتُمُـوا أوْ صَحَـوْتُمُ لَبِئْــسَ النَّــدَامَى كُـنْتُمُ آلَ أبجَـرا

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ( 48 ) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ( 49 ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 50 )

يقول تعالى ذكره: وعند هؤلاء المخلصين من عباد الله في الجنة قاصرات الطرف، وهن النساء اللواتي قصرن أطرافهن على بعولتهن، لا يردن غيرهم، ولا يمددن أبصارهن إلى غيرهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ) يقول: عن غير أزواجهن.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ) قال: على أزواجهن; زاد الحارث في حديثه: لا تبغي غيرهم.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال: قصرن أبصارهن وقلوبهن على أزواجهن، فلا يردن غيرهم.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: ذُكر أيضا عن منصور، عن مجاهد ، مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال: قَصَرْن طرفهن على أزواجهن، فلا يُردن غيرهم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله ( قاصرات الطرف ) قال: لا ينظرن إلا إلى أزواجهن، قد قَصَرْن أطرافهن على أزواجهن، ليس كما يكون نساء أهل الدنيا.

وقوله ( عِينٌ ) يعني بالعين: النُّجْلَ العيون عِظامها، وهي جمع عيناء، والعيناء: المرأة الواسعة العين عظيمتها، وهي أحسن ما تكون من العيون.

ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله ( عِينٌ ) قال: عظام الأعين.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( عِينٌ ) قال: العيناء: العظيمة العين.

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا محمد بن الفرج الصَّدَفي الدِّمْياطي، عن عمرو بن هاشم، عن ابن أبي كريمة، عن هشام بن حسان، عن أبيه، عن أم سلمة زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله: ( حُورٌ عِينٌ ) قال: « العِينُ: الضِّخَامُ العُيونِ; شُفْر الحُورَاء بمَنـزلَة جَناحِ النِّسْرِ » .

وقوله ( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) اختلف أهل التأويل في الذي به شبهن من البيض بهذا القول، فقال بعضهم: شبهن ببطن البيض في البياض، وهو الذي داخل القِشْر، وذلك أن ذلك لم يمسه شيء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير، في قوله ( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) قال: كأنهن بطن البيض.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي ( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) قال: البيض حين يُقْشر قبل أن تمسَّه الأيدي.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) لم تمر به الأيدي ولم تمسه، يشبهن بياضه.

وقال آخرون: بل شبهن بالبيض الذي يحضنه الطائر، فهو إلى الصفرة، فشبه بياضهن في الصفرة بذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) قال: البيض الذي يكنه الريش، مثل بيض النعام الذي قد أكنه الريش من الريح، فهو أبيض إلى الصفرة فكأنه يبرق، فذلك المكنون.

وقال آخرون: بل عنى بالبيض في هذا الموضع: اللؤلؤ، وبه شبهن في بياضه وصفائه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله ( كأَنَّهُنَّ بَيضٌ مَكْنُونٌ ) يقول: اللؤلؤ المكنون.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: شبهن في بياضهن، وأنهن لم يمسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان ببياض البيض الذي هو داخل القشر، وذلك هو الجلدة المُلْبَسة المُح قبل أن تمسه يد أو شيء غيرها، وذلك لا شك هو المكنون; فأما القشرة العليا فإن الطائر يمسها، والأيدي تباشرها، والعش يلقاها. والعرب تقول لكل مصون مكنون ما كان ذلك الشيء لؤلؤا كان أو بيضا أو متاعا، كما قال أبو دَهْبَل:

وَهْــيَ زَهْـرَاءُ مِثْـلُ لُؤْلُـؤةِ الغَـوَّا صِ مِــيزَتْ مِـنْ جَـوْهَرٍ مَكْنُـونِ

وتقول لكل شيء أضمرته الصدور: أكنته، فهو مُكَنٌّ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا محمد بن الفرج الصَّدَفي الدمياطي، عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة، عن هشام، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة « قلت: يا رسول الله أخبرني عن قوله ( كأنهن بيض مكنون ) قال: » رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الْجِلْدَةِ الَّتِي رَأَيْتها فِي داخِلِ البَيْضَة التي تَلِي القِشْرِ وَهِيَ الغِرْقِئُ « »

وقوله ( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: فأقبل بعض أهل الجنة على بعض يتساءلون، يقول: يسأل بعضهم بعضا.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) أهل الجنة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) قال: أهل الجنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ( 51 )

يقول تعالى ذكره: قال قائل من أهل الجنة إذ أقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ( إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ) فاختلف أهل التأويل في القرين الذي ذكر في هذا الموضع، فقال بعضهم: كان ذلك القرين شيطانا، وهو الذي كان يقول له: ( أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ) بالبعث بعد الممات.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله: ( إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ ) قال: شيطان. وقال آخرون: ذلك القرين شريك كان له من بني آدم أو صاحب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ قال: هو الرجل المشرك يكون له الصاحب في الدنيا من أهل الإيمان، فيقول له المشرك: إنك لتُصدق بأنك مبعوث من بعد الموت أئذا كنا ترابا؟ فلما أن صاروا إلى الآخرة وأدخل المؤمنُ الجنة، وأدخل المشرك النار، فاطلع المؤمن، فرأى صاحبه في سَواء الجحيم قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ( 52 ) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ( 53 )

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: ثنا عتاب بن بشير، عن خَصِيف، عن فُرات بن ثعلبة البهراني في قوله ( إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ) قال: إن رجلين كانا شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر: ليس لك حرفة، ما أُراني إلا مفارقك ومُقاسمك، فقاسمه وفارقه; ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك قد مات فدعا صاحبه فأراه، فقال: كيف ترى هذه الدار ابتعتُها بألف دينار؟ قال: ما أحسنها; فلما خرج قال: اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارًا من دور الجنة، فتَصَدَّقَ بألف دينار; ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج امرأة بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما; فلما أتاه قال: إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار; قال: ما أحسن هذا; فلما انصرف قال: يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحُور العين، فتصدق بألف دينار; ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه، فقال: إني ابتعت هذين البستانين، فقال: ما أحسن هذا; فلما خرج قال: يا رب إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين من الجنة، فتصدقَ بألفي دينار; ثم إن الملك أتاهما فتوفَّاهما; ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله دارًا تعجبه، فإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حُسنها، ثم أدخله بستانين، وشيئا الله به عليم، فقال عند ذلك: ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال: فإنه ذاك، ولك هذا المنـزل والبستانان والمرأة. قال: فإنه كان لي صاحب يقول: ( أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ) قيل له: فإنه في الجحيم، قال: فهل أنتم مُطَّلِعون ؟ فاطَّلَعَ فرآه في سواء الجحيم، فقال عند ذلك: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ . ...الآيات. وهذا التأويل الذي تأوله فرات بن ثعلبة يقوي قراءة من قرأ « إنَّكَ لَمِنَ المُصَّدِّقِينَ » بتشديد الصاد بمعنى: لمن المتصدقين، لأنه يذكر أن الله تعالى ذكره إنما أعطاه ما أعطاه على الصدقة لا على التصديق، وقراءة قراء الأمصار على خلاف ذلك، بل قراءتها بتخفيف الصاد وتشديد الدال، بمعنى: إنكار قرينه عليه التصديق أنه يبعث بعد الموت، كأنه قال: أتصدق بأنك تبعث بعد مماتك، وتُجْزَى بعملك، وتحاسَب؟ يدل على ذلك قول الله: ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) وهي القراءة الصحيحة عندنا التي لا يجوز خِلافُها لإجماع الحجة من القرّاء عليها.

وقوله ( أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) يقول: أإنا لمحاسبون ومجزيُّون بعد مصيرنا عظاما ولحومنا ترابا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) يقول: أئنا لمجازوْن بالعمل، كما تَدِين تُدان.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) : أئنا لمحاسبون.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي ( أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) محاسبون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ( 54 ) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ( 55 ) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ( 56 ) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( 57 )

يقول تعالى ذكره: قال هذا المؤمن الذي أدخل الجنة لأصحابه: ( هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ) في النار، لعلي أرى قريني الذي كان يقول لي: إنك لمن المُصَدِّقين بأنا مبعوثون بعد الممات.

وقوله ( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) يقول: فاطلع في النار فرآه في وسط الجحيم. وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره، وهو فقالوا: نعم.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) يعني: في وَسَط الجحيم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) يعني: في وَسَط الجحيم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال ثنا عباد بن راشد، عن الحسن، في قوله ( فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) يقول: في وسط الجحيم.

حدثنا ابن سنان، قال: ثنا عبد الصمد، قال ثنا عباد بن راشد، قال: سمعت الحسن، فذكر مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا قتادة، في قوله ( سَوَاءِ الْجَحِيم ) قال: وَسَطها.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ( هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ) قال: سأل ربه أن يطلعه، قال ( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) : أي في وسط الجحيم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن خليد العصري، قال: لولا أن الله عرفه إياه ما عرفه، لقد تغير حبره وسبرة بعده، وذُكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم، فقال: ( تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ )

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله، في قوله ( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) قال: والله لولا أنه عرفه ما عرفه، لقد غيرت النار حِبْره وسِبْره .

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله ( هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ) قال: كان ابن عباس يقرؤها: « هَلْ أنتُمْ مُطْلِعُونِى فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ » قال: في وسط الجحيم.

وهذه القراءة التي ذكرها السدي، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ في ( مُطَّلِعُونَ ) إن كانت محفوظة عنه، فإنها من شواذ الحروف، وذلك أن العرب لا تؤثر في المكنى من الأسماء إذا اتصل بفاعل على الإضافة في جمع أو توحيد، لا يكادون أن يقولوا أنت مُكَلِّمُني ولا أنتما مكلماني ولا أنتم مكلِّموني ولا مكلِّمونني، وإنما يقولون أنت مكلِّمي، وأنتما مكلِّماي، وأنتم مكلمي; وإن قال قائل منهم ذلك قاله على وجه الغلط توهما به: أنت تكلمني، وأنتما تكلمانني، وأنتم تكلمونني، كما قال الشاعر:

وَمــا أدْرِي وَظَنِّــي كُــلَّ ظَـن أَمُسْــلِمُنِي إلــى قَـوْمي شَـرَاحِي?

فقال: مسلمني، وليس ذلك وجه الكلام، بل وجه الكلام أمسلمي; فأما إذا كان الكلام ظاهرا ولم يكن متصلا بالفاعل، فإنهم ربما أضافوا، وربما لم يضيفوا، فيقال: هذا مكلم أخاك، ومكلم أخيك، وهذان مكلما أخيك، ومكلمان أخاك، وهؤلاء مكلمو أخيك، ومكلمون أخاك; وإنما تختار الإضافة في المكنى المتصل بفاعل لمصير الحرفين باتصال أحدهما بصاحبه كالحرف الواحد.

وقوله ( تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) يقول: فلما رأى قرينه في النار قال: تالله إن كدت في الدنيا لتهلكني بصدك إياي عن الإيمان بالبعث والثواب والعقاب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله ( إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) قال: لتهلكني، يقال منه: أردى فلان فلانا: إذا أهلكه، وردي فلان: إذا هلك، كما قال الأعشى.

أفِـي الطَّـوْفِ خِـفْتِ عـليّ الـرَّدَى وَكَــمْ مِــنْ رَدٍ أهْلَــهُ لَـمْ يَـرِمْ

يعني بقوله: « وكم من رَد » : وكم من هالك.

وقوله ( وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) يقول: ولولا أن الله أنعم عليّ بهدايته، والتوفيق للإيمان بالبعث بعد الموت، لكنتُ من المحضَرِين معك في عذاب الله.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) : أي في عذاب الله.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله ( لَكُنْتُ مِنَ المُحْضَرِينَ ) قال: من المعذبين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ( 58 ) إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( 59 ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 60 ) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ( 61 )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن الذي أعطاه الله ما أعطاه من كرامته في جنته سرورا منه بما أعطاه فيها ( أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى ) يقول: أفما نحن بميتين غير موتتنا الأولى في الدنيا، ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) يقول: وما نحن بمعذبين بعد دخولنا الجنة ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) يقول: إن هذا الذي أعطاناه الله من الكرامة في الجنة، أنا لا نعذب ولا نموت لهو النَّجاء العظيم مما كنا في الدنيا نحذر من عقاب الله، وإدراك ما كنا فيها، نؤمل بإيماننا، وطاعتنا ربنا.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله ( أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ) إلى قوله ( الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) قال: هذا قول أهل الجنة.

وقوله ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) يقول تعالى ذكره: لمثل هذا الذي أعْطَيتُ هؤلاء المؤمنين من الكرامة في الآخرة، فليعمل في الدنيا لأنفسهم العاملون، ليدركوا ما أدرك هؤلاء بطاعة ربهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ( 62 ) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ( 63 ) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ( 64 ) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ( 65 ) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ( 66 )

يقول تعالى ذكره: أهذا الذي أعطيت هؤلاء المؤمنين الذين وصفت صفتهم من كرامتي في الجنة، ورزقتهم فيها من النعيم خير، أو ما أعددت لأهل النار من الزَّقُّوم. وعُنِي بالنـزل: الفضل، وفيه لغتان: نـزل ونـزل; يقال للطعام الذي له ريع: هو طعام له نـزل ونـزل. وقوله ( أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ) ذكر أن الله تعالى لما أنـزل هذه الآية قال المشركون: كيف ينبت الشجر في النار، والنار تحرق الشجر؟ فقال الله: ( إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ) يعني لهؤلاء المشركين الذين قالوا في ذلك ما قالوا، ثم أخبرهم بصفة هذه الشجرة فقال ( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ )

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نـزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ) حتى بلغ ( فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) قال: لما ذكر شجرة الزقوم افتتن الظلَمة، فقالوا: ينبئكم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فأنـزل الله ما تسمعون: إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم، غُذِيت بالنار ومنها خُلقت.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قال أبو جهل لما نـزلت إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ قال: تعرفونها في كلام العرب: أنا آتيكم بها، فدعا جارية فقال: ائتيني بتمر وزُبد، فقال: دونكم تَزَقَّموا، فهذا الزَّقوم الذي يخوفكم به محمد، فأنـزل الله تفسيرها: ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ) قال: لأبي جهل وأصحابه.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ) قال: قول أبي جهل: إنما الزَّقوم التمر والزبد أَتَزَقَّمه.

وقوله ( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) يقول تعالى ذكره: كأن طلع هذه الشجرة، يعني شجرة الزقوم في قُبحه وسماجته رءوس الشياطين في قبحها.

وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « إنَّهَا شَجَرَةٌ نَابِتَةُ فِي أصْلِ الجَحِيم. »

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) قال: شبهه بذلك.

فإن قال قائل: وما وجه تشبيهه طلع هذه الشجرة برءوس الشياطين في القبح، ولا علم عندنا بمبلغ قبح رءوس الشياطين، وإنما يمثَّل الشيء بالشيء تعريفا من المُمَثِّل له قُرب اشتباه الممثَّل أحدهما بصاحبه مع معرفة المُمَثَّل له الشيئين كليهما، أو أحدهما، ومعلوم أن الذين خوطبوا بهذه الآية من المشركين، لم يكونوا عارفين شَجَرة الزقوم، ولا برءوس الشياطين، ولا كانوا رأوهما، ولا واحدا منهما؟.

قيل له: أما شجرة الزقوم فقد وصفها الله تعالى ذكره لهم وبينها حتى عرفوها ما هي وما صفتها، فقال لهم: ( شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) فلم يتركهم في عَماء منها. وأما في تمثيله طلعها برءوس الشياطين، فأقول لكل منها وجه مفهوم: أحدها أن يكون مثل ذلك برءوس الشياطين على نحو ما قد جرى به استعمال المخاطبين بالآية بينهم وذلك أن استعمال الناس قد جرى بينهم في مبالغتهم إذا أراد أحدهم المبالغة في تقبيح الشيء، قال: كأنه شيطان، فذلك أحد الأقوال. والثاني أن يكون مثل برأس حية معروفة عند العرب تسمى شيطانا، وهي حية لها عرف فيما ذكر قبيح الوجه والمنظر، وإياه عنى الراجز بقوله

عَنْجَــرِدٌ تَحْــلِفُ حِــينَ أحْـلِفُ كمِثْــلِ شَــيْطَانِ الحَمـاطِ أعْـرَفُ

ويروى عُجَيِّزٌ. والثالث: أن يكون مثل نبت معروف برءوس الشياطين ذُكِر أنه قبيح الرأس ( فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) يقول تعالى ذكره: فإن هؤلاء المشركين الذين جعل الله هذه الشجرة لهم فتنة، لآكلون من هذه الشجرة التي هي شجرة الزقوم، فمالئون من زقومها بطونهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ( 67 ) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ( 68 ) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ( 69 ) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ( 70 )

يقول تعالى ذكره: ( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) ثم إن لهؤلاء المشركين على ما يأكلون من هذه الشجرة شجرة الزقوم شَوْبا، وهو الخلط من قول العرب: شاب فلان طعامه فهو يشوبه شَوْبا وشيابا ( من حميم ) والحميم: الماء المحموم، وهو الذي أسخن فانتهى حره، وأصله مفعول صرف إلى فعيل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) يقول: لَمَزْجا.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) يعني: شرب الحميم على الزَّقوم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) قال: مِزاجا من حميم.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ ( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) قال: الشَّوب: الخلط، وهو المَزْج.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) قال: حميم يُشاب لهم بغساق مما تَغْسِق أعينهم، وصديد من قيحهم ودمائهم مما يخرج من أجسادهم.

وقوله ( ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ ) يقول تعالى ذكره: ثم إن مآبهم ومصيرهم لإلى الجحيم.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ ) فهم في عناء وعذاب من نار جهنم، وتلا هذه الآية: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ ) قال: في قراءة عبد الله: « ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم » وكان عبد الله يقول: والذي نفسي بيده، لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يَقِيلَ أهلُ الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثم قال: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ ) قال: موتهم .

وقوله ( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ) يقول: إن هؤلاء المشركين الذين إذا قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله يستكبرون، وجدوا آباءهم ضلالا عن قصد السبيل، غير سالكين مَحَجَّة الحق.

( فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ) يقول: فهؤلاء يُسْرع بهم في طريقهم، ليقتفوا آثارهم وسنتهم; يقال منه: أهرع فلان: إذا سار سيرا حثيثا فيه شبه بالرعدة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ) أي وجدوا آباءهم.

حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إنهم ألفوا آباءهم ) : أي وجدوا آباءهم.

وبنحو الذي قلنا في يهرعون أيضا، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ) قال: كهيئة الهرْولَة.

حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ) : أي يُسرعون إسراعا في ذلك.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( يُهْرَعُونَ ) قال: يُسْرِعون.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال: يستعجلون إليه

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ ( 71 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ( 72 ) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( 73 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 74 )

يقول تعالى ذكره: ولقد ضل يا محمد عن قصد السبيل ومَحجة الحق قبل مشركي قومك من قريش أكثر الأمم الخالية من قبلهم ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ) يقول: ولقد أرسلنا في الأمم التي خلت من قبل أمتك، ومن قبل قومك المكذبيك منذرين تنذرهم بأسنا على كفرهم بنا، فكذبوهم ولم يقبلوا منهم نصائحهم، فأحللنا بهم بأسنا وعقوبتنا ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) يقول: فتأمل وتبين كيف كان غِبُّ أمر الذين أنذرتهم أنبياؤنا، وإلام صار أمرهم، وما الذي أعقبهم كفرهم بالله، ألم نهلكهم فنصيرهم للعباد عبرة ولمن بعدهم عظة؟.

وقوله ( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) يقول تعالى: فانظر كيف كان عاقبة المنذَرين، إلا عباد الله الذين أخلصناهم للإيمان بالله وبرسله; واستثنى عباد الله من المنذَرين، لأن معنى الكلام: فانظر كيف أهلكنا المنذَرين إلا عباد الله المؤمنين، فلذلك حسن استثناؤهم منهم.

وبنحو الذي قلنا في قوله ( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) قال: الذين استخلصهم الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ( 75 ) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( 76 )

يقول تعالى ذكره: لقد نادانا نوح بمسألته إيانا هلاك قومه، فقال: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا ...إلى قوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا وقوله ( فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) يقول: فلنعم المجيبون كنا له إذ دعانا، فأجبنا له دعاءه، فأهلكنا قومه ( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ) يعني: أهل نوح الذين ركبوا معه السفينة. وقد ذكرناهم فيما مضى، وبيَّنا اختلاف العلماء في عددهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) قال: أجابه الله. وقوله ( مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) يقول: من الأذى والمكروه الذي كان فيه من الكافرين، ومن كرب الطُّوفان والغرق الذي هلك به قوم نوح.

كما حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضَّل، قال: ثنا أسباط عن السديّ، ( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) قال: من الغرق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ( 77 )

وقوله ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) يقول: وجعلنا ذريّة نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد مَهْلِك قومه، وذلك أن الناس كلهم من بعد مَهْلِك نوح إلى اليوم إنما هم ذرية نوح، فالعجم والعرب أولاد سام بن نوح، والترك والصقالبة والخَزَر أولاد يافث بن نوح، والسودان أولاد حام بن نوح، وبذلك جاءت الآثار، وقالت العلماء.

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن عَشْمَة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في قوله ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: « سام وحام ويافث » .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال: فالناس كلهم من ذرية نوح.

حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) يقول: لم يبق إلا ذرية نوح

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 78 ) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ( 79 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 80 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 81 ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ( 82 )

يعني تعالى ذكره بقوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) وأبقينا عليه، يعني على نوح ذكرا جميلا وثناء حسنا في الآخرين، يعني: فيمن تأخَّر بعده من الناس يذكرونه به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول: يُذْكَر بخير.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول: جعلنا لسان صدق للأنبياء كُلِّهم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال: الثناء الحسن.

وقوله ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) يقول: أمنة من الله لنوح في العالمين أن يذكره أحد بسوء; وسلام مرفوع بعلى. وقد كان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يقول: معناه: وتركنا عليه في الآخرين، ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ ) أي تركنا عليه هذه الكلمة، كما تقول: قرأت من القرآن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فتكون الجملة في معنى نصب، وترفعها باللام، كذلك سلام على نوح ترفعه بعلى، وهو في تأويل نصب، قال: ولو كان: تركنا عليه سلاما، كان صوابا. وقوله ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول تعالى ذكره: إنا كما فعلنا بنوح مجازاة له على طاعتنا وصبره على أذى قومه في رضانا وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وأبقينا عليه ثناء في الآخرين ( كَذَلِكَ نَجْزِي ) الذين يحسنون فيطيعوننا، وينتهون إلى أمرنا، ويصبرون على الأذى فينا. وقوله ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: إن نوحا من عبادنا الذين آمنوا بنا، فوحدونا، وأخلصوا لنا العبادة، وأفردونا بالألوهة.

وقوله ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ) يقول تعالى ذكره: ثم أغرقنا حين نجَّينا نوحا وأهله من الكرب العظيم من بقي من قومه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ) قال: أنجاه الله ومن معه في السفينة، وأغرق بقية قومه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ( 83 ) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 84 ) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ( 85 ) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ( 86 )

يقول تعالى ذكره: وإن من أشياع نوح على منهاجه وملته والله لإبراهيمَ خليل الرحمن.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) يقول: من أهل دينه.

حدثني ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزّة، عن مجاهد، في قوله ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: على منهاج نوح وسنته.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: على مِنهاجه وسنته.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: على دينه وملته.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال: من أهل دينه.

وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: وإن من شيعة محمد لإبراهيم، وقال: ذلك مثل قوله وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ بمعنى: أنا حملنا ذرية من هم منه، فجعلها ذرية لهم، وقد سبقتهم.

وقوله ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) يقول تعالى ذكره: إذ جاء إبراهيم ربه بقلب سليم من الشرك، مخلص له التوحيد.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) والله من الشرك.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: سليم من الشرك.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد ( بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: لا شك فيه. وقال آخرون في ذلك بما حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عَثَّام بن عليّ، قال: ثنا هشام، عن أبيه، قال: يا بني لا تكونوا لعانين، ألم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قطّ، فقال الله: ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )

وقوله ( إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ) يقول حين قال: يعني إبراهيم لأبيه وقومه: أي شيء تعبدون.

وقوله ( أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ) يقول: أكذبا معبودا غير الله تريدون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 87 ) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ( 88 ) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ( 89 ) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ( 90 ) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ( 91 ) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ( 92 )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لأبيه وقومه: ( فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ؟ يقول: فأي شيء تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فما ظنكم برب العالمين ) يقول: إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره.

وقوله ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) ذكر أن قومه كانوا أهل تنجيم، فرأى نجما قد طلع، فعصب رأسه وقال: إني مَطْعُون، وكان قومه يهربون من الطاعون، فأراد أن يتركوه في بيت آلهتهم، ويخرجوا عنه، ليخالفهم إليها فيكسرها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) رأى نجما طلع.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عليه، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) رأى نجما طلع.

حدثنا بشر، قال: كَايَدَ نبي الله عن دينه، فقال: إني سقيم.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) قالوا لإبراهيم وهو في بيت آلهتهم: أخرج معنا، فقال لهم: إني مطعون، فتركوه مخافة أن يعديهم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، عن أبيه، في قول الله: ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) قال: أرسل إليه ملكهم، فقال: إن غدا عيدنا، فاحضر معنا، قال: فنظر إلى نجم فقال: إن ذلك النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي، فقال: ( إِنِّي سَقِيمٌ )

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) يقول الله: ( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ )

وقوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) : أي طعين، أو لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به، وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا عنه، ليبلغ من أصنامهم الذي يريد.

واختلف في وجه قيل إبراهيم لقومه: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وهو صحيح، فروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: « لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إلا ثَلاثَ كَذَبَاتٍ » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: « وَلَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ غَيْرَ ثَلاثَ كَذَبَاتٍ ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ الله ، قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقَوْلِهِ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، وقَوْلِهِ فِي سارَة: هِي أُخْتِي » .

حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثنا أبي، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني أبو الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: « لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إلا فِي ثَلاثٍ » ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن المسيب بن رافع، عن أبي هريرة، قال: « ما كذب إبراهيم غير ثلاث كذبات، قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، وإنما قاله موعظة، وقوله حين سأله الملك، فقال أختي لسارَة، وكانت امرأته » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أيوب، عن محمد، قالَ: « إن إبراهيم ما كذب إلا ثلاث كذبات ، ثنتان في الله، وواحدة في ذات نفسه; فأما الثنتان فقوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وقصته في سارَة، وذكر قصتها وقصة الملك » .

وقال آخرون: إن قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) كلمة فيها مِعْراض، ومعناها أن كل من كان في عقبة الموت فهو سقيم، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر، والخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف هذا القول، وقول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحقّ دون غيره. قوله ( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) يقول: فتولوا عن إبراهيم مدبرين عنه، خوفا من أن يعدِيَهُمْ السقم الذي ذكر أنه به.

كما حُدثت عن يحيى بن زكريا، عن بعض أصحابه، عن حكيم بن جُبَير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس ( إِنِّي سَقِيمٌ ) يقول: مطعون فتولَّوا عنه مدبرين، قال سعيد: إن كان الفرار من الطاعون لقديما.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة ( فَتَوَلَّوْا ) فنكصوا عنه ( مُدْبِرِينَ ) منطلقين.

وقوله ( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) يقول تعالى ذكره: فمال إلى آلهتهم بعد ما خرجوا عنه وأدبروا; وأرى أن أصل ذلك من قولهم: راغ فلان عن فلان: إذا حاد عنه، فيكون معناه إذا كان كذلك: فراغ عن قومه والخروج معهم إلى آلهتهم; كما قال عدي بن زيد:

حِــينَ لا يَنْفَــعُ الـرَّوَاغُ وَلا يَـنْ فَـــعُ إلا المُصَـــادِقُ النِّحْــرِيرُ

يعني بقوله « لا ينفع الرّوَاغ » : الحِياد. أما أهل التأويل فإنهم فسَّروه بمعنى فَمَال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) : أي فمال إلى آلهتهم، قال: ذهب.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ قوله ( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) قال: ذهب.

وقوله ( فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) هذا خبر من الله عن قيل إبراهيم للآلهة; وفي الكلام محذوف استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره، وهو: فقرّب إليها الطعام فلم يرها تأكل، فقال لها: ( أَلا تَأْكُلُونَ ) فلما لم يرها تأكل قال لها: ما لكم لا تأكلون، فلم يرها تنطق، فقال لها: ( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) مستهزئا بها، وكذلك ذكر أنه فعل بها، وقد ذكرنا الخبر بذلك فيما مضى قبلُ.

وقال قتادة في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) يستنطقهم ( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) ؟

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ( 93 ) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ( 94 ) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ( 95 ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( 96 )

يقول تعالى ذكره: فمال على آلهة قومه ضربا لها باليمين بفأس في يده يكسرهن.

كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما خلا جعل يضرب آلهتهم باليمين

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، فذكر مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) فأقبل عليهم يكسرهم.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ثم أقبل عليهم كما قال الله ضربا باليمين، ثم جعل يكسرهنّ بفأس في يده

وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك بمعنى: فراغ عليهم ضربا بالقوّة والقدرة، ويقول: اليمين في هذا الموضع: القوّة: وبعضهم كان يتأوّل اليمين في هذا الموضع: الحلف، ويقول: جعل يضربهنّ باليمين التي حلف بها بقوله وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « فراغ عليهم صفقا باليمين » . ورُوي نحو ذلك عن الحسن.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا خالد بن عبد الله الجُشَمِي، قال: سمعت الحسن قرأ: « فَرَاغَ عَلَيْهِمْ صَفْقًا بِالْيَمِينِ » : أي ضربا باليمين.

وقوله ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة، وبعض قرّاء الكوفة: ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) بفتح الياء وتشديد الفاء من قولهم: زَفَّتِ النعامة، وذلك أوّل عدوها، وآخر مشيها; ومنه قول الفرزدق:

وَجَــاءَ قَـرِيعُ الشَّـوْلِ قَبْـلَ إِفَالِهَـا يَـزِفُّ وَجَـاءَتْ خَلْفَـهُ وَهِـيَ زُفَّفُ

.

وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: « يُزِفُّونَ » بضم الياء وتشديد الفاء من أزف فهو يزف. وكان الفرّاء يزعم أنه لم يسمع في ذلك إلا زَفَفْت، ويقول: لعلّ قراءة من قرأه: « يُزِفُّونَ » بضم الياء من قول العرب: أطْرَدْتُ الرجل: أي صيرته طريدا، وطردته: إذا أنت خسئته إذا قلت: اذهب عنا; فيكون يزفون: أي جاءوا على هذه الهيئة بمنـزلة المزفوفة على هذه الحالة، فتدخل الألف. كما تقول: أحمدت الرجل: إذا أظهرت حمده، وهو محمد: إذا رأيت أمره إلى الحمد، ولم تنشر حمده; قال: وأنشدني المفضَّل:

تَمَنَّــى حُـصَيْنٌ أنْ يَسُـودَ جِذَاعَـةُ فأَمْسَــى حُـصَيْنٌ قَـدْ أذَلَّ وَأَقْهَـرا

فقال: أقهر، وإنما هو قُهِر، ولكنه أراد صار إلى حال قهر. وقرأ ذلك بعضهم.

« يَزِفُونَ » بفتح الياء وتخفيف الفاء من وَزَفَ يَزِفُ وذُكر عن الكسائي أنه لا يعرفها، وقال الفرّاء: لا أعرفها إلا أن تكون لغة لم أسمعها. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقول: الوَزْف: النَّسَلان.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( إليه يزفون ) قال: الوزيف: النسلان.

والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه بفتح الياء وتشديد الفاء، لأن ذلك هو الصحيح المعروف من كلام العرب، والذي عليه قراءة الفصحاء من القرّاء.

وقد اختلف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم: معناه: فأقبل قوم إبراهيم إلى إبراهيم يَجْرُون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) : فأقبلوا إليه يجرون.

وقال آخرون: أقبلوا إليه يَمْشُون.

ذكر من قال ذلك:

محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) قال: يَمْشُون.

وقال آخرون: معناه: فأقبلوا يستعجلون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، عن أبيه ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) قال: يستعجلون، قال: يَزِفّ: يستعجل.

وقوله ( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لقومه: أتعبدون أيها القوم ما تنحتون بأيديكم من الأصنام.

كما حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) الأصنام.

وقوله ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لقومه: والله خلقكم أيها القوم وما تعملون. وفي قوله ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) وجهان: أحدهما: أن يكون قوله « ما » بمعنى المصدر، فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم وعملكم.

والآخر أن يكون بمعنى « الذي » ، فيكون معنى الكلام عند ذلك: والله خلقكم والذي تعملونه: أي والذي تعملون منه الأصنام، وهو الخشب والنحاس والأشياء التي كانوا ينحتون منها أصنامهم.

وهذا المعنى الثاني قصد إن شاء الله قتادةُ بقوله: الذي حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) : بِأَيْدِكُمْ

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ( 97 ) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ( 98 ) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ( 99 ) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ( 100 )

يقول تعالى ذكره: قال قوم إبراهيم لما قال لهم إبراهيم: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ابنوا لإبراهيم بنيانا; ذكر أنهم بنوا له بنيانا يشبه التنور، ثم نقلوا إليه الحطب، وأوقدوا عليه ( فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) والجحيم عند العرب: جمر النار بعضُه على بعض، والنار على النار.

وقوله ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا ) يقول تعالى ذكره: فأراد قوم إبراهيم كيدًا، وذلك ما كانوا أرادوا من إحراقه بالنار. يقول الله: ( فَجَعَلْنَاهُمُ ) أي فجعلنا قوم إبراهيم ( الأسْفَلِينَ ) يعني الأذلين حجة، وغَلَّبنا إبراهيم عليهم بالحجة، وأنقذناه مما أرادوا به من الكيد.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ ) قال: فما ناظرهم بعد ذلك حتى أهلكهم.

وقوله ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) يقول: وقال إبراهيم لما أفْلَجَه الله على قومه ونجاه من كيدهم: ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) يقول: إني مُهَاجِرٌ من بلدة قومي إلى الله: أي إلى الأرض المقدَّسة، ومفارقهم، فمعتزلهم لعبادة الله.

وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) : ذاهب بعمله وقلبه ونيته.

وقال آخرون في ذلك: إنما قال إبراهيم ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) حين أرادوا أن يلقوه في النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثني، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت سليمان بن صُرَد يقول: لما أرادوا أن يُلْقوا إبراهيم في النار ( قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) فجمع الحطب، فجاءت عجوز على ظهرها حطب، فقيل لها: أين تريدين ؟ قالت: أريد أذهب إلى هذا الرجل الذي يُلْقَى في النار; فلما ألقي فيها، قال: حَسْبِيَ الله عليه توكلت، أو قال: حسبي الله ونعم الوكيل، قال: فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ قال: فقال ابن لُوط، أو ابن أخي لوط: إن النار لم تحرقه من أجلي، وكان بينهما قرابة، فأرسل الله عليه عُنُقا من النار فأحرقته.

وإنما اخترت القول الذي قلت في ذلك، لأن الله تبارك وتعالى ذكر خبره وخبر قومه في موضع آخر، فأخبر أنه لما نجاه مما حاول قومه من إحراقه قال إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ففسر أهل التأويل ذلك أن معناه: إني مهاجر إلى أرض الشام، فكذلك قوله ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) لأنه كقوله إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي وقوله ( سَيَهْدِينِ ) يقول: سيثبتني على الهدى الذي أبصرته، ويعيننى عليه.

وقوله ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) وهذا مسألة إبراهيم ربه أن يرزقه ولدا صالحا; يقول: قال: يا رب هب لي منك ولدا يكون من الصالحين الذين يطيعونك، ولا يعصونك، ويصلحون في الأرض، ولا يفسدون.

كما حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: ولدا صالحا.

وقال: من الصالحين، ولم يَقُلْ: صالحا من الصالحين، اجتزاء بمن ذكر المتروك، كما قال عز وجل: وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ بمعنى زاهدين من الزاهدين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ( 101 ) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( 102 )

يقول تعالى ذكره: فبشَّرنا إبراهيم بغلام حليم، يعني بغلام ذي حِلْم إذا هو كَبِر، فأما في طفولته في المهد، فلا يوصف بذلك. وذكر أن الغلام الذي بشر الله به إبراهيم إسحاق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة: ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) قال: هو إسحاق.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) بشر بإسحاق، قال: لم يُثْن بالحلم على أحد غير إسحاق وإبراهيم.

وقوله ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) يقول: فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم مع إبراهيم العمل، وهو السعي، وذلك حين أطاق معونته على عمله.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قولهِ ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) يقول: العمل.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال: لما شبّ حتى أدرك سعيه سَعْي إبراهيمَ في العمل.

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: لما شبّ حين أدرك سعيه.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال: سَعي إبراهيم.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن يوسف، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) : سَعي إبراهيم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال: السَّعْيُ ها هنا العبادة.

وقال آخرون: معنى ذلك: فلما مشى مع إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) : أي لما مشى مع أبيه.

وقوله ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه: ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) وكان فيما ذكر أن إبراهيم نذر حين بشَّرته الملائكة بإسحاق ولدًا أن يجعله إذا ولدته سارَة لله ذبيحا; فلما بلغ إسحاقُ مع أبيه السَّعْي أرِي إبراهيم في المنام، فقيل له: أوف لله بنذرك، ورؤيا الأنبياء يقين، فلذلك مضى لما رأى في المنام، وقال له ابنه إسحاق ما قال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: قال جبرائيل لسارَة: أبشري بولد اسمه إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فضربت جبهتها عَجَبا، فذلك قوله فَصَكَّتْ وَجْهَهَا و قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ إلى قوله حَمِيدٌ مَجِيدٌ قالت سارَة لجبريل: ما آية ذلك ؟ فأخذ بيده عودا يابسا، فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فقال إبراهيم: هو لله إذن ذَبيح; فلما كبر إسحاق أُتِيَ إبراهيمُ في النوم، فقيل له: أوف بنذرك الذي نَذَرْت، إن الله رزقك غلاما من سارَة أن تذبحه، فقال لإسحاق: انطلق نقرب قُرْبَانا إلى الله، وأخذ سكينا وحبلا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام: يا أبت أين قُرْبانك؟ ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ؟ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) فقال له إسحاق: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فتراه سارَة فتحزن، وأَسْرِعْ مرّ السكين على حَلْقي؛ ليكون أهون للموت عليّ، فإذا أتيت سارَة فاقرأ عليها مني السلام; فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي، حتى استنقع الدموع تحت خدّ إسحاق، ثم إنه جرّ السكين على حلقه، فلم تَحِكِ السكين، وضرب الله صفيحة من النحاس على حلق إسحاق; فلما رأى ذلك ضرب به على جبينه، وحزّ من قفاه، فذلك قوله فَلَمَّا أَسْلَمَا يقول: سلما لله الأمر وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ فنودي يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا بالحق فالتفت فإذا بكبش، فأخذه وخَلَّى عن ابنه، فأكبّ على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بُنَيّ وُهِبْتَ لي; فلذلك يقول الله: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فرجع إلى سارَة فأخبرها الخبر، فجَزِعَت سارَة وقالت: يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تُعْلِمني!.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) قال: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا فى المنام شيئا فعلوه.

حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، قال: رؤيا الأنبياء وحي، ثم تلا هذه الآية: ( إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) .

قوله ( فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ) : اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( مَاذَا تَرَى ؟ ) ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وبعض قراء أهل الكوفة: ( فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ؟ ) بفتح التاء، بمعنى: أي شيء تأمر، أو فانظر ما الذي تأمر، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة: « مَاذَا تُرَى » بضم التاء، بمعنى: ماذا تُشير، وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح؟.

والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: ( مَاذَا تَرَى ) بفتح التاء، بمعنى: ماذا ترى من الرأي.

فإن قال قائل: أو كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضيّ لأمر الله، والانتهاء إلى طاعته؟ قيل: لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العَزْم: هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه، فيسر بذلك أم لا وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله.

وقوله ( قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) يقول تعالى ذكره: قال إسحاق لأبيه: يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي. ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) يقول: ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا، وقال: ( افعل ما تُؤْمَرُ، ولم يقل: ما تؤمر به، لأن المعنى: افعل الأمر الذي تؤمره، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « إني أرى في المنام: افعل ما أُمِرْت به » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( 103 ) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ( 104 ) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 105 ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ( 106 )

يقول تعالى ذكره: فلما أسلما أمرهما لله وفوّضاه إليه واتفقا على التسليم لأمره والرضا بقضائه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا ثابت بن محمد، وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا مسلم بن صالح، قالا ثنا عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله ( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) قال: اتفقا على أمر واحد.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، قوله ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) قال: أسلما جميعا لأمر الله ورضي الغلام بالذبح، ورضي الأب بأن يذبحه، فقال: يا أبت اقذفني للوجه كيلا تنظر إلي فترحمني، وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع، ولكن أدخل الشفرة من تحتي، وامض لأمر الله، فذلك قوله ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) فلما فعل ذلك ( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) قال: أسلم هذا نفسه لله، وأسلم هذا ابنه لله.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) قال: أسلما ما أمرا به.

حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ ( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) يقول: أسلما لأمر الله.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) : أي سلم إبراهيم لذبحه حين أمر به وسلم ابنه للصبر عليه، حين عرف أن الله أمره بذلك فيه.

وقوله ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) يقول: وصَرَعَه للجَبِيِن، والجبينان ما عن يمين الجبهة وعن شمالها، وللوجه جبينان، والجبهة بينهما.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو العاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) قال: وضع وجهه للأرض، قال: لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني، ولا تجهز عليّ، اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي للأرض.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) : أى وكبه لفيه وأخذ الشفرة ( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) حتى بلغ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) قال: أكبه على جبهته.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) قال: جبينه، قال: أخذ جبينه ليذبحه.

حدثنا ابن سنان، قال: ثنا حجاج، عن حماد، عن أبي عاصم الغَنَوِيّ عن أبي الطُّفَيل، قال: قال ابن عباس: إن إبراهيم لما أُمر بالمناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسابقه، فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حَصَيَات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوُسْطَى، فرماه بسبع حَصَيَات حتى ذهب، ثم تلَّه للجَبِين، وعلى إسماعيل قَميص أبيض، فقال له: يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غير هذا، فاخلعه حتى تكفنني فيه، فالتفت إبراهيم فإذا هو بكبش أعْيَن أبيض فذبحه، فقال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبع هذا الضرب من الكِباش.

وقوله ( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) وهذا جواب قوله ( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) ومعنى الكلام: فلما أسلما وتلَّه للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم; وأدخلت الواو في ذلك كما أدخلت في قوله حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وقد تفعل العرب ذلك فتدخل الواو في جواب فلما، وحتى وإذا تلقيها.

ويعني بقوله ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) التي أريناكها في منامك بأمرناك بذبح ابنك.

وقوله ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول: إنا كما جَزَيْناك بطاعتنا يا إبراهيم، كذلك نجزى الذين أحسنوا، وأطاعوا أمرنا، وعملوا في رضانا.

وقوله ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) : يقول تعالى ذكره: إن أمرنا إياك يا إبراهيم بذبح ابنك إسحاق، لهو البلاء، يقول: لهو الاختبار الذي يبين لمن فكَّرَ فيه أنه بلاء شديد ومِحْنة عظيمة. وكان ابن زيد يقول: البلاء في هذا الموضع الشرّ وليس باختبار.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد، في قوله ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) قال: هذا فى البلاء الذي نـزل به في أن يذبح ابنه. ( صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) : ابتليتَ ببلاء عظيم أمرت أن تذبح ابنك، قال: وهذا من البلاء المكروه وهو الشرّ وليس من بلاء الاختبار.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( 107 ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 108 ) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ( 109 ) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 110 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 111 )

وقوله ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) يقول: وفدينا إسحاق بذبح عظيم، والفدية: الجزاء، يقول: جزيناه بأن جعلنا مكان ذبحه ذبح كبش عظيم، وأنقذناه من الذبح.

واختلف أهل التأويل، في المفديّ من الذبح من ابني إبراهيم، فقال بعضهم: هو إسحاق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن يمان، عن مبارك، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسحاق.

حدثني الحسين بن يزيد بن إسحاق، قال: ثنا ابن إدريس، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الذي أُمِر بذبحه إبراهيم هو إسحاق.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسحاق.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: الذبيح إسحاق.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا زيد بن حباب، عن الحسن بن دينار، عن عليّ بن زيد بن جُدْعان، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ذكره، قال: « هو إسحاق » .

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: افتخر رجل عند ابن مسعود، فقال: أنا فلان بن فلان ابن الأشياخ الكرام، فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا إبراهيم بن المختار، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن الزهري، عن العلاء بن حارثة الثقفي، عن أبي هريرة، عن كعب في قوله ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: من ابنه إسحاق.

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا زكريا وشعبة، عن ابن إسحاق، عن مسروق، في قوله ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسحاق.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبيد بن عمير، قال: هو إسحاق.

حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمير قال: ( قال موسى: يا ربّ يقولون يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبم قالوا ذلك؟ قال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قطّ إلا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح، وهو بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظنّ ) .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، قال: قال موسى: أي ربّ بم أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما أعطيتهم؟ فذكر معنى حديث عمرو بن عليّ.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي سنان الشيباني، عن ابن أبي الهذيل، قال: الذبيح هو إسحاق.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن حارثة الثقفي، أخبره أن كعبا قال لأبي هريرة: ألا أخبرك عن إسحاق بن إبراهيم النبيّ؟ قال أبو هريرة: بلى، قال كعب: لما رأى إبراهيم ذبح إسحاق ، قال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن أحدا منهم أبدا، فتمثل الشيطان لهم رجلا يعرفونه، فأقبل حتى إذا خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه دخل على سارَة امرأة إبراهيم، فقال لها: أين أصبح إبراهيم غاديا بإسحاق ؟ قالت سارَة: غدا لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله ما لذلك غدا به، قالت سارَة: فَلِمَ غدا به؟ قال: غدا به ليذبحه! قالت سارَة: ليس من ذلك شيء، لم يكن ليذبح ابنه! قال الشيطان: بلى والله! قالت سارَة: فلم يذبحه؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك; قالت سارَة: فهذا أحسن بأن يطيع ربه إن كان أمره بذلك. فخرج الشيطان من عند سارَة حتى أدرك إسحاق وهو يمشي على إثر أبيه، فقال: أين أصبح أبوك غاديا بك ؟ قال: غدا بي لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله ما غدا بك لبعض حاجته، ولكن غدا بك ليذبحك، قال إسحاق: ما كان أبي ليذبحني! قال: بلى; قال: لِمَ ؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك; قال إسحاق: فوالله لئن أمره بذلك ليطيعنَّه، قال: فتركه الشيطان وأسرع إلى إبراهيم، فقال: أين أصبحت غاديا بابنك؟ قال: غدوت به لبعض حاجتي، قال: أما والله ما غدوت به إلا لتذبحه، قال: لِمَ أذبحه؟ قال: زعمت أن ربك أمرك بذلك; قال: الله فوالله لئن كان أمرني بذلك ربي لأفعلنّ; قال: فلما أخذ إبراهيم إسحاق ليذبحه وسَلَّم إسحاق، أعفاه الله وفداه بذبح عظيم، قال إبراهيم لإسحاق: قم أي بنيّ، فإن الله قد أعفاك; وأوحى الله إلى إسحاق: إني قد أعطيتك دعوة أستجيب لك فيها; قال، قال إسحاق: اللهمّ إني أدعوك أن تستجيب لي، أيما عبد لقيك من الأوّلين والآخرين لا يُشرك بك شيئا، فأدخله الجنة.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة الثقفي، حليف بني زُهرة، عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار أن الذي أُمِر إبراهيم بذبحه من ابنيه إسحاق، وأن الله لما فرج له ولابنه من البلاء العظيم الذي كان فيه، قال الله لإسحاق: إني قد أعطيتك بصبرك لأمري دعوة أعطيك فيها ما سألت، فسلني، قال: ربّ أسألك أن لا تعذّب عبدا من عبادك لقيك وهو يؤمن بك، فكانت تلك مسألته التي سأل.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن ابن سابط، قال: هو إسحاق.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا سفيان بن عُقْبة، عن حمزة الزيات، عن أبي ميسرة، قال: قال يوسف للملِك في وجهه: ترغب أن تأكل معي، وأنا والله يوسف بن يعقوب نبيّ الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله.

قال: ثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبى سنان، عن ابن أبي الهُذَيل، قال: قال يوسف للملِك، فذكر نحوه.

وقال آخرون: الذي فُدِي بالذبح العظيم من بني إبراهيم: إسماعيل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قالا ثنا يحيى بن يمان، عن إسرائيل، عن ثور، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: الذبيح: إسماعيل.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثني بيان، عن الشعبيّ، عن ابن عباس ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: إسماعيل.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن محمد بن ميمون السكريّ، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: إن الذي أمر بذبحه إبراهيم إسماعيلُ.

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن عليّ بن زيد، عن عمار، مولى بني هاشم، أو عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، قال: هو إسماعيل، يعني ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) .

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا داود، عن الشعبيّ، قال: قال ابن عباس: هو إسماعيل.

وحدثني به يعقوب مرّة أخرى، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: سئل داود بن أبي هند: أيّ ابني إبراهيم الذي أُمِر بذبحه؟ فزعم أن الشعبي قال: قال ابن عباس: هو إسماعيل.

حدثنا ابن المثني، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن بيان، عن الشعبيّ، عن ابن عباس أنه قال في الذي فداه الله بذبح عظيم قال: هو إسماعيل.

حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قوله ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسماعيل.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رَباح، عن عبد الله بن عباس أنه قال: المَفْدِيّ إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود.

حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن مبارك، عن عليّ بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: الذي فداه الله هو إسماعيل.

حدثنا ابن سنان القزّاز، قال: ثنا حجاج بن حماد، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، مثله.

حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: الذي أراد إبراهيم ذبحه: إسماعيل.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر أنه قال في هذه الآية ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسماعيل، قال: وكان قَرْنا الكبش مَنُوطَيْن بالكعبة.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، قال: الذبيح إسماعيل.

قال: ثنا ابن يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، قال: رأيت قرني الكبش في الكعبة.

قال: ثنا ابن يمان، عن مبارك بن فضالة، عن عليّ بن زيد بن جُدْعان، عن يوسف بن مهران، قال: هو إسماعيل.

قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: هو إسماعيل.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا عوف، عن الحسن ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسماعيل.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سمعت محمد بن كعب القُرَظِيّ وهو يقول: إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من بنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم وما أُمر به من ذبح ابنه إسماعيل، وذلك أن الله يقول، حين فرغ من قصة المذبوح من إبراهيم، قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ يقول: بشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، يقول: بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله الموعود ما وعده الله، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد، عن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم: إسماعيل.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: سمعت محمد بن كعب القُرَظِيّ يقول ذلك كثيرا.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فَرْوة الأسلمي عن محمد بن كعب القُرَظِيّ، أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، إذ كان معه بالشام فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما هو; ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا، فأسلم فحسُن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء يهود، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فقال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أيّ ابني إبراهيم أُمِر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسُدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم، فالله أعلم أيهما كان، كل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لربه.

حدثني محمد بن عمار الرازي، قال: ثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، قال: ثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابيّ، عن عبيد بن محمد العُتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان، عن أبيه، قال: ثني عبد الله بن سعيد، عن الصّنَابحي، قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان، فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم: ( كنا عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله عُدّ عليّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين; فضحك عليه الصلاة والسلام ; فقلنا له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أُمِر بحفْر زمزم، نذر لله لئن سَهُل عليه أمرها ليذبحنّ أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله، وقالوا: افْدِ ابنك بمئة من الإبل، ففداه بمئة من الإبل، وإسماعيل الثاني ) .

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا ابن جريج، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: الذي فُدِيَ به إسماعيل، ويعني تعالى ذكره الكبش الذي فُدِيَ به إسحاق، والعرب تقول لكلّ ما أُعِدّ للذبح ذِبْح، وأما الذَّبح بفتح الذال فهو الفعل.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في المَفْديّ من ابني إبراهيم خليل الرحمن على ظاهر التنـزيل قول من قال: هو إسحاق، لأن الله قال: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) فذكر أنه فدَى الغلامَ الحليمَ الذي بُشِّر به إبراهيم حين سأله أن يهب له ولدًا صالحًا من الصالحين، فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فإذ كان المفدِيّ بالذبح من ابنيه هو المبشَّر به، وكان الله تبارك اسمه قد بين في كتابه أن الذي بُشِّر به هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقال جل ثناؤه: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ وكان في كل موضع من القرآن ذكر تبشيره إياه بولد، فإنما هو معنيّ به إسحاق، كان بيَّنا أن تبشيره إياه بقوله فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ في هذا الموضع نحو سائر أخباره في غيره من آيات القرآن.

وبعد: فإن الله أخبر جل ثناؤه في هذه الآية عن خليله أنه بشَّره بالغلام الحليم عن مسألته إياه أن يهب له من الصالحين، ومعلوم أنه لم يسأله ذلك إلا في حال لم يكن له فيه ولد من الصالحين، لأنه لم يكن له من ابنيه إلا إمام الصالحين، وغير موهم منه أن يكون سأل ربه في هبة ما قد كان أعطاه ووهبه له. فإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن الذي ذكر تعالى ذكره في هذا الموضع هو الذي ذكر في سائر القرآن أنه بشَّره به وذلك لا شك أنه إسحاق، إذ كان المفديّ هو المبشَّر به. وأما الذي اعتلّ به من اعتلّ في أنه إسماعيل، أن الله قد كان وعد إبراهيم أن يكون له من إسحاق ابن ابن، فلم يكن جائزا أن يأمره بذبحه مع الوعد الذي قد تقدم; فإن الله إنما أمره بذبحه بعد أن بلغ معه السعي، وتلك حال غير ممكن أن يكون قد وُلد لإسحاق فيها أولاد، فكيف الواحد؟ وأما اعتلال من اعتل بأن الله أتبع قصة المفديّ من ولد إبراهيم بقوله وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا ولو كان المفديّ هو إسحاق لم يبشَّر به بعد، وقد ولد، وبلغ معه السعي، فإن البشارة بنبوة إسحاق من الله فيما جاءت به الأخبار جاءت إبراهيم وإسحاق بعد أن فُدِي تكرمة من الله له على صبره لأمر ربه فيما امتحنه به من الذبح، وقد تقدمت الرواية قبلُ عمن قال ذلك. وأما اعتلال من اعتلّ بأن قرن الكبش كان معلقا في الكعبة فغير مستحيل أن يكون حُمل من الشام إلى الكعبة. وقد رُوي عن جماعة من أهل العلم أن إبراهيم إنما أمر بذبح ابنه إسحاق بالشام، وبها أراد ذبحه.

اختلف أهل العلم في الذِّبح الذي فُدِي به إسحاق، فقال بعضهم: كان كبشا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن عليّ ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: كبش أبيض أقرن أعين مربوط بسَمُرَة في ثَبِير.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: كبش قال عبيد بن عمير: ذُبِح بالمَقام، وقال مجاهد: ذبح بمنًى في المَنْحَر.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن خثيم، عن سعيد، عن ابن عباس قال: الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا سيار، عن عكرمة، أن ابن عباس كان أفتى الذي جعل عليه أن ينحر نفسه، فأمره بمئة من الإبل، قال: فقال ابن عباس بعد ذلك: لو كنت أفتيته بكبش لأجزأه أن يذبح كبشا، فإن الله قال في كتابه: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) .

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: ذبح كبش.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: قال ابن عباس: التفتَ فإذا كبش، فأخذه فذبحه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: كان الكبش الذي ذبحه إبراهيم رعى في الجنة أربعين سنة، وكان كبشا أملح، صوفه مثل العِهْنِ الأحمر.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: بكبش.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا ليث، قال مجاهد: الذبح العظيم: شاة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: وثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله ( بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: بكبش.

* وحدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: الذِّبح: الكبش.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: التفت، يعني ابراهيم، فإذا بكبش، فأخذه وخلَّى عن ابنه.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الذبح العظيم: الكبش الذي فدى الله به إسحاق.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة بن دِعامة، عن جعفر بن إياس، عن عبد الله بن العباس، في قوله ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: خرج عليه كبش من الجنة قد رعاها قبل ذلك أربعين خريفا، فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش، فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرمي بسبع حصيات، فأفلته عنده، فجاء الجمرة الوسطى، فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات، ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات، فأخرجه عندها، ثم أخذه فأتى به المنحر من مِنَى، فذبحه; فوالذي نفس ابن عباس بيده، لقد كان أوّل الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه عند ميزاب الكعبة قد حُشّ، يعني يبس.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال ابن إسحاق: ويزعم أهل الكتاب الأول وكثير من العلماء أن ذبيحة إبراهيم التي فدى بها ابنه كبش أملح اقرن أعين.

حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن جويبر، عن الضحاك في قوله ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: بكبش.

وقال آخرون: كان الذبح وعلا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن رجل، عن أبي صالح، عن ابن عباس ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: كان وَعِلا.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أنه كان يقول: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأرويّ أهبط عليه من ثبير.

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للذِّبح الذي فدي به إسحاق عظيم، فقال بعضهم: قيل ذلك كذلك، لأنه كان رَعَى في الجنة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: رعى في الجنة أربعين خريفا.

وقال آخرون: قيل له عظيم، لأنه كان ذِبْحًا متقبَّلا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، ( عَظِيمٌ ) قال: متقبَّل.

حدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد في ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: العظيم: المتقبل.

وقال آخرون: قيل له عظيم، لأنه ذِبْح ذُبِحَ بالحقّ، وذلك ذبحه بدين إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أنه كان يقول: ما يقول الله ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) لذبيحته التي ذبح فقط، ولكنه الذَّبح على دينه، فتلك السُّنَّة إلى يوم القيامة، فاعلموا أن الذبيحة تدفع مِيتة السُّوء، فضحُّوا عباد الله.

قال أبو جعفر: ولا قول في ذلك أصح مما قال الله جلّ ثناؤه، وهو أن يقال: فداه الله بذِبح عظيم، وذلك أن الله عم وصفه إياه بالعظم دون تخصيصه، فهو كما عمه به.

وقوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول تعالى ذكره: وأبقينا عليه فيمن بعده إلى يوم القيامة ثناءً حسنا.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال: سأل إبراهيمُ، فقال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ قال: فترك الله عليه الثناء الحسن في الآخرين، كما ترك اللسانَ السَّوْء على فرعون وأشباهه كذلك ترك اللسان الصدق والثناء الصالح على هؤلاء.

وقيل: معنى ذلك: وتركنا عليه في الآخرين السلام، وهو قوله ( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ، وذلك قول يُرْوى عن ابن عباس تركنا ذكره لأن في إسناده من لم نستجز ذكره; وقد ذكرنا الأخبار المروية في قوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) فيما مضى قبل. وقيل:

معنى ذلك: وتركنا عليه في الآخرين أن يقال: سلام على إبراهيم.

وقوله ( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) يقول تعالى ذكره: أمَنَة من الله في الأرض لإبراهيم أن لا يذكر من بعده إلا بالجميل من الذكر.

وقوله ( كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول: كما جزينا إبراهيم على طاعته إيانا وإحسانه في الانتهاء إلى أمرنا، كذلك نجزي المحسنين ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: إن إبراهيم من عبادنا المخلصين لنا الإيمان.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ( 112 ) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ( 113 )

يقول تعالى ذكره: وبشَّرنا إبراهيم بإسحاق نبيا شكرا له على إحسانه وطاعته.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: بشر به بعد ذلك نبيا، بعد ما كان هذا من أمره لمَّا جاد لله بنفسه.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن داود، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: الذبيح إسحاق; قال: وقوله ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال بُشِّر بنبوته. قال: وقوله وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد وهب الله له نبوته.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت داود يحدّث، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: إنما بشره به نبيا حين فداه من الذبح، ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده.

حدثني الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا ابن إدريس، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله: ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا ) قال: إنما بُشِّر بالنبوّة.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: بُشِّر إبراهيم بإسحاق.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: بنبوته.

حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ضرار، عن شيخ من أهل المسجد، قال: بُشِّر إبراهيم لسبع عشرة ومئة سنة.

وقوله ( وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ) يقول تعالى ذكره: وباركنا على إبراهيم وعلى إسحاق ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ ) يعني بالمحسن: المؤمن المطيع لله، المحسن في طاعته إياه ( وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) ويعني بالظالم لنفسه: الكافر بالله، الجالب على نفسه بكفره عذاب الله وأليم عقابه ( مبين ) : يعني الذي قد أبان ظلمه نفسه بكفره بالله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) قال: المحسن: المطيع لله، والظالم لنفسه: العاصي لله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ( 114 ) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( 115 ) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( 116 )

يقول تعالى ذكره: ولقد تفضلنا على موسى وهارون ابني عمران، فجعلناهما نبيين، ونجيناهما وقومهما من الغم والمكروه العظيم الذي كانوا فيه من عُبودة آل فرعون، ومما أهلكنا به فرعون وقومه من الغرق.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدّيّ، في قوله ( وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) قال: من الغرق.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) : أي من آل فرعون.

وقوله ( وَنَصَرْنَاهُمْ ) يقول: ونصرنا موسى وهارون وقومهما على فرعون وآله بتغريقناهم، ( فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ) لهم.

وقال بعض أهل العربية: إنما أريد بالهاء والميم في قوله ( وَنَصَرْنَاهُمْ ) موسى وهارون، ولكنها أخرجت على مخرج مكنيّ الجمع، لأن العرب تذهب بالرئيس كالنبي والأمير وشبه إلى الجمع بجنوده وأتباعه، وإلى التوحيد لأنه واحد في الأصل، ومثله: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ وفي موضع آخر: وملئه قال: وربما ذهبت العرب بالاثنين إلى الجمع كما تذهب بالواحد إلى الجمع، فتخاطب الرجل، فتقول: ما أحسنتم ولا أجملتم، وإنما تريده بعينه، وهذا القول الذي قاله هذا الذي حكينا قوله في قوله ( وَنَصَرْنَاهُمْ ) وإن كان قولا غير مدفوع، فإنه لا حاجة بنا إلى الاحتيال به لقوله ( وَنَصَرْنَاهُمْ ) لأن الله أتبع ذلك قوله ( وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) ثم قال: ( وَنَصَرْنَاهُمْ ) يعني: هما وقومهما، لأن فرعون وقومه كانوا أعداء لجميع بني إسرائيل، قد استضعفوهم، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، فنصرهم الله عليهم، بأن غرّقهم ونجى الآخرين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( 117 ) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 118 ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ ( 119 ) سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ( 120 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 121 ) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 122 )

يقول تعالى ذكره: وآتينا موسى وهارون الكتاب: يعني التوراة.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ) : التوراة.

ويعني بالمستبين: المتبيِّن هُدَى ما فيه وتفصيله وأحكامه.

وقوله ( وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) يقول تعالى ذكره: وهدينا موسى وهارون الطريق المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام دين الله، الذي ابتعث به أنبياءه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) الإسلام.

وقوله ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ ) يقول: وتركنا عليهما في الآخرين بعدهم الثناء الحسن عليهما.

وقوله ( سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) يقول: وذلك أن يقال: سلام على موسى وهارون.

وقوله ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول: هكذا نجزي أهل طاعتنا، والعاملين بما يرضينا عنهم ( إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: إن موسى وهارون من عبادنا المخلصين لنا الإيمان.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 123 ) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ( 124 ) أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ( 125 ) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( 126 )

يقول تعالى ذكره: وإن إلياس، وهو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران فيما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق.

وقيل: إنه إدريس، حدثنا بذلك بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان يقال: إلياس هو إدريس. وقد ذكرنا ذلك فيما مضى قبل.

وقوله ( لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) يقول جلّ ثناؤه: لمرسل من المرسلين ( إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ) .

؟ يقول حين قال لقومه في بني إسرائيل: ألا تتقون الله أيها القوم، فتخافونه، وتحذرون عقوبته على عبادتكم ربا غير الله، وإلهًا سواه ( وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) يقول: وتَدعون عبادة أحسن مَن قيل له خالق.

وقد اختلف في معنى بَعْل، فقال بعضهم: معناه: أتدعون ربا؟ وقالوا: هي لغة لأهل اليمن معروفة فيهم.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرمي بن عمارة، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عُمارة، عن عكرمة، في قوله ( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال: إلها.

حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عمارة، عن عكرمة، في قوله ( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) يقول: أتدعون ربا، وهي لغة أهل اليمن، تقول: من بعل هذا الثور: أي من ربُّه؟

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو، قالا ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال: ربا.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال: هذه لغة باليمانية: أتدعون ربا دون الله.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله ( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال: ربّا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن عبد الله بن أبي يزيد، قال: كنت عند ابن عباس فسألوه عن هذه الآية: ( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال: فسكت ابن عباس، فقال رجل: أنا بعلها، فقال ابن عباس: كفاني هذا الجواب.

وقال آخرون: هو صنم كان لهم يقال له بَعْل، وبه سميت بعلبك.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) يعني: صنما كان لهم يسمى بَعْلا.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) ؟ قال: بعل: صنم كانوا يعبدون، كانوا ببعلك، وهم وراء دمشق، وكان بها البعل الذي كانوا يعبدون.

وقال آخرون: كان بَعْل: امرأة كانوا يعبدونها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بَعْل إلا امرأة يعبدونها من دون الله.

وللبَعْل في كلام العرب أوجه. يقولون لربّ الشيء هو بَعْله، يقال: هذا بَعْل هذه الدار، يعني ربُّها; ويقولون لزوج المرأة بعلُها; ويقولون لما كان من الغروس والزروع مستغنيا بماء السماء، ولم يكن سقيا بل هو بعل، وهو العَذْي. وذُكر أن الله بعث إلى بني إسرائيل إلياس بعد مهلك حِزْقيل بن يوزا.

وكان من قصته وقصة قومه فيما بلغنا، ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه، قال: إن الله قبض حِزْقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونُسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها دون الله، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يُبعثون إليهم بتجديد ما نُسوا من التوراة، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل، يقال له: أحاب، كان اسم امرأته: أربل، وكان يسمع منه ويصدّقه، وكان إلياس يقيم له أمره، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله يقال له بعل.

قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: ( ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله ) ; يقول الله لمحمد: ( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من ذلك الملك، والملوك متفرّقة بالشام، كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره، ويراه على هدى من بين أصحابه يوما: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا والله ما أرى فلانا وفلانا - يعدّد ملوكًا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله- إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون وينعمون مملكين، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل; فيزعمون- والله أعلم- أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه: عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون، فقال إلياس: اللهمّ إن بني إسرائيل قد أبَوْا إلا أن يكفروا بك والعبادة لغيرك، فغير ما بهم من نعمتك ) أو كما قال.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: فذكر لي أنه أوحي إليه: إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك، فقال إلياس: اللهم فأمسك عليهم المطر; فحبس عنهم ثلاث سنين، حتى هلكت الماشية والهوامّ والدوابّ والشجر، وجهد الناس جهدا شديدا. وكان إلياس فيما يذكرون حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى، شفقا على نفسه منهم، وكان حيثما كان وضع له رزق، وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت، قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان فطلبوه، ولقي منهم أهل ذلك المنـزل شرا. ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع ابن أخطوب به ضرّ، فآوته وأخفت أمره، فدعا إلياس لابنها، فعُوفِيَ من الضرّ الذي كان به، واتبع اليسع غلاما شابا، فيزعمون- والله أعلم- أن أوحى إلى إلياس: إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى بني إسرائيل من البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر، بحبس المطر عن بني إسرائيل، فيزعمون والله أعلم أن إلياس قال: أي ربّ دعني أنا الذي أدعو لهم وأكون أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم، لعلهم أن يرجعوا وينـزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك، قيل له: نعم; فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم: إنكم قد هلكتم جهدا، وهلكت البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور، أو كما قال لهم، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك، وتعلموا أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه، وأن الذي أدعوكم إليه الحقّ، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي تعبدون وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه، فإن استجابت لكم، فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل، فنـزعتم، ودعوت الله ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء، قالوا: أنصفت; فخرجوا بأوثانهم، وما يتقربون به إلى الله من إحداثهم الذي لا يرضى، فدعوها فلم تستجب لهم، ولم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء حتى عرفوا ما هم فيه من الضلالة والباطل، ثم قالوا لإلياس: يا إلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل التُّرس بإذن الله على ظهر البحر وهم ينظرون، ثم ترامى إليه السحاب، ثم أدحَسَتْ ثم أرسل المطر، فأغاثهم، فحيت بلادهم، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فلم ينـزعوا ولم يرجعوا، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه; فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم، دعا ربه أن يقبضه إليه، فيريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا، فاخرج فيه إلى بلد كذا وكذا، فماذا جاءوك من شيء فاركبه ولا تهبه; فخرج إلياس وخرج معه اليسع بن أخطوب، حتى إذا كان في البلد الذي ذُكر له في المكان الذي أُمر به، أقبل إليه فرس من نار حتى وقف بين يديه، فوثب عليه، فانطلق به، فناداه اليسع: يا إلياس، يا إلياس ما تأمرني؟ فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب، وطار في الملائكة، فكان إنسيا ملكيا أرضيا سَماويا.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) فقرأته عامة قراء مكة والمدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة: ( الله رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) رفعا على الاستئناف، وأن الخبر قد تناهى عند قوله ( أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: ( اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) نصبا، على الردّ على قوله ( وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) على أن ذلك كله كلام واحد.

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، مع استفاضة القراءة بهما في القرّاء، فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام: ذلك معبودكم أيها الناس الذي يستحق عليكم العبادة: ربكم الذي خلقكم، وربّ آبائكم الماضين قبلكم، لا الصنم الذي لا يخلق شيئا، ولا يضرّ ولا ينفع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( 127 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 128 ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 129 )

وقوله ( فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) يقول: فكَذّب إلياس قَومُهُ، فإنهم لمحضرون: يقول: فإنهم لمحضرون في عذاب الله فيشهدونه.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) في عذاب الله. ( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) يقول: فإنهم يحضرون في عذاب الله، إلا عباد الله الذين أخلصهم من العذاب ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول: وأبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين من الأمم بعده.

 

القول في تأويل قوله تعالى : سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ( 130 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 131 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 132 )

يقول تعالى ذكره: أمنة من الله لآل ياسين.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) فقرأته عامة قرّاء مكة والبصرة والكوفة: ( سَلامُ عَلى إلْياسِينَ ) بكسر الألف من إلياسين ، فكان بعضهم يقول: هو اسم إلياس، ويقول: إنه كان يُسمى باسمين: إلياس، وإليا سين مثل إبراهيم، وإبراهام; يُستشهد على ذلك أن ذلك كذلك بأن جميع ما في السورة من قوله ( سَلامٌ ) فإنه سلام على النبي الذي ذكر دون آله، فكذلك إلياسين ، إنما هو سلام على إلياس دون آله. وكان بعض أهل العربية يقول: إلياس: اسم من أسماء العبرانية، كقولهم: إسماعيل وإسحاق، والألف واللام منه، ويقول: لو جعلته عربيا من الإلس، فتجعله إفعالا مثل الإخراج، والإدخال أجْري ; ويقول: قال: سلام على إلياسين، فتجعله بالنون، والعجمي من الأسماء قد تفعل به هذا العرب، تقول: ميكال وميكائيل وميكائيل، وهي في بني أسد تقول: هذا إسماعين قد جاء، وسائر العرب باللام; قال: وأنشدني بعض بني نمير لضب صاده:

يَقُــولُ رَبُّ السُّــوقِ لَمَّــا جِيْنـا هَـــذَا وَرَبّ البَيْـــتِ إسْــرَائِينا

قال: فهذا كقوله إلياسين; قال: وإن شئت ذهبت بإلياسين إلى أن تجعله جمعا، فتجعل أصحابه داخلين في اسمه، كما تقول لقوم رئيسهم المهلب: قد جاءتكم المهالبة والمهلبون، فيكون بمنـزلة قولهم الأشعرين بالتخفيف، والسعدين بالتخفيف وشبهه، قال الشاعر :

أنا ابْنُ سَعْدٍ سَيِّدِ السَّعْدِينَا

قال: وهو في الاثنين أن يضمّ أحدهما إلى صاحبه إذا كان أشهر منه اسما كقول الشاعر :

جَــزَانِي الزَّهْدَمَــانِ جَـزاءَ سَـوْءٍ وكُــنتُ المَــرْءَ يُجْـزَى بالكَرَامَـةْ

واسم أحدهما: زهدم; وقال الآخر:

جَـزَى اللـه فِيهـا الأعْـوَرَيْنِ ذَمَامَةً وَفَــرْوَةَ ثَفْــرَ الثَّـوْرَةِ المُتَضَـاجِمِ

واسم أحدهما أعور.

وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة: « سَلام عَلى آل يَاسِينَ » بقطع آل من ياسين، فكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى: سلام على آل محمد. وذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ قوله وَإِنَّ إِلْيَاسَ بترك الهمز في إلياس ويجعل الألف واللام داخلتين على « ياس » للتعريف، ويقول: إنما كان اسمه « ياس » أدخلت عليه ألف ولام ثم يقرأ على ذلك: « سلام على إلياسين » .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه: ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) بكسر ألفها على مثال إدراسين، لأن الله تعالى ذكره إنما أخبر عن كل موضع ذكر فيه نبيا من أنبيائه صلوات الله عليهم في هذه السورة بأن عليه سلاما لا على آله، فكذلك السلام في هذا الموضع ينبغي أن يكون على إلياس كسلامه على غيره من أنبيائه، لا على آله، على نحو ما بيَّنا من معنى ذلك.

فإن ظنّ ظانّ أن إلياسين غير إلياس، فإن فيما حكينا من احتجاج من احتج بأن إلياسين هو إلياس غني عن الزيادة فيه.

مع أن فيما حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) قال: إلياس.

وفي قراءة عبد الله بن مسعود: « سَلامٌ عَلى إدْرَاسِينَ » دلالة واضحة على خطأ قول من قال: عنى بذلك سلام على آل محمد، وفساد قراءة من قرأ: « وإنَّ إلياسَ » بوصل النون من « إن » بالياس، وتوجيه الألف واللام فيه إلى أنهما أدخلتا تعريفا للاسم الذي هو ياس، وذلك أن عبد الله كان يقول: إلياس هو إدريس، ويقرأ: « وَإِنَّ إدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » ، ثم يقرأ على ذلك: « سَلامٌ عَلَى إدْرَاسِينَ » ، كما قرأ الآخرون: ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) بقطع الآل من ياسين. ونظير تسمية إلياس بإل ياسين : وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ [ ثم قال في موضع آخر: وَطُورِ سِينِينَ وهو موضع واحد سمي بذلك.

وقوله ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول تعالى ذكره: إنا هكذا نجزي أهل طاعتنا والمحسنين أعمالا وقوله ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: إن إلياس عبد من عبادنا الذين آمنوا، فوحَّدونا، وأطاعونا، ولم يشركوا بنا شيئا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 133 ) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ( 134 ) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ( 135 ) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ( 136 )

يقول تعالى ذكره: وإن لوطا المرسل من المرسلين.

( إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ) يقول: إذ نجَّينا لوطا وأهله أجمَعينَ من العذاب الذي أحللناه بقومه، فأهلكناهم به. ( إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) يقول: إلا عجوزا في الباقين، وهي امرأة لوط، وقد ذكرنا خبرها فيما مضى، واختلاف المختلفين في معنى قوله ( فِي الْغَابِرِينَ ) ، والصواب من القول في ذلك عندنا.

وقد حُدثت عن المسيِّب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك ( إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) يقول: إلا امرأته تخلَّفت فمسخت حجرا، وكانت تسمى هيشفع.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) قال: الهالكين.

وقوله ( ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ) يقول: ثم قذفناهم بالحجارة من فوقهم، فأهلكناهم بذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ( 137 ) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 138 )

يقول تعالى ذكره لمشركي قريش: وإنكم لتمرون على قوم لوط الذين دمرناهم عند إصباحكم نهارا وبالليل. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ) قالوا: نعم والله صباحا ومساء يطئونها وطْئًا، من أخذ من المدينة إلى الشام، أخذ على سدوم قرية قوم لوط.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله ( لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ) قال: في أسفاركم.

وقوله ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) يقول: أفليس لكم عقول تتدبرون بها وتتفكَّرون، فتعلمون أن من سلك من عباد الله في الكفر به، وتكذيب رسله، مسلك هؤلاء الذين وصف صفتهم من قوم لوط، نازل بهم من عقوبة الله، مثل الذي نـزل بهم على كفرهم بالله، وتكذيب رسوله، فيزجركم ذلك عما أنتم عليه من الشرك بالله، وتكذيب محمد عليه الصلاة والسلام.

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) قال: أفلا تتفكَّرون ما أصابهم في معاصي الله أن يصيبكم ما أصابهم، قال: وذلك المرور أن يمر عليهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 139 ) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 140 ) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ( 141 ) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 142 )

يقول تعالى ذكره: وإن يونس لمرسل من المرسلين إلى أقوامهم ( إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يقول: حين فرّ إلى الفُلك، وهو السفينة، المشحون: وهو المملوء من الحمولة المُوقَر.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) كنَّا نحدّث أنه الموقر من الفُلك.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال: الموقر. وقوله ( فَسَاهَمَ ) يقول: فَقَارَعَ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَسَاهَمَ ) يقول أقْرَعَ.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) قال: فاحتبست السفينة، فعلم القوم أنما احتبست من حدث أحدثوه، فتساهموا، فقُرِعَ يونس، فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( فَسَاهَمَ ) قال: قارع.

وقوله ( فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) يعني: فكان من المسهومين المغلوبين، يقال منه: أدحض الله حجة فلان فدحضت: أي أبطلها فبطلت، والدَّحْض: أصله الزلق في الماء والطين، وقد ذُكر عنهم: دَحَض الله حجته، وهي قليلة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) يقول: من المقروعين.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) قال: من المسهومين.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله ( فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) قال: من المقرعين.

وقوله ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ) يقول: فابتلعه الحوت; وهو افتعل من اللَّقْم. وقوله ( وَهُوَ مُلِيمٌ ) يقول: وهو مكتسب اللوم، يقال: قد ألام الرجل، إذا أتى ما يُلام عليه من الأمر وإن لم يُلَم، كما يقال: أصبحت مُحْمِقا مُعْطِشا: أي عندك الحمق والعطش; ومنه قول لبيد:

سَــفَها عَـذَلْتَ ولُمْـتَ غـيرَ مُلِيـمِ وَهَــداكَ قَبـلَ الْيـومِ غـيرُ حَـكيمِ

فأما الملوم فهو الذي يلام باللسان، ويعذل بالقول.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَهُوَ مُلِيمٌ ) قال: مذنب.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَهُوَ مُلِيمٌ ) : أي في صنعه.

حدثني يونس، قال. أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَهُوَ مُلِيمٌ ) قال: وهو مذنب، قال: والمليم: المذنب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ( 143 ) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 144 ) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ( 145 ) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ( 146 )

يقول تعالى ذكره: ( فَلَوْلا أَنَّهُ ) يعني يونس ( كَانَ مِنَ ) المُصَلِّينَ لله قبل البلاء الذي ابتُلي به من العقوبة بالحبس في بطن الحوت ( لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول: لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، يوم يبعث الله فيه خلقه محبوسا، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء، فأنقذه ونجَّاه.

وقد اختلف أهل التأويل في وقت تسبيح يونس الذي ذكره الله به، فقال ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك، وقالوا مثل قولنا في معنى قوله ( مِنَ الْمُسَبِّحِينَ )

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) كان كثير الصَّلاةِ في الرّخاء، فنجَّاه الله بذلك; قال: وقد كان يقال في الحكمة: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ما عَثَر، فإذا صُرع وجد متكئا.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّة، عن بعض أصحابه، عن قتادة، في قوله ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: كان طويل الصلاة في الرّخاء; قال: وإنّ العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، إذا صرع وجد متكئا .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا أبو ضحر، أن يزيد الرَّقاشي، حدثه، قال: سمعت أنس بن مالك، قال: ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : « أنَّ يُونُسَ النَّبِيّ حِينَ بَدَا لَهُ أنْ يَدْعُوَ الله بالكَلِماتِ حِينَ نَادَاهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَقْبَلَتِ الدَّعْوَةُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَقَالَتِ المَلائِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ فِي بِلادٍ غَرِيبَة، قَالَ: أما تَعْرِفُونَ ذلكَ؟ قَالُوا يَا رَبّ وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: ذَلكَ عَبْدِي يُونُسُ، قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، قَالُوا: يَا رَبّ أوَلا يُرْحَمُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنَجِّيهِ مِنَ البَلاءِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بالعَرَاءِ » .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: من المصلِّين.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جُبَير ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: من المصلين.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: كان له عمل صالح فيما خلا.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: المصلين.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا كثير بن هشام، قال: ثنا جعفر، قال: ثنا ميمون بن مهران، قال: سمعت الضحاك بن قيس يقول على منبره: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدّة، إن يونس كان عبدًا لله ذاكرا، فلما أصابته الشدّة دعا الله فقال الله: ( لَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) فذكره الله بما كان منه، وكان فرعون طاغيا باغيا فلمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ قال الضحاك: فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدّة.

قال أبو جعفر: وقيل: إنما أحدث الصلاة التي أخبر الله عنه بها، فقال: ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) في بطن الحوت.

وقال بعضهم: كان ذلك تسبيحا، لا صلاة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عمران القطان، قال: سمعت الحسن يقول في قوله ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال: فوالله ما كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت; قال عمران: فذكرت ذلك لقتادة، فأنكر ذلك وقال: كان والله يكثر الصلاة في الرخاء.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جُبَير: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ قال: قال لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فلما قالها، قذفه الحوت، وهو مغرب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) : لصار له بطن الحوت قبرًا إلى يوم القيامة.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك، قال: لبث يونس في بطن الحوت أربعين يوما.

وقوله ( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ ) يقول: فقذفناه بالفضاء من الأرض، حيث لا يواريه شيء من شجر ولا غيره; ومنه قول الشاعر:

ورَفَعْـتُ رِجْـلا لا أخـافُ عِثارَهـا وَنَبَــذْتُ بــالبَلدِ العَــرَاءِ ثِيـابِي

يعني بالبلد: الفضاء.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ ) يقول: ألقيناه بالساحل.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ ) بأرض ليس فيها شيء ولا نبات.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( بِالْعَرَاءِ ) قال: بالأرض. وقوله ( وَهُوَ سَقِيمٌ ) يقول: وهو كالصبي المنفوس: لحم نِيء.

كما حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ ( وَهُوَ سَقِيمٌ ) كهيئة الصبيّ.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: خرج به، يعني الحوت، حتى لفظه في ساحل البحر، فطرحه مثل الصبيّ المنفوس، لم ينقص من خلقه شيء.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ما لَفَظَه الحوت حتى صار مثل الصبيّ المنفوس، قد نشر اللحم والعظم، فصار مثل الصبيّ المنفوس، فألقاه في موضع، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين.

وقوله ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) يقول تعالى ذكره: وأنبتنا على يونس شجرة من الشجر التي لا تقوم على ساق، وكل شجرة لا تقوم على ساق كالدُّباء والبِطِّيخ والحَنْظَل ونحو ذلك، فهي عند العرب يَقْطِين.

واختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جُبَير، في قوله ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: هو كل شيء ينبت على وجه الأرض ليس له ساق.

حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جُبَير، في قوله ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: كلّ شيء ينبت ثم يموت من عامه.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: ( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) فقالوا عنده: القرع; قال: وما يجعله أحقّ من البطيخ.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: غير ذات أصل من الدُّبَّاء، أو غيره من نحوه. وقال آخرون: هو القرع.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، أنه قال في هذه الآية: ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.

حدثني مطر بن محمد الضبيّ، قال: ثنا عبد الله بن داود الواسطي، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي، في قوله ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) : كنَّا نحدَّث أنها الدُّبَّاء، هذا القرع الذي رأيتم أنبتها الله عليه يأكل منها.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني أبو صخر، قال: ثني ابن قسيط، أنه سمع أبا هُرَيرة يقول: طرح بالعراء، فأنبت الله عليه يقطينة، فقلنا: يا أبا هريرة وما اليقطينة؟ قال: الشجرة الدُّبَّاء، هيأ الله له أروية وحشية تأكل من خَشاش الأرض - أو هَشاش- فتفشح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت. وقال ابن أبي الصلت قبل الإسلام في ذلك بيتا من شعر:

فَــأَنْبَتَ يَقْطِينــا عَلَيْــه برَحْمَـةٍ مِـنَ اللـه لَـوْلا اللـه أُلْفِـيَ ضَاحِيـا

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن مغيرة في قوله ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.

حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أنبت الله عليه شجرة من يقطين; قال: فكان لا يتناول منها ورقة فيأخذها إلا أروته لبنا، أو قال: شرب منها ما شاء حتى نبت.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: هو القرع، والعرب تسميه الدُّبَّاء.

حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن ورقاء، عن سعيد بن جُبَير في قول الله: ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: هو القرع.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قوله ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال: القرع.

وقال آخرون: كان اليقطين شجرة أظلَّت يونس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب عن سعيد بن جُبَير، قال: اليقطين: شجرة سماها الله يقطينا أظلته، وليس بالقرع. قال: فيما ذُكر أرسل الله عليه دابة الأرض، فجعلت تقرض عروقها، وجعل ورقها يتساقط حتى أفضت إليه الشمس وشكاها، فقال: يا يونس جزعت من حرّ الشمس، ولم تجزع لمئة ألف أو يزيدون تابوا إليّ، فتبت عليهم؟

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( 147 ) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ( 148 ) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ( 149 )

يقول تعالى ذكره: فأرسلنا يونس إلى مئة ألف من الناس، أو يزيدون على مئة ألف. وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول: معنى قوله ( أوْ ) : بل يزيدون.

* ذكر الرواية بذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن الحكم بن عبد الله بن الأزور، عن ابن عباس، في قوله ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال: بل يزيدون، كانوا مئة ألف وثلاثين ألفا.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير، في قوله ( مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال: يزيدون سبعين ألفا، وقد كان العذاب أرسل عليهم، فلما فرقوا بين النساء وأولادها، والبهائم وأولادها، وعجُّوا إلى الله، كشف عنهم العذاب، وأمطرت السماء دما.

حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت زهيرا، عمن سمع أبا العالية، قال: ثني أبيّ بن كعب، أنه سأل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن قوله ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال: يزيدون عشرون ألفا.

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك: معناه إلى مئة ألف أو كانوا يزيدون عندكم، يقول: كذلك كانوا عندكم.

وإنما عنى بقوله ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) أنه أرسله إلى قومه الذين وعدهم العذاب، فلما أظلهم تابوا، فكشف الله عنهم. وقيل: إنهم أهل نينَوَى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل، قال: قال الحسن: بعثه الله قبل أن يصيبه ما أصابه ( فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ )

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال: قوم يونس الذين أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت.

وقيل: إن يونس أرسل إلى أهل نِيْنَوَى بعد ما نبذه الحوت بالعراء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: سمعت أبا هلال محمد بن سليمان، قال: ثنا شهر بن حوشب، قال: ( أتاه جبرائيل، يعني يونس، وقال: انطلق إلى أهل نِينَوَى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم; قال: ألتمس دابة; قال: الأمر أعجل من ذلك، قال: ألتمس حذاء، قال: الأمر أعجل من ذلك، قال: فغضب فانطلق إلى السفينة فركب; فلما ركب احتبست السفينة لا تُقدم ولا تُؤخر; قال: فتساهموا، قال: فسُهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت: أيا حوت إنا لم نجعل يونس لك رزقا، إنما جعلناك له حوزا ومسجدا; قال: فالتقمه الحوت، فانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الأيْلة، ثم انطلق به حتى مر به على دجلة، ثم انطلق به حتى ألقاه في نينوى ) .

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا شهر بن حوشب، عن ابن عباس قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت.

وقوله ( فَآمَنُوا ) يقول: فوحدوا الله الذي أرسل إليهم يونس، وصدقوا بحقيقة ما جاءهم به يونس من عند الله.

وقوله ( فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) يقول: فأخرنا عنهم العذاب، ومتعناهم إلى حين بحياتهم إلى بلوغ آجالهم من الموت.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) : الموت.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) قال: الموت.

وقوله ( فَاسْتَفْتِهِمْ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : سل يا محمد مشركي قومك من قريش.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) : يعني مشركي قريش.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) قال: سلهم، وقرأ: وَيَسْتَفْتُونَكَ قال: يسألونك.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ ( فَاسْتَفْتِهِمْ ) يقول: يا محمد سلهم.

وقوله ( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) : ذكر أن مشركي قريش كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونها، فقال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام : سلهم، وقل لهم: ألربي البنات ولكم البنون؟.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، ( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) ؟ لأنهم قالوا: يعني مشركي قريش: لله البنات، ولهم البنون.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) قال: كانوا يعبدون الملائكة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ( 150 ) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ( 151 ) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 152 )

يعني تعالى ذكره: أم شهد هؤلاء القائلون من المشركين: الملائكة بنات الله خلقي الملائكة وأنا أخلقهم إناثا، فشهدوا هذه الشهادة، ووصفوا الملائكة بأنها إناث.

وقوله ( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ ) يقول تعالى ذكره: ألا إن هؤلاء المشركين من كذبهم ( لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) في قيلهم ذلك.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ) يقول: من كذبهم.

وقوله ( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ ) يقول تعالى ذكره: ألا إن هؤلاء المشركين من كذبهم ( لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) في قيلهم ذلك.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ) يقول: من كذبهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ( 153 )

يقول تعالى ذكره موَبّخا هؤلاء القائلين لله البنات من مشركي قريش: ( أَصْطَفَى ) الله أيها القوم ( الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ) ؟ والعرب إذا وجهوا الاستفهام إلى التوبيخ أثبتوا ألف الاستفهام أحيانا وطرحوها أحيانا، كما قيل: أَذْهَبْتُمْ بالقصر طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا يستفهم بها، ولا يستفهم بها، والمعنى في الحالين واحد، وإذا لم يستفهم في قوله ( أَصْطَفَى الْبَنَاتِ ) ذهبت ألف اصطفى في الوصل، ويبتدأ بها بالكسر، وإذا استفهم فتحت وقطعت.

وقد ذُكر عن بعض أهل المدينة أنه قرأ ذلك بترك الاستفهام والوصل. فأما قرّاء الكوفة والبصرة، فإنهم في ذلك على قراءته بالاستفهام، وفتح ألفه في الأحوال كلها، وهي القراءة التي نختار لإجماع الحجة من القرّاء عليها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 154 ) أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 155 ) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ( 156 ) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 157 )

وقوله ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) يقول: بئس الحكم تحكمون أيها القوم أن يكون لله البنات ولكم البنون، وأنتم لا ترضون البنات لأنفسكم، فتجعلون له ما لا ترضونه لأنفسكم؟

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) يقول: كيف يجعل لكم البنين ولنفسه البنات، ما لكم كيف تحكمون؟.

وقوله ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) يقول: أفلا تتدبرون ما تقولون؟ فتعرفوا خطأه فتنتهوا عن قيله.

وقوله ( أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ) يقول: ألكم حجة تبين صحتها لمن سمعها بحقيقة ما تقولون؟

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ) : أي عذر مبين.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( سُلْطَانٌ مُبِينٌ ) قال حجة.

وقوله ( فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ ) يقول: فأتوا بحجتكم من كتاب جاءكم من عند الله بأن الذي تقولون من أن له البنات ولكم البنين كما تقولون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ ) : أي بعذركم ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: ( فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ ) أن هذا كذا بأن له البنات ولكم البنون.

وقوله ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يقول: إن كنتم صادقين أن لكم بذلك حُجَّة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( 158 ) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 159 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 160 )

يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون بين الله وبين الجنة نسبا.

واختلف أهل التأويل في معنى النسب الذي أخبر الله عنهم أنهم جعلوه لله تعالى، فقال بعضهم: هو أنهم قالوا أعداء الله: إن الله وإبليس أخوان.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) قال: زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى وإبليس أخوان.

وقال آخرون: هو أنهم قالوا: الملائكة بنات الله، وقالوا: الجنة: هي الملائكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) قال: قال كفار قريش: الملائكة بنات الله، فسأل أبو بكر: مَنْ أمهاتهنّ؟ فقالوا: بنات سَرَوات الجنّ، يحسبون أنهم خلقوا مما خلق منه إبليس.

حدثنا عمرو بن يحيى بن عمران بن عفرة، قال: ثنا عمرو بن سعيد الأبح، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، في قوله ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) قالت اليهود: إن الله تبارك وتعالى تزوّج إلى الجنّ، فخرج منهما الملائكة، قال: سبحانه سبح نفسه.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) قال: الجنة: الملائكة، قالوا: هنّ بنات الله.

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) : الملائكة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) قال: بين الله وبين الجنة نسبا افتروا.

وقوله ( وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: ولقد علمت الجنة إنهم لمشهدون الحساب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) أنها ستُحضر الحساب.

وقال آخرون: معناه: إن قائلي هذا القول سيُحضرون العذاب في النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ ( إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) إن هؤلاء الذين قالوا هذا لمحضَرُون: لمعذّبون. وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: إنهم لمحضرون العذاب، لأن سائر الآيات التي ذكر فيها الإحضار في هذه السورة، إنما عُنِيَ به الإحضار في العذاب، فكذلك في هذا الموضع.

وقوله ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) يقول تعالى ذكره تنـزيهًا لله، وتبرئة له مما يضيف إليه هؤلاء المشركون به، ويفترون عليه، ويصفونه، من أن له بنات، وأن له صاحبة.

وقوله ( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) يقول: ولقد علمت الجنَّةُ أن الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله لمحضرون العذاب، إلا عباد الله الذين أخلصَهُمْ لرحمته، وخلقهم لجنته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ( 161 ) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ( 162 ) إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( 163 ) وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ( 164 )

يقول تعالى ذكره: ( فَإِنَّكُمْ ) أيها المشركون بالله ( وَمَا تَعْبُدُونَ ) من الآلهة والأوثان ( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ) يقول: ما أنتم على ما تعبدون من دون الله بفاتنين: أي بمضِلِّينَ أحدًا ( إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) يقول: إلا أحدًا سبق في علمي أنه صال الجحيم.

وقد قيل: إن معنى ( عَلَيْهِ ) في قوله ( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ) بمعنى به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ) يقول: لا تضلون أنتم، ولا أضل منكم إلا من قد قضيت أنه صال الجحيم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) يقول: ما أنتم بفاتنين على أوثانكم أحدا، إلا من قد سبق له أنه صال الجحيم.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن خالد، قال: قلت للحسن، قوله ( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) إلا من أوجب الله عليه أن يَصْلَى الجحيم.

حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن حماد بن سلمة، عن حميد، قال: سألت الحسن، عن قول الله: ( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) قال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من كان في علم الله أنه سيصْلَى الجحيم.

حدثنا إن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم ( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) : إلا من قدر عليه أنه يَصْلَى الجحيم.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن العشرة الذين دخلوا على عمر بن عبد العزيز، وكانوا متكلمين كلهم، فتكلموا، ثم إن عمر بن عبد العزيز تكلم بشيء، فظننا أنه تكلم بشيء رد به ما كان في أيدينا، فقال لنا: هل تعرفون تفسير هذه الآية: ( فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) قال: إنكم والآلهة التي تعبدونها لستم بالذي تفتنون عليها إلا من قَضَيْت عليه أنه يَصْلَى الجحيم.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ( إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيم ) قال: ما أنتم بمضلين إلا من كتب عليه إنه يصلى الجحيم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ) حتى بلغ: ( صَالِ الْجَحِيمِ ) يقول: ما أنتم بمضلين أحدا من عبادي بباطلكم هذا، إلا من تولاكُم بعمل النار.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط عن السديّ ( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ) بمضلين ( إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) إلا من كتب الله أنه يصلى الجحيم.

حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) يقول: لا تضلون بآلهتكم أحدا إلا من سبقت له الشقاوة، ومن هو صال الجحيم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) يقول: لا تفتنون به أحدا، ولا تضلونه، إلا من قضى الله أنه صال الجحيم، إلا من قد قضى أنه من أهل النار.

وقيل: ( بِفَاتِنِينَ ) من فتنت أفتن، وذلك لغة أهل الحجاز، وأما أهل نجد فإنهم يقولون: أفتنته فأنا أفتنه. وقد ذُكر عن الحسن أنه قرأ: « إلا مَنْ هُوَ صَالُ الجَحِيمِ » برفع اللام من « صالِ » ، فإن كان أراد بذلك الجمع كما قال الشاعر:

إذَا مــا حــاتِم وُجِـدَ ابْـنَ عَمِّـي مَجْدَنـــا مــنْ تَكَــلَّمُ أجْمعِينــا

فقال: أجمعينا، ولم يقل: تكلموا، وكما يقال في الرجال: من هو إخوتك، يذهب بهو إلى الاسم المجهول ويخرج فعله على الجمع، فذلك وجه وإن كان غيره أفصح منه; وإن كان أراد بذلك واحدا فهو عند أهل العربية لحن، لأنه لحن عندهم أن يقال: هذا رامٌ وقاضٌ، إلا أن يكون سمع في ذلك من العرب لغة مقلوبة، مثل قولهم: شاكُ السلاح، وشاكي السلاح، وعاث وعثا وعاق وعقا، فيكون لغة، ولم أسمع أحدا يذكر سماع ذلك من العرب.

وقوله ( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) وهذا خبر من الله عن قيل الملائكة أنهم قالوا: وما منا معشر الملائكة إلا من له مقام في السماء معلوم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) قال: الملائكة.

حدثني يونس، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله ( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) قال الملائكة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) هؤلاء الملائكة.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ كان مسروق بن الأجدع يروي عن عائشة أنها قالت: قال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : « ما فِي سَماءِ الدُّنْيا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلا عَلَيْه مَلَكٌ ساجِد أوْ قائم » . فذلك قول الملائكة: وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ

حدثني موسى بن إسحاق الحَبَئِيُّ المعروف بابن القوّاس، قال: ثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: لو أن قطرة من زقوم جهنم أنـزلت إلى الدنيا، لأفسدت على الناس معايشهم، وإن ناركم هذه لتعوذ من نار جهنم.

حدثنا موسى بن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: قال عبد الله بن مسعود: إن ناركم هذه لما أنـزلت، ضربت في البحر مرتين ففترت، فلولا ذلك لم تنتفعوا بها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( 165 ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ( 166 ) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ( 167 ) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ ( 168 ) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 169 )

يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل ملائكته: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) لله لعبادته ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) له، يعني بذلك المصلون له.

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقال به أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عليّ بن الحسن بن شفيق المَرْوزي، قال: ثنا أبو معاذ الفضل بن خالد، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول قوله ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) كان مسروق بن الأجدع، يروي عن عائشة أنها قالت: قال نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : « مَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أوْ قائم » ، فذلك قول الله: وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ

حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: قال عبد الله: إن من السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدمه قائما; قال: ثم قرأ: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله، قال: إن من السموات سماءً ما فيها موضع إلا فيه ملك ساجد، أو قدماه قائم، ثم قرأ: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا الجريري، عن أبي نضرة، قال: كان عمر إذا أقيمت الصلاة أقبل على الناس بوجهه، فقال: يا أيها الناس استَوُوا، إن الله إنما يريد بكم هدى الملائكة ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) استَوُوا، تقدّم أنت يا فلان، تأخر أنت أي هذا، فإذا استَوُوا تقدّم فكبر.

حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثني أبو أسامة، قال: ثني الجريري سعيد بن إياس أبو مسعود، قال: ثني أبو نضرة، قال: كان عمر إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه، ثم قال: أقيموا صفوفكم واستووا فإنما يريد الله بكم هدي الملائكة، يقول: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) ثم ذكر نحوه.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال; ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال: يعني الملائكة ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) قال: الملائكة صافون تسَبِّح لله عز وجل.

حدثني محمد بن عمرو. قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال: الملائكة.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال: الملائكة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال: صفوف في السماء ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) : أي المصلون، هذا قول الملائكة يثنون بمكانهم من العبادة.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال: للصلاة.

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط عن السديّ، قال: وذكر السديّ، عن عبد الله، قال: ما في السماء موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه، ساجدا أو قائما أو راكعا، ثم قرأ هذه الآية ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال: الملائكة، هذا كله لهم.

وقوله ( وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره: وكان هؤلاء المشركون من قريش يقولون قبل أن يبعث إليهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نبيا، ( لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ ) يعني كتابا أنـزل من السماء كالتوراة والإنجيل، أو نبي أتانا مثل الذي أتى اليهود والنصارى ( لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ ) الذين أخلصهم لعبادته، واصطفاهم لجنته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) قال: قد قالت هذه الأمة ذاك قبل أن يبعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : لو كان عندنا ذكر من الأولين، لكنا عباد الله المخلصين; فلما جاءهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كفروا به، فسوف يعلمون.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله ( ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ ) قال: هؤلاء ناس من مشركي العرب قالوا: لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين، أو جاءنا علم من علم الأولين قال: قد جاءكم محمد بذلك.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: رجع الحديث إلى الأولين أهل الشرك ( وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ )

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) هذا قول مشركي أهل مكة، فلما جاءهم ذكر الأولين وعلم الآخرين، كفروا به فسوف يعلمون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 170 ) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( 171 ) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ( 172 ) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( 173 )

يقول تعالى ذكره: فلما جاءهم الذكر من عند الله كفروا به، وذلك كفرهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبما جاءهم به من عند الله من التنـزيل والكتاب، يقول الله: فسوف يعلمون إذا وردوا عليّ ماذا لهم من العذاب بكفرهم بذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ قال: لما جاء المشركين من أهل مكة ذكر الأولين وعلم الآخرين كفروا بالكتاب ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) يقول: قد جاءكم محمد بذلك، فكفروا بالقرآن وبما جاء به محمد.

وقوله ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) يقول تعالى ذكره: ولقد سبق منا القول لرسلنا إنهم لهم المنصورون: أي مضى بهذا منا القضاء والحكم في أمّ الكتاب، وهو أنهم لهم النُّصرة والغَلبة بالحجج.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ) حتى بلغ: ( لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) قال: سبق هذا من الله لهم أن ينصرهم.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) يقول: بالحجج.

وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين بالسعادة. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « ولقد سبقت كلمتنا على عبادنا المرسلين » فجعلت على مكان اللام، فكأن المعنى: حقت عليهم ولهم، كما قيل: على مُلك سليمان، وفي مُلك سليمان، إذ كان معنى ذلك واحدا.

وقوله ( وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) يقول: وإن حزبنا وأهل ولايتنا لهم الغالبون، يقول: لهم الظفر والفلاح على أهل الكفر بنا، والخلاف علينا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( 174 ) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( 175 ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( 176 ) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ( 177 )

يعني تعالى ذكره بقوله ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ) : فأعرض عنهم إلى حين.

واختلف أهل التأويل في هذا الحين، فقال بعضهم: معناه إلى الموت.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ) : أي إلى الموت.

وقال آخرون: إلى يوم بدر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ) قال: حتى يوم بدر. وقال آخرون: معنى ذلك: إلى يوم القيامة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ) قال: يوم القيامة.

وهذا القول الذي قاله السديّ، أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنـزيل، وذلك أن الله توعدهم بالعذاب الذي كانوا يستعجلونه، فقال: ( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ) ، وأمر نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يُعْرِض عليهم إلى مجيء حينه. فتأويل الكلام: فتول عنهم يا محمد إلى حين مجيء عذابنا، ونـزوله بهم.

وقوله ( وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) : وأنظرهم فسوف يرون ما يحل بهم من عقابنا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) حين لا ينفعهم البصر.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) يقول: أنظرهم فسوف يبصرون ما لهم بعد اليوم، قال: يقول: يبصرون يوم القيامة ما ضيعوا من أمر الله، وكفرهم بالله ورسوله وكتابه، قال: فأبصرهم وأبصر، واحد.

وقوله ( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ) يقول: فبنـزول عذابنا بهم يستعجلونك يا محمد، وذلك قولهم للنبي مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .

وقوله ( فَإِذَا نـزلَ بِسَاحَتِهِمْ ) يقول: فإذا نـزل بهؤلاء المشركين المستعجلين بعذاب الله العذاب. العرب تقول: نـزل بساحة فلان العذاب والعقوبة، وذلك إذا نـزل به; والساحة: هي فناء دار الرجل، ( فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ) يقول: فبئس صباح القوم الذين أنذرهم رسولنا نـزول ذلك العذاب بهم فلم يصدقوا به.

ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد قال ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( فَإِذَا نـزلَ بِسَاحَتِهِمْ ) قال: بدارهم، ( فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ) قال: بئس ما يصبحون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( 178 ) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( 179 ) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 180 ) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( 181 ) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 182 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين، وخلهم وقريتهم على ربهم ( حَتَّى حِينٍ ) يقول: إلى حين يأذن الله بهلاكهم ( وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) يقول: وانظرهم فسوف يرون ما يحل بهم من عقابنا في حين لا تنفعهم التوبة، وذلك عند نـزول بأس الله بهم. وقوله ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) يقول تعالى ذكره تنـزيها لربك يا محمد وتبرئة له. ( رَبِّ الْعِزَّةِ ) يقول: ربّ القوّة والبطش ( عَمَّا يَصِفُونَ ) يقول: عمَّا يصف هؤلاء المفترون عليه من مشركي قريش، من قولهم ولد الله، وقولهم: الملائكة بنات الله، وغير ذلك من شركهم وفريتهم على ربهم.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) : أي عما يكذبون يسبح نفسه إذا قيل عليه البهتان.

وقوله ( وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) يقول: وأمة من الله للمرسلين الذين أرسلهم إلى أممهم الذي ذكرهم في هذه السورة وغيرهم من فزع يوم العذاب الأكبر، وغير ذلك من مكروه أن ينالهم من قبل الله تبارك وتعالى.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : « إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين » .

( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول تعالى ذكره: والحمد لله رب الثقلين الجن والإنس، خالصا دون ما سواه،لأن كلّ نعمة لعباده فمنه، فالحمد له خالص لا شريك له، كما لا شريك له في نعمه عندهم، بل كلها من قبله، ومن عنده.

( آخر تفسير سورة الصافات )

 

تفسير سورة ص

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القول في تأويل قوله تعالى : ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ( 1 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( 2 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله عزّ وجلّ: ( ص ) فقال بعضهم: هو من المصاداة, من صاديت فلانا, وهو أمر من ذلك, كأن معناه عندهم: صاد بعملك القرآن: أي عارضه به, ومن قال هذا تأويله, فإنه يقرؤه بكسر الدال, لأنه أمر, وكذلك رُوي عن الحسن .

* ذكر الرواية بذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال الحسن ( ص ) قال: حادث القرآن.

وحُدثت عن عليّ بن عاصم, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن, في قوله ( ص ) قال: عارض القرآن بعملك.

حُدثت عن عبد الوهاب, عن سعيد, عن قتادة, عن الحسن, في قوله ( ص والقرآن ) قال: عارض القرآن, قال عبد الوهاب: يقول اعرضه على عملك, فانظر أين عملك من القرآن.

حدثني أحمد بن يوسف, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا حجاج, عن هارون, عن إسماعيل, عن الحسن أنه كان يقرأ: ( ص والقرآن ) بخفض الدال, وكان يجعلها من المصاداة, يقول: عارض القرآن.

وقال آخرون: هي حرف هجاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ: أما ( ص ) فمن الحروف. وقال آخرون: هو قسم أقسم الله به.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( ص ) قال: قسم أقسمه الله, وهو من أسماء الله.

وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( ص ) قال: هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به. وقال آخرون: معنى ذلك: صدق الله.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن المسيب بن شريك, عن أبي روق, عن الضحاك فى قوله ( ص ) قال: صدق الله.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر, بسكون الدال, فأما عبد الله بن أبي إسحاق فإنه كان يكسرها لاجتماع الساكنين, ويجعل ذلك بمنـزلة الأداة, كقول العرب: تركته حاثِ باثِ, وخازِ بازِ يخفضان من أجل أن الذي يلي آخر الحروف ألف فيخفضون مع الألف, وينصبون مع غيرها, فيقولون حيث بيث, ولأجعلنك في حيص بيص: إذا ضيق عليه. وأما عيسى بن عمر فكان يوفق بين جميع ما كان قبل آخر الحروف منه ألف, وما كان قبل آخره ياء أو واو فيفتح جميع ذلك وينصبه, فيقول: ص و ق و ن ويس, فيجعل ذلك مثل الأداة كقولهم: ليتَ, وأينَ وما أشبه ذلك.

والصواب من القراءة في ذلك عندنا السكون في كل ذلك, لأن ذلك القراءة التي جاءت بها قرّاء الأمصار مستفيضة فيهم, وأنها حروف هجاء لأسماء المسميات, فيعرب إعراب الأسماء والأدوات والأصوات, فيسلك به مسالكهن, فتأويلها إذ كانت كذلك تأويل نظائرها التي قد تقدم بيانها قبل فيما مضى.

وكان بعض أهل العربية يقول: ( ص ) في معناها كقولك: وجب والله, نـزل والله, وحق والله, وهي جواب لقوله ( والقرآن ) كما تقول: حقا والله, نـزل والله.

وقوله ( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) وهذا قسم أقسمه الله تبارك وتعالى بهذا القرآن فقال: ( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ )

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( ذِي الذِّكْرِ ) فقال بعضهم: معناه: ذي لشرف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا نصر بن عليّ, قال: ثنا أبو أحمد, عن قيس, عن أبي حصين, عن سعيد ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) قال: ذي الشرف.

حدثنا نصر بن عليّ وابن بشار, قالا ثنا أبو أحمد, عن مسعر, عن أبي حصين ( ذي الذكر ) : ذي الشرف.

قال: ثنا أبو أحمد, عن سفيان, عن إسماعيل, عن أبي صالح أو غيره ( ذي الذكر ) : ذي الشرف.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( والقرآن ذي الذكر ) قال: ذي الشرف.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا معاوية بن هشام, عن سفيان, عن يحيى بن عُمارة, عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس ( ص والقرآن ذي الذكر ) ذي الشرف.

وقال بعضهم: بل معناه: ذي التذكير, ذكَّركمُ الله به.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن المسيب بن شريك, عن أبي روق, عن الضحاك ( ذي الذكر ) قال: فيه ذكركم, قال: ونظيرتها: لَقَدْ أَنْـزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ .

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( ذي الذكر ) : أي ما ذكر فيه.

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ذي التذكير لكم, لأن الله أتبع ذلك قوله ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) فكان معلوما بذلك أنه إنما أخبر عن القرآن أنه أنـزله ذكرًا لعباده ذكرهم به, وأن الكفار من الإيمان به في عزّة وشقاق.

واختلف في الذي وقع عليه اسم القسم, فقال بعضهم; وقع القسم على قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ )

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة. ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ) قال: ها هنا وقع القسم.

وكان بعض أهل العربية يقول: « بل » دليل على تكذيبهم, فاكتفى ببل من جواب القسم, وكأنه قيل: ص, ما الأمر كما قلتم, بل أنتم في عزة وشقاق. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: زعموا أن موضع القسم في قوله إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ وقال بعض نحويي الكوفة: قد زعم قوم أن جواب ( والقرآن ) قوله إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ قال: وذلك كلام قد تأخر عن قوله ( والقرآن ) تأخرا شديدا, وجرت بينهما قصص مختلفة, فلا نجد ذلك مستقيما في العربية, والله أعلم.

قال: ويقال: إن قوله ( والقُرآنِ ) يمين اعترض كلام دون موقع جوابها, فصار جوابها للمعترض ولليمين, فكأنه أراد: والقرآن ذي الذكر, لَكَمْ أهلكنا, فلما اعترض قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ) صارت كم جوابا للعزة واليمين. قال: ومثله قوله وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا اعترض دون الجواب قوله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فصارت قد أفلح تابعة لقوله: فألهمها, وكفى من جواب القسم, فكأنه قال: والشمس وضحاها لقد أفلح.

والصواب من القول في ذلك عندي, القول الذي قاله قتادة, وأن قوله ( بَلْ ) لما دلّت على التكذيب وحلَّت محلّ الجواب استغني بها من الجواب, إذ عرف المعنى, فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ما الأمر, كما يقول هؤلاء الكافرون: بل هم في عزّة وشقاق.

وقوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) يقول تعالى ذكره: بل الذين كفروا بالله من مشركي قريش في حمية ومشاقة, وفراق لمحمد وعداوة, وما بهم أن لا يكونوا أهل علم, بأنه ليس بساحر ولا كذاب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( في عزة وشقاق ) قال: مُعَازِّين.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( في عزة وشقاقٍ ) : أي في حَمِيَّة وفراق.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) قال: يعادون أمر الله ورسله وكتابه, ويشاقون, ذلك عزّة وشِقاق, فقلت له: الشقاق: الخلاف, فقال: نعم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ( 3 )

يقول تعالى ذكره: كثيرا أهلكنا من قبل هؤلاء المشركين من قريش الذين كذّبوا رسولنا محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما جاءهم به من عندنا من الحقّ ( مِنْ قَرْنٍ ) يعني: من الأمم الذين كانوا قبلهم, فسلكوا سبيلهم في تكذيب رسلهم فيما أتوهم به من عند الله ( فَنَادَوْا ) يقول: فعجوا إلى ربهم وضجوا واستغاثوا بالتوبة إليه, حين نـزل بهم بأس الله وعاينوا به عذابه فرارا من عقابه, وهربا من أليم عذابه ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول: وليس ذلك حين فرار ولا هرب من العذاب بالتوبة, وقد حَقَّت كلمة العذاب عليهم, وتابوا حين لا تنفعهم التوبة, واستقالوا في غير وقت الإقالة. وقوله ( مَنَاصٍ ) مفعل من النوص, والنوص في كلام العرب: التأخر, والمناص: المفرّ; ومنه قول امرئ القيس:

أمِـنْ ذِكْـر سَـلْمَى إذْ نـأتْكَ تَنُوصُ فَتقْصِــرُ عَنْهــا خَـطْوَةً وَتَبـوصُ

يقول: أو تقدم يقال من ذلك: ناصني فلان: إذا ذهب عنك, وباصني: إذا سبقك, وناض في البلاد: إذا ذهب فيها, بالضاد. وذكر الفراء أن العقيلي أنشده:

إذَا عـاشَ إسْـحاقُ وَشَـيْخُهُ لَـمْ أُبَلْ فَقِيـدًا وَلَـمْ يَصْعُـبْ عَـليَّ مَنـاضُ

وَلَـوْ أشْـرَفَتْ مِـنْ كُفَّةِ السِّتْرِ عاطِلا لَقُلْـتُ غَـزَالٌ مَـا عَلَيْـهِ خُضَـاضُ

والخُضاض: الحلي.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن أبي إسحاق عن التميمي, عن ابن عباس في قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس بحين نـزو, ولا حين فرار.

حدثنا أبو كُريب, قال: ثنا ابن عطية, قال: ثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن التميمي, قال: قلت لابن عباس: أرأيت قول الله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس بحين نـزو ولا فرار ضبط القوم.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن أبي إسحاق الهمداني, عن التميمي, قال: سألت ابن عباس, قول الله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس حين نـزو ولا فرار.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس حين نـزو ولا فرار.

حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول: ليس حين مَغاث.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس هذا بحين فرار.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: نادى القوم على غير حين نداء, وأرادوا التوبة حين عاينوا عذاب الله فلم يقبل منهم ذلك.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: حين نـزل بهم العذاب لم يستطيعوا الرجوع إلى التوبة, ولا فرارا من العذاب.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول: وليس حين فرار.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) ولات حين مَنْجى ينجون منه, ونصب حين في قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) تشبيها للات بليس, وأضمر فيها اسم الفاعل.

وحكى بعض نحويِّي أهل البصرة الرفع مع لات في حين زعم أن بعضهم رفع « ولاتَ حينُ مَناصٍ » فجعله في قوله ليس, كأنه قال: ليس وأضمر الحين; قال: وفي الشعر:

طَلَبُــــوا صُلْحَنـــا وَلاتَ أوَان فَأَجَبْنَـــا أنْ لَيْسَ حِـــينَ بقــاءِ

فجرّ « أوان » وأضمر الحين إلى أوان, لأن لات لا تكون إلا مع الحين; قال: ولا تكون لات إلا مع حين. وقال بعض نحويي الكوفة: من العرب من يضيف لات فيخفض بها, وذكر أنه أنشد:

لات ساعة مندم

بخفض الساعة; قال: والكلام أن ينصب بها, لأنها في معنى ليس, وذكر أنه أنشد:

تَذَكَّــرَ حُــبَّ لَيْــلَى لاتَ حِينـا وأضْحَـى الشَّـيْبُ قَـدْ قَطَـعَ القَرِينا

قال: وأنشدني بعضهم:

طَلَبُــــوا صُلْحَنـــا وَلاتَ أوَانٍ فأجَبْنَـــا أنْ لَيْسَ حَـــينَ بَقــاءِ

بخفض « أوانٍ » ; قال: وتكون لات مع الأوقات كلها.

واختلفوا في وجه الوقف على قراءة: ( لاتَ حينَ ) فقال بعض أهل العربية: الوقف عليه ولاتْ بالتاء, ثم يبتدأ حين مناص, قالوا: وإنما هي « لا » التي بمعنى: « ما » , وإن في الجحد وُصلت بالتاء, كما وُصلت ثم بها, فقيل: ثمت, وكما وصلت ربّ فقيل: ربت.

وقال آخرون منهم: بل هي هاء زيدت في لا فالوقف عليها لاه, لأنها هاء زيدت للوقف, كما زيدت في قولهم:

العاطِفُونَـةَ حِـينَ مـا مِـنْ عـاطِفٍ والمُطْعِمُونَــةَ حِـينَ أيْـنَ المَطْعَـمُ

فإذا وُصلت صارت تاء. وقال بعضهم: الوقف على « لا » , والابتداء بعدها تحين, وزعم أن حكم التاء أن تكون في ابتداء حين, وأوان, والآن; ويستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر:

تَــوَلّى قَبْــلَ يَـوْمِ سَـبْيٍ جُمانـا وَصَلِينــا كمــا زَعَمْــتِ تَلانـا

وأنه ليس ها هنا « لا » فيوصل بها هاء أو تاء; ويقول: إن قوله ( لاتَ حِينَ ) إنما هي: ليس حين, ولم توجد لات في شيء من الكلام.

والصواب من القول في ذلك عندنا: أن « لا » حرف جحد كما، وإن وَصلت بها تصير في الوصل تاء, كما فعلت العرب ذلك بالأدوات, ولم تستعمل ذلك كذلك مع « لا » المُدَّة إلا للأوقات دون غيرها, ولا وجه للعلة التي اعتل بها القائل: إنه لم يجد لات في شيء من كلام العرب, فيجوز توجيه قوله ( وَلاتَ حِينَ ) إلى ذلك, لأنها تستعمل الكلمة في موضع, ثم تستعملها في موضع آخر بخلاف ذلك, وليس ذلك بأبعد في القياس من الصحة من قولهم: رأيت بالهمز, ثم قالوا: فأنا أراه بترك الهمز لما جرى به استعمالهم, وما أشبه ذلك من الحروف التي تأتي في موضع على صورة, ثم تأتي بخلاف ذلك في موضع آخر للجاري من استعمال العرب ذلك بينها. وأما ما استشهد به من قول الشاعر: « وكما زعمت تلانا » , فإن ذلك منه غلط في تأويل الكلمة; وإنما أراد الشاعر بقوله: « وَصِلِينَا كما زَعمْتِ تَلانا » : وصلينا كما زعمت أنت الآن, فأسقط الهمزة من أنت, فلقيت التاء من زعمت النون من أنت وهي ساكنة, فسقطت من اللفظ, وبقيت التاء من أنت, ثم حذفت الهمزة من الآن, فصارت الكلمة في اللفظ كهيئة تلان, والتاء الثانية على الحقيقة منفصلة من الآن, لأنها تاء أنت. وأما زعمه أنه رأى في المصحف الذي يقال له الإمام التاء متصلة بحين, فإن الذي جاءت به مصاحف المسلمين في أمصارها هو الحجة على أهل الإسلام, والتاء في جميعها منفصلة عن حين, فلذلك اخترنا أن يكون الوقف على الهاء في قوله ( وَلاتَ حِينَ )

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 4 ) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( 5 )

يقول تعالى ذكره: وعجب هؤلاء المشركون من قريش أن جاءهم منذر ينذرهم بأس الله على كفرهم به من أنفسهم, ولم يأتهم ملك من السماء بذلك ( وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) يقول: وقال المنكرون وحدانية الله: هذا, يعنون محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, ساحر كذّاب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ )

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

وقوله ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) يقول: وقال هؤلاء الكافرون الذين قالوا: محمد ساحر كذاب: أجعل محمد المعبودات كلها واحدا, يسمع دعاءنا جميعنا, ويعلم عبادة كل عابد عبدَه منا ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) : أي إن هذا لشيء عجيب.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) قال: عجب المشركون أن دُعوا إلى الله وحده, وقالوا: يسمع لحاجاتنا جميعا إله واحد! ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة.

وكان سبب قيل هؤلاء المشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه, من ذلك, أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال لهم: ( أسألكم أن تجيبوني إلى واحدة تدين لكم بها العرب, وتعطيكم بها الخراج العجم ، فقالوا: وما هي؟ فقال:تقولون لا إله إلا الله, فعند ذلك قالوا: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) تعجبا منهم من ذلك ) .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع, قالا ثنا أبو أسامة, قال: ثنا الأعمش, قال: ثنا عباد, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, قال: ( لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا, ويفعل ويفعل, ويقول ويقول, فلو بعثت إليه فنهيته; فبعث إليه, فجاء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فدخل البيت, وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل, قال: فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه, فوثب فجلس في ذلك المجلس, ولم يجد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مجلسا قرب عمه, فجلس عند الباب, فقال له أبو طالب: أي ابن أخي, ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم, وتقول وتقول; قال: فأكثروا عليه القول, وتكلم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: « يا عَمّ إنّي أُرِيدهُمْ عَلى كَلِمَةٍ وَاحِدةٍ يَقُولُونَهَا, تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ, وتُؤَدِّي إلَيْهِم بِها العَجَمُ الجِزْيَةَ » , ففزعوا لكلمته ولقوله, فقال القوم: كلمة واحدة؟ نعم وأبيك عَشْرًا; فقالوا: وما هي؟ فقال أبو طالب: وأيّ كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: « لا إلَهَ إلا الله » ; قال: فقاموا فزِعين ينفضون ثيابهم, وهم يقولون: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) قال: ونـزلت من هذا الموضع إلى قوله لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ اللفظ لأبي كريب.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا معاوية بن هشام, عن سفيان, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس, قال: مرض أبو طالب, فأتاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يعوده, وهم حوله جلوس, وعند رأسه مكان فارغ, فقام أبو جهل فجلس فيه, فقال أبو طالب: يا ابن أخي ما لقومك يشكونك؟ قال: يا عَمّ أُرِيدُهُمْ عَلى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ, وتُؤَدِّي إلَيْهِمْ بِهَا العَجَمُ الجِزْيَةَ قال: ما هي؟ قال: لا إلَهَ إلا الله « فقاموا وهم يقولون: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ونـزل القرآن: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ذي الشرف بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ حتى قوله ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) . »

حدثنا ابن وكيع, قال: ثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان, عن الأعمش, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, قال: مرض أبو طالب, ثم ذكر نحوه, إلا أنه لم يقل ذي الشرف, وقال: إلى قوله ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) .

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن الأعمش, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد بن جُبَير, قال: مرض أبو طالب, قال: فجاء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يعوده, فكان عند رأسه مقعدُ رجل, فقام أبو جهل, فجلس فيه, فشَكَوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى أبي طالب, وقالوا: إنه يقع في آلهتنا, فقال: يا ابن أخي ما تريد إلى هذا؟ قال: « يا عمّ إنَّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ, وتُؤَدِّي إلَيْهِمُ العَجَمُ الْجِزْيَةَ » قال: وما هي؟ قال: « لا إلَهَ إلا الله » , فقالوا: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ( 6 ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ( 7 )

يقول تعالى ذكره: وانطلق الأشراف من هؤلاء الكافرين من قريش, القائلين: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا بأن امضُوا فاصبروا على دينكم وعبادة آلهتكم. فـ « أن » من قوله ( أَنِ امْشُوا ) في موضع نصب يتعلق انطلقوا بها, كأنه قيل: انطلقوا مشيا, ومضيا على دينكم. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « وَانْطَلَقَ المَلأ مِنْهُمْ يَمْشُونَ أنِ اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ » . وذُكر أن قائل ذلك كان عُقْبَة بن أبي مُعيط.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد: ( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ ) قال: عقبة بن أبى معيط.

وقوله ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) : أي إن هذا القول الذي يقول محمد, ويدعونا إليه, من قول لا إله إلا الله, شيء يريده منا محمد يطلب به الاستعلاء علينا, وأن نكون له فيه أتباعا ولسنا مجيبيه إلى ذلك.

وقوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) اختلف أهل التأويل في تأويله, فقال بعضهم: معناه: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من البراءة من جميع الآلهة إلا من الله تعالى ذكره, وبهذا الكتاب الذي جاء به في الملة النصرانية, قالوا: وهي الملة الآخرة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) يقول: النصرانية.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) يعني النصرانية; فقالوا: لو كان هذا القرآن حقا أخبرتنا به النصارى.

حدثني محمد بن إسحاق, قال: ثنا يحيى بن معين, قال: ثنا ابن عيينة, عن ابن أبي لبيد, عن القرطبي في قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال: ملة عيسى.

حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط عن السديّ ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) النصرانية.

وقال آخرون: بل عنوا بذلك: ما سمعنا بهذا في ديننا دين قريش.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بَزّة, عن مجاهد, في قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال: ملة قريش.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال: ملة قريش.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) : أي في ديننا هذا, ولا في زماننا قَطُّ.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال: الملة الآخرة: الدين الآخر. قال: والملة الدين. وقيل: إن الملأ الذين انطلقوا نفر من مشيخة قريش, منهم أبو جهل, والعاص بن وائل, والأسود بن عبد يغوث.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ أن أناسا من قُرَيش اجتمعوا, فيهم أبو جهل بن هشام, والعاص بن وائل, والأسود بن المطلب, والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش, فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي طالب, فلنكلمه فيه, فلينصفنا منه, فيأمره فليكفّ عن شتم آلهتنا, وندعه وإلهه الذي يَعبُد, فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ, فيكون منا شيء, فتعيرنا العرب فيقولون: تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه, قال: فبعثوا رجلا منهم يُدعى المطَّلب, فاستأذن لهم على أبي طالب, فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم يستأذنون عليك, قال: أدخلهم; فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا, فأنصفنا من ابن أخيك, فمُره فليكفّ عن شتم آلهتنا, ونَدَعَه وإلهه; قال: فبعث إليه أبو طالب; فلما دخل عليه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم, وقد سألوك النَّصَف أن تكفّ عن شتم آلهتهم, ويدعوك وإلهك; قال: فقال: « أي عم أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟ » قال: وإلامَ تَدْعُوهُمْ؟ قال: « أدعوهم إلى أن يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ وَيَمْلِكُونَ بِهَا العَجَمَ » ; قال: فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها, قال: « تَقُولُونَ لا إلَهَ إلا الله » . قال: فنفروا وقالوا: سلنا غير هذه, قال: « لَوْ جِئْتُمُونِي بالشَّمْسِ حتى تَضَعُوها في يَدِي ما سأَلْتُكُمْ غيرَها » ; قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابا وقالوا: والله لنشتمنك والذي يأمرك بهذا ( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) .. إلى قوله ( إِلا اخْتِلاقٌ ) وأقبل على عمه, فقال له عمه: يا ابن أخي ما شططت عليهم, فأقبل على عمه فدعاه, فقال: « قُلْ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ, تَقُولُ: لا إلَهَ إلا الله » , فقال: لولا أن تعيبكم بها العرب يقولون جزع من الموت لأعطيتكها, ولكن على مِلَّة الأشياخ; قال: فنـزلت هذه الآية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمى, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) قال: نـزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب فكلموه في النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

وقوله ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين في القرآن: ما هذا القرآن إلا اختلاق: أي كذب اختلقه محمد وتخرَّصه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) يقول: تخريص.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) قال: كذب.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) : يقول: كذب.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) إلا شيء تخْلُقه.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) اختلقه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) قالوا: إن هذا إلا كذب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ( 8 ) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ( 9 )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين من قريش: أأنـزل على محمد الذكر من بيننا فخصّ به, وليس بأشرف منا حسبا. وقوله ( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ) يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين أن لا يكونوا أهل علم بأن محمدا صادق, ولكنهم في شك من وحينا إليه, وفي هذا القرآن الذي أنـزلناه إليه أنه من عندنا ( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ) يقول: بل لم ينـزل بهم بأسنا, فيذوقوا وبال تكذيبهم محمدا, وشكهم في تنـزيلنا هذا القرآن عليه, ولو ذاقوا العذاب على ذلك علموا وأيقنوا حقيقة ما هم به مكذِّبون, حين لا ينفعهم علمهم

( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) يقول تعالى ذكره: أم عند هؤلاء المشركين المنكرين وحي الله إلى محمد خزائن رحمة ربك, يعنى مفاتيح رحمة ربك يا محمد, العزيز في سلطانه, الوهاب لمن يشاء من خلقه, ما يشاء من ملك وسلطان ونبوة, فيمنعوك يا محمد, ما من الله به عليك من الكرامة, وفضَّلك به من الرسالة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ ( 10 ) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ ( 11 )

يقول تعالى ذكره: أم لهؤلاء المشركين الذين هم في عزّة وشقاق ( مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) فإنه لا يُعازُّني ويُشاقُّني من كان في مُلكي وسلطاني. وقوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: وإن كان لهم ملك السموات والأرض وما بينهما, فليصعدوّا في أبواب السماء وطرقها, فإن كان له مُلك شيء لم يتعذر عليه الإشراف عليه, وتفقُّده وتعهُّده.

واختلف أهل التأويل في معنى الأسباب التي ذكرها الله في هذا الموضع, فقال بعضهم: عُنِي بها أبواب السماء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) قال: طرق السماء وأبوابها.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: في أبواب السماء.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( فِي الأسْبَابِ ) قال: أسباب السموات.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) قال: طرق السموات.

حُدثت عن المحاربي, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول: إن كان ( لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: فليرتقوا إلى السماء السابعة.

حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: في السماء.

وذُكر عن الربيع بن أنس في ذلك ما حُدثت عن المسيب بن شريك, عن أبي جعفر الرازيّ, عن الربيع بن أنس, قال: الأسباب: أدقّ من الشعر, وأشدّ من الحديد, وهو بكل مكان, غير أنه لا يرى.

وأصل السبب عند العرب: كل ما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل أو وسيلة, أو رحم, أو قرابة أو طريق, أو محجة وغير ذلك.

وقوله ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) يقول تعالى ذكره: هم ( جُنْد ) يعني الذين في عزّة وشقاق هنالك, يعني: ببدر مهزوم. وقوله ( هُنَالِكَ ) من صلة مهزوم وقوله ( مِنَ الأحْزَابِ ) يعني من أحزاب إبليس وأتباعه الذين مضوا قبلهم, فأهلكهم الله بذنوبهم. و « مِنْ » من قوله ( مِنَ الأحْزَابِ ) من صلة قوله جند, ومعنى الكلام: هم جند من الأحزاب مهزوم هنالك, وما في قوله ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ ) صلة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) قال: قُريش من الأحزاب, قال: القرون الماضية.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) قال: وعده الله وهو بمكة يومئذ أنه سيهزم جندا من المشركين, فجاء تأويلها يوم بدر.

وكان بعض أهل العربية يتأول ذلك ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ ) مغلوب عن أن يصعد إلى السماء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ ( 12 ) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ ( 13 ) إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( 14 )

يقول تعالى ذكره: كذّبت قبل هؤلاء المشركين من قريش, القائلين: أجعل الآلهة إلها واحدا, رسلها, قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد.

واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله قيل لفرعون ذو الأوتاد, فقال بعضهم: قيل ذلك له لأنه كانت له ملاعب من أوتاد, يُلْعَب له عليها.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن عليّ بن الهيثم, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس ( وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ) قال: كانت ملاعب يلعب له تحتها.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ) قال: كان له أوتاد وأرسان, وملاعب يلعب له عليها.

وقال آخرون: بل قيل ذلك له كذلك لتعذيبه الناس بالأوتاد.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ,, قوله ( ذُو الأوْتَادِ ) قال: كان يعذِّب الناسَ بالأوتاد, يعذّبهم بأربعة أوتاد, ثم يرفع صخرة تُمَدّ بالحبال, ثم تُلْقى عليه فتشدخه.

حُدثت عن عليّ بن الهيثم, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: كان يعذب الناس بالأوتاد.

وقال آخرون: معنى ذلك: ذو البنيان, قالوا: والبنيان: هو الأوتاد.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك ( ذُو الأوْتَادِ ) قال: ذو البنيان.

وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك الأوتاد, إما لتعذيب الناس, وإما للعب, كان يُلْعَب له بها, وذلك أن ذلك هو المعروف من معنى الأوتاد, وثمود وقوم لوط، وقد ذكرنا أخبار كل هؤلاء فيما مضى قبل من كتابنا هذا. ( وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ ) يعني: وأصحاب الغَيْضَة.

وكان أبو عمرو بن العلاء فِيما حُدثت عن معمر بن المثني, عن أبي عمرو يقول: الأيكة: الحَرَجَة من النبع والسدر, وهو الملتفّ منه, قال الشاعر:

أفَمِــنْ بُكَــاءِ حَمَامَـةٍ فِـي أيْكَـةٍ يَـرْفَضُّ دَمْعُـكَ فَـوْقَ ظَهْـرِ المَحْمِلِ

يعني: مَحْمِل السيف.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ ) قال: كانوا أصحاب شجر, قال: وكان عامَّة شجرهم الدوم.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ ) قال: أصحاب الغَيْضَة.

وقوله ( أُولَئِكَ الأحْزَابُ ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الجماعات المجتمعة, والأحزاب المتحزّبة على معاصي الله والكفر به, الذين منهم يا محمد مشركو قومك, وهم مسلوك بهم سبيلهم.

( إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ ) يقول: ما كلّ هؤلاء الأمم إلا كذّب رسل الله; وهي في قراءة عبد الله كما ذكر لي: « إنْ كُلٌّ لَمَّا كَذَّبَ الرُّسُل فَحَقَّ عِقَابِ » يقول: فوجب عليهم عقاب الله إياهم.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ) قال: هؤلاء كلهم قد كذبوا الرسل, فحقّ عليهم العذاب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ( 15 ) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( 16 )

يقول تعالى ذكره: ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ ) المشركون بالله من قُريش ( إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) يعني بالصيحة الواحدة: النفخة الأولى في الصور ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول: ما لتلك الصيحة من فيقة, يعني من فتور ولا انقطاع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) يعني: أمة محمد ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ )

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا المحاربي, عن إسماعيل بن رافع, عن يزيد بن زياد, عن رجل من الأنصار, عن محمد بن كعب القرظي, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: « إنَّ الله لما فَرغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ خَلَقَ الصُّورَ, فَأَعْطَاهُ إسْرَافِيلَ, فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِص بِبَصَرِهِ إلَى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ » . قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور؟ قال: « قَرْنٌ » , قال: كيف هو؟ قال: « قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةُ الفَزَعِ الأولى, والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ, والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيَامِ لِرَبّ العَالَمِينَ, يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولى, فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ, فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ الله, وَيَأْمُرُهُ الله فَيُدِيمُهَا وَيُطَوِّلُهَا, فَلا يَفْتُرُ وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ الله ( مَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) . واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) » فقال بعضهم: يعني بذلك: ما لتلك الصيحة من ارتداد ولا رجوع.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول: من ترداد.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول: ما لها من رجعة.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) قال: من رجوع.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يعني الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول: ليس لهم بعدها إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا.

وقال آخرون: الصيحة في هذا الموضع: العذاب. ومعنى الكلام: ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا عذابا يهلكهم, لا إفاقة لهم منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) قال: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق, يا لها من صيحة لا يفيقون فيها كما يفيق الذي يغشي عليها وكما يفيق المريض تهلكهم, ليس لهم فيها إفاقة.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ( مِنْ فَوَاقٍ ) بفتح الفاء. وقرأته عامة أهل الكوفة: « مِنْ فُوَاقٍ » بضم الفاء.

واختلفت أهل العربية في معناها إذا قُرئت بفتح الفاء وضمها, فقال بعض البصريين منهم: معناها, إذا فتحت الفاء: ما لها من راحة, وإذا ضمت جعلها فُواق ناقة ما بين الحلبتين. وكان بعض الكوفيين منهم يقول: معنى الفتح والضم فيها واحد, وإنما هما لغتان مثل السَّوَاف والسُّواف, وجَمام المكوك وجُمامه, وقَصاص الشعر وقُصاصه.

والصواب من القول في ذلك أنهما لغتان, وذلك أنا لم نجد أحدا من المتقدمين على اختلافهم في قراءته يفرّقون بين معنى الضمّ فيه والفتح, ولو كان مختلف المعنى باختلاف الفتح فيه والضم, لقد كانوا فرقوا بين ذلك في المعنى. فإذ كان ذلك كذلك, فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب; وأصل ذلك من قولهم: أفاقت الناقة, فهي تفيق إفاقة, وذلك إذا ردت ما بين الرضعتين ولدها إلى الرضعة الأخرى, وذلك أن ترضع البهيمة أمها, ثم تتركها حتى ينـزل شيء من اللبن, فتلك الإفاقة; يقال إذا اجتمع ذلك في الضرع فيقة, كما قال الأعشى:

حَـتَّى إذَا فِيْقَـةٌ فِـي ضَرْعِها اجْتَمَعَتْ جـاءَتْ لِـتُرْضِعَ شِقَّ النَّفْسِ لوْ رَضَعا

وقوله ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش: يا ربنا عجل لنا كتبنا قبل يوم القيامة. والقطّ في كلام العرب: الصحيفة المكتوبة; ومنه قول الأعشى:

وَلا المَلِــكُ النُّعْمَــانُ يَـوْمَ لَقِيتُـهُ بِنِعْمَتِــهِ يُعْطِــي القُطُـوطَ وَيـأْفِقُ

يعني بالقُطوط: جمع القط, وهي الكتب بالجوائز.

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أراد هؤلاء المشركون بمسألتهم تعجيل القطّ لهم, فقال بعضهم: إنما سألوا ربهم تعجيل حظهم من العذاب الذي أعد لهم في الآخرة في الدنيا, كما قال بعضهم: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) يقول: العذاب.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) قال: سألوا الله أن يعجل لهم العذاب قبل يوم القيامة.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, في قوله ( لَنَا قِطَّنَا ) قال: عذابنا.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) قال: عذابنا.

حدثني بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) أي نصيبنا حظنا من العذاب قبل يوم القيامة, قال: قد قال ذلك أبو جهل: اللهمّ إن كان ما يقول محمد حقا فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ... الآية.

وقال آخرون: بل إنما سألوا ربهم تعجيل أنصبائهم ومنازلهم من الجنة حتى يروها فيعلموا حقيقة ما يعدهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيؤمنوا حينئذ به ويصدّقوه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) قالوا: أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك.

وقال آخرون: مسألتهم نصيبهم من الجنة, ولكنهم سألوا تعجيله لهم في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن ثابت الحدّاد, قال: سمعت سعيد بن جُبَير يقول في قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) قال: نصيبنا من الجنة.

وقال آخرون: بل سألوا ربهم تعجيل الرزق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمر بن عليّ, قال: ثنا أشعث السجستاني, قال: ثنا شعبة, عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) قال: رزقنا.

وقال آخرون: سألوا أن يعجل لهم كتبهم التي قال قال الله فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ في الدنيا, لينظروا بأيمانهم يعطونها أم بشمائلهم؟ ولينظروا من أهل الجنة هم, أم من أهل النار قبل يوم القيامة استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله.

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن القوم سألوا ربهم تعجيل صِكاكهم بحظوظهم من الخير أو الشر الذي وعد الله عباده أن يؤتيهموها في الآخرة قبل يوم القيامة في الدنيا استهزاء بوعيد الله.

وإنما قلنا إن ذلك كذلك, لأن القطّ هو ما وصفت من الكتب بالجوائز والحظوظ, وقد أخبر الله عن هؤلاء المشركين أنهم سألوه تعجيل ذلك لهم, ثم أتبع ذلك قوله لنبيه: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ فكان معلوما بذلك أن مسألتهم ما سألوا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لو لم تكن على وجه الاستهزاء منهم لم يكن بالذي يتبع الأمر بالصبر عليه, ولكن لما كان ذلك استهزاء, وكان فيه لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أذى, أمره الله بالصبر عليه حتى يأتيه قضاؤه فيهم, ولما لم يكن في قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) بيان أيّ القطوط إرادتهم, لم يكن لما توجيه ذلك إلى أنه معني به القطوط ببعض معاني الخير أو الشرّ, فلذلك قلنا إن مسألتهم كانت بما ذكرت من حظوظهم من الخير والشر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 17 ) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ( 18 ) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ( 19 ) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ( 20 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: اصبر يا محمد على ما يقول مشركو قومك لك مما تكره قيلهم لك, فإنا ممتحنوك بالمكاره امتحاننا سائر رسلنا قبلك, ثم جاعلو العلوّ والرفعة والظفر لك على من كذبك وشاقك سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا قبلك فمنهم عبدنا أيوب وداود بن إيشا ، فاذكره ذا الأيد: ويعني بقوله ( ذَا الأيْدِ ) ذا القوّة والبطش الشديد في ذات الله والصبر على طاعته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) قال: ذا القوّة.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثني أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( ذَا الأيْدِ ) قالَ ذا القوّة في طاعة الله.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) قال: أعطي قوّة في العبادة, وفقها في الإسلام.

وقد ذُكر لنا أن داود صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) ذا القوّة في طاعة الله.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) قال: ذا القوّة في عبادة الله, الأيد: القوّة, وقرأ: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ قال: بقوة.

وقوله ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول: إن داود رَجَّاع لما يكرهه الله إلى ما يرضيه أواب, وهو من قولهم: آب الرجل إلى أهله: إذا رجع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: رجاع عن الذنوب.

حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: الراجع عن الذنوب.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) : أي كان مطيعا لله كثير الصلاة.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: المسبح.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: الأوّاب التوّاب الذي يئوب إلى طاعة الله ويرجع إليها, ذلك الأوّاب, قال: والأوّاب: المطيع.

وقوله ( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) يقول تعالى ذكره: إنا سخرنا الجبال يسبحن مع داود بالعشيّ, وذلك من وقت العصر إلى الليل, والإشراق, وذلك بالغداة وقت الضحى.

ذُكر أن داود كان إذا سبح سبحت معه الجبال.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) يسبحن مع داود إذا سبح بالعشيّ والإشراق.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) قال: حين تُشرق الشمس وتضحى.

حدثنا أبو كريب, قال: ثنا محمد بن بشر, عن مسعر بن عبد الكريم, عن موسى بن أبي كثير, عن ابن عباس أنه بلغه أن أم هانئ ذكرت أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم فتح مكة, صلى الضحى ثمان ركعات, فقال ابن عباس: قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة, يقول الله: ( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) .

حدثنا ابن عبد الرحيم البرقي, قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة, قال: ثنا صدقة, قال: ثني سعيد بن أبي عَروبة, عن أبي المتوكل, عن أيوب بن صفوان, عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس كان لا يصلي الضحى, قال: فأدخلته على أم هانئ, فقلت: اخبري هذا بما أخبرتني به, فقالت أم هانئ: دخل عليّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم الفتح في بيتي, فأمر بماء فصب في قصعة, ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه, فاغتسل, ثم رشّ ناحية البيت فصلى ثمان ركعات, وذلك من الضحى قيامهنّ وركوعهنّ وسجودهنّ وجلوسهنّ سواء, قريب بعضهن من بعض, فخرج ابن عباس, وهو يقول: لقد قرأت ما بين اللوحين, ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن ( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) وكنت أقول: أين صلاة الإشراق, ثم قال: بعد هنّ صلاة الإشراق.

حدثنا عمرو بن عليّ, قال: ثنا عبد الأعلى, قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة, عن متوكل, عن أيوب بن صفوان, مولى عبد الله بن الحارث, عن عبد الله بن الحارث، « أن أم هانئ ابنة أبي طالب, حَدثت أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم الفتح دخل عليها ثم ذكر نحوه » .

وعن ابن عباس في قوله ( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ ) مثل ذلك.

وقوله ( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) يقول تعالى ذكره: وسخرنا الطير يسبحن معه محشورة بمعنى: مجموعة له; ذكر أنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان إذا سبح أجابته الجبال, واجتمعت إليه الطير, فسبحت معه واجتماعها إليه كان حشرها. وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في معنى الحشر فيما مضى, فكرهنا إعادته.

وكان قتادة يقول في ذلك في هذا الموضع ما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) : مسخَّرة.

وقوله ( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) يقول: كل ذلك له مطيع رجَّاع إلى طاعته وأمره. ويعني بالكلّ: كلّ الطير.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) : أي مطيع.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) قال: كل له مطيع.

وقال آخرون: معنى ذلك: كل ذلك لله مسبِّح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) يقول: مسبِّح لله.

وقوله ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ) اختلف أهل التأويل في المعنى الذي به شدّد ملكه, فقال بعضهم: شدّد ذلك بالجنود والرجال, فكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف, أربعة آلاف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ) قال: كان يحرسه كلّ يوم وليلة أربعة آلاف, أربعة آلاف.

وقال آخرون: كان الذي شدد به ملكه, أن أعطي هيبة من الناس له لقضية كان قضاها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن حرب, قال: ثنا موسى, قال: ثنا داود, عن علباء بن أحمر, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم, فاجتمعا عند داود النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال المستعدي: إن هذا اغتصبني بقرًا لي, فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده, فسأل الآخر البيِّنة, فلم يكن له بيِّنة, فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما; فقاما من عنده, فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الرجل الذي استعدي عليه, فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت, فأوحى الله إلى داود في منامه مرة أخرى أن يقتل الرجل, وأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله, فأرسل داود إلى الرجل: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك, فقال الرجل: تقتلني بغير بينة ولا تثبت؟! فقال له داود: نعم, والله لأنفذنّ أمر الله فيك; فلما عرف الرجل أنه قاتله, قال: لا تعجل عليّ حتى أخبرك, إني والله ما أُخِذت بهذا الذنب, ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته, فبذلك قُتلت, فأمر به داود فقُتل, فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود, وشدد به مُلْكه, فهو قول الله: ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ) .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك تعالى أخبر أنه شَدَّد ملك داود, ولم يحضر ذلك من تشديده على التشديد بالرجال والجنود دون الهيبة من الناس له ولا على هيبة الناس له دون الجنود. وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا, وجائز أن يكون كان بجميعها, ولا قول أولى في ذلك بالصحة من قول الله, إذ لم يحر ذلك على بعض معاني التشديد خبر يجب التسليم له.

وقوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة في هذا الموضع, فقال بعضهم: عني بها النبوة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط عن السديّ, قوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) قال: النبوّة.

وقال آخرون: عنى بها أنه علم السنن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) : أي السنة.

وقد بينا معنى الحكمة في غير هذا الموضع بشواهده, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فقال بعضهم: عني به أنه علم القضاء والفهم به.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) قال: أعطي الفهم.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: إصابة القضاء وفهمه.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: علم القضاء.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: الخصومات التي يخاصم الناس إليه فصل ذلك الخطاب, الكلام الفهم, وإصابة القضاء والبيِّنات.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن أبي حصين, قال: سمعت أبا عبد الرحمن يقول: فصل الخطاب: القضاء.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفصل الخطاب, بتكليف المدّعي البينة, واليمين على المدعى عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا داود بن أبي هند, قال: ثني الشعبيّ أو غيره, عن شريح أنه قال في قوله ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: بيِّنة المدَّعي, أو يمين المُدَّعى عليه.

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, عن داود بن أبي هند, في قوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: نُبِّئْت عن شريح أنه قال: شاهدان أو يمين.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا معتمر, قال: سمعت داود قال: بلغني أن شريحا قال ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) الشاهدان على المدعي, واليمين على من أنكر.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن منصور, عن طاوس, أن شريحا قال لرجل: إن هذا يعيب عليّ ما أُعْطِيَ داود, الشهود والأيمان.

حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن الحكم, عن شريح أنه قال في هذه الآية ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: الشهود والأيمان.

حدثنا عمران بن موسى, قال: ثنا عبد الوارث, قال: ثنا داود, عن الشعبي, في قوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: يمين أوْ شَاهِدٌ.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) البينة على الطالب, واليمين على المطلوب, هذا فصل الخطاب.

وقال آخرون: بل هو قولُ: أما بعد.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا جابر بن نوح, قال: ثنا إسماعيل, عن الشعبي في قوله ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: قول الرجل: أما بعد.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى داود صلوات الله عليه فصل الخطاب, والفصل: هو القطع, والخطاب هو المخاطبة, ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل في حال احتكام أحدهما إلى صاحبه قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم إليه وخصمه بصواب من الحكم, ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه إلزام المخاطب في الحكم ما يجب عليه إن كان مدعيا, فإقامة البينة على دعواه وإن كان مدعى عليه فتكليفه اليمين إن طلب ذلك خصمه. ومن قطع الخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء في أخرى الفصل بينهما بأما بعد. فإذ كان ذلك كله محتملا ظاهر الخبر ولم تكن في هذه الآية دلالة على أي ذلك المراد, ولا ورد به خبر عن الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ثابت, فالصواب أن يعم الخبر, كما عمه الله, فيقال: أوتي داود فصل الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ( 21 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( 22 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وهل أتاك يا محمد نبأ الخصم وقيل: إنه عني بالخصم في هذا الموضع ملكان, وخرج في لفظ الواحد, لأنه مصدر مثل الزور والسفر, لا يثنى ولا يجمع; ومنه قول لبيد:

وَخَــصْمٍ يَعــدوّنَ الذُّحُـولَ كَـأَنَّهُمْ قُـرُوم غَيَـارَى كـلُّ أزْهَـرَ مُصْعَب

وقوله ( إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) يقول: دخلوا عليه من غير باب المحراب; والمحراب مقدّم كل مجلس وبيت وأشرفه.

وقوله ( إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ ) فكرّر إذ مرّتين وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك: قد يكون معناهما كالواحد, كقولك: ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت, فيكون الدخول هو الاجتراء, ويكون أن تجعل إحداهما على مذهب لما, فكأنه قال: إذ تسوّروا المحراب لما دخلوا, قال: وإن شئت جعلت لما في الأول, فإذا كان لما أولا أو آخرا, فهي بعد صاحبتها, كما تقول: أعطيته لما سألني, فالسؤال قبل الإعطاء في تقدّمه وتأخره.

وقوله ( فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) يقول القائل: وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان, فإن فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المدخل عليه, فراعه دخولهما كذلك عليه. وقيل: إن فزعه كان منهما, لأنهما دخلا عليه ليلا في غير وقت نظره بين الناس; قالوا: ( لا تَخَفْ ) يقول تعالى ذكره: قال له الخصم: لا تخف يا داود, وذلك لمَّا رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب. وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر من الكلام منه, وهو مرافع خصمان, وذلك نحن. وإنما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة الخصمين إلى المرافع, لأن قوله ( خَصْمَانِ ) فعل للمتكلم, والعرب تضمر للمتكلم والمكلم والمخاطب ما يرفع أفعالهما, ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرهما, فيقولون للرجل يخاطبونه: أمنطلق يا فلان ويقول المتكلم لصاحبه: أحسن إليك وتجمل, وإنما يفعلون ذلك كذلك في المتكلم والمكَّلم, لأنهما حاضران يعرف السامع مراد المتكلم إذا حُذف الاسم, وأكثر ما يجيءُ ذلك في الاستفهام, وإن كان جائزا في غير الاستفهام, فيقال: أجالس راكب؟ فمن ذلك قوله خَصْمان; ومنه قول الشاعر:

وَقُــولا إذا جاوَزْتُمَـا أرْضَ عـامِرٍ وَجَاوَزْتُمَـا الحَـيْين نَهْـدًا وَخَشْـعَما

نزيعـانِ مِـنْ جَـرْمِ بْـنِ رَبَّـانَ إنهمْ أبَـوْا أنْ يُمـيرُوا فـي الهَزَاهِزِ مِحْجَما

وقول الآخر:

تَقُــولُ ابْنَـةُ الكَـعْبِيّ يـوْمَ لَقِيتُهـا أمُنْطَلِــقٌ فِــي الجَـيشِ أمْ مُتَثَـاقِلُ

ومنه قولهم: « مُحْسِنة فهيلى » . وقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: « آئِبُونَ تَائِبُونَ » . وقوله: « جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ الله » كلّ ذلك بضمير رَفَعه. وقوله عزّ وجلّ ( بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) يقول: تعدّى أحدنا على صاحبه بغير حقّ ( فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ) يقول: فاقض بيننا بالعدل ( وَلا تُشْطِطْ ) : يقول: ولا تجُر, ولا تسرف في حكمك, بالميل منك مع أحدنا على صاحبه. وفيه لغتان: أشَطَّ, وشَطَّ. ومن الإشطاط قول الأحوص:

ألا يـا لقَـوْمٍ قـدْ أشَـطَّتْ عَـوَاذِلِي وَيَــزْعُمْنَ أنْ أودَى بحَـقِّي بـاطِلي

ومسموع من بعضهم: شَطَطْتَ عليّ في السَّوم. فأما في البعد فإن أكثر كلامهم: شَطَّتْ الدار, فهي تَشِطّ, كما قال الشاعر:

تَشِـــطُّ غَـــدًا دَارُ جِيرَانِنَـــا وللـــدَّارُ بَعْـــدَ غَــدٍ أبْعَــدُ

وقوله ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) يقول: وأرشدنا إلى قصد الطريق المستقيم.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( وَلا تُشْطِطْ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَلا تُشْطِطْ ) : أي لا تمل.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَلا تُشْطِطْ ) يقول: لا تُحِف.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلا تُشْطِطْ ) تخالف عن الحقّ، وكالذي قلنا أيضا في قوله ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) قالوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) إلى عدله وخيره.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) إلى عدل القضاء.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) قال: إلى الحق الذي هو الحق: الطريق المستقيم ( وَلا تُشْطِطْ ) تذهب إلى غيرها.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه: ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) : أي احملنا على الحق, ولا تخالف بنا إلى غيره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ( 23 )

وهذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه له, وذلك أن داود كانت له فيما قيل: تسع وتسعون امرأة, وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قُتل امرأة واحدة; فلما قتل نكح فيما ذكر داود امرأته, فقال له أحدهما: ( إِنَّ هَذَا أَخِي ) يقول: أخي على ديني.

كما حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه: ( إِنَّ هَذَا أَخِي ) : أي على ديني ( لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) .

وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى » وذلك على سبيل توكيد العرب الكلمة, كقولهم: هذا رجل ذكر, ولا يكادون أن يفعلوا ذلك إلا في المؤنث والمذكر الذي تذكيره وتأنيثه في نفسه كالمرأة والرجل والناقة, ولا يكادون أن يقولوا هذه دار أنثى, وملحفة أنثى, لأن تأنيثها في اسمها لا في معناها. وقيل: عنى بقوله: أنثى: أنها حسنة.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن المحاربي, عن جُوَيبر, عن الضحاك « إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى » يعني بتأنيثها. حسنها.

وقوله ( فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ) يقول: فقال لي: انـزل عنها لي وضمها إليّ.

كما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( أَكْفِلْنِيهَا ) قال: أعطنيها, طلِّقها لي, أنكحها, وخلّ سبيلها.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه, فقال: ( أَكْفِلْنِيهَا ) أي احملني عليها.

وقوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) يقول: وصار أعز مني في مخاطبته إياي, لأنه إن تكلم فهو أبين مني, وإن بطش كان أشدّ مني فقهرني.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: قال عبد الله في قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: ما زاد داود على أن قال: انـزل لي عنها.

حدثنا ابن وكيع, قال: ثني أبي, عن المسعودي, عن المنهال, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس قال: ما زاد على أن قال: انـزل لي عنها.

وحدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق, قال: قال عبد الله: ما زاد داود على أن قال: ( أكفلنيها ) .

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: إن دعوت ودعا كان أكثر, وإن بطشت وبطش كان أشدّ مني, فذلك قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) .

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) ; أي ظلمني وقهرني.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: قهرني, وذلك العزّ; قال: والخطاب: الكلام.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) : أي قهرني في الخطاب, وكان أقوى مني, فحاز نعجتي إلى نعاجه, وتركني لا شيء لي.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: إن تكلم كان أبين مني, وإن بطش كان أشدّ مني, وإن دعا كان أكثر مني.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ( 24 )

يقول تعالى ذكره: قال داود للخصم المتظلم من صاحبه: لقد ظلمك صاحبك بسؤاله نعجتك إلى نعاجه; وهذا مما حذفت منه الهاء فأضيف بسقوط الهاء منه إلى المفعول به, ومثله قوله عزّ وجلّ: لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ والمعنى: من دعائه بالخير, فلما ألقيت الهاء من الدعاء أضيف إلى الخير, وألقي من الخير الباء; وإنما كنى بالنعجة ها هنا عن المرأة, والعرب تفعل ذلك; ومنه قول الأعشى:

قَــدْ كُـنْتُ رَائِدَهَـا وَشـاةِ مُحَـاذِرٍ حَــذرًا يُقِــلُّ بعَيْنِــهِ إغْفَالَهَــا

يعني بالشاة: امرأة رجل يحذر الناس عليها; وإنما يعني: لقد ظلمت بسؤال امرأتك الواحدة إلى التسع والتسعين من نسائه.

وقوله ( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) يقول: وإن كثيرا من الشركاء ليتعدَّى بعضهم على بعض ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول: وعملوا بطاعة الله, وانتهوا إلى أمره ونهيه, ولم يتجاوزوه ( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) وفي « ما » التي في قوله ( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) وجهان: أحدهما أن تكون صلة بمعنى: وقليل هم, فيكون إثباتها وإخراجها من الكلام لا يفسد معنى الكلام: والآخر أن تكون اسما, و « هم » صلة لها, بمعنى: وقليل ما تجدهم, كما يقال: قد كنت أحسبك أعقل مما أنت, فتكون أنت صلة لما, والمعنى: كنت أحسب عقلك أكثر مما هو, فتكون « ما » والاسم مصدرا, ولو لم ترد المصدر لكان الكلام بمن, لأن من التي تكون للناس وأشباههم, ومحكي عن العرب: قد كنت أراك أعقل منك مثل ذلك, وقد كنت أرى أنه غير ما هو, بمعنى: كنت أراه على غير ما رأيت.

ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني به عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن على, عن ابن عباس, في قوله ( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) يقول: وقليل الذين هم.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) قال: قليل من لا يبغي.

فعلى هذا التأويل الذي تأوله ابن عباس معنى الكلام: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وقليل الذين هم كذلك, بمعنى: الذين لا يبغي بعضهم على بعض, و « ما » على هذا القول بمعنى: مَنْ.

وقوله ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) يقول: وعلم داود أنما ابتُليناه, كما:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَظَنَّ دَاوُدُ ) : علم داود.

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, عن الحسن ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) قال: ظن أنما ابتُلي بذاك.

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) قال: ظن أنما ابتُلي بذاك.

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) اختبرناه.

والعرب توجه الظن إذا أدخلته على الإخبار كثيرا إلى العلم الذي هو من غير وجه العيان.

وقوله ( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ) يقول: فسأل داود ربه غفران ذنبه ( وَخَرَّ رَاكِعًا ) يقول: وخر ساجدا لله ( وَأَنَابَ ) يقول: ورجع إلى رضا ربه, وتاب من خطيئته.

واختلف في سبب البلاء الذي ابتُلي به نبي الله داود صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, فقال بعضهم: كان سبب ذلك أنه تذكر ما أعطى الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من حسن الثناء الباقي لهم في الناس, فتمنّى مثله, فقيل له: إنهم امتُحنوا فصبروا, فسأل أن يُبتلى كالذي ابتلوا, ويُعطى كالذي أعطوا إن هو صبر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ قال: إن داود قال: يا رب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله, قال الله: إني ابتُليتهم بما لم أبتلك به, فإن شئت ابتُليتك بمثل ما ابتُليتهم به, وأعطيتك كما أعطيتهم, قال: نعم, قال له: فاعمل حتى أرى بلاءك; فكان ما شاء الله أن يكون, وطال ذلك عليه, فكاد أن ينساه; فبينا هو في محرابه, إذ وقعت عليه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها, فطار إلى كوّة المحراب, فذهب ليأخذها, فطارت, فاطلع من الكوّة, فرأى امرأة تغتسل, فنـزل نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من المحراب, فأرسل إليها فجاءته, فسألها عن زوجها وعن شأنها, فأخبرته أن زوجها غائب, فكتب إلى أمير تلك السَّرية أن يُؤَمِّره على السرايا ليهلك زوجها, ففعل, فكان يُصاب أصحابه وينجو, وربما نُصروا, وإن الله عزّ وجلّ لما رأى الذي وقع فيه داود, أراد أن يستنقذه; فبينما داود ذات يوم في محرابه, إذ تسوّر عليه الخصمان من قبل وجهه; فلما رآهما وهو يقرأ فزع وسكت, وقال: لقد استضعفت في ملكي حتى إن الناس يستوّرون عليّ محرابي, قالا له: لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ولم يكن لنا بد من أن نأتيك, فاسمع منا; قال أحدهما: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا يريد أن يتمم بها مئة, ويتركني ليس لي شيء وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قال: إن دعوت ودعا كان أكثر, وإن بطشت وبطش كان أشد مني, فذلك قوله وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قال له داود: أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) .. إلى قوله ( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) ونسي نفسه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك, فتبسم أحدهما إلى الآخر, فرآه داود وظن أنما فتن ( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) أربعين ليلة, حتى نبتت الخُضرة من دموع عينيه, ثم شدّد الله له ملكه.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ قال: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوم يقضي فيه بين الناس, ويوم يخلو فيه لعبادة ربه, ويوم يخلو فيه لنسائه; وكان له تسع وتسعون امرأة, وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب; فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب قال: يا رب إن الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي, فأعطني مثل ما أعطيتهم, وافعل بي مثل ما فعلت بهم, قال: فأوحى الله إليه: إن آباءك ابتُلوا ببلايا لم تبتل بها; ابتُلي إبراهيم بذبح ابنه, وابتُلي إسحاق بذهاب بصره, وابتُلي يعقوب بحزنه على يوسف, وإنك لم تبتل من ذلك بشيء, قال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتُليتهم به, وأعطني مثل ما أعطيتهم; قال. فأوحي إليه: إنك مبتلى فاحترس; قال: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث, إذ جاءه الشيطان قد تمثّل في صورة حمامة من ذهب, حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي, فمد يده ليأخذه, فتنحى فتبعه, فتباعد حتى وقع في كوّة, فذهب ليأخذه, فطار من الكوّة, فنظر أين يقع, فيبعث في أثره. قال: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها, فرأى امرأة من أجمل الناس خَلْقا, فحانت منها التفاتة فأبصرته, فألقت شعرها فاستترت به, قال: فزاده ذلك فيها رغبة, قال: فسأل عنها, فأخبر أن لها زوجا, وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا; قال: فبعث إلى صاحب المسلحة أن يبعث أهريا إلى عدوّ كذا وكذا, قال: فبعثه, ففتح له. قال: وكتب إليه بذلك, قال: فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا, أشد منهم بأسا, قال: فبعثا ففتح له أيضا. قال: فكتب إلى داود بذلك, قال: فكتب إليه أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا, فبعثه فقتل المرة الثالثة, قال: وتزوج امرأته.

قال: فلما دخلت عليه, قال: لم تلبث عنده إلا يسيرا حتى بعث الله مَلَكين في صور إنسيين, فطلبا أن يدخلا عليه, فوجداه في يوم عبادته, فمنعهما الحرس أن يدخلا فتسوّروا عليه المحراب, قالا فما شعر وهو يصلي إذ هو بهما بين يديه جالسين, قال: ففزع منهما, فقالا لا تَخَفْ إنما نحن خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ يقول: لا تحف وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ : إلى عدل القضاء. قال: فقال: قصّا عليّ قصّتكما, قال: فقال أحدهما: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فهو يريد أن يأخذ نعجتي, فيكمل بها نعاجه مئة. قال: فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعا وتسعين نعجة, ولأخي هذا نعجة واحدة, فأنا أريد أن آخذها منه, فأكمل بها نعاجي مئة, قال: وهو كاره؟ قال: وهو كاره, قال: وهو كاره؟ قال: إذن لا ندعك وذاك, قال: ما أنت على ذلك بقادر, قال: فإن ذهبت تروم ذلك أو تريد, ضربنا منك هذا هذا وهذا, وفسر أسباط طرف الأنف, وأصل الأنف والجبهة; قال: يا داود أنت أحق أن يُضرب منك هذا وهذا وهذا, حيث لك تسع وتسعون نعجة امرأة, ولم يكن لأهريا إلا امرأة واحدة, فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتلته, وتزوجت امرأته. قال: فنظر فلم ير شيئا, فعرف ما قد وقع فيه, وما قد ابتُلي به. قال: فخر ساجدا, قال: فبكى. قال: فمكث يبكي ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة منها, ثم يقع ساجدا يبكي, ثم يدعو حتى نبت العشب من دموع عينيه. قال: فأوحى الله إليه بعد أربعين يوما: يا داود ارفع رأسك, فقد غفرت لك, فقال: يا رب كيف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء, إذا جاءك أهريا يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما فى قبل عرشك يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فأوحى إليه: إذا كان ذلك دعوت أهريا فأستوهبك منه, فيهبك لي, فأثيبه بذلك الجنة, قال: رب الآن علمت أنك قد غفرت لي, قال: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض صلى الله عليه وسلم.

حدثني عليّ بن سهل, قال: ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, قال: ثني عطاء الخراساني, قال: نقش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها, قال: فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت.

وقال آخرون: بل كان ذلك لعارض كان عرض في نفسه من ظن أنه يطيق أن يتم يوما لا يصيب فيه حوبة, فابتُلي بالفتنة التي ابتُلي بها في اليوم الذي طمع في نفسه بإتمامه بغير إصابة ذنب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن مطر, عن الحسن: إن داود جَزَّأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه, ويوما لعبادته, ويوما لقضاء بني إسرائيل, ويوما لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه, ويبكيهم ويبكونه; فلما كان يوم بني إسرائيل قال: ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك; فلما كان يوم عبادته, أغلق أبوابه, وأمر أن لا يدخل عليه أحد, وأكب على التوراة; فبينما هو يقرؤها, فإذا حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن, قد وقعت بين يديه, فأهوى إليها ليأخذها, قال: فطارت, فوقعت غير بعيد, من غير أن تُؤيسه من نفسها, قال: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل, فأعجبه خَلْقها وحُسنها; قال: فلما رأت ظله في الأرض, جللت نفسها بشعرها, فزاده ذلك أيضا إعجابا بها, وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه, فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا, مكان إذا سار إليه لم يرجع, قال: ففعل, فأصيب فخطبها فتزوجها. قال: وقال قتادة: بلغنا إنها أم سليمان, قال: فبينما هو في المحراب, إذ تسور الملكان عليه, وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من بان المحراب, ففزع منهم حين تسوروا المحراب, فقالوا: لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ .. حتى بلغ وَلا تُشْطِطْ : أي لا تمل وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ : أي أعدله وخيره إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وكان لداود تسع وتسعون امرأة وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ قال: وإنما كان للرجل امرأة واحدة فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ أي: ظلمني وقهرني, فقال: ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) .. إلى قوله ( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ ) فعلم داود أنما صمد له: أي عنى به ذلك ( وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) قال: وكان في حديث مطر, أنه سجد أربعين ليلة, حتى أوحى الله إليه: إني قد غمرت لك, قال: رب وكيف تغفر لي وأنت حكم عدل, لا تظلم أحدا؟ قال: إني أقضيك له, ثم أستوهبه دمك أو ذنبك, ثم أثيبه حتى يرضى, قال: الآن طابت نفسي, وعلمت أنك قد غفرت لي.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, قال: ثني محمد بن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه اليماني, قال: لما اجتمعت بنو إسرائيل, على داود, أنـزل الله عليه الزبور, وعلمه صنعة الحديد, فألانه له, وأمر الجبال والطير أن يسبِّحن معه إذا سبح, ولم يعط الله فيما يذكرون أحدا من خلقه مثل صوته, كان إذا قرأ الزبور فيما يذكرون, تدنو له الوحوش حتى يأخذ بأعناقها, وإنها لمصيخة تسمع لصوته, وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج, إلا على أصناف صوته, وكان شديد الاجتهاد دائب العبادة, فأقام في بني إسرائيل يحكم فيهم بأمر الله نبيا مستخلفا, وكان شديد الاجتهاد من الأنبياء, كثير البكاء, ثم عرض من فتنة تلك المرأة ما عرض له, وكان له محراب يتوحَّد فيه لتلاوة الزبور, ولصلاته إذا صلى, وكان أسفل منه جنينة لرجل من بني إسرائيل, كان عند ذلك الرجل المرأة التي أصاب داود فيها ما أصابه .

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه, أن داود حين دخل محرابه ذلك اليوم, قال: لا يدخلن عليّ محرابي اليوم أحد حتى الليل, ولا يشغلني شيء عما خلوت له حتى أمسي; ودخل محرابه, ونشر زبوره يقرؤه وفي المحراب كوّة تطلعه على تلك الجنينة, فبينا هو جالس يقرأ زبور, إذ أقبلت حمامة من ذهب حتى وقعت في الكوّة, فرفع رأسه فرآها, فأعجبته, ثم ذكر ما كان قال: لا يشغله شيء عما دخل له, فنكَّس رأسه وأقبل على زَبوره, فتصوبت الحمامة للبلاء والاختبار من الكوّة, فوقعت بين يديه, فتناولها بيده, فاستأخرت غير بعيد, فاتبعها, فنهضت إلى الكوّة, فتناولها في الكوّة, فتصوبت إلى الجنينة, فأتبعها بصره أين تقع, فإذا المرأة جالسة تغتسل بهيئة الله أعلم بها في الجمال والحُسن والخَلْق; فيزعمون أنها لما رأته نقضت رأسها فوارت به جسدها منه, واختطفت قلبه, ورجع إلى زَبوره ومجلسه, وهي من شأنه لا يفارق قلبه ذكرها. وتمادى به البلاء حتى أغزى زوجها, ثم أمر صاحب جيشه فيما يزعم أهل الكتاب أن يقدم زوجها للمهالك حتى أصابه بعض ما أراد به من الهلاك, ولداود تسع وتسعون امرأة; فلما أصيب زوجها خطبها داود, فنكحها, فبعث الله إليه وهو في محرابه ملَكين يختصمان إليه, مثلا يضربه له ولصاحبه, فلم يرع داود إلا بهما واقفين على رأسه في محرابه, ففال: ما أدخلكما عليّ؟ قالا لا تخف لم ندخل لبأس ولا لريبة خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فجئناك لتقضي بيننا فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ : أي احملنا على الحقّ, ولا تخالف بنا إلى غيره; قال الملك الذي يتكلم عن أوريا بن حنانيا زوج المرأة: إِنَّ هَذَا أَخِي أي على ديني لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا أي احملني عليها, ثم عزّني في الخطاب: أي قهرني في الخطاب, وكان أقوى مني هو وأعزّ, فحاز نعجتي إلى نعاجه وتركني لا شيء لي; فغضب داود, فنظر إلى خصمه الذي لم يتكلم, فقال: لئن كان صدقني ما يقول, لأضربن بين عينيك بالفأس! ثم ارعوى داود, فعرف أنه هو الذي يراد بما صنع في امرأة أوريا, فوقع ساجدا تائبا منيبا باكيا, فسجد أربعين صباحا صائما لا يأكل فيها ولا يشرب, حتى أنبت دمعه الخضر تحت وجهه, وحتى أندب السجود في لحم وجهه, فتاب الله عليه وقبل منه.

ويزعمون أنه قال: أي رب هذا غفرت ما جنيت في شأن المرأة, فكيف بدم القتيل المظلوم؟ قيل له: يا داود, فيما زعم أهل الكتاب, أما إن ربك لم يظلمه بدمه, ولكنه سيسأله إياك فيعطيه, فيضعه عنك; فلما فرج عن داود ما كان فيه, رسم خطيئته في كفه اليمنى بطن راحته, فما رفع إلى فيه طعاما ولا شرابا قط إلا بكى إذا رآها, وما قام خطيبا في الناس قط إلا نشر راحته, فاستقبل بها الناس ليروا رسم خطيئته في يده.

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن إدريس, قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد قال: لما أصاب داود الخطيئة خر لله ساجدا أربعين يوما حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطَّى رأسه; ثم نادى: رب قرح الجبين, وَجمَدت العين, وداود لم يرجع إليه في خطيئته شيء, فنودي: أجائع فتطعم, أم مريض فتشفى, أم مظلوم فينتصر لك؟ قال: فنحب نحبة هاج كلّ شيء كان نبت, فعند ذلك غفر له. وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها, وكان يؤتى بالإناء ليشرب فلا يشرب إلا ثلثه أو نصفه, وكان يذكر خطيئته, فينحِب النَّحْبة تكاد مفاصله تزول بعضها من بعض, ثم ما يتم شرابه حتى يملأه من دموعه; وكان يقال: إن دمعة داود, تعدل دمعة الخلائق, ودمعة آدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق, قال: فهو يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة بكفه, فيقول: رب ذنبي ذنبي قدّمني, قال: فيقدّم فلا يأمن فيقول: ربّ أخِّرني فيؤخَّر فلا يأمن.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني ابن لَهِيعة, عن أبي صخر, عن يزيد الرقاشي, عن أنس بن مالك سمعه يقول: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: « إنَّ دَاوُدَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حِينَ نَظَرَ إلَى المَرْأَةِ فَأَهَمَّ, قَطَعَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ, فَأَوْصَى صَاحِبَ البَعْثِ, فَقَالَ: إذَا حَضَرَ العَدُوُّ, فَقَرَّبَ فُلانًا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ, وَكَانَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ, وَمَنْ قُدّمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أوْ يُهْزَمَ عَنْهُ الجَيْشُ, فَقُتِلَ زُوْجُ المَرْأَةِ وَنـزلَ المَلَكَانِ عَلى دَاوُدَ يَقُصَّانِ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ, فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ, فَمَكَثَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى رَأْسِهِ, وَأَكَلَتِ الأرْضُ جَبِينَهُ وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ » فَلَمْ أُحْصِ مِنَ الرّقاشيِّ إلا هؤلاء الكلمات: « رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ أبْعَدُ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ, إنْ لَمْ تَرْحَمْ ضَعْفَ دَاوُدَ وَتَغْفِرْ ذَنْبَهُ, جَعَلْتُ ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الخُلُوفِ مِنْ بَعْدِهِ, فَجَاءَهُ جِبْرَائِيلُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مِنْ بَعْدِ الأرْبَعِينَ لَيْلَةً, قَالَ: يَا دَاوُدُ إنَّ الله قَدْ غَفَرَ لَكَ الهَمَّ الَّذِي هَمَمْتَ بِهِ, فَقَالَ دَاوُدُ: عَلِمْت أن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به, وقد عرفت أن الله عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: يا رب دمي الذي عنْدَ دَاوُدَ، فَقالَ جِبْرائيل صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما سألْتُ رَبَّكَ عَنْ ذلكَ, وَلَئنْ شِئْتَ لأفْعَلَنَّ, فقال: نَعَمْ, فَعَرجَ جِبْريلُ وَسَجَدَ دَاوُدُ, فَمَكَثَ ما شاء الله, ثُمَّ نـزلَ فَقَالَ: قَدْ سَأَلت رَبَّكَ عَزَّ وجَلّ َيا دَاوُدُ عَنِ الَّذي أرْسَلْتَنِي فِيهِ, فَقَالَ: قُلْ لِدَاوُدَ: إنَّ الله يَجْمَعُكُما يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: هَبْ لي دَمَكَ الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ, فَيَقُولُ: هُوَ لَك يا رَبّ, فَيَقُولُ: فإنَّ لَكَ فِي الجَنَّةِ ما شِئْتَ وَما اشْتَهَيْتَ عِوَضًا »

حدثنني عليّ بن سهل, قال: ثنا الوليد بن مسلم, قال: ثنا ابن جابر, عن عطاء الخراسانيّ: أن كتاب صاحب البعث جاء ينعي من قُتل, فلما قرأ داود نعي رجل منهم رجع, فلما انتهى إلى اسم الرجل قال: كتب الله على كل نفس الموت, قال: فلما انقضت عِدّتها خطبها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 25 ) يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ( 26 )

يعني تعالى ذكره بقوله ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) فعفونا عنه, وصفحنا له عن أن نؤاخذه بخطيئته وذنبه ذلك ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى ) يقول: وإن له عندنا للقُرْبة منا يوم القيامة.

وبنحو الذي قلنا في قوله ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) الذنب.

وقوله ( وَحُسْنُ مَآبٍ ) يقول: مَرْجع ومنقَلب ينقلب إليه يوم القيامة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَحُسْنُ مَآبٍ ) : أي حسن مصير.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: . ( وَحُسْنُ مَآبٍ ) قال: حسن المنقلب.

وقوله ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره: وقلنا لداود: يا داود إنا استخلفناك في الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكما ببن أهلها.

كما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً ) ملَّكه في الأرض ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) يعني: بالعدل والإنصاف ( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى ) يقول: ولا تؤثر هواك في قضائك بينهم على الحق والعدل فيه, فتجور عن الحقّ ( فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يقول: فيميل بك اتباعك هواك في قضائك على العدل والعمل بالحقّ عن طريق الله الذي جعله لأهل الإيمان فيه, فتكون من الهالكين بضلالك عن سبيل الله.

وقوله ( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) يقول تعالى ذكره: إن الذين يميلون عن سبيل الله, وذلك الحقّ الذي شرعه لعباده, وأمرهم بالعمل به, فيجورون عنه في الدنيا, لهم في الآخرة يوم الحساب عذاب شديد على ضلالهم عن سبيل الله بما نسوا أمر الله, يقول: بما تركوا القضاء بالعدل, والعمل بطاعة الله ( يَوْمِ الْحِسَابِ ) من صلة العذاب الشديد.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك, قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا العوّام, عن عكرمة, في قوله ( عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) قال: هذا من التقديم والتأخير, يقول: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) قال: نُسوا: تركوا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ( 27 ) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( 28 ) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ( 29 )

يقول تعالى ذكره: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ) عبثا ولهوا, ما خلقناهما إلا ليعمل فيهما بطاعتنا, وينتهى إلى أمرنا ونهينا.

( ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يقول: أي ظنّ أنَّا خلقنا ذلك باطلا ولعبا, ظنّ الذين كفروا بالله فلم يُوَحِّدُوه, ولم يعرفوا عظمته, وأنه لا ينبغي أن يَعْبَث, فيتيقنوا بذلك أنه لا يخلق شيئا باطلا. ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) يعني: من نار جهنم. وقوله ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ ) يقول: أنجعل الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمر الله به, وانتهوا عما نهاهم عنه ( كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ ) يقول: كالذين يشركون بالله ويعصونه ويخالفون أمره ونهيه.

( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ ) يقول: الذين اتقوا الله بطاعته وراقبوه, فحذروا معاصيه ( كَالْفُجَّارِ ) يعني: كالكفار المنتهكين حرمات الله.

وقوله ( كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ إِلَيْكَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وهذا القرآن ( كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ إِلَيْكَ ) يا محمد ( مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) يقول: ليتدبَّروا حُجَج الله التي فيه, وما شرع فيه من شرائعه, فيتعظوا ويعملوا به.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة القراء: ( لِيَدَّبَّرُوا ) بالياء, يعني: ليتدبر هذا القرآن من أرسلناك إليه من قومك يا محمد. وقراءة أبو جعفر وعاصم « لتَدَّبَّرُوا آياته » بالتاء, بمعنى: لتتدبره أنت يا محمد وأتباعك.

وأولى القراءتين عندنا بالصواب في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ( وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ) يقول: وليعتبر أولو العقول والحِجَا ما في هذا الكتاب من الآيات, فيرتدعوا عما هم عليه مقيمين من الضلالة, وينتهوا إلى ما دلهم عليه من الرشاد وسبيل الصواب.

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله ( أُولُو الألْبَابِ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( أُولُو الألْبَابِ ) قال: أولو العقول من الناس، وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل بشواهده, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 30 ) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ( 31 ) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( 32 ) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ( 33 )

يقول تعالى ذكره ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ ) ابنه ولدا ( نِعْمَ الْعَبْدُ ) يقول: نعم العبد سليمان ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول: إنه رجاع إلى طاعة الله توّاب إليه مما يكرهه منه. وقيل: إنه عُنِي به أنه كثير الذكر لله والطاعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: شي عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: الأواب: المسبّح.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: كان مطيعًا لله كثير الصلاة.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: المسبِّح.

والمسبِّح قد يكون في الصلاة والذكر. وقد بيَّنَّا معنى الأوّاب, وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقوله ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) يقول تعالى ذكره: إنه تواب إلى الله من خطيئته التي أخطأها, إذ عرض عليه بالعشي الصافنات; فإذ من صلة أواب, والصافنات: جمع الصافن من الخيل, والأنثى: صافنة, والصافن منها عند بعض العرب: الذي يجمع بين يديه, ويثني طرف سنبك إحدى رجليه, وعند آخرين: الذي يجمع يديه. وزعم الفرّاء أن الصافن: هو القائم, يقال منه: صَفَنَتِ الخيلُ تَصْفِن صُفُونًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) قال: صُفُون الفرس: رَفْع إحدى يديه حتى يكون على طرف الحافر.

حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: صَفَنَ الفرسُ: رفع إحدى يديه حتى يكون على طرف الحافر.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) يعني: الخيل, وصُفونها: قيامها وبَسْطها قوائمها.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ: الصافنات, قال: الخيل.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) قال: الخيل أخرجها الشيطان لسليمان, من مرج من مروج البحر. قال: الخيل والبغال والحمير تَصْفِن, والصَّفْن

أن تقوم على ثلاث, وترفع رجلا واحدة حتى يكون طرف الحافر على الأرض.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الصافنات: الخيل, وكانت لها أجنحة.

وأما الجياد, فإنها السِّراع, واحدها: جواد.

كما حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قاله. ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: الجياد: قال: السِّراع.

وذُكر أنها كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة.

* ذكر الخبر بذلك:

حدثنا محمد بن بشار, قال: ثنا مؤمل, قال: ثنا سفيان, عن أبيه, عن إبراهيم التيمي, في قوله ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) قال: كانت عشرين فرسا ذات أجنحة.

وقوله ( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) وفي هذا الكلام محذوف استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره: فَلَهِيَ عن الصلاة حتى فاتته, فقال: إني أحببت حب الخير. ويعني بقوله ( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ) : أي المال والخيل، أو الخير من المال.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن يمان, عن سفيان, عن السُّدِّيّ ( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ) قال: الخيل.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ) قال: المال.

وقوله ( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) يقول: إني أحببت حب الخير حتى سهوت عن ذكر ربي وأداء فريضته. وقيل: إن ذلك كان صلاة العصر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) عن صلاة العصر.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) قال. صلاة العصر. حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: ثنا أبو زرعة, قال: ثنا حيوة بن شريح, قال: ثنا أبو صخر, أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصَّهباء البكري يقول: سألت عليّ بن أبي طالب, عن الصلاة الوسطى, فقال: هي العصر, وهي التي فُتِن بها سليمان بن داود.

وقوله ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) يقول: حتى توارت الشمس بالحجاب, يعني: تغيبت في مغيبها. كما حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, قال: ثنا ميكائيل, عن داود بن أبي هند, قال: قال ابن مسعود, في قوله ( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) قال: توارت الشمس من وراء ياقوتة خضراء, فخضرة السماء منها.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) حتى دَلَكَتْ براح. قال قتادة: فوالله ما نازعته بنو إسرائيل ولا كابروه, ولكن ولوه من ذلك ما ولاه الله.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) حتى غابت.

وقوله ( رُدُّوهَا عَلَيَّ ) يقول: ردّوا عليّ الخيل التي عرضت عليّ, فشغلتني عن الصلاة, فكروها عليّ.

كما حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( رُدُّوهَا عَلَيَّ ) قال: الخيل.

وقوله ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) يقول: فجعل يمسح منها السوق, وهي جمع الساق, والأعناق.

واختلف أهل التأويل في معنى مسح سليمان بسوق هذه الخيل الجياد وأعناقها, فقال بعضهم: معنى ذلك أنه عقرها وضرب أعناقها, من قولهم: مَسَحَ علاوته: إذا ضرب عنقه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) قال: قال الحسن: قال لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك, قال قولهما فيه, يعني قتادة والحسن قال: فكَسَف عراقيبها, وضرب أعناقها.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) فضرب سوقها وأعناقها.

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: ثنا بشر بن المفضل, عن عوف, عن الحسن, قال: أمر بها فعقرت.

وقال آخرون: بل جعل يمسح أعرافها وعراقيبها بيده حُبًّا لها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) يقول: جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها: حبا لها.

وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية, لأن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن إن شاء الله ليعذب حيوانًا بالعرقبة, ويهلك مالا من ماله بغير سبب, سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها, ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ( 34 ) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ( 35 )

يقول تعالى ذكره: ولقد ابتُلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا شيطانا متمثلا بإنسان, ذكروا أن اسمه صخر. وقيل: إن اسمه آصَف. وقيل: إن اسمه آصر. وقيل: إن اسمه حبقيق.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال: هو صخر الجنيّ تمثَّل على كرسيه جسدا.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثنى أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) قال: الجسد: الشيطان الذي كان دفع إليه سليمان خاتمه, فقذفه في البحر, وكان مُلك سليمان في خاتمه, وكان اسم الجنيّ صخرا.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو داود, قال: ثنا مبارك, عن الحسن ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال: شيطانا.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو داود, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال: شيطانا يقال له آصر.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال: شيطانا يقال له آصف, فقال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر, فساح سليمان وذهب مُلكه, وقعد آصف على كرسيه, ومنعه الله نساء سليمان, فلم يقربهنّ, وأنكرنه; قال: فكان سليمان يستطعم فيقول: أتعرفوني أطعموني أنا سليمان, فيكذّبونه, حتى أعطته امرأة يوما حوتا يطيب بطنه, فوجد خاتمه في بطنه, فرجع إليه مُلكه, وفر آصف فدخل البحر فارّا.

حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه, غير أنه قال في حديثه: فيقول: لو تعرفوني أطعمتموني.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) قال: حدثنا قتادة أن سليمان أمر ببناء بيت المقدس, فقيل له: ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد, قال: فطلب ذلك فلم يقدر عليه, فقيل له: إن شيطانا في البحر يقال له صخر شبه المارد, قال: فطلبه, وكانت عين في البحر يردها في كلّ سبعة أيام مرّة, فنـزح ماؤها وجعل فيها خمر, فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر, فقال: إنك لشراب طيب, إلا أنك تصبين الحليم, وتزيدين الجاهل جهلا قال: ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا, ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب, إلا أنك تصبين الحليم, وتزيدين الجاهل جهلا قال: ثم شربها حتى غلبت على عقله, قال: فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه, فذلّ, قال: فكان مُلكه في خاتمه, فأتى به سليمان, فقال: إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت. وقيل لنا: لا يسمعنّ فيه صوت حديد, قال: فأتى ببيض الهدهد, فجعل عليه زجاجة, فجاء الهدهد, فدار حولها, فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه, فذهب فجاء بالماس, فوضعه عليه, فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه, فأخذ الماس, فجعلوا يقطعون به الحجارة, فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخلها بخاتمه; فانطلق يوما إلى الحمام, وذلك الشيطان صخر معه, وذلك عند مقارفة ذنب قارف فيه بعض نسائه, قال: فدخل الحمام, وأعطى الشيطان خاتمه, فألقاه في البحر, فالتقمته سمكة, ونـزع مُلك سليمان منه, وألقي على الشيطان شبه سليمان; قال: فجاء فقعد على كرسيه وسريره, وسلِّط على ملك سليمان كله غير نسائه; قال: فجعل يقضي بينهم, وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا: لقد فُتِن نبيّ الله; وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطَّاب في القوّة, فقال: والله لأجربنه; قال: فقال له: يا نبيّ الله, وهو يرى إلا أنه نبيّ الله, أحدنا تصيبه الجَنابة في الليلة الباردة, فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس, أترى عليه بأسا؟ قال: لا قال: فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة, فأقبل فجعل لا يستقبله جنيّ ولا طير إلا سجد له, حتى انتهى إليهم ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال: هو الشيطان صخر.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ) قال: لقد ابتلينا ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال: الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوما; قال: كان لسليمان مئة امرأة, وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة, وهي آثر نسائه عنده, وآمنهن عنده, وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نـزع خاتمه, ولم يأتمن عليه أحد من الناس غيرها; فجاءته يوما من الأيام, فقالت: إن أخي بينه وبين فلان خصومة, وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك, فقال لها: نعم, ولم يفعل, فابتُلي وأعطاها خاتمه, ودخل المخرج, فخرج الشيطان في صورته, فقال لها: هاتي الخاتم, فأعطته, فجاء حتى جلس على مجلس سليمان, وخرج سليمان بعد, فسألها أن تعطيه خاتمه, فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قال: لا وخرج مكانه تائها; قال: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما. قال: فأنكر الناس أحكامه, فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلماؤهم, فجاءو ا حتى دخلوا على نسائه, فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا, فإن كان سليمان فقد ذهب عقله, وأنكرنا أحكامه. قال: فبكى النساء عند ذلك, قال: فأقبلوا يمشون حتى أتوه, فأحدقوا به, ثم نشروا التوراة, فقرءوا; قال: فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه, ثم طار حتى ذهب إلى البحر, فوقع الخاتم منه في البحر, فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال: وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع, وقد اشتدّ جوعه, فاستطعمهم من صيدهم, قال: إني أنا سليمان, فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجَّه, فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر, فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه, فقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته, قال: إنه زعم أنه سليمان, قال: فأعطوه سمكتين مما قد مَذِر عندهم, ولم يشغله ما كان به من الضرر, حتى قام إلى شطّ البحر, فشقّ بطونهما, فجعل يغسل... , فوجد خاتمه في بطن إحداهما, فأخذه فلبسه, فرد الله عليه بهاءه وملكه, وجاءت الطير حتى حامت عليه, فعرف القوم أنه سليمان, فقام القوم يعتذرون مما صنعوا, فقال: ما أحمدكم على عذركم, ولا ألومكم على ما كان منكم, كان هذا الأمر لا بُدّ منه, قال: فجاء حتى أتى ملكه, فأرسل إلى الشيطان فجيء به, وسخر له الريح والشياطين يومئذ, ولم تكن سخرت له قبل ذلك, وهو قوله ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) قال: وبعث إلى الشيطان, فأتي به, فأمر به فجعل في صندوق من حديد, ثم أطبق عليه فأقفل عليه بقفل, وختم عليه بخاتمه, ثم أمر به, فألقي في البحر, فهو فيه حتى تقوم الساعة, وكان اسمه حبقيق.

وقوله ( ثُمَّ أَنَابَ ) سليمان, فرجع إلى ملكه من بعد ما زال عنه ملكه فذهب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن المحاربي, عن عبد الرحمن, عن جُوَيبر, عن الضحاك, في قوله ( ثُمَّ أَنَابَ ) قال: دخل سليمان على امرأة تبيع السمك, فاشترى منها سمكة, فشقّ بطنها, فوجد خاتمه, فجعل لا يمر على شجر ولا حجر ولا شيء إلا سجد له, حتى أتى مُلكه وأهله, فذلك قوله; ( ثُمَّ أَنَابَ ) يقول: ثم رجع.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( ثُمَّ أَنَابَ ) وأقبل, يعني سليمان.

قوله ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) يقول تعالى ذكره: قال سليمان راغبا إلى ربه: ربّ استر عليّ ذنبي الذي أذنبت بيني وبينك, فلا تعاقبني به ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) لا يسلبنيه أحدكما كما سلبنيه قبل هذه الشيطان.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) يقول: ملكا لا أسلَبه كما سُلبتُه. وكان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله ( لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) إلى: أن لا يكون لأحد من بعدي, كما قال ابن أحمر:

مـا أُمُّ غُفْـرٍ عـلى دعْجَـاءَ ذي عَلَقٍ يَنْفـي القَراميـدَ عنهـا الأعْصَمُ الوَقِلُ

فـي رأْسِ حَلْقـاءَ مِـن عَنقاءَ مُشْرِفةً لا يَنْبَغــي دُونهـا سَـهْل وَلا جَـبَل

بمعنى: لا يكون فوقها سهل ولا جبل أحصن منها.

وقوله ( إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) يقول: إنك وهاب ما تشاء لمن تشاء بيدك خزائن كلّ شيء تفتح من ذلك ما أردت لمن أردت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ( 36 ) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ( 37 ) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ( 38 ) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 39 ) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 40 )

يقول تعالى ذكره: فاستجبنا له دعاءه, فأعطيناه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ) مكان الخيل التي شغلته عن الصلاة ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) يعني: رِخوة لينة, وهي من الرخاوة.

كما حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: ثنا بشر بن المفضل, قال: ثنا عوف, عن الحسن, أن نبي الله سليمان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لما عرضت عليه الخيل, فشغله النظر إليها عن صلاة العصر حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ فغضب لله, فأمر بها فعُقرت, فأبدله الله مكانها أسرع منها, سخر الريح تجري بأمره رُخاء حيث شاء, فكان يغدو من إيلياء, ويقيل بقزوين, ثم يروح من قَزْوين ويبيت بكابُل.

حُدثت عن الحسن, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فإنه دعا يوم دعا ولم يكن في مُلكه الريح, وكل بناء وغواص من الشياطين, فدعا ربه عند توبته واستغفاره, فوهب الله له ما سأل, فتمّ مُلكه.

واختلف أهل التأويل في معنى الرخاء, فقال فيه بعضهم نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) قال: طَيِّبة.

حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) قال: سريعة طيبة, قال: ليست بعاصفة ولا بطيئة.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( رُخَاءً ) قال: الرخاء اللينة.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو عامر, قال: ثنا قرة, عن الحسن, في قوله ( رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) قال: ليست بعاصفة, ولا الهَيِّنة بين ذلك رُخاء.

وقال آخرون: معنى ذلك: مطيعة لسليمان.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن على, عن ابن عباس, قوله ( رُخَاءً ) يقول: مُطيعة له.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) قال: يعني بالرُّخاء: المطيعة.

حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله, قال: ثنا شعبة, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) قال: مطيعة.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( رُخَاءً ) يقول: مطيعة.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( رُخَاءً ) قال: طوعا. وقوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) يقول: حيث أراد, من قولهم: أصاب الله بك خيرا: أي أراد الله بك خيرا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ عن ابن عباس, قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) يقول: حيث أراد.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) يقول: حيث أراد, انتهى عليها.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال. ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: حيث شاء.

حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله, قال: ثنا شعبة, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: حيث أراد.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: إلى حيث أراد.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: حيث أراد.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه ( حَيْثُ أَصَابَ ) : أي حيث أراد.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: حيث أراد.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: حيث أراد.

وقوله ( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) يقول تعالى ذكره: وسخرنا له الشياطين سلطناه عليها مكان ما ابتُليناه بالذي ألقينا على كرسيّه منها يستعملها فيما يشاء من أعماله من بنَّاء وغوَّاص; فالبُناة منها يصنعون محاريب وتماثيل, والغاصة يستخرجون له الحُلِيّ من البحار, وآخرون ينحتون له جِفانا وقدورا, والمَردَة في الأغلال مُقَرَّنون.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) قال: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل, وغوّاص يستخرجون الحليّ من البحر ( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) قال: مردة الشياطين في الأغلال.

حُدثت عن المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) قال: لم يكن هذا في ملك داود, أعطاه الله ملك داود وزاده الريح ( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) يقول: في السلاسل.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( الأصْفَادِ ) قال: تجمع اليدين إلى عنقه, والأصفاد: جمع صَفَد وهي الأغلال.

وقوله ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) اختلف أهل التأويل في المشار إليه بقوله ( هَذَا ) من العطاء, وأيّ عطاء أريد بقوله: عَطاؤنا, فقال بعضهم: عني به الملك الذي أعطاه الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, في قوله ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال: قال الحسن: الملك الذي أعطيناك فأعط ما شئت وامنع ما شئت.

حدثنا عن المحاربي, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( هَذَا عَطَاؤُنَا ) : هذا ملكنا.

وقال آخرون: بل عَنَى بذلك تسخيره له الشياطين, وقالوا: ومعنى الكلام: هذا الذي أعطيناك من كلّ بنّاء وغوّاص من الشياطين, وغيرهم عطاؤنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال: هؤلاء الشياطين احبس من شئت منهم فى وثاقك وفي عذابك أو سرِّح من شئت منهم تتخذ عنده يدًا, اصنع ما شئت.

وقال آخرون: بل ذلك ما كان أوتي من القوّة على الجماع.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن أبي يوسف, عن سعيد بن طريف, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان سليمان في ظهره ماءُ مِئَة رجل, وكان له ثلاث مِئَة امرأة وتسع مِئَة سُرِّيَّة ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب القولُ الذي ذكرناه عن الحسن والضحاك من أنه عني بالعطاء ما أعطاه من الملك تعالى ذكره, وذلك أنه جلّ ثناؤه ذكر ذلك عَقِيب خبره عن مسألة نبيه سليمان صلوات الله وسلامه عليه إياه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده, فأخبر أنه سخر له ما لم يُسَخَّر لأحد من بني آدم, وذلك تسخيره له الريح والشياطين على ما وصفت, ثم قال له عزّ ذكره: هذا الذي أعطيناك من المُلك, وتسخيرنا ما سخرنا لك عطاؤنا, ووهبنا لك ما سألتنا أن نهبه لك من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فقال بعضهم: عنى بذلك. فأعط من شئت ما شئت من الملك الذي آتيناك, وامنع ما شئت منه ما شئت, لا حساب عليك في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال الحسن ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) المُلك الذي أعطيناك, فأعط ما شئت وامنع ما شئت, فليس عليك تبعة ولا حساب.

حُدثت عن المحاربي, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) سأل مُلكا هنيئا لا يُحاسب به يوم القيامة, فقال: ما أعطيت, وما أمسكت, فلا حرج عليك.

حدثنا ابن وكيع, قال: ثنا أبي, عن سفيان, عن أبيه, عن عكرمة ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال: أعط أو أمسك, فلا حساب عليك.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( فَامْنُنْ ) قال: أعط أو أمسك بغير حساب.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعْتِق من هؤلاء الشياطين الذين سخرناهم لك من الخدمة, أو من الوَثاق ممن كان منهم مُقَرَّنا في الأصفاد مَنْ شئت واحبس من شئت فلا حرج عليك في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يقول: هؤلاء الشياطين احبس من شئت منهم في وَثاقك وفي عذابك, وسرح من شئت منهم تتخذ عنده يدًا, اصنع ما شئت لا حساب عليك في ذلك.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يقول: أعتق من الجنّ من شئت, وأمسك من شئت.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال: تَمُنّ على من تشاء منهم فتُعْتِقُهُ, وتُمسِك من شئت فتستخدمه ليس عليك في ذلك حساب.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: هذا الذي أعطيناك من القوّة على الجماع عطاؤنا, فجامع من شئت من نسائك وجواريك ما شئت بغير حساب, واترك جماع من شئت منهن.

وقال آخرون: بل ذلك من المقدم والمؤخر. ومعنى الكلام: هذا عطاؤنا بغير حساب, فامْنُن أو أمسك. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب » .

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول في قوله ( بِغَيْرِ حِسَابٍ ) وجهان; أحدهما: بغير جزاء ولا ثواب, والآخر: مِنَّةٍ ولا قِلَّةٍ.

والصواب من القول في ذلك ما ذكرته عن أهل التأويل من أن معناه: لا يحاسب على ما أعطى من ذلك المُلك والسلطان. وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.

وقوله ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) يقول: وإن لسليمان عندنا لقُرْبةً بإنابته إلينا وتوبته وطاعته لنا, وحُسْنَ مآب: يقول: وحسن مرجع ومصير في الآخرة.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) : أي مصير.

إن قال لنا قائل: وما وجه رغبة سليمان إلى ربه في الملك, وهو نبيّ من الأنبياء, وإنما يرغب في الملك أهل الدنيا المؤثِرون لها على الآخرة؟ أم ما وجه مسألته إياه, إذ سأله ذلك مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده, وما كان يضرّه أن يكون كلّ من بعده يُؤْتَى مثل الذي أوتي من ذلك؟ أكان به بخل بذلك, فلم يكن من مُلكه, يُعطي ذلك من يعطاه, أم حسد للناس, كما ذُكر عن الحجاج بن يوسف; فإنه ذكر أنه قرأ قوله وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال: إن كان لحسودًا, فإن ذلك ليس من أخلاق الأنبياء! قيل: أما رغبته إلى ربه فيما يرغب إليه من المُلك, فلم تكن إن شاء الله به رغبةً في الدنيا, ولكن إرادة منه أن يعلم منـزلته من الله فى إجابته فيما رغب إليه فيه, وقبوله توبته, وإجابته دعاءه.

وأما مسألته ربه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده, فإنا قد ذكرنا فيما مضى قبلُ قولَ من قال: إن معنى ذلك: هب لي مُلكا لا أسلبه كما سلبته قبل. وإنما معناه عند هؤلاء: هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يَسلُبنيه. وقد يتجه ذلك أن يكون بمعنى: لا ينبغي لأحد سواي من أهل زماني, فيكون حجة وعَلَما لي على نبوتي وأني رسولك إليهم مبعوث, إذ كانت الرسل لا بد لها من أعلام تفارق بها سائر الناس سواهم. ويتجه أيضا لأن يكون معناه: وهب لي ملكا تخُصُّني به, لا تعطيه أحدا غيري تشريفا منك لي بذلك, وتكرمة, لتبين منـزلتي منك به من منازل من سواي, وليس في وجه من هذه الوجوه مما ظنه الحجاج في معنى ذلك شيء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( 41 ) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( 42 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( وَاذْكُرْ ) أيضا يا محمد عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ) مستغيثا به فيما نـزل به من البلاء: يا ربّ ( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ ) فاختلفت القرّاء في قراءة قوله ( بِنُصْبٍ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر القارئ: ( بِنُصْبٍ ) بضم النون وسكون الصاد, وقرأ ذلك أبو جعفر: بضم النون والصاد كليهما, وقد حُكي عنه بفتح النون والصاد; والنُّصْب والنَّصَب بمنـزلة الحُزْن والحَزَن, والعُدم والعَدَم, والرُّشْد والرَّشَد, والصُّلْب والصَّلَب. وكان الفرّاء يقول: إذا ضُمّ أوّله لم يثقل, لأنهم جعلوهما على سِمَتين: إذا فتحوا أوّله ثقّلوا, وإذا ضمّوا أوّله خففوا. قال: وأنشدني بعض العرب:

لَئِــنْ بَعَثَــتْ أُمُّ الحُـمَيْدَيْنِ مـائِرًا لَقَـدْ غَنِيَـتْ فـي غَيرِ بُؤْسٍ ولا جُحدِ

من قولهم: جَحِد عيشه: إذا ضاق واشتدّ; قال: فلما قال جُحْد خَفَّف.

وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين: النَّصُب من العذاب. وقال: العرب تقول: أنصبني: عذّبني وبرّح بي. قال: وبعضهم يقول: نَصَبَني, واستشهد لقيله ذلك بقول بشر بن أبي خازم:

تَعَنَّـاكَ نَصْـب مِـن أُمَيْمَـةَ مُنْصِبُ كَـذِي الشَّـجْوِ لَمَّـا يَسْـلُه وسـيَذْهَبُ

وقال: يعني بالنَّصْب: البلاء والشرّ; ومنه قول نابغة بني ذُبيان:

كِــلِيني لِهَــمّ يـا أمَيْمَـةَ نـاصِبِ وَلَيْــلٍ أُقاسِــيهِ بَطـيءِ الكَـوَاكِب

حدثني بشر بن آدم, قال: ثنا أبو قُتيبة, قال: ثنا أبو هلال, قال: سمعت الحسن, في قول الله: ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) فركض برجله, فنبعت عين فاغتسل منها, ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا, ثم ركض برجله, فنبعت عين, فشرب منها, فذلك قوله ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ )

وعنى بقوله ( مُغْتَسَلٌ ) : ما يُغْتَسل به من الماء, يقال منه: هذا مُغْتَسل, وغسول للذي يَغْتسل به من الماء. وقوله ( وَشَرَابٌ ) يعني: ويشرب منه, والموضع الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 43 ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 44 )

اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك والصواب من القول عندنا فيه في سورة الأنبياء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام: فاغتسل وشرب, ففرجنا عنه ما كان فيه من البلاء, ووهبنا له أهله, من زوجة وولد ( وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا ) له ورأفة ( وَذِكْرَى ) يقول: وتذكيرا لأولي العقول, ليعتبروا بها فيتعظوا.

وقد حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني نافع بن يزيد, عن عقيل, عن ابن شهاب, عن أنس بن مالك, أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: « إنَّ نَبِيَّ الله أيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلاؤهُ ثَمانِيَ عَشْرَة سَنَة, فَرَفَضَه القَرِيبُ وَالبَعِيدُ, إلا رَجُلانِ مِنْ إخْوَانِهِ كانا مِنْ أخَصّ إخْوَانِهِ بِهِ, كَانَا يَغْدُوانِ إلَيْهِ ويَرُوحانِ, فَقالَ أحَدُهُما لِصَاحِبه: تَعْلَم والله لَقَدْ أذْنَبَ أيُّوبُ ذَنْبًا ما أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ, قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: ومَا ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ الله فَيَكْشِفَ ما بِهِ; فَلَمَّا رَاحا إلَيْهِ لَمْ يَصْبِر الرَّجُلُ حتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ, فقَالَ أيَّوُّبُ: لا أدْرِي ما تَقُولُ, غَيرَ أنَّ الله يَعْلَمُ أنِّي كُنْتُ أمُرُّ على الرُّجُلَيْنِ يَتَنازَعانِ فَيَذْكُرَانِ الله, فَأَرْجِعَ إلى بَيْتِي فَأكفِّرُ عَنْهُما كَرَاهِيَةَ أنْ يُذْكَرَ الله إلا في حَقّ » ; قال: « وكان يَخْرُجُ إلى حاجَتِهِ, فإذَا قَضَاها أمْسَكَت امْرأُتُه بِيَدِهِ حتى يَبْلُغ فَلَما كانَ ذاتَ يَوْمٍ أبْطَأُ عَلَيْها, وأوحِيَ إلى أيُّوب في مَكانِهِ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فاسْتَبطأتَهُ, فَتَلقتهُ تَنْظُرُ, فأقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أذْهَبَ الله ما بِهِ مِنَ البَلاءِ, وَهُوَ عَلى أحْسَنِ ما كانَ . فَلَمَّا رَأتْهُ قَالَتْ: أيْ بارَكَ الله فِيكَ, هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ الله هَذَا المُبْتَلى, فوالله على ذلك ما رَأَيْتُ أحَدًا أشْبَهَ بِهِ منْكَ إذْ كانَ صحيحا؟ قال: فإنّي أنا هُوَ ، قال: وكانَ لَهُ أنْدرَانِ: أنْدَرٌ للْقَمْحِ, وأنْدَرٌ للشَّعِيرِ, فَبَعَثَ الله سَحَابَتَيْنِ, فَلَمَّا كانَتْ إحْداهُما على أنْدَرِ القَمْحِ, أفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حتى فاضَ, وأفرغَتِ الأخْرَى في أنْدَرِ الشَّعِيرِ الوَرِق حتى فاضَ . »

« حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قال: قال الحسن وقتادة: فأحياهم الله بأعيانهم, وزادهم مثلهم . »

حدثني محمد بن عوف, قال: ثنا أبو المغيرة, قال: ثنا صفوان, قال: ثنا عبد الرحمن بن جُبَير, قال: لما ابتُلي نبيّ الله أيوب صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بماله وولده وجسده, وطُرح في مَزْبَلة, جعلت امرأته تخرج تكسب عليه ما تطعمه, فحسده الشيطان على ذلك, وكان يأتي أصحاب الخبز والشويّ الذين كانوا يتصدّقون عليها, فيقول: اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم, فإنها تعالج صاحبها وتلمسه بيدها, فالناس يتقذّرون طعامكم من أجل أنها تأتيكم وتغشاكم على ذلك; وكان يلقاها إذا خرجت كالمحزون لمَا لقي أيوب, فيقول: لَجَّ صاحبك, فأبى إلا ما أتى, فوالله لو تكلم بكلمة واحدة لكشف عنه كلّ ضرّ, ولرجع إليه ماله وولده, فتجيء, فتخبر أيوب, فيقول لها: لقيك عدوّ الله فلقنك هذا الكلام; ويلك, إنما مثلك كمثل المرأة الزانية إذا جاء صديقها بشيء قبلته وأدخلته, وإن لم يأتها بشيء طردته, وأغلقت بابها عنه! لما أعطانا الله المال والولد آمنا به, وإذا قبض الذي له منا نكفر به, ونبدّل غيره ! إن أقامني الله من مرضي هذا لأجلدنَّك مئةً, قال: فلذلك قال الله: ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ )

وقوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يقول: وقلنا لأيوب: خذ بيدك ضغثا, وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرُّطْبة, وكملء الكفّ من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق; ومنه قول عوف بن الخَرِع:

وأسْــفَل مِنِّـي نَهْـدَةٌ قَـدْ رَبَطْتُهـا وألْقَيْـتُ ضِغْثـا مِـن خَـلا متَطَيِّـبِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثني عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية عن عليّ عن ابن عباس, قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يقول: حُزْمة.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) قال: أمر أن يأخذ ضغثا من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضرب به.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن يمان, عن ابن جُرَيج, عن عطاء, في قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) قال: عيدانا رطبة.

حدثنا أبو هشام الرفاعيّ, قال: ثنا يحيى, عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر, عن أبيه, عن مجاهد, عن ابن عباس ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) قال: هو الأثْل.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) .. الآية, قال: كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر, وأرادها إبليس على شيء, فقال: لو تكلمت بكذا وكذا, وإنما حملها عليها الجزع, فحلف نبي الله: لِئن الله شفاه ليجلِدنَّها مئة جلدة; قال: فأمر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبا, والأصل تكملة المِئَة, فضربها ضربة واحدة, فأبرّ نبيُّ الله, وخَفَّفَ الله عن أمَتِهِ, والله رحيم.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يعني: ضِغْثا من الشجر الرَّطْب, كان حلف على يمين, فأخذ من الشجر عدد ما حلف عليه, فضرب به ضَرْبة واحدة, فبرّت يمينه, وهو اليوم في الناس يمين أيوب, من أخذ بها فهو حسن.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) قال: ضِغْثا واحدا من الكلأ فيه أكثر من مِئَة عود, فضرب به ضربة واحدة, فذلك مِئَة ضربة.

حدثني محمد بن عوف, قال: ثنا أبو المغيرة, قال: ثنا صفوان, قال: ثنا عبد الرحمن بن جُبَير ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ ) يقول: فاضرب زوجتك بالضِّغْث, لتَبرّ في يمينك التي حلفت بها عليها أن تضربها ( وَلا تَحْنَثْ ) يقول: ولا تحنَثْ في يمينك.

وقوله ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ ) يقول: إنا وجدنا أيوب صابرا على البلاء, لا يحمله البلاء على الخروج عن طاعة الله, والدخول في معصيته ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول: إنه على طاعة الله مقبل, وإلى رضاه رجَّاع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ( 45 ) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( 46 ) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ( 47 )

اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( عِبَادِنَا ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار: ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ) على الجماع غير ابن كثير, فإنه ذكر عنه أنه قرأه: « واذكر عبدنا » على التوحيد, كأنه يوجه الكلام إلى أن إسحاق ويعقوب من ذرّية إبراهيم, وأنهما ذُكِرا من بعده.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عطاء, سمع ابن عباس يقرأ: « واذكر عبدنا إن إبراهيم » قال: إنما ذكر إبراهيم, ثم ذُكِر ولده بعده.

والصواب عنده من القراءة في ذلك, قراءة من قرأه على الجماع, على أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب بيان عن العباد, وترجمة عنه, لإجماع الحجة من القرّاء عليه.

وقوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) ويعني بالأيدي: القوّة, يقول: أهل القوّة على عبادة الله وطاعته. ويعني بالأبصار: أنهم أهل أبصار القلوب, يعني به: أولى العقول للحقّ.

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم في ذلك نحوًا مما قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( أُولِي الأيْدِي ) يقول: أولي القوّة والعبادة, والأبْصَارِ يقول: الفقه في الدين.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال: فضِّلوا بالقوّة والعبادة.

حدثني محمد بن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن منصور أنه قال في هذه الآية ( أُولِي الأيْدِي ) قال: القوّة.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بَزّة, عن مجاهد, في قوله ( أُولِي الأيْدِي ) قال: القوّة في أمر الله.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد ( أُولِي الأيْدِي ) قال: الأيدي: القوّة في أمر الله, ( وَالأبْصَارَ ) : العقول.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال: القوّة في طاعة الله, ( وَالأبْصَارَ ) : قال: البصر في الحقّ.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) يقول: أعطوا قوة في العبادة, وبصرًا في الدين.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال: الأيدي: القوّة في طاعة الله, والأبصار: البصر بعقولهم في دينهم.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, في قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال: الأيدي: القوّة, والأبصار: العقول.

فإن قال لنا قائل: وما الأيدي من القوّة, والأيدي إنما هي جمع يد, واليد جارحة, وما العقول من الأبصار, وإنما الأبصار جمع بصر؟ قيل: إن ذلك مثل, وذلك أن باليد البطش, وبالبطش تُعرف قوّة القويّ, فلذلك قيل للقويّ: ذو يَدٍ; وأما البصر, فإنه عنى به بصر القلب, وبه تنال معرفة الأشياء, فلذلك قيل للرجل العالم بالشيء: يصير به. وقد يُمكن أن يكون عَنى بقوله ( أُولِي الأَيْدِي ) : أولي الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة, فجعل الله أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا أيديا لهم عند الله تمثيلا لها باليد, تكون عند الرجل الآخر.

وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرؤه: « أولى الأيدِ » بغير ياء, وقد يُحتمل أن يكون ذلك من التأييد, وأن يكون بمعنى الأيدي, ولكنه أسقط منه الياء, كما قيل: يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ ، وقوله عَزّ وجلّ: ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ) يقول تعالى ذكره: إنا خصصناهم بخاصة: ذكر الدار.

واختلف القرّاء في قراءة قوله ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) فقرأته عامة قرّاء المدينة: « بخالصة ذكرى الدار » بإضافة خالصة إلى ذكرى الدار, بمعنى: أنهم أخلصوا بخالصة الذكرى, والذكرى إذا قُرئ كذلك غير الخالصة, كما المتكبر إذا قُرئ: عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بإضافة القلب إلى المتكبر, هو الذي له القلب وليس بالقلب. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق: ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) بتنوين قوله ( خَالِصَةً ) وردّ ذكرى عليها, على أن الدار هي الخالصة, فردّوا الذكر وهي معرفة على خالصة, وهي نكرة, كما قيل: لشرّ مآب: جهنم, فرد جهنم وهي معرفة على المآب وهي نكرة.

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قَرَأَة الأمصار, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

وقد اختلف أهل التأويل, في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معناه: إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى الدار: أي أنهم كانوا يذَكِّرون الناس الدار الآخرة, ويدعونهم إلى طاعة الله, والعمل للدار الآخرة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال: بهذه أخلصهم الله, كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله.

وقال آخرون: معنى ذلك أنه أخلصهم بعملهم للآخرة وذكرهم لها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ بن الحسن الأزدي, قال: ثنا يحيى بن يمان, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, في قوله ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال: بذكر الآخرة فليس لهم همّ غيرها.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال: بذكرهم الدار الآخرة, وعملهم للآخرة.

وقال آخرون: معنى ذلك: إنا أخلصناهم بأفضلِ ما في الآخرة; وهذا التأويل على قراءة من قرأه بالإضافة. وأما القولان الأوّلان فعلى تأويل قراءة من قرأه بالتنوين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: « إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار » قال: بأفضل ما في الآخرة أخلصناهم به, وأعطيناهم إياه; قال: والدار: الجنة, وقرأ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ قال: الجنة, وقرأ: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ قال: هذا كله الجنة, وقال: أخلصناهم بخير الآخرة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: خالصة عُقْبَى الدار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع, قال: ثنا أبي, عن شريك, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جُبَير ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال: عُقبى الدار.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: بخالصة أهل الدار.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن ابن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, قال: ثني ابن أبي نجيح, أنه سمع مجاهدا يقول: ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) هم أهل الدار; وذو الدار, كقولك: ذو الكلاع, وذو يَزَن.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يتأوّل ذلك على القراءة بالتنوين ( بِخَالِصَةٍ ) عمل في ذكر الآخرة.

وأولى الأقوال بالصواب في ذلك على قراءة من قرأه بالتنوين أن يقال: معناه: إنا أخلصناهُمْ بخالصة هي ذكرى الدار الآخرة, فعملوا لها في الدنيا, فأطاعوا الله وراقبوه; وقد يدخل في وصفهم بذلك أن يكون من صفتهم أيضا الدعاء إلى الله وإلى الدار الآخرة, لأن ذلك من طاعة الله, والعمل للدار الآخرة, غير أن معنى الكلمة ما ذكرت. وأما على قراءة من قرأه بالإضافة, فأن يقال: معناه: إنا أخلصناهم بخالصة ما ذكر في الدار الآخرة; فلمَّا لم تُذْكر « في » أضيفت الذكرى إلى الدار كما قد بيَّنا قبل في معنى قوله لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وقوله بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ

وقوله ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ) يقول: وإن هؤلاء الذين ذكرنا عندنا لمن الذين اصطفيناهم لذكرى الآخرة الأخيار, الذين اخترناهم لطاعتنا ورسالتنا إلى خلقنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ( 48 ) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ( 49 )

يقول تعالى ذكره لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: واذكر يا محمد إسماعيل واليسع وذا الكفل, وما أبلوا في طاعة الله, فتأسَّ بهم, واسلك منهاجَهم في الصبر على ما نالك في الله, والنفاذ لبلاغ رسالته. وقد بينا قبل من أخبار إسماعيل واليسع وذا الكفل فيما مضى من كتابنا هذا ما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. والكِفْل في كلام العرب: الحظّ والجَدّ.

وقوله ( هَذَا ذِكْرُ ) يقول تعالى ذكره: هذا القرآن الذي أنـزلناه إليك يا محمد ذكر لك ولقومك, ذكرناك وإياهم به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( هَذَا ذِكْرُ ) قال: القرآن.

وقوله: ( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) يقول: وإن للمتقين الذين اتقوا الله فخافوه بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه, لحسنَ مَرْجع يرجعون إليه في الآخرة, ومَصِير يصيرون إليه. ثم أخبر تعالى ذكره عن ذلك الذي وعده من حُسن المآب ما هو, فقال: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ .

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) قال: لحسن منقلب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ ( 50 ) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ( 51 )

قوله تعالى ذكره: ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) : بيان عن حسن المآب, وترجمة عنه, ومعناه: بساتينُ إقامة. وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده, وذكرنا ما فيه من الاختلاف فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقد حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, فال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) قال: سأل عمر كعبا ما عَدَن؟ قال: يا أمير المؤمنين, قصور في الجنة من ذهب يسكنها النبيون والصدّيقون والشهداء وأئمةُ العدل.

وقوله ( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) يعني: مفتحة لهم أبوابها; وأدخلت الألف واللام في الأبواب بدلا من الإضافة, كما قيل: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى بمعنى: هي مَأْواه, وكما قال الشاعر:

مــا وَلَــدتْكُمْ حَيَّــةُ ابْنَـة مـالِكٍ سِـفاحا وَمـا كَـانَتْ أحـاديثَ كاذِبِ

وَلَكِــنْ نَـرَى أقْدَامَنَـا فِـي نِعَـالِكُمْ وآنفُنَــا بيــنَ اللِّحَـى والحَوَاجِـبِ

بمعنى: بين لحاكم وحواجبكم; ولو كانت الأبواب جاءت بالنصب لم يكن لحنا, وكان نصبه على توجيه المفتحة في اللفظ إلى جنات, وإن كان في المعنى للأبواب, وكان كقول الشاعر:

وَمــا قَــوْمي بثَعْلَبَـةَ بْـنِ سَـعْدٍ وَلا بِفَـــزَارَةَ الشِّـــعْرَ الرَقابــا

ثم نوِّنت مفتحة, ونصبت الأبواب.

فإن قال لنا قائل: وما في قوله ( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) من فائدة خبر حتى ذكر ذلك؟ قيل: فإن الفائدة في ذلك إخبار الله تعالى عنها أن أبوابها تفتح لهم بغير فتح سكانها إياها, بمعاناة بيد ولا جارحة, ولكن بالأمر فيما ذُكر.

كما حدثنا أحمد بن الوليد الرملي, قال: ثنا ابن نفيل, قال: ثنا ابن دعيج, عن الحسن, في قوله ( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) قال: أبواب تكلم, فتكلم: انفتحي, انغلقي.

وقوله ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ) يقول: متكئين في جنات عدن, على سُرر يدعون فيها بفاكهة, يعني بثمار من ثمار الجنة كثيرة, وشراب من شرابها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ( 52 ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 53 ) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ( 54 )

( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ )

يقول تعالى ذكره: عند هؤلاء المتقين الذين أكرمهم الله بما وصف في هذه الآية من إسكانهم جنات عدن ( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) يعني: نساء قصرت أطرافهنّ على أزواجهنّ, فلا يردن غيرهم, ولا يمددن أعينهن إلى سواهم.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال: قصرن طرفهن على أزواجهن , فلا يردن غيرهم.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال: قصرن أبصارهنّ وقلوبهنّ وأسماعهنّ على أزواجهنّ, فلا يردن غيرهم.

وقوله ( أَتْرَابٌ ) يعني: أسنان واحدة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف بين أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ) قال: أمثال.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَتْرَابٌ ) سن واحدة.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( أَتْرَابٌ ) قال: مستويات. قال: وقال بعضهم: متواخيات لا يتباغضن, ولا يتعادين, ولا يتغايرن, ولا يتحاسدن.

وقوله ( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي يعدكم الله في الدنيا أيها المؤمنون به من الكرامة لمن أدخله الله الجنة منكم في الآخرة.

كما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) قال: هو في الدنيا ليوم القيامة.

وقوله ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي أعطينا هؤلاء المتقين في جنَّات عدن من الفاكهة الكثيرة والشراب, والقاصرات الطرف, ومكنَّاهم فيها من الوصول إلى اللّذات وما اشْتهته فيها أنفسهم لرزقنا, رزقناهم فيها كرامة منا لهم ( مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) يقول: ليس له عنهم انقطاع ولا له فناء, وذلك أنهم كلما أخذوا ثمرة من ثمار شجرة من أشجارها, فأكلوها, عادت مكانها أخرى مثلها, فذلك لهم دائم أبدا, لا ينقطع انقطاع ما كان أهل الدنيا أوتوه فى الدنيا, فانقطع بالفناء, ونَفِد بالإنفاد.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) قال: رزق الجنة, كلما أخذ منه شيء عاد مثله مكانه, ورزق الدنيا له نفاد.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) : أي ما له انقطاع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ( 55 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 56 ) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( 57 ) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ( 58 ) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ( 59 ) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 60 )

يعني تعالى ذكره بقوله ( هَذَا ) : الذي وصفت لهؤلاء المتقين: ثم استأنف جلّ وعزّ الخبر عن الكافرين به الذين طَغَوا عليه وبَغَوا, فقال: ( وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ) وهم الذين تمرّدوا على ربهم, فعصوا أمره مع إحسانه إليهم ( لَشَرَّ مَآبٍ ) يقول: لشرّ مرجع ومصير يصيرون إليه في الآخرة بعد خروجهم من الدنيا.

كما حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) قال: لشرَّ مُنْقَلَب. ثم بين تعالى ذكره: ما ذلك الذي إليه ينقلبون ويصيرون في الآخرة, فقال: ( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) فترجم عن جهنم بقوله ( لَشَرَّ مَآبٍ ) ومعنى الكلام: إن للكافرين لشرَّ مَصِير يصيرون إليه يوم القيامة, لأن مصيرهم إلى جهنم, وإليها منقلبهم بعد وفاتهم ( فَبِئْسَ الْمِهَادُ ) يقول تعالى ذكره: فبئس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم جهنم.

وقوله ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) يقول تعالى ذكره: هذا حميم, وهو الذي قد أغلي حتى انتهى حرّه, وغساق فَلْيذوقوه; فالحميم مرفوع بهذا, وقوله ( فَلْيَذُوقُوهُ ) معناه التأخير, لأن معنى الكلام ما ذكرت, وهو: هذا حميم وغساق فليذوقوه. وقد يتجه إلى أن يكون هذا مكتفيا بقوله فليذوقوه ثم يُبْتَدأ فيقال: حميم وغَسَّاق, بمعنى: منه حميم ومنه غَسَّاق.

كما قال الشاعر:

حـتى إذا أضَـاءَ الصُّبْـحُ فـي غَلَسٍ وَغُــودِرَ البَقْـلُ مَلْـوِيٌّ وَمَحْـصُودٌ

وإذا وُجِّه إلى هذا المعنى جاز في هذا النصب والرفع. النصب: على أن يُضْمر قبلها لها ناصب, كما قال الشاعر:

زِيادَتَنـــا نُعْمــانُ لا تَحْرِمَنَّنــا تَـقِ اللـه فِينـا والكِتـابَ الَّـذي تَتْلُو

والرفع بالهاء في قوله ( فَلْيَذُوقُوهُ ) كما يقال: الليلَ فبادروه, والليلُ فبادروه.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل , قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال: الحميم: الذي قد انتهى حَرُّه.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الحميم دموع أعينهم, تجمع في حياض النار فيسقونه.

وقوله ( وَغَسَّاقٌ ) اختلفت القرّاء في قراءته, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين والشام بالتخفيف: « وَغَسَاق » وقالوا: هو اسم موضوع. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: ( وَغَسَّاقٌ ) مشددة, ووجهوه إلى أنه صفة من قولهم: غَسَقَ يَغْسِقُ غُسُوقا: إذا سال, وقالوا: إنما معناه: أنهم يُسْقَون الحميم, وما يسيل من صديدهم.

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب, وإن كان التشديد في السِّين أتم عندنا في ذلك, لأن المعروف ذلك في الكلام, وإن كان الآخر غير مدفوعة صحته.

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فقال بعضهم: هو ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال: كنا نحدث أن الغسَّاق: ما يَسِيل من بين جلده ولحمه.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قال: الغساق: الذي يسيل من أعينهم من دموعهم, يسقونه مع الحميم.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم, قال: الغسَّاق: ما يسيل من سُرْمهم, وما يسقط من جلودهم.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد ( الغساق ) : الصديد الذي يجمع من جلودهم مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه.

حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهميّ, قال: ثني أبي, قال: ثنا ابن لَهِيعة, قال: ثني أبو قبيل أنه سمع أبا هبيرة الزيادي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: أيّ شيء الغسَّاق؟ قالوا: الله أعلم, فقال عبد الله بن عمرو: هو القَيْح الغليظ, لو أن قطرة منه تُهَرَاق في المغرب لأنتنت أهل المشرق, ولو تُهَرَاق في المشرق لأنتنت أهل المغرب.

قال يحيى بن عثمان, قال أبي: ثنا ابن لهيعة مرة أخرى, فقال: ثنا أبو قبيل, عن عبد الله بن هبيرة, ولم يذكر لنا أبا هبيرة.

حدثنا ابن عوف, قال: ثنا أبو المغيرة, قال: ثنا صفوان, قال: ثنا أبو يحيى عطية الكلاعيّ, أن كعبا كان يقول: هل تدرون ما غسَّاق؟ قالوا: لا والله, قال: عين في جهنم يسيل إليها حُمَّةٌ كل ذات حُمَة من حية أو عقرب أو غيرها, فيستنقع فيؤتى بالآدمي, فيُغْمَس فيها غمسة واحدة, فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام. حتى يتعلق جلده في كعبيه وعقبيه, وينجر لحمه كجر الرجل ثوبه.

وقال آخرون: هو البارد الذي لا يستطاع من برده.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن يحيى بن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( وَغَسَّاقٌ ) قال: بارد لا يُسْتطاع, أو قال: برد لا يُسْتطاع.

حدثني عليّ بن عبد الأعلى, قال: ثنا المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال: يقال: الغسَّاق: أبرد البرد, ويقول آخرون: لا بل هو أنْتَن النَّتْن.

وقال آخرون: بل هو المُنْتِن.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن المسيب, عن إبراهيم النكري, عن صالح بن حيان, عن أبيه, عن عبد الله بن بُرَيدة, قال: الغسَّاق: المنتن, وهو بالطُّخارية .

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني عمرو بن الحارث, عن درّاج, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدريّ, أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: « لَوْ أنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهَراقُ فِي الدُّنْيا لأنْتَنَ أهْلَ الدُّنْيا » .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو ما يسيل من صديدهم, لأن ذلك هو الأغلب من معنى الغُسُوق, وإن كان للآخر وجه صحيح.

وقوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) على التوحيد, بمعنى: هذا حميم وغساق فليذوقوه, وعذاب آخر من نحو الحميم ألوان وأنواع, كما يقال: لك عذاب من فلان: ضروب وأنواع; وقد يحتمل أن يكون مرادًا بالأزواج الخبر عن الحميم والغساق, وآخر من شكله, وذلك ثلاثة, فقيل أزواج, يراد أن ينعت بالأزواج تلك الأشياء الثلاثة. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: « وأخَرُ » على الجماع, وكأن من قرأ ذلك كذلك كان عنده لا يصلح أن يكون الأزواج وهي جمع نَعْتا لواحد, فلذلك جمع أخر, لتكون الأزواج نعتا لها; والعرب لا تمنع أن ينعَت الاسم إذا كان فعلا بالكثير والقليل والاثنين كما بيَّنا, فتقول: عذاب فلان أنواع, ونوعان مختلفان.

وأعجب القراءتين إليَّ أن أقرأ بها: ( وآخَرُ ) على التوحيد, وإن كانت الأخرى صحيحة لاستفاضة القراءة بها في قرّاء الأمصار; وإنما اخترنا التوحيد لأنه أصحّ مخرجا في العربية, وأنه في التفسير بمعنى التوحيد. وقيل إنه الزَّمهرير.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن السديّ, عن مُرّة, عن عبد الله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال الزمهرير.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا يحيى, قال: ثنا سفيان, عن السديّ, عن مرة, عن عبد الله, بمثله.

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا معاوية, عن سفيان, عن السديّ, عمن أخبره عن عبد الله بمثله, إلا أنه قال: عذاب الزمهرير.

حدثنا محمد قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, عن مرّة الهمداني, عن عبد الله بن مسعود, قال: هو الزمهرير.

حُدثت عن يحيى بن أبي زائدة, عن مبارك بن فضالة, عن الحسن, قال: ذكر الله العذاب, فذكر السلاسل والأغلال, وما يكون في الدنيا, ثم قال: ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال: وآخر لم ير في الدنيا.

وأما قوله ( مِنْ شَكْلِهِ ) فإن معناه: من ضربه, ونحوه يقول الرجل للرجل: ما أنت من شكلي, بمعنى: ما أنت من ضربي بفتح الشين. وأما الشِّكْل فإنه من المرأة ما عَلَّقَتْ مما تتحسن به, وهو الدَّلُّ أيضا منها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) يقول: من نحوه.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) من نحوه.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال: من كُلّ شَكْلٍ ذلك العذاب الذي سمى الله, أزواج لم يسمها الله, قال: والشَّكل: الشبيه.

وقوله ( أَزْوَاجٌ ) يعني: ألوان وأنواع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال: ألوان من العذاب.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَزْوَاجٌ ) زوج زوج من العذاب.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( أَزْوَاجٌ ) قال: أزواج من العذاب في النار.

وقوله ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) يعني تعالى ذكره بقوله ( هَذَا فَوْجٌ ) هذا فرقة وجماعة مقتحمة معكم أيها الطاغون النار, وذلك دخول أمة من الأمم الكافرة بعد أمة; ( لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) وهذا خبر من الله عن قيلِ الطاغين الذين كانوا قد دخلوا النار قبل هذا الفوج المقتحِم للفوج المقتَحم فيها عليهم, لا مرحبا بهم, ولكن الكلام اتصل فصار كأنه قول واحد, كما قيل: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فاتصل قول فرعون بقول ملئه, وهذا كما قال تعالى ذكره مخبرا عن أهل النار: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا

ويعني بقولهم: ( لا مَرْحَبًا بِهِمْ ) لا اتسعت بهم مداخلهم, كما قال أبو الأسود:

لا مرْحَب وَاديكَ غيرُ مُضَيَّقِ

وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) في النار ( لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ . قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ ) .. حتى بلغ: ( فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) قال: هؤلاء التباع يقولون للرءوس.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ ) قال: الفوج: القوم الذين يدخلون فوجا بعد فوج, وقرأ: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا التي كانت قبلها. وقوله ( إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) يقول: إنهم واردو النار وداخلوها. ( قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ ) يقول: قال الفوج الواردون جهنم على الطاغين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم لهم: بل أنتم أيها القوم لا مرحبا بكم: أي لا اتسعت بكم أماكنكم, ( أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ) يعنون: أنتم قدمتم لنا سُكنى هذا المكان, وصِليّ النار بإضلالكم إيانا, ودعائكم لنا إلى الكفر بالله, وتكذيب رسله, حتى ضللنا باتباعكم, فاستوجبنا سكنى جهنم اليوم, فذلك تقديمهم لهم ما قدموا في الدنيا من عذاب الله لهم في الآخرة

( فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) يقول: فبئس المكان يُسْتَقَرُّ فيه جهنم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ( 61 )

وهذا أيضا قول الفوج المقتحم على الطاغين, وهم كانوا أتباع الطاغين في الدنيا, يقول جل ثناؤه: وقال الأتباع: ( رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا ) يعنون: من قدم لهم في الدنيا بدعائهم إلى العمل الذي يوجب لهم النار التي ورودها, وسكنى المنـزل الذي سكنوه منها. ويعنون بقولهم ( هَذَا ) : العذاب الذي وردناه ( فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ) يقولون: فأضعف له العذاب في النار على العذاب الذي هو فيه فيها, وهذا أيضا من دعاء الأتباع للمتبوعين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ ( 62 ) أََتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ ( 63 ) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ( 64 )

يقول تعالى ذكره: قال الطاغون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم في هذه الآيات, وهم فيما ذُكر أبو جهل والوليد بن المُغيرة وذووهما: ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا ) يقول: ما بالنا لا نرى معنا في النار رجالا ( كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) يقول: كنا نعدهم في الدنيا من أشرارنا, وعنوا بذلك فيما ذُكر صُهَيْبا وخَبَّابا وبِلالا وسَلْمان.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن ليث, عن مجاهد, في قوله ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: ذاك أبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة, وذكر أناسا صُهيبا وَعَمَّارًا وخبابا, كنَّا نعدّهم من الأشرار في الدنيا.

حدثنا أبو السائب, قال: ثنا ابن إدريس, قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد في قوله ( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: قالوا: أين سَلْمان؟ أين خَبَّاب؟ أين بِلال؟.

وقوله ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا ) اختلفت القرّاء في قراءته, فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام وبعض قرّاء الكوفة: ( أَتَّخَذْنَاهُمْ ) بفتح الألف من أتخذناهم, وقطعها على وجه الاستفهام, وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة, وبعض قرّاء مكة بوصل الألف من الأشرار: « اتخذناهم » . وقد بيَّنا فيما مضى قبلُ, أن كل استفهام كان بمعنى التعجب والتوبيخ, فإن العرب تستفهم فيه أحيانا, وتُخرجه على وجه الخبر أحيانا.

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالوصل على غير وجه الاستفهام, لتقدّم الاستفهام قبل ذلك في قوله ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا ) فيصير قوله: « اتخذناهم » بالخبر أولى وإن كان للاستفهام وجه مفهوم لما وصفتُ قبل من أنه بمعنى التعجب.

وإذ كان الصواب من القراءة في ذلك ما اخترنا لما وصفنا, فمعنى الكلام: وقال الطاغون: ما لنا لا نرى سَلْمان وبِلالا وخَبَّابا الذين كنَّا نعدّهم في الدنيا أشرارا, أتخذناهم فيها سُخريا نهزأ بهم فيها معنا اليوم في النار؟.

وكان بعض أهل العلم بالعربية من أهل البصرة يقول: من كسر السين من السُّخْريّ, فإنه يريد به الهُزْء, يريد يسخر به, ومن ضمها فإنه يجعله من السُّخْرَة, يستسخِرونهم: يستذِلُّونهم, أزاغت عنهم أبصارنا وهم معنا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) يقول: أهم في النار لا نعرف مكانهم؟.

حُدثت عن المحاربيّ, عن جويبر, عن الضحاك ( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: هم قوم كانوا يسخَرون من محمد وأصحابه, فانطلق به وبأصحابه إلى الجنة وذهب بهم إلى النار ف ( َقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَار أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) يقولون: أزاغت أبصارنا عنهم فلا ندري أين هم؟.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا ) قال: أخطأناهم ( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) ولا نراهم؟.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: فقدوا أهل الجنة ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا ) في الدنيا ( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) وهم معنا في النار.

وقوله ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ ) يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي أخبرتكم أيها الناس من الخبر عن تراجع أهل النار, ولعْن بعضهم بعضا, ودعاء بعضهم على بعض في النار لحق يقين, فلا تشكُّوا في ذلك, ولكن استيقنوه تخاصم أهل النار.

وقوله ( تَخَاصُمُ ) رد على قوله ( لَحَقٌّ ) ومعنى الكلام: إن تخاصم أهل النار الذي أخبرتكم به لحقّ.

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يوجه معنى قوله ( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) إلى: بل زاغت عنهم.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) فقرأ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وقرأ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا .. حتى بلغ: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ قال: إن كنتم تعبدوننا كما تقولون إن كنا عن عبادتكم لغافلين, ما كنا نسمع ولا نبصر, قال: وهذه الأصنام, قال: هذه خصومة أهل النار, وقرأ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ قال: وضل عنهم يوم القيامة ما كانوا يفترون في الدنيا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 65 ) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 66 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( قُلْ ) يا محمد لمشركي قومك. ( إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ ) لكم يا معشر قريش بين يدي عذاب شديد, أنذركم عذاب الله وسخطه أن يحلّ بكم على كفركم به, فاحذروه وبادروا حلوله بكم بالتوبة ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) يقول: وما من معبود تصلح له العبادة, وتنبغي له الربوبية, إلا الله الذي يدين له كل شيء, ويعبدُه كلّ خلق, الواحد الذي لا ينبغي أن يكون له في ملكه شريك, ولا ينبغي أن تكون له صاحبة, القهار لكلّ ما دونه بقدرته, ربّ السموات والأرض, يقول: مالك السموات والأرض وما بينهما من الخلق; يقول: فهذا الذي هذه صفته, هو الإله الذي لا إله سواه, لا الذي لا يملك شيئا, ولا يضرّ, ولا ينفع. وقوله ( الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) يقول: العزيز في نقمته من أهل الكفر به, المدّعين معه إلها غيره, الغفَّار لذنوب من تاب منهم ومن غيرهم من كفره ومعاصيه, فأناب إلى الإيمان به, والطاعة له بالانتهاء إلى أمره ونهيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ( 67 ) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ( 68 ) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 69 ) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 70 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( قُلْ ) يا محمد لقومك المكذبيك فيما جئتهم به من عند الله من هذا القرآن, القائلين لك فيه: إن هذا إلا اختلاق ( هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ) يقول: هذا القرآن خبر عظيم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي, قال: ثنا أبو أسامة, عن شبل بن عباد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) قال: القرآن.

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا هشام, عن ابن سيرين, عن شريح, أن رجلا قال له: أتقضي عليّ بالنبأ؟ قال: فقال له شريح: أو ليس القرآن نبأ؟ قال: وتلا هذه الآية: ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ) قال: وقضَى عليه.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) قال: القرآن.

وقوله ( أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) يقول: أنتم عنه منصرفون لا تعملون به, ولا تصدّقون بما فيه من حجج الله وآياته.

وقوله ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى ) يقول لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك: ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) في شأن آدم من قبل أن يوحي إلي ربّي فيعلمني ذلك, يقول: ففي إخباري لكم عن ذلك دليل واضح على أن هذا القرآن وحي من الله وتنـزيل من عنده, لأنكم تعلمون أن علم ذلك لم يكن عندي قبل نـزول هذا القرآن, ولا هو مما شاهدته فعاينته, ولكني علمت ذلك بإخبار الله إياي به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) قال: الملأ الأعلى: الملائكة حين شوروا في خلق آدم, فاختصموا فيه, وقالوا: لا تجعل في الأرض خليفة.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) هو: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى ) قال: هم الملائكة, كانت خصومتهم في شأن آدم حين قال ربك للملائكة: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ... حتى بلغ سَاجِدِينَ وحين قال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ... حتى بلغ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ففي هذا اختصم الملأ الأعلى.

وقوله ( إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قريش: ما يوحي الله إليّ علم ما لا علم لي به, من نحو العلم بالملأ الأعلى واختصامهم في أمر آدم إذا أراد خلقه, إلا لأني إنما أنا نذير مبين; « فإنما » على هذا التأويل في موضع خفض على قول من كان يرى أن مثل هذا الحرف الذي ذكرنا لا بد له من حرف خافض, فسواء إسقاط خافضه منه وإثباته. وإما على قول من رأى أن مثل هذا ينصب إذا أسقط منه الخافض, فإنه على مذهبه نصب, وقد بيَّنا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقد يتجه لهذا الكلام وجه آخر, وهو أن يكون معناه: ما يوحي الله إلى إنذاركم. وإذا وجه الكلام إلى هذا المعنى, كانت « أنما » في موضع رفع, لأن الكلام يصير حينئذ بمعنى: ما يوحى إلي إلا الإنذار.

قوله ( إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) يقول: إلا أني نذير لكم مبين لكم إلا إنذاركم. وقيل: إلا أنما أنا, ولم يقل: إلا أنما أنك, والخبر من محمد عن الله, لأن الوحْي قول, فصار في معنى الحكاية, كما يقال في الكلام: أخبروني أني مسيء, وأخبروني أنك مسيء بمعنى واحد, كما قال الشاعر:

رَجُــلانِ مِــنْ ضَبَّــةَ أخْبَرَانـا أنَّـــا رأيْنــا رَجُــلا عُرْيانــا

بمعنى: أخبرانا أنهما رأيا, وجاز ذلك لأن الخبر أصله حكاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ( 71 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( 72 ) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( 73 ) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 74 )

وقوله ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ ) من صلة قوله إِذْ يَخْتَصِمُونَ وتأويل الكلام: ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون حين قال ربك يا محمد ( لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ) يعني بذلك خلق آدم.

وقوله ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) يقول تعالى ذكره: فإذا سويت خلقه, وعدلت صورته, ونفخت فيه من روحي, قيل: عني بذلك: ونفخت فيه من قُدرتي.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن المسيب بن شريك, عن أبي روق, عن الضحاك ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال: من قدرتي.

( فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) يقول: فاسجدوا له وخِرّوا له سُجَّدا.

وقوله ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) يقول تعالى ذكره: فلما سوّى الله خلق ذلك البشر, وهو آدم, ونفخ فيه من روحه, سجد له الملائكة كلهم أجمعون, يعني بذلك: الملائكة الذين هم في السموات والأرض.

( إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ ) يقول: غير إبليس, فإنه لم يسجد, استكبر عن السجود له تعظُّمًا وتكبرا

( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) يقول: وكان بتعظُّمه ذلك, وتكبره على ربه ومعصيته أمره, ممن كفر في علم الله السابق, فجحد ربوبيته, وأنكر ما عليه الإقرار له به من الإذعان بالطاعة.

كما حدثنا أبو كُرَيب, قال: قال أبو بكر في: ( إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) قال: قال ابن عباس: كان في علم الله من الكافرين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ( 75 ) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 76 )

يقول تعالى ذكره: ( قَالَ ) الله لإبليس, إذ لم يسجد لآدم, وخالف أمره: ( يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ) يقول: أي شيء منعك من السجود ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) يقول: لخلق يديّ ; يخبر تعالى ذكره بذلك أنه خلق آدم بيديه.

كما حدثنا ابن المثني, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, قال: أخبرني عبيد المكتب, قال: سمعت مجاهدا يحدّث عن ابن عمر, قال: خلق الله أربعة بيده: العرش, وعَدْن, والقلم, وآدم, ثم قال لكلّ شيء كن فكان.

وقوله ( أَسْتَكْبَرْت ) يقول لإبليس: تعظَّمت عن السجود لآدم, فتركت السجود له استكبارا عليه, ولم تكن من المتكبرين العالين قبل ذلك ( أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ) يقول: أم كنت كذلك من قبل ذا علوّ وتكبُّر على ربك ( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ ) يقول جل ثناؤه: قال إبليس لربه: فعلت ذلك فلم أسجد للذي أمرتني بالسجود له لأني خير منه وكنت خيرا لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين, والنار تأكل الطين وتحرقه, فالنار خير منه, يقول: لم أفعل ذلك استكبارا عليك, ولا لأني كنت من العالين, ولكني فعلته من أجل أني أشرف منه; وهذا تقريع من الله للمشركين الذين كفروا بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, وأبوا الانقياد له, واتباع ما جاءهم به من عند الله استكبارا عن أن يكونوا تبعا لرجل منهم حين قالُوا: أَؤُنْـزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا و هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فقصّ عليهم تعالى قصة إبليس وإهلاكه باستكباره عن السجود لآدم بدعواه أنه خير منه, من أجل أنه خلق من نار, وخلق آدم من طين, حتى صار شيطانا رجيما, وحقت عليه من الله لعنته, محذّرهم بذلك أن يستحقوا باستكبارهم على محمد, وتكذيبهم إياه فيما جاءهم به من عند الله حسدا, وتعظما من اللعن والسخط ما استحقه إبليس بتكبره عن السجود لآدم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( 77 ) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ( 78 ) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 79 )

يقول تعالى ذكره لإبليس: ( فَاخْرُجْ مِنْهَا ) يعني من الجنة ( فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) يقول: فإنك مرجوم بالقوم, مشتوم ملعون.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) قال: والرجيم: اللعين.

حُدثت عن المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك بمثله.

وقوله ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي ) يقول: وإن لك طردي من الجنة ( إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) يعني: إلى يوم مجازاة العباد ومحاسبتهم ( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبليس لربه: ربّ فإذ لعنتني, وأخرجتني من جنتك ( فَأَنْظِرْنِي ) يقول: فأخرني في الأجل, ولا تهلكني ( إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول: إلى يوم تبعث خلقك من قبورهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 80 ) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( 81 ) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 82 ) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( 83 )

يقول تعالى ذكره: قال الله لإبليس: فإنك ممن أنظرته إلى يوم الوقت المعلوم, وذلك الوقت الذي جعله الله أجلا لهلاكه. وقد بيَّنت وقت ذلك فيما مضى على اختلاف أهل العلم فيه، وقال: ( فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبليس: فبعزّتك: أي بقدرتك وسلطانك وقهرك ما دونك من خلقك ( لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول: لأضلَّنّ بني آدم أجمعين ( إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) يقول: إلا من أخلصته منهم لعبادتك, وعصمتَه من إضلالي, فلم تجعل لي عليه سبيلا فإني لا أقدر على إضلاله وإغوائه.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) قال: علم عدوّ الله أنه ليست له عزّة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ( 84 ) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ( 85 ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ( 86 )

اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) فقرأه بعض أهل الحجاز وعامة الكوفيين برفع الحقّ الأوّل, ونصب الثاني. وفي رفع الحقّ الأول إذا قرئ كذلك وجهان: أحدهما رفعه بضمير لله الحق, أو أنا الحق وأقول الحق. والثاني: أن يكون مرفوعا بتأويل قوله ( لأمْلأنَّ ) فيكون معنى الكلام حينئذ: فالحق أن أملأ جهنم منك, كما يقول: عزمة صادقة لآتينك, فرفع عزمة بتأويل لآتينك, لأن تأويله أن آتيك, كما قال: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ فلا بدّ لقوله بَدَا لَهُمْ من مرفوع, وهو مضمر في المعنى. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين والكوفيين بنصب الحقّ الأوّل والثاني كليهما, بمعنى: حقا لأملأن جهنم والحقّ أقول, ثم أدخلت الألف واللام عليه, وهو منصوب, لأن دخولهما إذا كان كذلك معنى الكلام وخروجهما منه سواء, كما سواء قولهم: حمدا لله, والحمد لله عندهم إذا نصب. وقد يحتمل أن يكون نصبه على وجه الإغراء بمعنى: الزموا الحقّ, واتبعوا الحقّ, والأوّل أشبه لأنه خطاب من الله لإبليس بما هو فاعل به وبتُبَّاعه.

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار, فبأيتهما قرأ القاريّ فمصيب, لصحة معنييهما.

وأما الحقّ الثاني, فلا اختلاف في نصبه بين قرّاء الأمصار كلهم, بمعنى: وأقول الحق.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد, في قوله ( فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) يقول الله: أنا الحقُّ, والحقَّ أقول.

وحُدثت عن ابن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) يقول الله: الحقُّ مني, وأقول الحقَّ.

حدثنا أحمد بن يوسف, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا حجاج, عن هارون, قال: ثنا أبان بن تغلب, عن طلحة اليامي, عن مجاهد, أنه قرأها ( فَالحَقُّ ) بالرفع ( وَالْحَقَّ أَقُولُ ) نصبا وقال: يقول الله: أنا الحق, والحق أقول.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) قال: قسم أقسم الله به.

وقوله ( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ) يقول لإبليس: لأملأن جهنم منك وممن تبعك من بني آدم أجمعين. وقوله ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك, القائلين لك أَؤُنْـزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا : ما أسألكم على هذا الذكر وهو القرآن الذي أتيتكم به من عند الله أجرًا, يعني ثوابًا وجزاء ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) يقول: وما أنا ممن يتكلف تخرصه وافتراءه, فتقولون: إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ و إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ .

كما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) قال: لا أسألكم على القرآن أجرا تعطوني شيئا, وما أنا من المتكلفين أتخرّص وأتكلف ما لم يأمرني الله به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 87 ) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ( 88 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء المشركين من قومك: ( إِنْ هُوَ ) يعني: ما هذا القرآن ( إِلا ذِكْرٌ ) يقول: إلا تذكير من الله ( لِلْعَالَمِينَ ) من الجنّ والإنس, ذكرهم ربهم إرادة استنقاذ من آمن به منهم من الهَلَكة. وقوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) يقول: ولتعلمن أيها المشركون بالله من قريش نبأه, يعني: نبأ هذا القرآن, وهو خبره, يعني حقيقة ما فيه من الوعد والوعيد بعد حين.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ ) قال: صدق هذا الحديث نبأ ما كذّبوا به., قيل: ( نَبَأَهُ ) حقيقة أمر محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه نبيّ.

ثم اختلفوا في مدة الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع: ما هي, وما نهايتها؟ فقال بعضهم: نهايتها الموت.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) : أي بعد الموت; وقال الحسن: يابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.

وقال بعضهم: كانت نهايتها إلى يوم بدر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) قال: يوم بدر.

وقال بعضهم: يوم القيامة. وقال بعضهم: نهايتها القيامة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) قال: يوم القيامة يعلمون نبأ ما كذبوا به بعد حين من الدنيا وهو يوم القيامة. وقرأ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قال: وهذا أيضا الآخرة يستقرّ فيها الحقّ, ويبطل الباطل.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أعلم المشركين المكذبين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين من غير حد منه لذلك الحين بحد, وقد علم نبأه من أحيائهم الذين عاشوا إلى ظهور حقيقته, ووضوح صحته في الدنيا, ومنهم من علم حقيقة ذلك بهلاكه ببدر, وقبل ذلك, ولا حد عند العرب للحين, لا يُجاوز ولا يقصر عنه. فإذ كان ذلك كذلك فلا قول فيه أصح من أن يطلق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على وقت دون وقت.

وبنحو الذين قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب ابن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, قال: ثنا أيوب, قال: قال عكرمة: سُئِلْت عن رجل حلف أن لا يصنع كذا وكذا إلى حين, فقلت: إن من الحين حينا لا يُدرك, ومن الحين حين يدرك, فالحين الذي لا يُدرك قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) والحين الذي يدرك قوله تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وذلك من حين تُصْرَم النخلة إلى حين تُطْلِع, وذلك ستة أشهر.

آخر تفسير سورة ص

 

تفسير سورة الزمر

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القول في تأويل قوله تعالى : تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( 2 ) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

يقول تعالى ذكره: ( تَنـزيلُ الْكِتَابِ ) الذي نـزلناه عليك يا محمد ( مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ ) في انتقامه من أعدائه ( الحَكِيمِ ) في تدبيره خلقه, لا من غيره, فلا تكوننّ في شكّ من ذلك، ورفع قوله: ( تَنـزيلُ ) بقوله: ( مِنَ اللَّهِ ) وتأويل الكلام: من الله العزيز الحكيم تنـزيل الكتاب. وجائز رفعه بإضمار هذا, كما قيل: سُورَةٌ أَنْـزَلْنَاهَا غير أن الرفع في قوله: ( تَنـزيلُ الْكِتَابِ ) بما بعده, أحسن من رفع سورة بما بعدها, لأن تنـزيل, وإن كان فعلا فإنه إلى المعرفة أقرب, إذ كان مضافا إلى معرفة, فحسن رفعه بما بعده, وليس ذلك بالحسن في « سُورَة » , لأنه نكرة.

وقوله: ( إِنَّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إنا أنـزلنا إليك يا محمد الكتاب, يعني بالكتاب: القرآن ( بِالْحَقِّ ) يعني بالعدل، يقول: أنـزلنا إليك هذا القرآن يأمر بالحقّ والعدل, ومن ذلك الحق والعدل أن تعبد الله مخلصا له الدين, لأن الدين له لا للأوثان التي لا تملك ضرا ولا نفعا. , وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( الكِتابَ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) يعني: القرآن.

وقوله: ( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) يقول تعالى ذكره: فاخشع لله يا محمد بالطاعة, وأخلص له الألوهة, وأفرده بالعبادة, ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكا, كما فَعَلَتْ عَبَدة الأوثان.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا يعقوب, عن حفص, عن شمر, قال: « يؤتى بالرجل يوم القيامة للحساب وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات, فيقول ربّ العزّة جلّ وعزّ: صَلَّيت يوم كذا وكذا, ليقال: صلَّى فلان! أنا الله لا إله إلا أنا, لي الدين الخالص. صمتَ يوم كذا وكذا, ليقال: صام فلان! أنا الله لا آله إلا أنا لي الدين الخالص, تصدّقت يوم كذا وكذا, ليقال: تصدق فلان! أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص، فما يزال يمحو شيئا بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء, فيقول ملكاه: يا فلان, ألغير الله كنت تعمل » .

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, أما قوله: ( مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) فالتوحيد, والدين منصوب بوقوع مخلصا عليه.

وقوله: ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) يقول تعالى ذكره: ألا لله العبادة والطاعة وحده لا شريك له, خالصة لا شرك لأحد معه فيها, فلا ينبغي ذلك لأحد, لأن كل ما دونه ملكه, وعلى المملوك طاعة مالكه لا من لا يملك منه شيئا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) شهادة أن لا إله إلا الله.

وقوله: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) يقول تعالى ذكره: والذين اتخذوا من دون الله أولياء يَتَوَلَّوْنَهُم, ويعبدونهم من دون الله, يقولون لهم: ما نعبدكم أيها الآلهة إلا لتقربونا إلى الله زُلْفَى, قربة ومنـزلة, وتشفعوا لنا عنده في حاجاتنا، وهي فيما ذُكر في قراءة أبي: « ما نَعْبُدُكُمْ » , وفي قراءة عبد الله: ( قالوا ما نعبدهم ) وإنما حسن ذلك لأن الحكاية إذا كانت بالقول مضمرا كان أو ظاهرا, جعل الغائب أحيانا كالمخاطب, ويترك أخرى كالغائب, وقد بيَّنت ذلك في موضعه فيما مضى.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قال: هي في قراءة عبد الله: « قالُوا ما نَعْبُدُهُمْ » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) قال: قريش تقوله للأوثان, ومن قبلهم يقوله للملائكة ولعيسى ابن مريم ولعزَير.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) قالوا: ما نعبد هؤلاء إلا ليقرّبونا, إلا ليشفعُوا لنا عند الله.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) قال: هي منـزلة.

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثنا معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) .

وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا يقول سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) قال: قالوا هم شفعاؤنا عند الله, وهم الذين يقربوننا إلى الله زلفى يوم القيامة للأوثان, والزلفى: القُرَب.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن الله يفصل بين هؤلاء الأحزاب الذين اتخذوا في الدنيا من دون الله أولياء يوم القيامة, فيما هم فيه يختلفون في الدنيا من عبادتهم ما كانوا يعبدون فيها, بأن يصليهم جميعا جهنم, إلا من أخلص الدين لله, فوحده, ولم يشرك به شيئا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( 3 ) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 4 )

يقول تعالى ذكره: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي ) إلى الحق ودينه الإسلام, والإقرار بوحدانيته, فيوفقه له ( مَنْ هُوَ كَاذِبٌ ) مفتر على الله, يتقول عليه الباطل, ويضيف إليه ما ليس من صفته, ويزعم أن له ولدا افتراء عليه, كفار لنعمه, جحودا لربوبيته.

وقوله: ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ) يقول تعالى ذكره: لو شاء الله اتخاذ ولد, ولا ينبغي له ذلك, لاصطفى مما يخلق ما يشاء, يقول: لاختار من خلقه ما يشاء. وقوله: ( سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) يقول: تنـزيها لله عن أن يكون له ولد, وعما أضاف إليه المشركون به من شركهم ( هُوَ اللَّهُ ) يقول: هو الذي يَعْبده كلّ شيء, ولو كان له ولد لم يكن له عبدا, يقول: فالأشياء كلها له ملك, فأنى يكون له ولد, وهو الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه, والقهار لخلقه بقدرته, فكل شيء له متذلل, ومن سطوته خاشع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 5 )

يقول تعالى ذكره واصفا نفسه بصفتها: ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْل ) يقول: يغشي هذا على هذا, وهذا على هذا, كما قال يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) يقول: يحمل الليل على النهار.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ) قال: يدهوره.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) قال: يَغْشَى هذا هذا, ويغشى هذا هذا.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) قال: يجيء بالنهار ويذهب بالليل, ويجيء بالليل, ويذهب بالنهار.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فى قوله: ( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) حين يذهب بالليل ويكور النهار عليه, ويذهب بالنهار ويكور الليل عليه.

وقوله: ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) يقول تعالى ذكره: وسخر الشمس والقمر لعباده, ليعلموا بذلك عدد السنين والحساب, ويعرفوا الليل من النهار لمصلحة معاشهم ( كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) يقول: ( كُلّ ) ذلك يعني الشمس والقمر ( يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) يعني إلى قيام الساعة, وذلك إلى أن تكوّر الشمس, وتنكدر النجوم. وقيل: معنى ذلك: أن لكل واحد منهما منازل, لا تعدوه ولا تقصر دونه ( أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) يقول تعالى ذكره: ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال وأنعم على خلقه هذه النعم هو العزيز في انتقامه ممن عاداه, الغفار لذنوب عباده التائبين إليه منها بعفوه لهم عنها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 6 )

يقول تعالى ذكره: ( خَلَقَكُمْ ) أيها الناس ( مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني من آدم ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) يقول: ثم جعل من آدم زوجه حواء, وذلك أن الله خلقها من ضِلَع من أضلاعه.

وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني آدم, ثم خلق منها زوجها حواء, خلقها من ضِلَع من أضلاعه.

فإن قال قائل: وكيف قيل: خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها؟ وإنما خلق ولد آدم من آدم وزوجته, ولا شك أن الوالدين قبل الولد, فإن في ذلك أقوالا أحدها أن يقال: قيل ذلك لأنه رُوي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: « إنَّ الله لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ , فَأَخْرَجَ كُلَّ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ, ثُمَّ أسْكَنَهُ بَعْدَ ذلك الجَنَّةَ, وَخَلَقَ بَعْدَ ذلك حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أضْلاعِهِ » فهذا قول. والآخر: أن العرب ربما أخبر الرجل منهم عن رجل بفعلين, فيرد الأول منهما في المعنى بثم, إذا كان من خبر المتكلم, كما يقال: قد بلغني ما كان منك اليوم, ثم ما كان منك أمس أعجب, فذلك نسق من خبر المتكلم. والوجه الآخر: أن يكون خلقه الزوج مردودا على واحدها, كأنه قيل: خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها, فيكون في واحدة معنى: خلقها وحدها, كما قال الراجز:

أَعْدَدْتُـــهُ للْخَــصْمِ ذِي التَّعَــدِّي كَوَّحْتَــهُ مِنْــكَ بِــدُونِ الجَــهْدِ

بمعنى: الذي إذا تعدى كوّحته, ومعنى: كوحته: غلبته.

والقول الذي يقوله أهل العلم أولى بالصواب, وهو القول الأول الذي ذكرت أنه يقال: إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه قبل أن يخلق حوّاء, وبذلك جاءت الرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , والقولان الآخران على مذاهب أهل العربية.

وقوله: ( وَأَنـزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) يقول تعالى ذكره: وجعل لكم من الأنعامِ ثمانية أزواج من الإبل زوجين, ومن البقر زوجين, ومن الضأن اثنين, ومن المعْز اثنين, كما قال جل ثناؤه: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ .

كما حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال, ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) قال: من الإبل والبقر والضأن والمعز.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَأَنـزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) من الإبل اثنين, ومن البقر اثنين, ومن الضأن اثنين, ومن المعز اثنين, من كلّ واحد زوج.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَأَنـزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) يعني من المعز اثنين, ومن الضأن اثنين, ومن البقر اثنين, ومن الإبل اثنين.

وقوله: ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) يقول تعالى ذكره: يبتدئ خلقكم أيها الناس في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق, وذلك أنه يحدث فيها نطفة, ثم يجعلها علقة, ثم مضغة, ثم عظاما, ثم يكسو العظام لحما, ثم يُنْشئه خلقا آخر, تبارك الله وتعالى, فذلك خلقه إياه خلقا بعد خلق.

كما حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن سماك, عن عكرمة ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال: نطفة, ثم علقة, ثم مضغة.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال: نطفة, ثم ما يتبعها حتى تم خلقه.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) نطفة, ثم علقة, ثم مضغة, ثم عظاما, ثم لحما, ثم أنبت الشعر, أطوار الخلق.

حدثنا هناد بن السري, قال: ثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة في قوله: ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال: يعني بخلق بعد الخلق, علقة, ثم مضغة, ثم عظاما.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال: يكونون نطفا, ثم يكونون علقا, ثم يكونون مضغا, ثم يكونون عظاما, ثم ينفخ فيهم الروح.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) خلق نطفة, ثم علقة, ثم مضغة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: يخلقكم في بطون أمهاتكم من بعد خلقه إياكم في ظهر آدم, قالوا: فذلك هو الخلق من بعد الخلق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال: خلقا في البطون من بعد الخلق الأول الذي خلقهم في ظهر آدم.

وأولى القولين في ذلك بالصواب, القول الذي قاله عكرمة ومجاهد, ومن قال في ذلك مثل قولهما, لأن الله جلّ وعزّ أخبر أنه يخلقنا خلقا من بعد خلق في بطون أمهاتنا في ظلمات ثلاث, ولم يخبر أنه يخلقنا فى بطون أمهاتنا من بعد خلقنا في ظهر آدم, وذلك نحو قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ... الآية.

وقوله: ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) يعني: في ظلمة البطْن, وظلمة الرّحِم, وظُلْمة المَشِيمَة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السريّ, قال: ثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال: الظلمات الثلاث: البطن, والرحم, والمَشِيمة.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان , عن سماك, عن عكرمة ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال: البطن, والمشيمة, والرحم.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه عن ابن عباس ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال: يعني بالظلمات الثلاث: بطن أمه, والرحم, والمَشِيمة.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال: البطن, والرحم والمشيمة.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) المَشِيمة, والرحم, والبطن.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال: ظلمة المشيمة, وظلمة الرحم, وظلمة البطن.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال: المشيمة في الرحم, والرحم في البطن.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) : الرحم, والمشيمة, والبطن, والمشيمة التي تكون على الولد إذا خرج, وهي من الدواب السَّلى.

وقوله: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعل هذه الأفعال أيها الناس هو ربكم, لا من لا يجلب لنفسه نفعا, ولا يدفع عنها ضرّا, ولا يسوق إليكم خيرا, ولا يدفع عنكم سوءا من أوثانكم وآلهتكم.

وقوله: ( لَهُ الْمُلْكُ ) يقول جلّ وعزّ: لربكم أيها الناس الذي صفته ما وصف لكم, وقُدرته ما بين لكم المُلك, ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما لا لغيره، فأما ملوك الدنيا فإنما يملك أحدهما شيئا دون شيء, فإنما له خاص من الملك. وأما المُلك التام الذي هو المُلك بالإطلاق فلله الواحد القهار.

وقوله: ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) يقول تعالى ذكره: لا ينبغي أن يكون معبود سواه, ولا تصلح العبادة إلا له ( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) يقول تعالى ذكره: فأنى تصرفون أيها الناس فتذهبون عن عبادة ربكم, الذي هذه الصفة صفته, إلى عبادة من لا ضر عنده لكم ولا نفع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) قال: كقوله: ( تُؤْفَكُونَ )

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) قال للمشركين: أنى تصرف عقولكم عن هذا؟

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 7 )

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) فقال بعضهم: ذلك لخاص من الناس, ومعناه: إن تكفروا أيها المشركون بالله, فإن الله غني عنكم, ولا يرضى لعباده المؤمنين الذين أخلصهم لعبادته وطاعته الكفر. ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) يعني الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم, فيقولوا: لا إله إلا الله, ثم قال: ( وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) وهم عباده المخلصون الذين قال فيهم: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله وحببها إليهم.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) قال: لا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا.

وقال آخرون: بل ذلك عام لجميع الناس, ومعناه: أيها الناس إن تكفروا, فإن الله غني عنكم, ولا يرضى لكم أن تكفروا به.

والصواب من القول في ذلك ما قال الله جلّ وعزّ: إن تكفروا بالله أيها الكفار به, فإن الله غني عن إيمانكم وعبادتكم إياه, ولا يرضى لعباده الكفر, بمعنى: ولا يرضى لعباده أن يكفروا به, كما يقال: لست أحب الظلم, وإن أحببت أن يظلم فلان فلانا فيعاقب.

وقوله: ( وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) يقول: وإن تؤمنوا بربكم وتطيعوه يرض شكركم له, وذلك هو إيمانهم به وطاعتهم إياه, فكنى عن الشكر ولم يُذْكر, وإنما ذكر الفعل الدالّ عليه, وذلك نظير قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا بمعنى: فزادهم قول الناس لهم ذلك إيمانا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) قال: إن تطيعوا يرضه لكم.

وقوله: ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) يقول: لا تأثم آثمة إثم آثمة أخرى غيرها, ولا تؤاخذ إلا بإثم نفسها, يعلم عز وجل عباده أن على كل نفس ما جنت, وأنها لا تؤاخذ بذنب غيرها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) قال: لا يؤخذ أحد بذنب أحد.

وقوله: ( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: ثم بعد اجتراحكم في الدنيا ما اجترحتم من صالح وسيئ, وإيمان وكفر أيها الناس, إلى ربكم مصيركم من بعد وفاتكم, ( فَيُنَبِّئُكُمْ ) يقول: فيخبركم بما كنتم في الدنيا تعملونه من خير وشر, فيجازيكم على كل ذلك جزاءكم, المحسن منكم بإحسانه, والمسيء بما يستحقه، يقول عز وجل لعباده: فاتقوا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا بما لا يرضاه منكم فتهلكوا, فإنه لا يخفى عليه عمل عامل منكم.

وقوله: ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) يقول تعالى ذكره: إن الله لا يخفى عليه ما أضمرته صدوركم أيها الناس مما لا تدركه أعينكم, فكيف بما أدركته العيون ورأته الأبصار. وإنما يعني جلّ وعزّ بذلك الخبر عن أنه لا يخفى عليه شيء, وأنه محص على عباده أعمالهم, ليجازيهم بها كي يتقوه في سرّ أمورهم وعلانيتها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( 8 )

يقول تعالى ذكره: وإذا مَسَّ الإنسان بلاء في جسده من مرض, أو عاهة, أو شدّة في معيشته, وجهد وضيق ( دَعَا رَبَّهُ ) يقول: استغاث بربه الذي خلقه من شدة ذلك, ورغب إليه في كشف ما نـزل به من شدة ذلك. وقوله: ( مُنِيبًا إِلَيْهِ ) يقول: تائبا إليه مما كان من قبل ذلك عليه من الكفر به, وإشراك الآلهة والأوثان به في عبادته, راجعا إلى طاعته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ ) قال: الوجع والبلاء والشدّة ( دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ) قال: مستغيثا به.

وقوله: ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ) يقول تعالى ذكره: ثم إذا منحه ربه نعمة منه, يعني عافية, فكشف عنه ضرّه, وأبدله بالسقم صحة, وبالشدة رخاء. والعرب تقول لكلّ من أعطى غيره من مال أو غيره: قد خوّله، ومنه قول أبي النجْم العِجْلِيّ:

أعْطَــى فَلَــمْ يَبْخَـلْ وَلَـمْ يُبَخَّـل كُــومَ الـذرَا مِـنْ خَـوَلِ المَخَـوِّلِ

وحُدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى أنه قال: سمعت أبا عمرو يقول في بيت زُهَيْر:

هُنَـالِكَ إنْ يُسْـتَخْوَلُوا المَـالَ يُخْـوِلوا وَإِنْ يُسْـأَلُوا يُعْطـوا وَإنْ يَيْسِروا يُغْلُوا

قال معمر: قال يونس: إنما سمعناه:

هُنَالكَ إنْ يُسْتَخْبِلُوا المَالَ يُخْبِلوا

قال: وهي بمعناها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ) : إذا أصابته عافية أو خير.

وقوله: ( نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ) يقول: ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ ( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا ) يعني: شركاء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( نَسِيَ ) يقول: ترك, هذا في الكافر خاصة.

ولـ « ما » التي في قوله: ( نَسِيَ مَا كَانَ ) وجهان: أحدهما: أن يكون بمعنى الذي , ويكون معنى الكلام حينئذ: ترك الذي كان يدعوه في حال الضر الذي كان به, يعني به الله تعالى ذكره, فتكون « ما » موضوعة عند ذلك موضع « من » كما قيل: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ يعني به الله, وكما قيل: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ . والثاني: أن يكون بمعنى المصدر على ما ذكرت. وإذا كانت بمعنى المصدر, كان في الهاء التي في قوله: ( إِلَيْهِ ) وجهان: أحدهما: أن يكون من ذكر ما. والآخر: من ذكر الربّ.

وقوله: ( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا ) يقول: وجعل لله أمثالا وأشباها.

ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي جعلوها فيه له أندادا, قال بعضهم: جعلوها له أندادا في طاعتهم إياه في معاصي الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا ) قال: الأنداد من الرجال: يطيعونهم في معاصي الله.

وقال آخرون: عنى بذلك أنه عبد الأوثان, فجعلها لله أندادا في عبادتهم إياها.

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى به أنه أطاع الشيطان في عبادة الأوثان, فحصل له الأوثان أندادا, لأن ذلك في سياق عتاب الله إياهم له على عبادتها.

وقوله: ( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) يقول: ليزيل من أراد أن يوحد الله ويؤمن به عن توحيده, والإقرار به, والدخول في الإسلام. وقوله: ( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لفاعل ذلك: تمتع بكفرك بالله قليلا إلى أن تستوفي أجلك, فتأتيك منيتك ( إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) : أي إنك من أهل النار الماكثين فيها. وقوله: ( تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ ) : وعيد من الله وتَهَدُّدٌ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ( 9 )

اختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( أَمِنَ ) فقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وعامة الكوفيين: « أمن » بتخفيف الميم، ولقراءتهم ذلك كذلك وجهان: أحدهما أن يكون الألف في « أمَّنْ » بمعنى الدعاء, يراد بها: يا من هو قانت آناء الليل, والعرب تنادي بالألف كما تنادي بيا, فتقول: أزيد أقبل, ويا زيد أقبل، ومنه قول أوس بن حجر:

أبَنِـــي لُبَيْنَـــى لَسْــتُم بِيَــدٍ إلا يَـــدٌ لَيْسَــتْ لَهَــا عَضُــدُ

وإذا وجهت الألف إلى النداء كان معنى الكلام: قل تمتع أيها الكافر بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار, ويا من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما إنك من أهل الجنة, ويكون في النار عمى للفريق الكافر عند الله من الجزاء في الآخرة, الكفاية عن بيان ما للفريق المؤمن, إذ كان معلوما اختلاف أحوالهما في الدنيا, ومعقولا أن أحدهما إذا كان من أصحاب النار لكفره بربه أن الآخر من أصحاب الجنة, فحذف الخبر عما له, اكتفاءً بفهم السامع المراد منه من ذكره, إذ كان قد دلّ على المحذوف بالمذكور. والثاني: أن تكون الألف التي في قوله: « أمن » ألف استفهام, فيكون معنى الكلام: أهذا كالذي جعل لله أندادا ليضلّ عن سبيله, ثم اكتفى بما قد سبق من خبر الله عن فريق الكفر به من أعدائه, إذ كان مفهوما المراد بالكلام, كما قال الشاعر:

فَأُقْسِــمُ لَـوْ شَـيْءٌ أتَانَـا رَسُـولُهُ سِـوَاكَ وَلَكِـنْ لَـمْ نَجِـدْ لَـكَ مَدْفَعا

فحذف لدفعناه وهو مراد في الكلام إذ كان مفهوما عند السامع مراده. وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: ( أمَّن ) بتشديد الميم, بمعنى: أم من هو؟ ويقولون: إنما هي ( أمَّن ) استفهام اعترض في الكلام بعد كلام قد مضى, فجاء بأم، فعلى هذا التأويل يجب أن يكون جواب الاستفهام متروكا من أجل أنه قد جرى الخبر عن فريق الكفر, وما أعدّ له في الآخرة, ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان, فعلم بذلك المراد, فاستغني بمعرفة السامع بمعناه من ذكره, إذ كان معقولا أن معناه: هذا أفضل أم هذا؟.

والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرأ بكل واحدة علماء من القرّاء مع صحة كل واحدة منهما في التأويل والإعراب, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

وقد ذكرنا اختلاف المختلفين, والصواب من القول عندنا فيما مضى قبل في معنى القانت, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا نذكر بعض أقوال أهل التأويل في ذلك في هذا الموضع, ليعلم الناظر في الكتاب اتفاق معنى ذلك في هذا الموضع وغيره, فكان بعضهم يقول: هو في هذا الموضع قراءة القارئ قائما في الصلاة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا يحيى, عن عبيد الله, أنه قال: أخبرني نافع, عن ابن عمر, أنه كان إذا سُئل عن القنوت, قال: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام, وقرأ: ( أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا )

وقال آخرون: هو الطاعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ) يعني بالقنوت: الطاعة, وذلك أنه قال: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ... إلى كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ قال: مطيعون.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا ) قال: القانت: المطيع.

وقوله: ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) يعني: ساعات الليل.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ ) أوله, وأوسطه, وآخره.

حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) قال: ساعات الليل.

وقد مضى بياننا عن معنى الآناء بشواهده, وحكاية أقوال أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله: ( سَاجِدًا وَقَائِمًا ) يقول: يقنت ساجدا أحيانا, وأحيانا قائما, يعني: يطيع، والقنوت عندنا الطاعة, ولذلك نصب قوله: ( سَاجِدًا وَقَائِمًا ) لأن معناه: أمَّن هو يقنت آناء الليل ساجدا طورا, وقائما طورا, فهما حال من قانت.

وقوله: ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) يقول: يحذر عذاب الآخرة. كما حدثنا عليّ بن الحسن الأزديّ. قال: ثنا يحيى بن اليمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, في قوله: ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) قال: يحذر عقاب الآخرة, ويرجو رحمة ربه, يقول: ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنة.

وقوله: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب, وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات, والذين لا يعلمون ذلك, فهم يخبطون في عشواء, لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا, ولا يخافون بسيئها شرا؟ يقول: ما هذان بمتساويين.

وقد رُوي عن أبي جعفر محمد بن عليّ في ذلك ما حدثني محمد بن خلف, قال: ثني نصر بن مزاحم, قال: ثنا سفيان الجريري, عن سعيد بن أبي مجاهد, عن جابر, عن أبي جعفر, رضوان الله عليه ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) قال: نحن الذين يعلمون, وعدونا الذين لا يعلمون.

وقوله: ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) يقول تعالى ذكره: إنما يعتبر حجج الله, فيتعظ, ويتفكر فيها, ويتدبرها أهل العقول والحجى, لا أهل الجهل والنقص في العقول.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 10 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( قُلْ ) يا محمد لعبادي الذين آمنوا: ( يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله, وصدقوا رسوله ( اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) بطاعته واجتناب معاصيه ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة )

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معناه: للذين أطاعوا الله حسنة في هذه الدُّنْيا، وقال « في » من صلة حسنة, وجعل معنى الحسنة: الصحة والعافية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) قال: العافية والصحة.

وقال آخرون « في » من صلة أحسنوا, ومعنى الحسنة: الجنة.

وقوله: ( وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) يقول تعالى ذكره: وأرض الله فسيحة واسعة, فهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام.

كما حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد, قوله: ( وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) فهاجروا واعتزلوا الأوثان.

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يقول تعالى ذكره: إنما يعطي الله أهل الصبر على ما لقوا فيه في الدنيا أجرهم في الآخرة بغير حساب، يقول: ثوابهم بغير حساب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) لا والله ما هُناكم مكيال ولا ميزان.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال: في الجنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( 11 ) وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ( 12 ) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 13 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك: إن الله أمرني أن أعبده مفردا له الطاعة, دون كلّ ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد ( وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) : يقول: وأمرني ربي جل ثناؤه بذلك, لأن أكون بفعل ذلك أوَّل من أسلم منكم, فخضع له بالتوحيد, وأخلص له العبادة, وبرئ من كل ما دونه من الآلهة. وقوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) : يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهم إني أخاف إن عصيت ربي فيما أمرني به من عبادته, مخلصا له الطاعة, ومفرده بالربوبية. ( عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) : يعني عذاب يوم القيامة, ذلك هو اليوم الذي يعظم هوله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ( 14 ) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( 15 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك: الله أعبد مخلصا, مفردا له طاعتي وعبادتي, لا أجعل له في ذلك شريكا, ولكني أفرده بالألوهة, وأبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة, فاعبدوا أنتم أيها القوم ما شئتم من الأوثان والأصنام, وغير ذلك مما تعبدون من سائر خلقه, فستعلمون وبال عاقبة عبادتكم ذلك إذا لقيتم ربكم.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك: الله أعبد مخلصا, مفردا له طاعتي وعبادتي, لا أجعل له في ذلك شريكا, ولكني أفرده بالألوهة, وأبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة, فاعبدوا أنتم أيها القوم ما شئتم من الأوثان والأصنام, وغير ذلك مما تعبدون من سائر خلقه, فستعلمون وبال عاقبة عبادتكم ذلك إذا لقيتم ربكم.

وقوله: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهم: إن الهالكين الذين غَبَنوا أنفسهم, وهلكت بعذاب الله أهلوهم مع أنفسهم, فلم يكن لهم إذ دخلوا النار فيها أهل, وقد كان لهم في الدنيا أهلون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال: هم الكفار الذين خلقهم الله للنار, وخلق النار لهم, فزالت عنهم الدنيا, وحرمت عليهم الجنة, قال الله: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ .

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال: هؤلاء أهل النار, خسروا أنفسهم في الدنيا, وخسروا الأهلين, فلم يجدوا في النار أهلا وقد كان لهم في الدنيا أهل.

حُدثت عن ابن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قال: غبنوا أنفسهم وأهليهم, قال: يخسرون أهليهم, فلا يكون لهم أهل يرجعون إليهم, ويخسرون أنفسهم, فيهلكون في النار, فيموتون وهم أحياء فيخسرونهما.

وقوله: ( أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) يقول تعالى ذكره: ألا إن خسران هؤلاء المشركين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة, وذلك هلاكها هو الخسران المبين, يقول تعالى ذكره: هو الهلاك الذي يبين لمن عاينه وعلمه أنه الخسران.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ( 16 ) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ( 17 ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ( 18 )

يقول تعالى ذكره لهؤلاء الخاسرين يوم القيامة في جهنم: ( مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ) وذلك كهيئة الظلل المبنية من النار ( وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) يقول: ومن تحتهم من النار ما يعلوهم, حتى يصير ما يعلوهم منها من تحتهم ظللا وذلك نظير قوله جلّ ثناؤه لَهُمْ: مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ يغشاهم مما تحتهم فيها من المهاد.

وقوله: ( ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي أخبرتكم أيها الناس به, مما للخاسرين يوم القيامة من العذاب, تخويف من ربكم لكم, يخوفكم به لتحذروه, فتجتنبوا معاصيه, وتنيبوا من كفركم إلى الإيمان به, وتصديق رسوله, واتباع أمره ونهيه, فتنجوا من عذابه في الآخرة ( فَاتَّقُونِ ) يقول: فاتقوني بأداء فرائضي عليكم, واجتناب معاصيّ, لتنجوا من عذابي وسخطي.

وقوله: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ) : أي اجتنبوا عبادة كلّ ما عبد من دون الله من شيء. وقد بيَّنا معنى الطاغوت فيما مضى قبل بشواهد ذلك, وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع, وذكرنا أنه في هذا الموضع: الشيطان, وهو في هذا الموضع وغيره بمعنى واحد عندنا.

ذكر من قال ما ذكرنا في هذا الموضع:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ) قال: الشيطان.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) قال: الشيطان.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) قال: الشيطان هو ها هنا واحد وهي جماعة.

والطاغوت على قول ابن زيد هذا واحد مؤنث, ولذلك قيل: أن يعبدوها. وقيل: إنما أُنثت لأنها في معنى جماعة.

وقوله: ( وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ ) يقول: وتابوا إلى الله ورجعوا إلى الإقرار بتوحيده, والعمل بطاعته, والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا زيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ ) : وأقبلوا إلى الله.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ( وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ ) قال: أجابوا إليه.

وقوله: ( لَهُمُ الْبُشْرَى ) يقول: لهم البشرى في الدنيا بالجنة في الآخرة ( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ) يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول من القائلين, فيتبعون أرشده وأهداه, وأدله على توحيد الله, والعمل بطاعته, ويتركون ما سوى ذلك من القول الذي لا يدل على رشاد, ولا يهدي إلى سداد.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) وأحسنه طاعة الله.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) قال: أحسن ما يؤمرون به فيعلمون به.

وقوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ) يقول تعالى ذكره: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, الذين هداهم الله, يقول: وفقهم الله للرشاد وإصابة الصواب, لا الذين يعرضون عن سماع الحقّ, ويعبدون ما لا يضرّ, ولا ينفع. وقوله: ( أُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ ) يعني: أولو العقول والحجا.

وذُكر أن هذه الآية نـزلت في رهط معروفين وحَّدوا الله, وبرئوا من عبادة كل ما دون الله قبل أن يُبعث نبيّ الله, فأنـزل الله هذه الآية على نبيه يمدحهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ... ) الآيتين, حدثني أبي أن هاتين الآيتين نـزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله: زيد بن عمرو, وأبي ذرّ الغفاري, وسلمان الفارسيّ, نـزل فيهم: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) في جاهليتهم ( وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) لا إله إلا الله, أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبي ( وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ( 19 ) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ( 20 )

يعني تعالى ذكره بقوله: ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ) : أفمن وجبت عليه كلمة العذاب في سابق علم ربك يا محمد بكفره به.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ) بكفره.

وقوله: ( أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أفأنت تنقذ يا محمد من هو في النار من حق عليه كلمة العذاب, فأنت تنقذه، فاستغنى بقوله: ( تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) عن هذا. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هذا مما يراد به استفهام واحد, فيسبق الاستفهام إلى غير موضعه, فيرد الاستفهام إلى موضعه الذي هو له. وإنما المعنى والله أعلم: أفأنت تنقذ من في النار من حقَّت عليه كلمة العذاب. قال: ومثله من غير الاستفهام: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ فردد « أنكم » مرتين. والمعنى والله أعلم: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم، ومثله قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وكان بعضهم يستخطئ القول الذي حكيناه عن البصريين, ويقول: لا تكون في قوله: ( أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) كناية عمن تقدّم, لا يقال: القوم ضربت من قام, يقول: المعنى: ألتجزئة أفأنت تُنْقذ من في النار منهم. وإنما معنى الكلمة: أفأنت تهدي يا محمد من قد سبق له في علم الله أنه من أهل النار إلى الإيمان, فتنقذه من النار بالإيمان؟ لست على ذلك بقادر.

وقوله: ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّة ) يقول تعالى ذكره: لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه واجتناب محارمه, لهم في الجنة غرف من فوقها غرف مبنية علاليّ بعضها فوق بعض ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) يقول تعالى ذكره: تجري من تحت أشجار جناتها الأنهار.

وقوله: ( وَعَدَ اللَّهُ ) يقول جل ثناؤه: وعدنا هذه الغرف التي من فوقها غرف مبنية في الجنة, هؤلاء المتقين ( لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ) يقول جل ثناؤه: والله لا يخلفهم وعده, ولكنه يوفي بوعده.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 21 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( أَلَمْ تَرَ ) يا محمد ( أَنَّ اللَّهَ أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) وهو المطر ( فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) يقول: فأجراه عيونا في الأرض، واحدها ينبوع, وهو ما جاش من الأرض.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن يمان, عن سفيان, عن جابر, عن الشعبيّ, في قوله: ( فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) قال: كلّ ندى وماء في الأرض من السماء نـزل.

قال: ثنا ابن يمان, عن سفيان, عن جابر, عن الحسن بن مسلم بن بيان, قال: ثم أنبت بذلك الماء الذي أنـزله من السماء فجعله في الأرض عيونا زرعا ( مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ) يعني: أنواعا مختلفة من بين حنطة وشعير وسمسم وأرز, ونحو ذلك من الأنواع المختلفة ( ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) يقول: ثم ييبس ذلك الزرع من بعد خُضرته, يقال للأرض إذا يبس ما فيها من الخضر وذوى: هاجت الأرض, وهاج الزرع.

وقوله: ( فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) يقول: فتراه من بعد خُضرته ورطوبته قد يبس فصار أصفر, وكذلك الزرع إذا يبس اصفرّ ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ) والحطام: فتات التبن والحشيش, يقول: ثم يجعل ذلك الزرع بعد ما صار يابسا فُتاتا متكسرا.

وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) يقول تعالى ذكره: إن في فعل الله ذلك كالذي وصف لذكرى وموعظة لأهل العقول والحجا يتذكرون به, فيعلمون أن من فعل ذلك فلن يتعذر عليه إحداث ما شاء من الأشياء, وإنشاء ما أراد من الأجسام والأعراض, وإحياء من هلك من خلقه من بعد مماته وإعادته من بعد فنائه, كهيئته قبل فنائه, كالذي فعل بالأرض التي أنـزل عليها من بعد موتها الماء, فأنبت بها الزرع المختلف الألوان بقدرته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 22 )

يقول تعالى ذكره: أفمن فسح الله قلبه لمعرفته, والإقرار بوحدانيته, والإذعان لربوبيته, والخضوع لطاعته ( فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) يقول: فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين, بتنوير الحق في قلبه, فهو لذلك لأمر الله متبع, وعما نهاه عنه منته فيما يرضيه, كمن أقسى الله قلبه, وأخلاه من ذكره, وضيقه عن استماع الحق, واتباع الهدى, والعمل بالصواب؟ وترك ذكر الذي أقسى الله قلبه, وجواب الاستفهام اجتزاء بمعرفة السامعين المراد من الكلام, إذ ذكر أحد الصنفين, وجعل مكان ذكر الصنف الآخر الخبر عنه بقوله: ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) يعني: كتاب الله, هو المؤمن به يأخذ, وإليه ينتهي.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قال: وسع صدره للإسلام, والنور: الهدى.

حُدثت عن ابن أبي زائدة عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قال: ليس المنشرح صدره مثل القاسي قلبه.

قوله: ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره: فويل للذين جفت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت, يعني عن القرآن الذي أنـزله تعالى ذكره, مذكرا به عباده, فلم يؤمن به, ولم يصدّق بما فيه. وقيل: ( مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) والمعنى: عن ذكر الله, فوضعت « مِنْ » مكان « عن » , كما يقال في الكلام: أتخمت من طعام أكلته, وعن طعام أكلته بمعنى واحد.

وقوله: ( أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء القاسية قلوبهم من ذكر الله في ضلال مبين, لمن تأمله وتدبره بفهم أنه في ضلال عن الحق جائر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 23 )

يقول تعالى ذكره: ( اللَّهُ نـزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا ) يعني به القرآن ( مُتَشَابِهًا ) يقول: يشبه بعضه بعضا, لا اختلاف فيه, ولا تضادّ.

كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( اللَّهُ نـزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ) الآية تشبه الآية, والحرف يشبه الحرف.

حدثنا محمَّد قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( كِتَابًا مُتَشَابِهًا ) قال: المتشابه: يشبه بعضه بعضا.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جُبَير, في قوله: ( كِتَابًا مُتَشَابِهًا ) قال: يشبه بعضه بعضا, ويصدّق بعضه بعضا, ويدلّ بعضه على بعض.

وقوله: ( مَثَانِيَ ) يقول: تُثنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله: ( اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ) قال: ثنى الله فيه القضاء, تكون السورة فيها الآية في سورة أخرى آية تشبهها, وسئل عنها عكرمة .

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ) قال: في القرآن كله.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَثَانِيَ ) قال: ثَنَى الله فيه الفرائض, والقضاء, والحدود.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( مَثَانِيَ ) قال: كتاب الله مثاني, ثنى فيه الأمر مرارا.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, فى قوله: ( مَثَانِيَ ) قال: كتاب الله مثاني, ثَنى فيه الأمر مرارا.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( مَثَانِيَ ) ثنى في غير مكان.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( مَثَانِيَ ) مردّد, رُدِّد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء في أمكنة كثيرة.

وقوله: ( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) يقول تعالى ذكره: تقشعرّ من سَماعه إذا تلي عليهم جلود الذين يخافون ربهم ( ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) يعني إلى العمل بما في كتاب الله, والتصديق به.

وذُكر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أجل أن أصحابه سألوه الحديث.

ذكر الرواية بذلك:

حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأودي, قال: ثنا حكام بن سلم, عن أيوب بن موسى, عن عمرو الملئي عن ابن عباس, قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا؟ قال: فنـزلت: ( اللَّهُ نـزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) .

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن أيوب بن سيار أبي عبد الرحمن, عن عمرو بن قيس, قال: قالوا: يا نبي الله, فذكر مثله.

( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم, ثم لينها ولين قلوبهم إلى ذكر الله من بعد ذلك, ( هُدَى اللَّهِ ) يعني: توفيق الله إياهم وفَّقهم له ( يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ) يقول: يهدي تبارك وتعالى بالقرآن من يشاء من عباده.

وقد يتوجَّه معنى قوله: ( ذَلِكَ هُدَى ) إلى أن يكون ذلك من ذكر القرآن, فيكون معنى الكلام: هذا القرآن بيان الله يهدي به من يشاء, يوفق للإيمان به من يشاء.

وقوله: ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) يقول تعالى ذكره: ومن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق بما فيه, فيضله عنه, فما له من هاد، يقول: فما له من مُوَفِّق له, ومسدد يسدده في اتباعه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 24 ) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ( 25 )

اختلف أهل التأويل في صفة اتقاء هذا الضالّ بوجهه سُوء العذاب, فقال بعضهم: هو أن يُرْمى به في جهنم مكبوبا على وجهه, فذلك اتقاؤه إياه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ ) قال: يَخِرّ على وجهه في النار, يقول: هو مثل أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟.

وقال آخرون: هو أن ينطلق به إلى النار مكتوفا, ثم يُرمى به فيها, فأوّل ما تَمس النار وجهه، وهذا قول يُذكر عن ابن عباس من وجه كرهت أن أذكره لضعف سنده، وهذا أيضا مما ترك جوابه استغناء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه عنه. ومعنى الكلام: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة خير, أم من ينعم في الجنان؟.

وقوله: ( وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) يقول: ويقال يومئذ للظالمين أنفسهم بإكسابهم إياها سخط الله. ذوقوا اليوم أيها القوم وبال ما كنتم في الدنيا تكسبون من معاصي الله.

وقوله: ( كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول تعالى ذكره: كذب الذين من قبل هؤلاء المشركين من قُريش من الأمم الذين مضوا في الدهور الخالية رسلهم ( فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) يقول: فجاءهم عذاب الله من الموضع الذي لا يشعرون: أي لا يعلمون بمجيئه منه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 26 )

يقول تعالى ذكره: فعجل الله لهؤلاء الأمم الذين كذبوا رسلهم الهوان في الدنيا, والعذاب قبل الآخرة, ولم ينظرهم إذ عتوا عن أمر ربهم ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ ) يقول: ولعذاب الله إياهم في الآخرة إذا أدخلهم النار, فعذّبهم بها, أكبر من العذاب الذي عذّبهم به في الدنيا, لو كانوا يعلمون، يقول: لو علم هؤلاء المشركون من قريش ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 27 ) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 28 )

يقول تعالى ذكره: ولقد مثلنا لهؤلاء المشركين بالله من كل مثل من أمثال القرون للأمم الخالية, تخويفا منا لهم وتحذيرا ( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) يقول: ليتذكروا فينـزجروا عما هم عليه مقيمون من الكفر بالله.

وقوله: ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) يقول تعالى ذكره: لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل قرآنا عربيا ( غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) يعني: ذي لبس.

كما حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) : غير ذي لبس.

ونصب قوله: ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) على الحال من قوله: هذا القرآن, لأن القرآن معرفة, وقوله ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) نكرة.

وقوله: ( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) يقول: جعلنا قرآنا عربيا إذ كانوا عربا, ليفهموا ما فيه من المواعظ, حتى يتقوا ما حذرهم الله فيه من بأسه وسطوته, فينيبوا إلى عبادته وإفراد الألوهة له, ويتبرّءوا من الأنداد والآلهة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 29 )

يقول تعالى ذكره: مثل الله مثلا للكافر بالله الذي يعبد آلهة شَتَّى, ويطيع جماعة من الشياطين, والمؤمن الذي لا يعبُد إلا الله الواحد, يقول تعالى ذكره: ضرب الله مثلا لهذا الكافر رجلا فيه شركاء. يقول: هو بين جماعة مالكين متشاكسين, يعني مختلفين متنازعين, سيئة أخلاقهم, من قولهم: رجل شكس: إذا كان سيئ الخلق, وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه ومِلْكه فيه, ورجلا مسلما لرجل, يقول: ورجلا خُلُوصا لرجل يعني المؤمن الموحد الذي أخلص عبادته لله, لا يعبد غيره ولا يدين لشيء سواه بالربوبية.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( وَرَجُلا سَلَمًا ) فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والبصرة: « ورَجُلا سَالِمًا » وتأوّلوه بمعنى: رجلا خالصا لرجل. وقد رُوي ذلك أيضا عن ابن عباس.

حدثنا أحمد بن يوسف, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا حجاج, عن هارون, عن جرير بن حازم, عن حميد, عن مجاهد, عن ابن عباس أنه قرأها: « سَالِمًا لِرَجُلٍ » يعني بالألف, وقال: ليس فيه لأحد شيء.

وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة: ( وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ ) بمعنى: صلحا .

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان, قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء, متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن السلم مصدر من قول القائل: سَلِم فلان لله سَلما بمعنى: خَلَص له خُلوصا, تقول العرب: ربح فلان في تجارته رِبْحا ورَبَحا وسَلِمَ سِلْما وسَلَما وسلامة, وأن السالم من صفة الرجل, وسلم مصدر من ذلك. وأما الذي توهمه من رغب من قراءة ذلك سَلَما من أن معناه صلحا, فلا وجه للصلح في هذا الموضع, لأن الذي تقدم من صفة الآخر, إنما تقدم بالخبر عن اشتراك جماعة فيه دون الخبر عن حربه بشيء من الأشياء, فالواجب أن يكون الخبر عن مخالفه بخلوصه لواحد لا شريك له, ولا موضع للخبر عن الحرب والصلح في هذا الموضع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: « رَجُلا فِيه شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلا سالِمًا لِرَجُلٍ » قال: هذا مثل إله الباطل وإله الحق.

حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ) قال: هذا المشرك تتنازعه الشياطين, لا يقر به بعضهم لبعض « وَرَجُلا سَالِمًا لِرَجُلٍ » قال: هو المؤمن أخلص الدعوة والعبادة.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ) إلى قوله: ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) قال: الشركاء المتشاكسون: الرجل الذي يعبد آلهة شتى كلّ قوم يعبدون إلها يرضونه ويكفرون بما سواه من الآلهة, فضرب الله هذا المثل لهم, وضرب لنفسه مثلا يقول: رجلا سَلِمَ لرجل يقول: يعبدون إلها واحدا لا يختلفون فيه.

حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ) قال: مثل لأوثانهم التي كانوا يعبدون.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ ) قال: أرأيت الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون كلهم سيئ الخلق, ليس منهم واحد إلا تلقاه آخذا بطرف من مال لاستخدامه أسواؤهم, والذي لا يملكه إلا واحد, فإنما هذا مثل ضربه الله لهؤلاء الذين يعبدون الآلهة, وجعلوا لها في أعناقهم حقوقا, فضربه الله مثلا لهم, وللذي يعبده وحده ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) وفي قوله: « وَرَجُلا سالِمَا لِرَجُلٍ » يقول: ليس معه شرك.

وقوله: ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ) يقول تعالى ذكره: هل يستوي مثلُ هذا الذي يخدم جماعة شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فيه لخدمته مع منازعته شركاءه فيه والذي يخدمُ واحدا لا ينازعه فيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه, وإذا أخطأ صفح له عن خطئه, يقول: فأيّ هذين أحسن حالا وأروح جسما وأقلّ تعبا ونصبا؟.

كما حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول: من اختُلف فيه خير, أم من لم يُخْتلَف فيه؟.

وقوله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) يقول: الشكر الكامل, والحمدُ التامّ لله وحده دون كلّ معبود سواه. وقوله: ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول جل ثناؤه: وما يستوي هذا المشترك فيه, والذي هو منفرد ملكه لواحد, بل أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون أنهما لا يستويان, فهم بجهلهم بذلك يعبدون آلهة شتى من دون الله. وقيل: ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ) ولم يقل: مثلين لأنهما كلاهما ضربا مثلا واحدا, فجرى المثل بالتوحيد, كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً إذ كان معناهما واحدا في الآية.

والله أعلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ( 30 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ( 31 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إنك يا محمد ميت عن قليل, وإن هؤلاء المكذّبيك من قومك والمؤمنين منهم ميتون ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) يقول: ثم إن جميعكم المؤمنين والكافرين يوم القيامة عند ربكم تختصمون فيأخذ للمظلوم منكم من الظالم, ويفصل بين جميعكم بالحقّ.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: عنى به اختصام المؤمنين والكافرين, واختصام المظلوم والظالم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) يقول: يخاصم الصادق الكاذب, والمظلوم الظالم, والمهتدي الضال, والضعيف المستكبر.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال: أهل الإسلام وأهل الكفر.

حدثني ابن البرقي, قال: ثنا ابن أبي مريم, قال: ثنا ابن الدراوردي , قال: ثني محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن الزبير, قال: لما نـزلت هذه الآية: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال الزبير: يا رسول الله, أينكر علينا ما كان بيننا فى الدنيا مع خواصّ الذنوب ؟ فقال النبي: صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم « نَعَمْ حتى يُؤَدَّى إلى كُلِّ ذي حَقٍّ حَقُّهُ. »

وقال آخرون: بل عني بذلك اختصام أهل الإسلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, عن ابن عمر, قال: نـزلت علينا هذه الآية وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة, فقلنا: هذا الذي وعدنا ربُّنا أن نختصم في ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) .

حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن علية, قال: ثنا ابن عون, عن إبراهيم , قال: لما نـزلت: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ ) ... الآية, قالوا: ما خصومتنا بيننا ونحن إخوان, قال: فلما قُتل عثمان بن عفان, قالوا: هذه خصومتنا بيننا.

حُدثت عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, في قوله ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال: هم أهل القبلة.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: عني بذلك: إنك يا محمد ستموت , وإنكم أيها الناس ستموتون, ثم إن جميعكم أيها الناس تختصمون عند ربكم, مؤمنكم وكافركم, ومحقوكم ومبطلوكم, وظالموكم ومظلوموكم, حتى يؤخذ لكلّ منكم ممن لصاحبه قبله حق حقُّه.

وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب لأن الله عم بقوله: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) خطاب جميع عباده, فلم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض, فذلك على عمومه على ما عمه الله به ، وقد تنـزل الآية في معنى, ثم يكون داخلا في حكمها كلّ ما كان في معنى ما نـزلت به.