الجزء السابع

 

القول في تأويل قوله : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ( 82 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدّ صلى الله عليه وسلم: لتجدن، يا محمد، أشدَّ الناس عداوةً للذين صدَّقوك واتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام « اليهودَ والذين أشركوا » ، يعني: عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا » ، يقول: ولتجدن أقربَ الناس مودةًّ ومحبة.

و « المودة » « المفعلة » ، من قول الرجل: « ودِدْت كذا أودُّه وُدًّا، ووِدًّا، ووَدًّا ومودة » ، إذا أحببته.

« للذين آمنوا » ، يقول: للذين صدّقوا الله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم « الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون » ، عن قبول الحق واتباعه والإذعان به.

وقيل: إن هذه الآية والتي بعدها نـزلت في نفرٍ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقيل: إنها نـزلت في النجاشيّ ملك الحبشة وأصحابٍ له أسلموا معه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف، عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ وفدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. قال: فأنـزل الله تعالى فيهم: « لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا » ، إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه، فأسلم النجاشي، فلم يزل مسلمًا حتى مات. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أخاكم النجاشيَّ قد مات، فصلُّوا عليه! فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والنجاشي ثَمَّ.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » ، قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ولتجدن أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفرَ بن أبي طالب، وابن مسعود وعثمان بن مظعون، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذُكر أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ، فقالوا، إنه خرج فينا رجل سفَّه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبيُّ! وإنه بعث إليك رهطًا ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون! فقدم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمُّوا بابَ النجاشي، فقالوا: استأذن لأولياء الله! فقال، ائذن لهم، فمرحبًا بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلَّموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيَّتك التي تحيَّا بها! فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا: إنا حيَّيناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قال يقول: « هو عبد الله، وكلمةٌ من الله ألقاها إلى مريم، وروح منه » ، ويقول في مريم: « إنها العذراء البتول » . قال: فأخذ عودًا من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله، وتغيَّرت وجوههم. قال لهم: هل تعرفون شيئًا مما أنـزل عليكم؟ قالوا: نعم! قال: اقرءوا! فقرءوا، وهنالك منهم قسيسون ورهبانٌ وسائرُ النصارى، فعرفت كلَّ ما قرأوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله تعالى ذكره: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول » الآية.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » ، الآية. قال: بعث النجاشيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا من الحبشة، سبعة قسيسين وخمسة رهبانًا، ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنـزل الله بَكَوْا وآمنوا، فأنـزل الله عليه فيهم: « وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشيّ، فهاجر النجاشي معهم فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له. »

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء في قوله: « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » الآية، هم ناس من الحبشة آمنوا، إذ جاءتهم مهاجِرَةُ المؤمنين.

وقال آخرون: بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان، فلما بعث الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم آمنوا به.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا » ، فقرأ حتى بلغ: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعةٍ من الحق مما جاء به عيسى، يؤمنون به وينتهون إليه. فلما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، صدَّقوا به وآمنوا به، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق، فأثنى عليهم ما تسمعون.

قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندي: أنّ الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: « إنا نصارى » ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقربَ الناس وِدادًا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمِّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحابُ النجاشي ويجوز أن يكون أريد به قومٌ كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه.

وأما قوله تعالى: « ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهبانًا » ، فإنه يقول: قَرُبت مودَّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين، من أجل أنّ منهم قسيسين ورهبانًا.

و « القسيسون » جمع « قسيس » . وقد يجمع « القسيس » ، « قسوسًا » ، لأن « القَسّ » و « القسيس » ، بمعنى واحد.

وكان ابن زيد يقول في « القسيس » بما:-

حدثنا يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « القسيس » ، عبَّادُهم.

وأما الرهبان، فإنه يكون واحدًا وجمعًا. فأما إذا كان جمعًا، فإن واحدهم يكون « راهبًا » ، ويكون « الراهب » ، حينئذ « فاعلا » من قول القائل: « رَهب الله فلان » ، بمعنى خافه، « يرهبه رَهَبًا ورَهْبَا » ، ثم يجمع « الراهب » ، « رهبان » مثل « راكب » و « ركبان » ، و « فارس » و « فرسان » . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعًا قول الشاعر:

رُهْبَــانُ مَــدْيَنَ لَـوْ رَأَوْكِ تَـنزلُوا والْعُصْـمُ مِـنْ شَـعَفِ الْعَقُـولِ الفَادِرِ

وقد يكون « الرهبان » واحدًا. وإذا كان واحدًا كان جمعه « رهابين » مثل « قربان » و « قرابين » ، و « جُرْدان » . و « جرادين » . ويجوز جمعه أيضًا « رهابنة » إذا كان كذلك. ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر:

لَـوْ عَـايَنَتْ رُهْبَـانَ دَيْـرٍ فـي الْقُلَلْ لانْحَــدَرَ الرُّهْبَــانُ يَمْشِـي وَنـزل

واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا » .

فقال بعضهم: عُني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم، واتَّبعوه على شريعته.

ذكر من قال ذلك:

12321م - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن حصين، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا » ، قال: كانوا نَوَاتِيَّ في البحر يعني: ملاحين قال: فمر بهم عيسى ابن مريم، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه: قال: فذلك قوله: « قسيسين ورهبانًا » .

وقال آخرون: بل عني بذلك، القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عمن حدثه، عن أبي صالح في قوله: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا » ، قال: ستة وستون، أو سبعة وستون، أو ثمان وستون، من الحبشة، كلهم صاحب صَوْمعة، عليهم ثيابُ الصوف.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا » ، قال: بعث النجاشيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم، فجعلوا يبكون، فقال: هم هؤلاء!

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا » ، قال: هم رُسُل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخيِّرَ فالخيِّرَ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ سورة يس: 1، 2 ] ، فبكوا وعرفوا الحق، فأنـزل الله فيهم: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون » ، وأنـزل فيهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله: يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [ سورة القصص: 54 ] .

قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهلَ اجتهاد في العبادة، وترهُّب في الديارات والصوامع، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبيّنوه، لأنهم أهل دين واجتهاد فيه، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله، وليسوا كاليهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبياء والرسل، ومعاندة الله في أمره ونهيه، وتحريفِ تنـزيله الذي أنـزله في كتبه.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( 83 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا: إِنَّا نَصَارَى الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا ما أنـزل إليك من الكتاب يُتْلى « ترى أعينهم تفيض من الدمع » .

و « فيض العين من الدمع » ، امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها، كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه، ومنه قول الأعشى:

ففَـاضَتْ دُمُـوعِي, فَظَـلَّ الشُّـئُونُ: إمَّــا وَكِيفًــا, وَإِمَّــا انْحِــدَارَا

وقوله: « مما عرفوا من الحق » ، يقول: فيض دموعهم، لمعرفتهم بأنّ الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنـزله إلى رسول الله حقٌّ، كما:-

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ قال: بعث النجاشي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فبكوا. وكان منهم سبعة رهبانٍ وخمسة قسيسين أو: خمسة رهبان، وسبعة قسيسين فأنـزل الله فيهم: « وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع » ، إلى آخر الآية.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عمر بن علي بن مقدّم قال، سمعت هشام بن عروة يحدث، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: نـزلت في النجاشي وأصحابه: « وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع » .

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله: « ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق » ، قال: ذلك في النجاشي.

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانوا يُرَوْن أن هذه الآية أنـزلت في النجاشي: « وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع » .

حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، قال ابن إسحاق: سألت الزهري عن الآيات: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الآية، وقوله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [ سورة الفرقان: 63 ] . قال: ما زلت أسمع علماءنا يقولون: نـزلت في النجاشي وأصحابه.

وأما قوله: « يقولون » ، فإنه لو كان بلفظ اسم، كان نصبًا على الحال، لأن معنى الكلام: وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قائلين: « ربنا آمنا » .

ويعني بقوله تعالى ذكره: « يقولون ربنا آمنا » ، أنهم يقولون: يا ربنا، صدَّقنا لما سمعنا ما أنـزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك، وأنه الحق لا شك فيه.

وأما قوله: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله، ما:-

حدثنا به هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن نمير جميعًا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « اكتبنا مع »

الشاهدين « ، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. »

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، يعنون بـ « الشاهدين » ، محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّته.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، قال: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، إنهم شهدوا أنه قد بلَّغ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت.

حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا يحيى بن زكريا قال، حدثني إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز غير أنه قال: وشهدوا للرسل أنهم قد بلَّغوا.

قال أبو جعفر: فكأنّ متأوِّل هذا التأويل، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ سورة البقرة: 143 ] . فذهب ابن عباس إلى أن « الشاهدين » ، هم « الشهداء » في قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان التأويل ذلك، كان معنى الكلام: « يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين » ، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك.

ولو قال قائل: معنى ذلك: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، الذين يشهدون أن ما أنـزلته إلى رسولك من الكتب حق كان صوابًا. لأن ذلك خاتمة قوله: « وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين » ، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله، فتكون مسألتهم أيضا اللهَ أن يجعلهم ممن صحَّت عنده شهادتهم بذلك، ويُلْحقهم في الثوابِ والجزاء منازلَهُم.

ومعنى « الكتاب » في هذا الموضع: الجَعْل.

يقول: فاجعلنا مع الشاهدين، وأثبتنا معهم في عِدَادهم.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ( 84 )

قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصَف صفتهم في هذه الآيات، أنهم إذا سمعوا ما أنـزل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتابه، آمنوا به وصدّقوا كتاب الله، وقالوا: « ما لنا لا نؤمن بالله » ، يقول: لا نقرّ بوحدانية الله « وما جاءَنا من الحق » ، يقول: وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنـزيله، ونحن نطمَعُ بإيماننا بذلك أن يدخلنا ربُّنا مع القوم الصالحين.

يعني بـ « القوم الصالحين » ، المؤمنين بالله، المطيعين له، الذين استحقُّوا من الله الجنة بطاعتهم إياه.

وإنما معنى ذلك: ونحن نطمعُ أن يدخلَنا ربُّنا مع أهل طاعته مداخلَهم من جنته يوم القيامة، ويلحق منازلَنا بمنازلهم، ودرجاتنا بدرجاتهم في جنَّاته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين » ، قال: « القومُ الصالحون » ، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه.

 

القول في تأويل قوله : فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( 85 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فجزاهم الله بقولهم: « رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ »

« جنات تجري من تحتها الأنهار » ، يعني: بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار « خالدين فيها » ، يقول: دائمًا فيها مكثهم، لا يخرجون منها ولا يحوَّلون عنها

« وذلك جزاء المحسنين » ، يقول: وهذا الذي جَزَيتُ هؤلاء القائلين بما وصفتُ عنهم من قيلهم على ما قالوا، من الجنات التي هم فيها خالدون، جزاءُ كل محسنٍ في قِيله وفِعله.

و « إحسان المحسن » في ذلك، أن يوحِّد الله توحيدًا خالصًا محضًا لا شرك فيه، ويقرّ بأنبياء الله وما جاءت به من عند الله من الكتب، ويؤدِّي فرائضَه، ويجتنب معاصيه. فذلك كمال إحسان المحسنين الذين قال الله تعالى ذكره: « جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها » .

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 86 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما الذين جَحَدوا توحيدَ الله، وأنكروا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بآيات كتابه، فإن أولئك « أصحاب الجحيم » . يقول: هم سكّانها واللابثون فيها.

و « الجحيم » : ما اشتدّ حرُّه من النار، وهو « الجَاحِم » « والجحيم » .

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 87 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم صلى الله عليه وسلم أنه حق من عند الله « لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم » ، يعني بـ « الطيبات » ، اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب،

فتمنعوها إيّاها، كالذي فعله القسِّيسون والرُّهبان، فحرَّموا على أنفسِهم النساءَ والمطاعمَ الطيَّبة، والمشاربَ اللذيذة، وحَبس في الصَّوامع بعضُهم أنفسَهم، وساحَ في الأرض بعضهم. يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيُّها المؤمنون، كما فعل أولئك، ولا تعتدُوا حدَّ الله الذي حدَّ لكم فيما أحلَّ لكم وفيما حرم عليكم، فتجاوزوا حدَّه الذي حدَّه، فتخالفوا بذلك طاعته، فإن الله لا يحبُّ من اعتدى حدَّه الذي حدّه لخلقه، فيما أحل لهم وحرَّم عليهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا عبثر أبو زبيد قال، حدثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّبات ما أحل الله لكم » الآية، قال: عثمان بن مظعون وأناسٌ من المسلمين، حرَّموا عليهم النساءَ، وامتنعوا من الطَّعام الطيّب، وأراد بعضهم أن يقطع ذَكَره، فنـزلت هذه الآية.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني خالد الحذاء، عن عكرمة قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم همُّوا بالخصاء وتَرْك اللحم والنساء، فنـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّباتِ ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين » .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة: أن رجالا أرادوا كذا وكذا، وأرادوا كذا وكذا، وأن يختَصُوا، فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلَّ الله لكم » إلى قوله: الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيِّبات ما أحل الله لكم » ، قال: كانوا حَرَّموا الطيِّب واللحمَ، فأنـزل الله تعالى هذا فيهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا خالد، عن عكرمة: أن أناسًا قالوا: « لا نتزوَّج، ولا نأكل، ولا نفعل كذا وكذا » ! فأنـزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيِّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفُضُوا الدنيا، ويتركوا النساء، ويترهَّبوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغَلَّظ فيهم المقالة، ثم قال: إنما هَلَك من كان قبلكم بالتشديد، شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فأولئك بقايَاهم في الدِّيار والصوامع! اعبدُوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وحجُّوا، واعتمروا، واستقيموا يَسْتَقِم لكم. قال: ونـزلت فيهم: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم » ، الآية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم » ، قال: نـزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أرادوا أن يتخلَّوا من الدُّنيا، ويتركوا النساء ويتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا آمرُكم أن تكونُوا قسِّيسين ورهبانًا « . »

حدثنا بشر بن مُعاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة في قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » ، الآية، ذكر لنا أنّ رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رَفَضوا النساء واللحم، وأرادوا أن يتّخذوا الصوامع. فلما بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس في ديني تركُ النساء واللحم، ولا اتِّخاذُ الصوامع وخُبِّرنا أن ثلاثة نفرٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتَّفقوا، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأقوم الليل لا أنام! وقال أحدهم: أمَّا أنا فأصوم النهار فلا أفطر! وقال الآخر: أما أنا فلا آتي النساء! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ألم أُنَبَّأْ أنكم اتّفقتم على كذا؟ قالوا: بلى! يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير! قال: لكني أقومُ وأنامَ، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس منِّي وكان في بعض القراءة: ( من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل عن سواء السبيل ) . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأناسٍ من أصحابه: إن مَنْ قبلكم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فهؤلاء إخوانهم في الدُّورِ والصوامع! اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وحُجُّوا واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين » ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التَّخويف. فقال أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما خِفْنا إن لم نُحْدِث عملا! فإنّ النصارى قد حرَّموا على أنفسهم، فنحن نحرِّم! فحرَّم بعضهم أكل اللَّحم والوَدَك، وأن يأكل بالنهار، وحرَّم بعضهم النوم، وحرَّم بعضهم النساء. فكان عثمان بن مظعون ممَّن حرم النساءَ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه. فأتت امرأتُه عائشةَ، وكان يقال لها: « الحولاء » ، فقالت لها عائشة ومن عندها من نساءِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما بالُك، يا حولاءُ متغيِّرةَ اللون لا تمتشِطين ولا تطيَّبين؟ فقالت: وكيف أتطيَّب وأمتشط، وما وقع عليّ زوجي، ولا رفع عني ثوبًا، منذ كذا وكذا! فجعلن يَضحكن من كلامها. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ يضحكن، فقال: ما يضحككن؟ قالت: يا رسول الله، الحولاءُ، سألتها عن أمرها فقالت: « ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا » ! فأرسل إليه فدعاه فقال: ما بالك يا عثمان؟ قال: إني تركته لله لكي أتخلَّى للعبادة! وقَصَّ عليه أمره. وكان عثمان قد أراد أن يَجُبَّ نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقسمتُ عليك إلا رجعت فواقعتَ أهلك! فقال: يا رسول الله إني صائم! قال: أفطر! فأفطر، وأتى أهله. فرجعت الحولاءُ إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيَّبت. فضحكت عائشة، فقالت: ما بالك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالُ أقوامٍ حرَّموا النساء، والطعامَ، والنومَ؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني! فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا » ، يقول لعثمان: لا تَجُبَّ نفسك. فإن هذا هو الاعتداء وأمرهم أن يكفِّروا أيْمانهم، فقال: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » ، قال: هم رهطٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نقطَعُ مذاكيرَنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان! فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأرسل، إليهم، فذكر ذلك لهم فقالوا: نعم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلِّي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مِني.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » ، وذلك أن رجالا من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، منهم عثمان بن مظعون، حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم، وأخذوا الشِّفَار ليقطعوا مذاكيرهم، لكي تنقطع الشهوة ويتفرَّغوا لعبادة ربهم. فأخبر بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما أردتم؟ فقالوا: أردنا أن تنقطع الشهوة عنا، ونتفرغ لعبادة ربنا، ونلهو عن النساء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أومر بذلك، ولكني أمرت في ديني أن أتزوَّج النساء! فقالوا، نطيعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنـزل الله تعالى ذكره: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين » ، إلى قوله: الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ .

حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أراد رجالٌ، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، أن يتبتَّلوا، ويخصُوا أنفسهم، ويلبسوا المُسُوح، فنـزلت هذه الآية إلى قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ قال ابن جريج، عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحابٍ، تبتَّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزَلوا النساءَ، ولبسوا المسوحَ، وحرَّموا طيبات الطعام واللِّباس إلا ما أكل ولبس أهل السِّيَاحة من بني إسرائيل، وهمُّوا بالإخصَاء، وأجمعُوا لقيام الليلِ وصيام النهار، فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين » ، يقول: لا تَسِيروا بغير سُنّة المسلمين، يريد: ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيامِ الليل، وما همُّوا به من الإخصاء. فلما نـزلت فيهم، بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ لأنفسكم حقًّا، وإنَّ لأعيُنِكم حقًّا! صوموا وأفطروا، وصلّوا وناموا، فليس منا من ترك سُنَّتنا! فقالوا: اللهم أسلمنا واتَّبعنا ما أنـزلت!

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » ، قال، قال أبي: ضَافَ عبدَ الله بن رواحة ضيفٌ، فانقلبَ ابن رواحة ولم يتعشَّ، فقال لأهله: ما عَشَّيْتِه؟ فقالت: كان الطعام قليلا فانتظرت أن تأتي! قال: فحبستِ ضيفي من أجلي! فطعامُك عليَّ حرام إن ذُقْته! فقالت هي: وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذقه! وقال الضيف: هو عليَّ حرام إن ذقتُه إن لم تذُوقوه! فلما رأى ذلك قال ابن رواحة: قرِّبي طعامَكِ، كلوا بسم الله! وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أحسنتَ! فنـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلَّ الله لكم » ، وقرأ حتى بلغ: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، إذا قلت: « والله لا أذوقه » ، فذلك العقد.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سَعْد قال، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس: أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنيّ إذا أصبتُ من اللحم انتشرتُ، وأخذتني شهوتي، فحرَّمت اللحم؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدُوا إن الله لا يحبُّ المعتدين » .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة قال: هَمَّ أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك النساء والخِصَاء، فأنـزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » الآية.

واختلفوا في معنى « الاعتداء » الذي قال تعالى ذكره: « ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبُّ المعتدين » .

فقال بعضهم: « الاعتداء » الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: هو ما كان عثمان بن مظعون همَّ به من جَبِّ نفسه، فنهى عن ذلك، وقيل له: « هذا هو الاعتداء » .

وممن قال ذلك السدي.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عنه.

وقال آخرون: بل ذلك هو ما كان الجماعةُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمُّوا به من تحريمِ النساء والطعام واللباس والنوم، فنهوا أن يفعلوا ذلك، وأن يستَنَّوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وممن قال ذلك عكرمة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عنه.

وقال بعضهم: بل ذلك نهيٌ من الله تعالى ذكره أن يتجاوَزَ الحلالَ إلى الحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن عاصم، عن الحسن: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا » ، قال: لا تعتدوا إلى ما حُرِّم عليكم.

وقد بينا أن معنى « الاعتداء » ، تجاوز المرءِ ماله إلى ما ليس له في كل شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.

قال أبو جعفر: وإذ كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره قد عمَّ بقوله: « لا تعتدوا » ، النهيَ عن العدوان كُلّه كان الواجبُ أن يكون محكومًا لما عمَّه بالعُموم حتى يخصَّه ما يجب التسليم له. وليس لأحدٍ أن يتعدَّى حدَّ الله تعالى في شي من الأشياء مما أحلَّ أو حرَّم، فمن تعدَّاه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره: « إن الله لا يحب المعتدين » .

وغير مستحيل أن تكون الآية نـزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهطِ الذين همُّوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلّ الله لهم على أنفسهم، ويكون مرادًا بحكمها كلُّ من كان في مثل مَعْناهم ممَّن حرّم على نفسه ما أحلَّ الله له، أو أحلَّ ما حرّم الله عليه، أو تجاوز حدًّا حدَّه الله له. وذلك أن الذين همُّوا بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلَّ لهم على أنفسهم، إنما عوتبوا على ما همُّوا به من تجاوزهم ما سَنَّ لهم وحدَّ، إلى غيره.

 

القول في تأويل قوله : وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 88 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، لهؤلاء المؤمنين الذين نهَاهم أن يحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لهم: كُلوا، أيها المؤمنون، من رزق الله الذي رَزقكم وأحله لكم، حلالا طيِّبًا، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: « وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبًا » يعني: ما أحل الله لهم من الطعام.

وأما قوله: « واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون » ، فإنه يقول: وخافوا، أيها المؤمنون، أن تعتدوا في حدوده، فتُحلُّوا ما حُرِّم عليكم، وتُحرِّموا ما أحِلَّ لكم، واحذروه في ذلك أن تخالفوه، فينـزل بكم سَخَطُه، أو تستوجبوا به عقوبته « الذي أنتم به مؤمنون » ، يقول: الذي أنتم بوحدانيّته مقرُّون، وبربُوبيته مصدِّقون.

 

القول في تأويل قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، للذين كانوا حرَّموا على أنفسهم الطيّبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا حرَّموا ذلك بأيمانٍ حَلَفوا بها، فنهاهم عن تحريمها وقال لهم: لا يُؤَاخذكم ربُّكم باللغو في أيمانكم، كما:-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، لما نـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ، في القوم الذين كانوا حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلَفنا عليها؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، الآية.

فهذا يدلُّ على ما قلنا، من أن القوم كانوا حرَّموا ما حرَّموا على أنفسهم بأيمان حَلَفُوا بها، فنـزلت هذه الآية بسبَبهم.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز وبعض البصريين: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ ) بتشديد « القاف » ، بمعنى: وكّدتم الأيمانَ ورَدَّدتموها.

وقرأه قَرَأةُ الكوفيين: ( بِمَا عَقَدْتُمُ الأيْمَانَ )

بتخفيف « القاف » ، بمعنى: أوجبتموها على أنفسكم، وعَزَمتْ عليها قلوبكم.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ بتخفيف « القاف » . وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل « فعَّلت » في الكلام، إلا فيما يكون فيه تردُّدٌ مرة بعد مرةٍ، مثل قولهم: « شدَّدت على فلان في كذا » ، إذا كُرِّر عليه الشدّة مرة بعد أخرى. فإذا أرادوا الخبر عن فعلِ مرّة واحدةٍ قيل: « شَدَدت عليه » ، بالتخفيف.

وقد أجمع الجميع لا خِلافَ بينهم: أن اليمين التي تجب بالحِنْث فيها الكفارة، تلزم بالحنث في حلف مرة واحدة، وإن لم يكرّرها الحالف مرات. وكان معلومًا بذلك أنّ الله مؤاخذٌ الحالفَ العاقدَ قلبَه على حلفه، وإن لم يكرِّره ولم يردِّدْه.

وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن لتشديد « القاف » من « عقّدتم » ، وجه مفهومٌ.

فتأويل الكلام إذًا: لا يؤاخذكم الله، أيها المؤمنون، من أيمانكم بما لغوتم فيه، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها، وعَقَدَت عليه قلوبكم.

وقد بينا اليمين التي هي « لغو » والتي اللهُ مؤاخذٌ العبدَ بها، والتي فيها الحِنْث، والتي لا حنث فيها فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع.

وأما قوله: « بما عقدتم الأيمان » ، فإن هنادًا:

حدثنا قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان » ، قال: بما تعمدتم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: « ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان » ، يقول: ما تعمَّدت فيه المأثَم، فعليك فيه الكفارة.

 

القول في تأويل قوله : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « الهاء » التي في قوله: « فكفارته » ، على ما هي عائدة، ومن ذكر ما؟

فقال بعضهم: هي عائدة على « ما » التي في قوله: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن في هذه الآية لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيَّل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك، فلا يؤاخذكم الله، فلا كفارة. ولكن المؤاخذة والكفارة، فيما حلفتَ عليه على علمٍ.

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو ليس فيه كفارة وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، قال: ما عُقِدت فيه يمينه، فعليه الكفارة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك قال: الأيمان ثلاثٌ: يمين تكفّر، ويمين لا تُكَفَّر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحُبها. فأما اليمين التي تكفَّر، فالرجل يحلِف على الأمر لا يفعله، ثم يفعله، فعليه الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفّر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمّد فيه الكذِبَ، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على الأمر يَرَى أنه كما حلَف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة. وهو « اللغو » .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: قالت عائشة: لغوُ اليمين، ما لم يعقد عليه الحالِفُ قلبه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: ليس في لغو اليمين كفّارة.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدّثه: أن عائشة قالت: أيمانُ الكفارة، كلّ يمين حلف فيها الرجل على جدٍّ من الأمور في غضب أو غيره: « ليفعلن، ليتركنّ » ، فذلك عقد الأيمان التي فَرض الله فيها الكفارة، وقال تعالى ذكره: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، وعن علي بن أبي طلحة قالا ليس في لغو اليمين كفارة.

حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، يقول: ما تعمدتَ فيه المأثم، فعليك فيه الكفارة. قال، وقال قتادة: أمّا اللغو، فلا كفارة فيه.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: لا كفارة في لغو اليمين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو العنقزيّ، عن أسباط، عن السدي: ليس في لغو اليمين كفارة.

قال أبو جعفر: فمعنى الكلام على هذا التأويل: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، فكفارة ما عقدتم منها إطعامُ عَشَرة مساكين.

وقال آخرون: « الهاء » في قوله: « فكفارته » ، عائدة على « اللغو » ، وهي كناية عنه. قالوا: وإنما معنى الكلام: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفَّرتموه، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان فأقمتم على المضيّ عليه بترك الحِنْث والكفارة فيه. والإقامةُ على المضيّ عليه، غير جائزةٍ لكم. فكفارةُ اللغو منها إذا حنثتم فيه، إطعامُ عشرة مساكين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، فهو الرجل يحلف على أمرِ ضِرارٍ أن يفعلَه فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفّرَ عن يمينه ويأتي هو خير وقال مرة أخرى: قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ إلى قوله: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، قال: واللغو من الأيمان، هي التي تُكفّر، لا يؤاخذ الله بها. ولكن من أقام على تحريم ما أحلّ الله له، ولم يتحوَّل عنه، ولم يكفِّر عن يمينه، فتلك التي يُؤْخَذ بها.

حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي، فيكفِّر.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: هو الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله تعالى ذكره، يكفّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها، فكفارته إطعام عشرة مساكين.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير، قال في لغو اليمين: هي اليمين في المعصية، فقال: أولا تقرأ فتفهم؟ قال: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ . قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتَّمَام عليها، قال وقال: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ [ سورة البقرة: 224 ] .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: وكيف يصنع؟ قال: يكفر يمينه ويترك المعصية.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: « اللغو » ، يمين لا يؤاخذ بها صاحبها، وفيها كفارة.

حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: اليمين المكفَّرة.

قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك، أن تكون « الهاء » في قوله: « فكفارته » عائدة على « ما » التي في قوله: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، لما قدَّمنا فيما مضى قبل أنّ من لزمته في يمينه كفّارة وأُوخذ بها، غيرُ جائز أن يقال لمن قد أوخذ: « لا يؤاخذه الله باللغو » . وفي قوله تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، دليلٌ واضح أنه لا يكون مؤاخذًا بوجه من الوجوه، مَنْ أخبرنا تعالى ذكره أنه غيرُ مؤاخذه.

فإن ظنّ ظان أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثْتُم وكفَّرتم إلا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمرَه ونهيَه في كتابه، على الظاهر العامّ عندنا بما قد دللنا على صحّة القول به في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته دون الباطن العامِّ الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر. ولا دلالة من عقل ولا خبرٍ أنه عنى تعالى ذكره بقوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، بعضَ معاني المؤاخذة دون جميعها.

وإذ كان ذلك كذلك، وكان من لزمته كفّارة في يمينٍ حنث فيها مؤاخذًا بها بعقوبة في ماله عاجلة، كان معلومًا أنه غيرُ الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها.

وإذْ كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا، فمعنى الكلام إذًا: لا يؤاخذكم الله أيها الناس، بلغوٍ من القول والأيمان، إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ذكره ولا خلافَ أمره، ولم تقصدوا بها إثمًا، ولكن يؤاخذكم بما تعمَّدتم به الإثم، وأوجبتموه على أنفسكم، وعزمتْ عليه قلوبكم، ويكفر ذلك عنكم، فيغطِّي على سيِّئ ما كان منكم من كذبٍ وزُور قولٍ، ويمحوه عنكم فلا يتبعكم به ربكم « إطعامُ عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم » .

 

القول في تأويل قوله : مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، من أعدله، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال سمعت عطاء يقول في هذه الآية: « من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم » ، قال عطاء: « أوسطه » ، أعدله.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » .

فقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يُطْعِم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهلُ بلد المكفّر، أهاليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، أخبرنا شريك، عن عبد الله بن حنش، عن الأسود قال: سألته عن: « أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: الخبز، والتمر، والزيت، والسمن، وأفضلُه اللحم.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد عن ذلك فقال: الخبز والتمر زاد هناد في حديثه، والزيت. قال: وأحسبه، الخلّ.

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن ابن عمر في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: من أوسط ما يطعم أهلَه: الخبزَ والتمرَ، والخبز والسمن، والخبزَ والزيت. ومن أفضل ما تُطْعمهم: الخبزَ واللحم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن ابن سيرين، عن ابن عمر: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، الخبزَ واللحم، والخبز والسمن، والخبز والجبن، والخبز والخلَّ.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن حنش، قال: سألت الأسود بن يزيد عن « أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: الخبز والتمر.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد، فذكر مثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: الخبز والسمن.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن ذلك، فذكر مثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أزهر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، الخبز والسمن.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين قال: كانوا يقولون: أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسُّه الخبز والتمر.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن الربيع، عن الحسن قال: خبز ولحم، أو خبز وسمن، أو خبز ولبن.

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عمر بن هارون، عن أبي مصلح، عن الضحاك في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: الخبز واللحم والمرَقَة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن يحيى بن حَيّان الطائي قال: كنت عند شُريح، فأتاه رجل فقال: إني حلفت على يمين فأثِمْتُ؟ قال شريح: ما حملك على ذلك؟ قال: قُدِّر عليّ، فما أوسط ما أطعم أهلي؟ قال له شريح: الخبز والزيت، والخل طيّبٌ. قال: فأعاد عليه، فقال له شريح ذلك ثلاث مرارٍ، لا يزيده شريح على ذلك. فقال له: أرأيت إن أطعمت الخبزَ واللحم؟ قال: ذاك أرفعُ طعام أهلِك وطعامِ الناس.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال، في كفارة اليمين: يغدِّيهم ويعشيهم خبزًا وزيتًا، أو خبزًا وسمنًا. أو خلا وزيتًا.

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة، عن زبرقان، عن أبي رزين: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، خبز وزيت وخلّ.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام بن محمد قال: أكلة واحدة، خبز ولحم. قال: وهو « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، وإنكم لتأكلون الخَبِيص والفاكهة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة عن هشام، عن الحسن قال في كفارة اليمين: يجزيك أن تطعم عَشَرة مساكين أكلة واحدة، خبزًا ولحمًا. فإن لم تجد، فخبزًا وسمنًا ولبنًا. فإن لم تجد، فخبزًا وخلا وزيتًا حتى يشبعوا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن زبرقان قال: سألت أبا رزين عن كفارة اليمين ما يطعم؟ قال: خبزًا وخلا وزيتًا: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، وذلك قدر قوتهم يومًا واحدًا.

ثم اختلف قائلو ذلك في مبلغه.

فقال بعضهم: مبلغ ذلك، نصفُ صاع من حنطة، أو صاعٌ من سائر الحبوب غيرها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن إبراهيم، عن عمر قال: إني أحلف على اليمين، ثم يبدو لي، فإذا رأيتَني قد فعلت ذلك، فأطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مُدَّين من حنطة .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ويعلى، عن الأعمش، عن شقيق، عن يسار بن نمير قال قال عمر: إنيّ أحلف أن لا أعطى أقوامًا، ثم يبدو لي أن أعطيَهم. فإذا رأيتَني فعلتُ ذلك، فأطعم عني عشَرة مساكين، بين كل مسكينين صاعًا من برٍّ، أو صاعًا من تمر.

حدثنا هناد ومحمد بن العلاء قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من حنطة.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، نصف صاع برّ كلّ مسكين.

حدثنا هناد قال، حدثنا حفص، عن عبد الكريم الجزري قال: قلت لسعيد بن جبير: أجمعُهم؟ قال: لا أعطهم مدّين مدَّين من حنطة، مدًّا لطعامه، ومدًَّا لإدامه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن عبد الكريم الجزري، قال: قلت لسعيد، فذكر نحوه.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو زبيد، عن حصين قال: سألت الشعبي عن كفارة اليمين فقال: مَكُّوكين، مكوكًا لطعامه، ومكوكًا لإدامه.

حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا هشام، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لكل مسكين مُدَّين.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لكل مسكين مدّين من برّ في كفارة اليمين.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: مدَّان من طعام لكل مسكين.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا سعيد بن يزيد أبو مسلمة قال: سألت جابر بن زيد عن إطعام المسكين في كفارة اليمين، فقال: أكلة. قلت: فإن الحسن يقول: مكُّوك برّ ومكوك تمر، فما ترى في مكُّوك بر؟ فقال: إن مكوك برّ!! قال يعقوب قال، ابن علية: وقال أبو مسلمة بيده، كأنه يراه حسنًا، وقلب أبو بشر يده.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن: أنه كان يقول في كفارة اليمين: فيما وجب فيه الطعام، مكُّوك تمر ومكوك برّ لكل مسكين.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن قال، قال: إن جمعهم أشبعهم إشباعةً واحدة. وإن أعطاهم، أعطاهم مكُّوكًا مكوكًا.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس قال: كان الحسن يقول: وحسبه، فإن أعطاهم في أيديهم، فمكوك بر ومكوك تمر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في كفارة اليمين: نصف صاع لكل مسكين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن أبيه، عن الحكم، في قوله: « إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: طعام نصف صاع لكل مسكين.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: « أوسط ما تطعمون أهليكم » ، نصف صاع.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، قال: الطعام، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو برٍّ.

وقال آخرون: بل مبلغ ذلك من كل شيء من الحبوب، مُدٌّ واحد.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت أنه قال في كفارة اليمين: مدٌّ من حنطة لكل مسكين.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال في كفارة اليمين: مدٌّ من حنطة لكل مسكين، رُبْعُه إدامُه.

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، نحوه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، لكل مسكين مُدٌّ.

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع قال، حدثنا العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: مدٌّ من حنطة لكل مسكين.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يكفّر اليمين بعشرة أمداد، بالمُدّ الأصغر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن القاسم وسالم في كفارة اليمين، ما يطعم؟ قالا مدٌّ لكل مسكين.

حدثنا هناد، قال، حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار قال: كان الناس إذا كفَّر أحدهم، كفَّر بعشرة أمداد بالمدّ الأصغر.

حدثنا هناد، قال، حدثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، قال: عشرة أمداد لعشرة مساكين.

حدثنا بشر، قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: « إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: كان يقال: البرُّ والتمر، لكل مسكين مد من تمر، ومدّ من برّ.

حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن مالك بن مغول، عن عطاء، قال: مد لكل مسكين.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: من أوسط ما تعُولونهم. قال: وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك: مدًّا بمدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنطة. قال ابن زيد: هو الوسط مما يقوت به أهله، ليس بأدناه ولا بأرفعه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: مدٌّ.

وقال آخرون: بل ذلك غَداء وعشاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال، في كفارة اليمين: يغدِّيهم ويعشيهم.

حدثنا هناد، قال، حدثنا عمر بن هارون، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في كفارة اليمين قال: غداء وعشاء.

حدثنا هناد، قال، حدثنا وكيع وحدثنا أبن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: يغديهم ويعشيهم.

وقال آخرون: إنما عنى بقوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، من أوسط ما يطعم المكفِّر أهله. قال: إن كان ممن يشبع أهله، أشبع المساكين العشرة. وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك، أطعم المساكين على قدر ما يفعلُ من ذلك بأهله في عسره ويُسره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين، وإلا فعلى ما تطعم أهلك بقَدَره.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، وهو أن تطعم كل مسكين من نحو ما تطعم أهلَك من الشبع، أو نصفَ صاع من برّ.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس، قال: مِن عسرهم ويُسرهم.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: من عسرهم ويُسرهم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: قوتهم.

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن سليمان العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: قوتهم.

حدثنا أبو حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عن سليمان بن عبيد العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: كانوا يفضلون الحرَّ على العبد، والكبير على الصغير، فنـزلت: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » .

حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال، كانوا يطعمون الكبير ما لا يطعمون الصغير، ويطعمون الحرّ ما لا يطعمون العبد، فقال، « من أوسط ما تطعمون أهليكم » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبعهم. وإن كنت لا تشبعهم، فعلى قدر ذلك.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيبان النحوي، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: من عسرهم ويسرهم.

حدثنا يونس قال، حدثنا سفيان، عن سليمان، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: كان الرجل يقوت بعض أهله قوتًا دونًا وبعضهم قوتًا فيه سعة، فقال الله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، الخبز والزيت.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » عندنا، قول من قال: « من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلَّة والكثرة » . وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات كلِّها بذلك وردت. وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفارة الحلق من الأذى بفَرَق من طعام بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع وكحكمه في كفارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعًا بين ستين مسكينًا، لكل مسكين ربُعْ صاع. ولا يُعْرف له صلى الله عليه وسلم شيء من الكفارات، أمر بإطعام خبز وإدام، ولا بغداء وعشاء.

فإذْ كان ذلك كذلك، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته، كان سبيلُها سبيلَ ما تولَّى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم: من أن الواجب على مكفِّرها من الطعام، مقدّرًا للمساكين العشرة محدودًا بكيل، دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك.

فإذ كان صحيحًا ما قلنا بما به استشهدنا، فبيِّنٌ أن تأويل الكلام: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم وأن « ما » التي في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، بمعنى المصدر، لا بمعنى الأسماء.

وإذا كان ذلك كذلك، فأعدل أقوات الموسِّع على أهله مُدَّان، وذلك نصف صاع في رُبعه إدامه، وذلك أعلى ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفارة في إطعام مساكين. وأعدلُ أقوات المقتِّر على أهله، مُدٌّ، وذلك ربع صاع، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين.

وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين، الخبزَ واللحمَ وما ذكرنا عنهم قبل، والذين رأوا أن يغدّوا أو يعشوا، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم، فجعلوا « ما » التي في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، اسمًا لا مصدرًا، فأوجبوا على المكفِّر إطعامَ المساكين من أعدل ما يُطعم أهله من الأغذية. وذلك مذهبٌ لولا ما ذكرنا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات غيرها، التي يجب إلحاق أشكالها بها، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها.

 

القول في تأويل قوله : أَوْ كِسْوَتُهُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فكفارة ما عقدتم من الأيمان: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم. يقول: إما أن تطعموهم أو تكسوهم. والخيار في ذلك إلى المكفِّر.

واختلف أهل التأويل في « الكسوة » التي عنى الله تعالى ذكره بقوله: « أو كسوتهم » .

فقال بعضهم: عنى بذلك: كسوة ثوب واحد.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في كسوة المساكين في كفارة اليمين: أدناه ثوبٌ.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أدناه ثوب، وأعلاه ما شئتَ.

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن الربيع، عن الحسن قال في كفارة اليمين في قوله: « أو كسوتهم » ، ثوبٌ لكل مسكين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه: « أو كسوتهم » ، قال: ثوبٌ.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير جميعًا، عن منصور، عن مجاهد في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب ثوب قال منصور: القميص، أو الرِّداء، أو الإزار.

حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: كسوة الشتاء والصيف، ثوبٌ ثوبٌ.

حدثنا هناد قال، حدثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب ثوب لكل مسكين.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: إذا كساهم ثوبًا ثوبًا أجزأ عنه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن حماد قال: ثوب أو ثوبان، وثوب لا بدّ منه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: ثوب ثوب لكل إنسان. وقد كانت العباءة تقضى يومئذ من الكسوة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « أو كسوتهم » ، قال: « الكسوة » ، عباءة لكل مسكين، أو شِمْلة.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال: ثوب، أو قميصٌ، أو رداء، أو إزار.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن اختار صاحبُ اليمين الكسوة، كسا عشرة أناسيَّ، كل إنسان عباءة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال، سمعت عطاء يقول في قوله: « أو كسوتهم » ، الكسوة: ثوبٌ ثوبٌ.

وقال بعضهم: عنى بذلك: الكسوةَ ثوبين ثوبين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية جميعًا، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: عباءة وعمامة.

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال: عمامة يلفُّ بها رأسه، وعباءة يلتحف بها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين قالا ثوبين ثوبين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن قال: ثوبين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، مثله.

حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: ثوبان ثوبان لكل مسكين.

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن أبى موسى: أنه حلف على يمين، فكسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين.

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين: أن أبا موسى كسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن محمد بن عبد الأعلى: أن أبا موسى الأشعري حلف على يمين، فرأى أن يكفِّر ففعل، وكسا عشرة ثوبين ثوبين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد: أن أبا موسى حلف على يمين فكفَّر، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال: عباءة وعمامة لكل مسكين.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب: ( أو كَأُسْوَتِهِمْ ) ، فقال سعيد: لا إنما هي: « أو كسوتهم » ، قال قلت: يا أبا محمد، ما كسوتهم؟ قال: لكل مسكين عباءة وعمامة: عباءة يلتحف بها، وعمامة يشدّ بها رأسه.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: الكسوة، لكل مسكين رداء وإزار، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة.

وقال آخرون: بل عنى بذلك كسوتهم « ثوب جامع » ، كالملحفة والكساء، والشيء الذي يصلح للّبس والنوم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم قال: الكسوة ثوبٌ جامع.

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب جامع. قال وقال مغيرة: و « الثوب الجامع » : الملحفة أو الكساء أو نحوه، ولا نرى الدِّرع والقميصَ والخِمار ونحوه « جامعًا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ثوب جامع.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ثوب جامع.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب جامع لكل مسكين.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان وشعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب جامع.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، مثله.

وقال آخرون: عنى بذلك: كسوة إزار ورداء وقميص.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن بردة، عن رافع، عن ابن عمر قال في الكسوة: في الكفارة إزار ورداء وقميص.

وقال آخرون: كل ما كسا فيجزئ، والآية على عمومها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن مجاهد قال: يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان.

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن الحسن قال: يجزئ عمامة في كفارة اليمين.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أويس الصيرفي، عن أبي الهيثم، قال قال سلمان: نعم الثوبُ التُّبَّان.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن الحكم قال: عمامة يلف بها رأسه.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن، قولُ من قال: عنى بقوله: « أو كسوتهم » ، ما وقع عليه اسم كسوة، مما يكون ثوبًا فصاعدًا لأن ما دون الثوب، لا خلافَ بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية، فكان ما دون قدر ذلك، خارجًا من أن يكون الله تعالى عناه، بالنقل المستفيض. والثوبُ وما فوقه داخل في حكم الآية، إذ لم يأت من الله تعالى وحي، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر، ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها. وغير جائز إخراج ما كان ظاهرُ الآية محتملَه من حكم الآية، إلا بحجة يجب التسليم لها. ولا حجة بذلك.

 

القول في تأويل قوله : أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو فكّ عبد من أسر العبودة وذلها.

وأصل « التحرير » ، الفك من الأسر، ومنه قول الفرزدق بن غالب:

أَبنِـي غُــدَانَةَ, إِنَّنِي حَــرَّرْتُكُمْ فَــوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّــةَ بْنِ جِعَـالِ

يعني بقوله: « حرّرتكم » ، فككت رقابكم من ذلّ الهجاء ولزوم العار.

وقيل: « تحرير رقبة » ، والمحرَّر ذو الرقبة، لأن العربَ كان من شأنها إذا أسرت أسيرًا أن تجمع يديه إلى عنقه بقِدٍ أو حبل أو غير ذلك، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلَّتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة. فجرى الكلام عند إطلاقهم الأسير، بالخبر عن فك يديه عن رقبته، وهم يريدون الخبرَ عن إطلاقه من أسره، كما يقال: « قبضَ فلان يده عن فلان » ، إذا أمسك يده عن نواله « وبسط فيه لسانه » ، إذا قال فيه سوءًا فيضافُ الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله، لاستعمال الناس ذلك بينهم، وعلمهم بمعنى ذلك. فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره: « أو تحرير رقبة » ، أضيف « التحرير » إلى « الرقبة » ، وإن لم يكن هناك غُلٌّ في رقبته ولا شدُّ يَدٍ إليها، وكان المراد بالتحرير نفسَ العبد، بما وصفنا، من جَرّاء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه.

فإن قال قائل: أفكلّ الرقاب معنيٌّ بذلك أو بعضه؟

قيل: بل معنيّ بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد، والعمَى والخرس، وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق، ونظائر ذلك. فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين. فكان معلومًا بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر، فإنهم معنيون به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد... قال، حدثنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول: من كانت عليه رقبة واجبة، فاشترى نَسَمة، قال: إذا أنقذها من عمل أجزأته، ولا يجوز عتق من لا يعمل. فأما الذي يعمل، كالأعور ونحوه. وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ، الأعمى والمقعد.

حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: كان يكره عتق المخَبَّل في شيء من الكفارات.

حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان لا يرى عتقَ المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات.

وقال بعضهم: لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح، ويجزئ الصغير فيها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يجزئ المولودُ في الإسلام من رقبة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: ما كان في القرآن من رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى. وما كان ليس بمؤمنة، فالصبي يجزئ.

وقال بعضهم: لا يقال للمولود « رقبة » ، إلا بعد مدة تأتي عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن النعمان بن المنذر، عن سليمان قال: إذا ولد الصبي فهو نسمة، وإذا انقلبَ ظهرًا لبطن فهو رقبة، وإذا صلى فهو مؤمنة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إن الله تعالى عمَّ بذكر « الرقبة » كل رقبة، فأيَّ رقبة حرّرها المكفر يمينَه في كفارته، فقد أدّى ما كُلِّف، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره، لم يعنه بالتحرير، فذلك خارج من حكم الآية، وما عدا ذلك فجائز تحريرُه في الكفارة بظاهر التنـزيل.

والمكفِّر مخيَّر في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه، وذلك: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة بإجماع من الجميع، لا خلاف بينهم في ذلك. فإن ظنّ ظان أنّ ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع، ليس كما قلنا، لما:-

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، حدثنا أبو الضحى، عن مسروق، قال: جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال: إني آليتُ من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه الآية: لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [ سورة المائدة: 87 ] . قال فقال معقل: إنما سألتك أنْ أتيتُ على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله: ائت النساء ونَمْ، وأعتق رقبة، فإنك موسر.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم: أن سليمان الأعمش حدثه، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن همام بن الحارث: أن نعمان بن مقرِّن سأل عبد الله بن مسعود فقال: إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة؟ فقال ابن مسعود: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ، كفّر عن يمينك، ونم على فراشك! قال: بم أكفِّر عن يميني؟ قال: أعتق رقبة، فإنك موسر.

ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما، فإنّ ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من الرقاب، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة، لأنه لم ينقل أحدٌ عن أحد منهم أنه قال: لا يجزئ الموسرَ التكفيرُ إلا بالرقبة. والجميعُ من علماء الأمصار، قديمهم وحديثهم، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائزٌ للموسر. ففي ذلك مكتفًى عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره.

 

القول في تأويل قوله : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « فمن لم يجد » ، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرُها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفِّرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم « فصيام ثلاثة أيام » ، يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام.

ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله: « فمن لم يجد » ، ومتى يستحقُّ الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة، اسم « غير واجد » ، حتى يكون ممن له الصيام في ذلك.

فقال بعضهم: إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومَه وليلته، فإنّ له أن يكفر بالصيام. فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم، لزمه التكفيرُ بالإطعام أو الكسوة، ولم يجزه الصيام حينئذ.

وممن قال ذلك الشافعي:

حدثنا بذلك عنه الربيع.

وهذا القولَ قصدَ إن شاء الله مَنْ أوجب الطعام على من كان عنده درهمان ، مَنْ أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم. وبنحو ذلك:-

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، قال: إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم قال: يعني في الكفارة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني معتمر بن سليمان قال: قلت لعمر بن راشد: الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر، قال: كان قتادة يقول: يصوم ثلاثة أيام.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا يونس بن عبيد، عن الحسن قال، إذا كان عنده درهمان.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر، عن حماد، عن عبد الكريم أبي أمية، عن سعيد بن جبير قال: ثلاثة دراهم.

وقال آخرون: جائزٌ لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم، وهو ممن لا يجد.

وقال آخرون: جائزٌ لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام، أن يصوم، إلا أن يكون له كفاية، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه، ومن الفضل عن ذلك ما يكفرّ به عن يمينه. وهذا قولٌ كان يقوله بعض متأخري المتفقهة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته، لا فضل له عن ذلك، يصوم ثلاثة أيام، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق. وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يوَمه وليلته، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين، أو يعتق رقبة، فلا يجزيه حينئذ الصوم، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوبَ الدين. وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرّق ماله بين غرمائه: أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لا بدَّ له من قوته وقوت عياله يوَمه وليلته. فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله.

واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين. فقال بعضهم: صفته أن يكون مواصلا بين الأيام الثلاثة غير مفرِّقها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل صوم في القرآن فهو متتابع، إلا قضاء رمضان، فإنه عدة من أيام أخر.

حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال: كان أبيّ ابن كعب يقرأ: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرأ: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن قزعة، عن سويد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال: في قراءة عبد الله: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أبي إسحاق في قراءة عبد الله: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأون: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، سمعت سفيان، يقول: إذا فرّق صيام ثلاثة أيام لم يجزِه. قال: وسمعته يقول في رجل صامَ في كفارة يمين ثم أفطر، قال، يستقبل الصومَ.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « فصيام ثلاثة أيام » ، قال: إذا لم يجد طعامًا، وكان في بعض القراءة: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وبه كان يأخذ قتادة.

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة، الأوّلَ فالأوّل، فإن لم يجد من ذلك شيئًا فصِيَام ثلاثة أيام متتابعات.

وقال آخرون: جائز لمن صامهنّ أن يصومهن كيف شاء، مجتمعات ومفترقات.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال، قال مالك: كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام، فأن يُصَام تِبَاعًا أعجبُ. فإن فرقها رجوتُ أن تجزئ عنه.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أوجب على من لزمته كفّارة يمين، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا أن يكفرّها بصيام ثلاثة أيام، ولم يشرطْ في ذلك متتابعة. فكيفما صامهنَّ المكفِّر مفرَّقة ومتتابعة، أجزأه. لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام، فكيفما أتَى بصومهنّ أجزأ.

فأما ما روى عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ، فذلك خلاف ما في مصاحفنا. وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله. غيرَ أني أختار للصائم في كفَّارة اليمين أن يُتَابع بين الأيام الثلاثة، ولا يفرِّق. لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته، وهم في غير ذلك مختلفون. ففعل ما لا يُخْتَلف في جوازه، أحبُّ إليَّ، وإن كان الآخر جائزًا.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 89 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، هذا الذي ذكرت لكم أنه كفارة أيمانكم، من إطعام العشرة المساكين، أو كسوتهم، أو تحرير الرقبة، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئًا هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذا حلفتم واحفظوا، أيها الذين آمنوا أيمانكم أن تحنثوا فيها، ثم تُضِيعُوا الكفارة فيها بما وصفته لكم « كذلك يبين الله لكم آياته » ، كما بين لكم كفارة أيمانكم، كذلك يبين الله لكم جميع آياته يعني أعلام دينه فيوضِّحها لكم لئلا يقول المضيع المفرِّط فيما ألزمه الله: « لم أعلم حكم الله في ذلك! » « لعلكم تشكرون » ، يقول: لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 90 )

قال أبو جعفر: وهذا بيانٌ من الله تعالى ذكره للذين حرَّموا على أنفسهم النساءَ والنومَ واللحمَ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تشبُّهَا منهم بالقسيسين والرهبان، فأنـزل الله فيهم على نبيِّه صلى الله عليه وسلم كتابَه يَنْهاهم عن ذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ، [ سورة المائدة: 87 ] .

فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحلّ الله لهم من الطيبات. ثم قال: ولا تعتدوا أيضًا في حدودي، فتحلُّوا ما حرَّمت عليكم، فإن ذلك لكم غير جائز، كما غيرُ جائزٍ لكم تحريم ما حلّلت، وإنيّ لا أحبُّ المعتدين. ثم أخبرهم عن الذي حرّم عليهم مما إذا استحلوه وتقدَّموا عليه، كانوا من المعتدين في حدوده فقال لهم: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها، والميسِرَ الذي تَتَياسرونه، والأنصاب التي تذبحُون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها « رجْس » ، يقول: إثم ونَتْنٌ سَخِطه الله وكرهه لكم « من عمل الشيطان » ، يقول: شربكم الخمر، وقماركم على الجُزُر، وذبحكم للأنصاب، واستقسامكم بالأزلام، من تزيين الشيطانِ لكم، ودعائه إياكم إليه، وتحسينه لكم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربُّكم، ولا مما يرضاه لكم، بل هو مما يسخطه لكم « فاجتنبوه » ، يقول: فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه « لعلكم تفلحون » ، يقول: لكي تنجَحُوا فتدركوا الفلاحَ عند ربكم بترككم ذلك.

وقد بينا معنى « الخمر » ، و « الميسر » ، و « الأزلام » فيما مضى، فكرهنا إعادته.

وأما « الأنصاب » ، فإنها جمع « نُصُب » ، وقد بينا معنى « النُّصُب » بشواهده فيما مضى.

وروي عن ابن عباس في معنى « الرجس » في هذا الموضع، ما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « رجس من عمل الشيطان » ، يقول: سَخَطٌ.

وقال ابن زيد في ذلك، ما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « رجس من عمل الشيطان » ، قال: « الرجس » ، الشرُّ.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ( 91 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما يُريد لكم الشيطانُ شربَ الخمر والمياسرةَ بالقِدَاح، ويحسِّن ذلك لكم، إرادةً منه أن يوقع بينكم العَداوَة والبغضاءَ في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح، ليعادي بعضكم بعضًا، ويبغِّض بعضَكم إلى بعض، فيشتِّت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام « ويصدّكم عن ذكر الله » ، يقول: ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم، وباشتغالكم بهذا الميسر، عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم « وعن الصلاة » ، التي فرضها عليكم ربكم « فهل أنتم منتهون » ، يقول: فهل أنتم منتهون عن شرب هذه، والمياسرة بهذا، وعاملون بما أمركم به ربُّكم من أداء ما فرَض عليكم من الصلاة لأوقاتها، ولزوم ذكره الذي به نُجْح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم؟.

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نـزلت هذه الآية.

فقال بعضهم: نـزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب، وهو أنه ذكر مكروهَ عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تحريمَها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السريّ، قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهمّ بيِّنْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنـزلت الآية التي في « البقرة » : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، [ سورة البقرة: 219 ] . قال: فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! فنـزلت الآية التي في « النساء » : لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ سورة النساء: 43 ] . قال: وكان مُنَادِي النبي صلى الله عليه وسلم يُنادي إذا حضرت الصلاة: لا يقربنّ الصلاة السكران! قال: فدُعِي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنـزلت الآية التي في « المائدة » : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله: « فهل أنتم منتهون » . فلما انتهى إلى قوله: « فهل أنتم منتهون » قال عمر: انتهينا انتهينا !!

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا أبى، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فإنها تَذْهب بالعقل والمال! ثم ذكر نحو حديث وكيع.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر بن الخطاب: اللهم بيِّن لنا، فذكر نحوه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله.

حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير، قال، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله.

حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني أبو معشر المدني، عن محمد بن قيس، قال: لما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أتاه الناس وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسِر، فسألوه عن ذلك، فأنـزل الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [ سورة البقرة: 219 ] ، فقالوا: هذا شيء قد جاء فيه رخْصة، نأكل الميسر ونشرَب الخمر، ونستغفر من ذلك!. حتى أتى رجلٌ صلاةَ المغرب، فجعل يقرأ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [ سورة الكافرون ] . فجعل لا يجوز ذلك،

ولا يدري ما يقرأ، فأنـزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [ سورة النساء: 43 ] . فكان الناس يشربون الخمرَ، حتى يجيء وقت الصلاة فيدعون شربها، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون. فلم يزالوا كذلك حتى أنـزل الله تعالى ذكره: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ إلى قوله: « فهل أنتم منتهون » ، فقالوا: انتهينا يا رب !

وقال آخرون: نـزلت هذه الآية بسبب سعد بن أبي وقاص. وذلك أنه كان لاحَى رجلا على شراب لهما، فضربه صاحبه بلَحْيَىْ جمل، ففَزَر أنفه، فنـزلت فيهما.

ذكر الرواية بذلك:

حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد أنه قال: صنع رجلٌ من الأنصار طعامًا، فَدَعانا. قال: فشربنا الخمرَ حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضلُ منكم! قال: فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَى جملٍ فضرب به أنف سعد ففَزَره، فكان سعد أفزَرَ الأنف. قال: فنـزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى آخر الآية.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، قال حدثنا شعبة، عن سماك، عن مصعب بن سعد قال، قال سعد: شربتُ مع قوم من الأنصار، فضربت رجلا منهم أظنّ بفكّ جمل فكسرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فلم ألبث أن نـزل تحريم الخمر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ، إلى آخر الآية.

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: شربت الخمر مع قوم من الأنصار، فذكر نحوه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، أن ابن شهاب أخبره، أن سالم بن عبد الله حدَّثه: أن أول ما حُرِّمت الخمر، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابًا له شربوا فاقتتلوا، فكسروا أنف سعدٍ، فأنـزل الله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ، الآية.

وقال آخرون: نـزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم عن جبر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نـزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شرِبوا. حتى إذا ثملوا، عبث بعضهم على بعض. فلما أن صَحوْا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل بي هذا أخي فلان! وكانوا إخوة، ليس في قلوبهم ضغائن والله لو كان بي رءوفًا رحيمًا ما فعل بي هذا! حتى وقعت في قلوبهم ضغائن، فأنـزل الله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: « فهل أنتم منتهون » ! فقال ناس من المتكلِّفين: رجْسٌ في بطن فلانُ قتل يوم بدر، وقتل فلان يوم أحُدٍ! فأنـزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ سورة المائدة: 93 ] ، . الآية.

حدثنا محمد بن خلف قال، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، عن أبي تميلة، عن سلام مولى حفص بن أبي القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شرابٍ لنا، [ ونحن على رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطِيةٌ لنا ] ، ونحن نشرب الخمر حِلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وقد نـزل تحريم الخمر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ، إلى آخر الآيتين، « فهل أنتم منتهون » ، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله: « فهل أنتم منتهون » ؟ قال: وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضًا وبقي بعضٌ في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجّام. ثم صبوا ما في باطيهتهم، فقالوا: انتهينا ربّنا! انتهينا ربَّنا!

وقال آخرون: إنما كانت العداوة والبغضاء، كانت تكون بين الذين نـزلت فيهم هذه الآية بسبب الميسر، لا بسبب السُّكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر. فلذلك نهاهم الله عن الميسر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال بشر: وقد سمعته من يزيد وحدثنيه قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الرجل في الجاهلية يقامِر على أهله وماله، فيقعد حَرِيبًا سليبًا ينظر إلى ماله في يَدَي غيره، فكانت تُورِث بينهم عداوة وبغضاءَ، فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه. والله أعلم بالذي يصلح خلقه.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إنّ الله تعالى قد سمَّى هذه الأشياء التي سمّاها في هذه الآية « رجسًا » ، وأمر باجتنابها.

وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نـزلت هذه الآية، وجائز أن يكون نـزولها كان بسبب دُعاء عمر رضى الله عنه في أمر الخمر وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نالَ سعدًا من الأنصاري عند انتِشائهما من الشراب وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدَهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يَسَرَه وبغضِه، وليس عندنا بأيِّ ذلك كان، خيرٌ قاطع للعذر. غير أنه أيّ ذلك كان، فقد لزم حكم الآية جميعَ أهل التكليف، وغيرُ ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نـزلت هذه الآية. فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان، فرضٌ على جميع من بلغته الآية من التكليفُ اجتنابُ جميع ذلك، كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

 

القول في تأويل قوله : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 92 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ « وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول » ، في اجتنابكم ذلك، واتباعكم أمره فيما أمركم به من الانـزجار عما زجَركم عنه من هذه المعانِي التي بيَّنها لكم في هذه الآية وغيرها، وخالِفوا الشيطان في أمره إيّاكم بمعصية الله في ذلك وفي غيره، فإنه إنما يبغي لكم العداوةَ والبغضاءَ بينكم بالخمر والميسر

« واحذروا » ، يقول: واتقوا الله وراقبوه أن يراكم عند ما نهاكم عنه من هذه الأمور التي حرّمها عليكم في هذه الآية وغيرها، أو يفقِدَكم عند ما أمركم به، فتُوبقوا أنفسكم وتهلكوها « فإن توليتم » ، يقول: فإن أنتم لم تعملوا بما أمرناكم به، وتنتهوا عما نهيناكم عنه، ورجعتم مدبرين عما أنتم عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله، واتباع ما جاءكم به نبيكم « فاعلموا أنما على رسولنا البلاغُ المبين » ، يقول: فاعلموا أنه ليس على من أرسلناه إليكم بالنِّذَارة غير إبلاغكم الرسالة التي أرسل بها إليكم، مبينةً لكم بيانًا يُوضِّح لكم سبيل الحقّ، والطريقَ الذي أمرتم أن تسلكوه. وأما العقاب على التولية والانتقام بالمعصية، فعلى المُرْسَل إليه دون الرسل.

وهذا من الله تعالى وعيد لمن تولَّى عن أمره ونهيه. يقول لهم تعالى ذكره: فإن توليتم عن أمري ونهيي، فتوقّعوا عقابي، واحذَرُوا سَخَطي.

 

القول في تأويل قوله : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 93 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا إذْ أنـزل الله تحريم الخمر بقوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ : كيفَ بمن هلك من إخواننا وهم يشربونها؟ وبنا وقد كنّا نشربها؟ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم حرج فيما شربوا من ذلك، في الحال التي لم يكن الله تعالى حرَّمه عليهم إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، يقول: إذا ما اتقى الله الأحياءُ منهم فخافوه، وراقبوه في اجتنابهم ما حرَّم عليهم منه، وصدَّقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم، فأطاعوهما في ذلك كله « وعملوا الصالحات » ، يقول: واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربُّهم « ثم اتقوا وآمنوا » ، يقول: ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارِمه بعد ذلك التكليف أيضًا، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به، ولم يغيِّروا ولم يبدِّلوا « ثم اتقوا وأحسنوا » ، يقول: ثم خافوا الله، فدعاهم خوفُهم الله إلى الإحسان، وذلك « الإحسان » ، هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال، ولكنه نوافلُ تقرَّبوا بها إلى رّبهم طلبَ رِضاه، وهربًا من عقابه « وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » ، يقول: والله يحب المتقرِّبين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها.

فالاتقاء الأوّل: هو الاتقاء بتلقِّي أمر الله بالقَبُول والتصديق، والدينونة به والعمَل والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان، والتقرُّب بنوافل الأعمال.

فإن قال قائل: ما الدليل على أنّ « الاتقاء » الثالث، هو الاتقاء بالنوافل، دون أن يكون ذلك بالفرائضِ؟

قيل: إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إيّاها، إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمِها، وصدّقوا الله ورسوله في تحريمها، وعملوا الصالحات من الفرائض. ولا وجه لتكرير ذلك وقد مضى ذكرُه في آيةٍ واحدة.

وبنحو الذي قلنا من أن هذه الآية نـزلت فيما ذكرنا أنها نـزلت فيه، جاءت الأخبار عن الصَّحابة والتابعين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نـزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنـزلت: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح » ، الآية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل بإسناده، نحوه.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد قال، أخبرنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: بينَا أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دجانة، حتى مالت رءوسهم من خَليط بُسْرٍ وتمر. فسمعنا مناديًا ينادي: ألا إنّ الخمر قد حُرِّمت! قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القِلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، فأصبْنَا من طِيب أمِّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . فقال رجل: يا رسول الله، فما منـزلةُ من مات منا وهو يشربها؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » الآية، فقال رجل لقتادة: سمعتَه من أنس بن مالك؟ قال: نعم! قال رجل لأنس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! وحدّثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب!

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما حرمت الخمر قالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنـزلت: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، الآية.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، قال البراء: مات ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر، فلما نـزل تحريمها، قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنـزلت هذه الآية: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات » ، الآية.

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: نـزلت: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، فيمن قُتِل ببدر وأحُدٍ مع محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا علي ابن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نـزلت: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: أنت منهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، إلى قوله: « وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » ، لما أنـزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في « سورة المائدة » ، بعد « سورة الأحزاب » ، قال في ذلك رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصيب فلانٌ يوم بدر، وفلانٌ يوم أحد، وهم يشربونها! فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة! فأنـزل الله تعالى ذكره: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين » ، يقول: شربها القومُ على تقوى من الله وإحسانٍ، وهي لهم يومئذ حلال، ثم حرِّمت بعدهم، فلا جناح عليهم في ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، قالوا: يا رسول الله، ما نقول لإخواننا الذين مضوا؟ كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر! فأنـزل الله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، يعني قبل التحريم، إذا كانوا محسنين متقين وقال مرة أخرى: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » من الحرام قبل أن يحرَّم عليهم « إذا ما اتقوا وأحسنوا » ، بعد ما حُرِّم، وهو قوله: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ، [ سورة البقرة: 275 ] .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، يعني بذلك رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرَّم الخمر، فلم يكن عليهم فيها جناح قبلَ أن تحرَّم. فلما حرِّمت قالوا: كيف تكون علينا حرامًا، وقد مات إخواننا وهم يشربونها؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات » ، يقول: ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرِّمها، إذا كانوا محسنين متقين « والله يحب المحسنين » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، لمن كان يشرب الخمرَ ممن قتل مع محمد صلى الله عليه وسلم ببدرٍ وأحُدٍ.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح » ، الآية، هذا في شأن الخمر حين حرِّمت، سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله « ليبلونّكم الله بشيء من الصيد » ، يقول: ليختبرنكم الله « بشيء من الصيد » ، يعني: ببعض الصيد.

وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء، لأنه لم يبلُهم بصيد البحر، وإنما ابتلاهم بصيد البرّ، فالابتلاء ببعض لا بجميع.

وقوله: « تناله أيديكم » ، فإنه يعني: إما باليد، كالبيض والفراخ وإما بإصابة النَّبْل والرماح، وذلك كالحمر والبقر والظباء، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجّكم.

وبنحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم » ، قال: « أيديكم » ، صغارُ الصَّيد، أخذ الفراخ والبيض و « الرماح » قال: كبارُ الصيد.

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « تناله أيديكم ورماحكم » ، قال: النَّبْل « رماحكم » ، تنال كبير الصيد، « وأيديكم » ، تنال صغير الصيد، أخذ الفرخ والبيض.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد في قوله: « ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم » ، قال: ما لا يستطيع أن يفرَّ من الصيد.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد. وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « أيديكم ورماحكم » ، قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله تعالى ذكره به عباده في إحرامهم، حتى لو شاءوا نالوه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقرَبوه.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن حميد الأعرج، وليث، عن مجاهد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم » ، قال: الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفّر.

 

القول في تأويل قوله : لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 94 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ليختبرنكم الله، أيها المؤمنون، ببعض الصيد في حال إحرامكم، كي يعلم أهلَ طاعة الله والإيمان به، والمنتهين إلى حدوده وأمره ونهيه، ومن الذي يخاف الله فيتقي ما نهاه عنه، ويجتنبه خوف عقابه « بالغيب » ، بمعنى: في الدنيا، بحيث لا يراه. .

وقد بينا أن « الغيب » ، إنما هو مصدر قول القائل: « غاب عنّى هذا الأمر فهو يغيب غَيْبًا وغَيْبَةً » ، وأنّ ما لم يُعَاين، فإن العرب تسميه « غَيْبًا » .

فتأويل الكلام إذًا: ليعلم أولياء الله من يخافُ الله فيتقي محارمَه التي حرمها عليه من الصيد وغيره، بحيث لا يراه ولا يُعاينه.

وأما قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، فإنه يعني: فمن تجاوز حدَّ الله الذي حدّه له، بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام، فاستحلَّ ما حرَّم الله عليه منه بأخذِه وقتله « فله عذابٌ، من الله » « أليم » ، يعني: مؤلم موجع.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله « لا تقتلوا الصيد » ، الذي بينت لكم, وهو صيد البر دون صيد البحر « وأنتم حرم » ، يقول: وأنتم محرمون بحج أو عمرة.

و « الحرم » ، جمع « حَرَام » , والذكر والأنثى فيه بلفظ واحد. تقول: « هذا رجل حرام » و « هذه امرأة حرَام » . فإذا قيل: « محرم » , قيل للمرأة: « محرمة » . و « الإحرام » ، هو الدخول فيه, يقال: « أحرَم القوم » ، إذا دخلوا في الشهر الحرام, أو في الحَرَم.

فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيدَ وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة.

وقوله: « وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا » ، فإن هذا إعلام من الله تعالى ذكره عبادَه حكمَ القاتل من المحرمين الصيدَ الذي نهاه عن قتله متعمدًا.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة « العَمْد » الذي أوجب الله على صاحبه به الكفارةَ والجزاء في قتله الصيد.

فقال بعضهم: هو العمد لقتل الصيد، مع نسيان قاتله إحرامَه في حال قتله. وقال: إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمدًا قتله، فلا حكم عليه، وأمره إلى الله.

قالوا: وهذا أجلُّ أمرًا من أن يحكم عليه، أو يكونَ له كفارة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم » ، من قتله منكم ناسيًا لإحرامه، متعمدًا لقتله, فذلك الذي يحكم عليه. فإن قتله ذاكرًا لحُرْمه، متعمدًا لقتله, لم يحكم عليه.

حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد، في الذي يقتل الصيد متعمدًا وهو يعلم أنه محرم، ويتعمد قتله، قال: لا يحكم عليه, ولا حج له. وقوله: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، قال: هو العمد المكفر, وفيه الكفارة والخطأ، أن يصيبَه وهو ناس لإحرامه, متعمدًا لقتله أو يصيبه وهو يريد غيره. فذلك يحكم عليه مرة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا » ، غير ناس لحُرْمه ولا مريدٍ غيرَه, فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمدُ المكفَّر.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، قال: متعمدًا لقتله, ناسيًا لإحرامه.

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا الفضيل بن عياض, عن ليث, عن مجاهد قال: العمد هو الخطأ المكفَّر.

حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا يونس بن محمد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا ليث قال، قال مجاهد: قول الله: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم » ، قال: فالعمد الذي ذكر الله تعالى ذكره: أن يصيب الصيدَ وهو يريد غيره فيصيبه, فهذا العمد المكفَّر، فأما الذي يصيبه غيرَ ناس ولا مريد لغيره, فهذا لا يحكم عليه. هذا أجلُّ من أن يحكم عليه.

حدثنا ابن وكيع, ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة, عن الهيثم, عن الحكم, عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، قال: يقتله متعمدًا لقتله, ناسيًا لإحرامه.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا شعبة, عن الهيثم, عن الحكم, عن مجاهد, مثله.

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، قال ابن جريج « ومن قتله منكم متعمدًا » ، غير ناس لحُرْمه ولا مريدٍ غيرَه, فقد حلَّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا لحرمه، أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمد المكفَّر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف, عن عمرو, عن الحسن: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، للصيد ، ناسيًا لإحرامه فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ، متعمدًا للصيد يذكرُ إحرامه.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن أبي عدي قال، حدثنا إسماعيل بن مسلم قال: كان الحسن يفتي فيمن قتل الصيد متعمدًا ذاكرًا لإحرامه: لم يحكم عليه قال إسماعيل: وقال حماد، عن إبراهيم, مثل ذلك.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عفان بن مسلم قال، حدثنا حماد بن سلمة قال: أمرني جعفر بن أبي وحشية أن أسأل عمرو بن دينار عن هذه الآية: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم » ، الآية, فسألته, فقال: كان عطاء يقول: هو بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل, إن شاء أهدى، وإن شاء أطعم، وإن شاء صام. فأخبرت به جعفرًا وقلت: ما سمعت فيه؟ فتلكأ ساعة، ثم جعل يضحك ولا يخبرني, ثم قال: كان سعيد بن جبير يقول: يحكم عليه من النعم هديًا بالغ الكعبة, وإنما جُعل الطعام والصيام [ كفارة ] ، فهذا لا يبلغُ ثمن الهدي، والصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة.

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع بن يزيد قال ، أخبرني ابن جريج قال ، قال مجاهد: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، غير ناس لحُرْمه، ولا مريدٍ غيره، فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمد المكفَّر.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: أما الذي يتعمد فيه للصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أنّ قتله غيرُ محرَّم, فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله، وهو يعرف أنه مُحْرِم، وأنه حرام, فذلك يوكَل إلى نقمة الله, وذلك الذي جعل الله عليه النقمة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، قال: متعمدًا لقتله, ناسيًا لإحرامه.

وقال آخرون: بل ذلك هو العمد من المحرِم لقتل الصيد، ذاكرًا لحُرْمه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء قال: يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان.

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن جريج وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم عن ، ابن جريج قال ، قال طاوس: والله ما قال الله إلا « ومن قتله منكم متعمدًا » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني بعض أصحابنا، عن الزهري أنه قال: نـزل القرآن بالعَمْد, وجرت السنة في الخطأ يعني: في المحرم يصيب الصيدَ.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم » ، قال: إن قتله متعمدًا أو ناسيًا، حكم عليه. وإن عاد متعمدًا عُجِّلت له العقوبة, إلا أن يعفو الله.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن الأعمش, عن عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير قال : إنما جعلت الكفارة في العمد, ولكن غُلِّظ عليهم في الخطأ كي يتقوا.

حدثنا عمرو بن على قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش, عن عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير, نحوه.

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، خبرنا ابن جريج قال: كان طاوس يقول: والله ما قال الله إلا « ومن قتله منكم متعمدًا » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره حرّم قتل صيد البر على كل محرِم في حال إحرامه ما دام حرامًا بقوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد » ثم بيَّن حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدًا لقتله, ولم يخصص به المتعمِّد قتلَه في حال نسيانه إحرامَه, ولا المخطئَ في قتله في حال ذكره إحرامَه, بل عمَّ في التنـزيل بإيجاب الجزاء، كلَّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدًا. وغير جائز إحالة ظاهر التنـزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من الأمة. ولا دلالةَ من بعض هذه الوجوه.

فإذْ كان ذلك كذلك, فسواءٌ كان قاتل الصيد من المحرمين عامدًا قتلَه ذاكرًا لإحرامه, أو عامدًا قتله ناسيًا لإحرامه, أو قاصدًا غيره فقتله ذاكرًا لإحرامه في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى ذكره، وهو: مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين، أو كفارة طعامُ مساكين، أو عدل ذلك صيامًا.

وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما، دون القول الذي قاله مجاهد.

وأما ما يلزم بالخطأ قاتله, فقد بيّنا القول فيه في كتابنا: ( كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع ) ، بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع. وليس هذا الموضع موضع ذكره, لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنـزيل, وليس في التنـزيل للخطإ ذكر، فنذكر أحكامه.

وأما قوله: « فجزاء مثلُ ما قتل من النعم » ، فإنه يقول: وعليه كِفاءٌ وبَدل، يعني بذلك: جزاء الصيد المقتول. يقول تعالى ذكره: فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول، مثل ما قتل من النعم.

وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: ( فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم ) .

وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض البصريين: ( فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم ) ، بإضافة « الجزاء » إلى « المثل » وخفض « المثل » .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( فجزاء مثل ما قتل ) بتنوين « الجزاء » ورفع « المثل » ، بتأويل: فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: ( فجزاء مثل ما قتل ) بتنوين « الجزاء » ورفع « المثل » , لأن الجزاء هو المثل, فلا وجه لإضافة الشيء إلى نفسه.

وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بالإضافة, رأوا أن الواجبَ على قاتل الصيد أن يَجْزِي مثله من الصيد بمثلٍ من النعم. وليس ذلك كالذي ذهبوا إليه, بل الواجب على قاتله أن يجزي المقتولَ نظيره من النعم. وإذ كان ذلك كذلك, فالمثل هو الجزاء الذي أوجبه الله تعالى ذكره على قاتل الصيد, ولن يضاف الشيء إلى نفسه. ولذلك لم يقرأ ذلك قارئ علمناه، بالتنوين ونصب « المثل » . ولو كان « المثل » غير « الجزاء » لجاز في المثل النصب إذا نوِّن « الجزاء » , كما نصب « اليتيم » إذ كان غير « الإطعام » في قوله: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [ سورة البلد: 14، 15 ] وكما نصب « الأموات » « والأحياء » ، ونون « الكِفَات » في قوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [ سورة المرسلات: 25، 26 ] ، إذ كان « الكفات » غير « الأحياء » « والأموات » . وكذلك الجزاء لو كان غير « المثل » ، لاتسعت القراءة في « المثل » بالنصب إذا نون « الجزاء » . ولكن ذلك ضاق، فلم يقرأه أحد بتنوين « الجزاء » ونصب « المثل » , إذ كان « المثل » هو « الجزاء » , وكان معنى الكلام: ومن قتله منكم متعمدًا فعليه جزاءٌ هو مثلُ ما قتل من النعم.

ثم اختلف أهل العلم في صفة « الجزاء » , وكيف يجزي قاتلُ الصيد من المحرمين ما قتل بمثله من النعم. .

فقال بعضهم: ينظر إلى أشبه الأشياء به شبهًا من النعم, فيجزيه به، ويهديه إلى الكعبة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم » ، قال: أما « جزاء مثل ما قتل من النعم » فإن قتل نعامة أو حمارًا فعليه بَدَنة. وإن قتل بقرة أو أيِّلا أو أرْوَى فعليه بقرة. أو قتل غزالا أو أرنبًا فعليه شاة. وإن قتل ضبًّا أو حرباءَ أو يَرْبوعًا, فعليه سَخْلة قد أكلت العُشب وشربت اللبن.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة, عن ابن مجاهد قال، سئل عطاء: أيغَرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره؟ قال: أليس يقول الله تعالى ذكره : « فجزاء مثل ما قتل من النعم » ؟

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال مجاهد: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم » ، قال: عليه من النعم مثله.

حدثنا هناد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس في قوله: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » ، قال: إذا أصاب المحرم الصيدَ ، وجب عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءه ذبَحه فتصدق به, فإن لم يجد جزاءه قوَّم الجزاء دراهم، ثم قوم الدراهمَ حِنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يومًا. قال: وإنما أريد بالطعام الصوم, فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً.

حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، قال: إذا أصاب المحرم الصيد ، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد، نظر كم ثمنه قال ابن حميد: نظر كم قيمته فقوّم عليه ثمنه طعامًا, فصام مكان كل نصف صاع يومًا أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، قال: إنما أريد بالطعام الصيام, فإذا وجد الطعام وَجد جزاءه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن حسين, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم » فإن لم يجد هديًا, قُوِّم الهدي عليه طعامًا، وصام عن كل صاع يومين.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد, عن منصور, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس في هذه الآية: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة » ، قال: إذا أصاب الرجل الصيد حكم عليه, فإن لم يكن عنده قوم عليه ثمنه طعامًا، ثم صام لكل نصف صاع يومًا.

حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بن جابر قال: ابتدرت وصاحبٌ لي ظبيًا في العقبة, فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له, فأقبل علي رجل إلى جنبه, فنظرا في ذلك قال فقال: اذبح كبشًا.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين, عن الشعبي قال : أخبرني قبيصة بن جابر، نحوا مما حدَّث به عبد الملك.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن المسعودي, عن عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بن جابر قال : قتل صاحب لي ظبيًا وهو محرم, فأمره عمر أن يذبح شاة فيتصدق بلحمها ويُسْقي إهابها.

حدثني هناد قال: حدثنا ابن أبي زائدة, عن داود بن أبي هند, عن بكر بن عبد الله المزني قال : قتل رجلٌ من الأعراب وهو محرم ظبيًا, فسأل عمر, فقال له عمر: اهدِ شاة.

حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص, عن حصين وحدثنا أبو هشام الرفاعي قال : حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا حصين عن الشعبي قال ، قال قبيصة بن جابر: أصبت ظبيًا وأنا محرم, فأتيت عمر فسألته عن ذلك, فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ أمرَه أهون من ذلك! قال: فضربني بالدِّرّة حتى سابقته عدوًا! قال: ثم قال: قتلتَ الصيد وأنتَ محرم، ثم تَغْمِص الفُتيا! قال: فجاء عبد الرحمن, فحكما شاة.

حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم » ، قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل.

حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: أرأيت إن قتلتُ صيدًا فإذا هو أعور، أو أعرج، أو منقوص، أغرم مثله؟ قال: نعم, إن شئت. قلت: أوْفَي أحبُّ إليك؟ قال: نعم. وقال عطاء: وإن قتلت ولدَ الظبي، ففيه ولد شاة. وإن قتلت ولد بقرة وحشية، ففيه ولد بقرة إنسية مثله, فكلّ ذلك على ذلك.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » ما كان من صيد البر مما ليس له قرن الحمار أوالنعامة فعليه مثله من الإبل. وما كان ذا قرن من صيد البر من وعِلٍ أو أيِّل، فجزاؤه من البقر. وما كان من ظبي فمن الغنم مثله. وما كان من أرنب، ففيها ثَنِيَّة. وما كان من يربوع وشبهه، ففيه حَمَلٌ صغير. وما كان من جرادة أو نحوها، ففيه قبضة من طعام. وما كان من طير البر، ففيه أن يقوَّم ويتصدق بثمنه, وإن شاء صام لكل نصف صاع يومًا. وإن أصاب فرخ طير برِّية أو بيضها، فالقيمة فيها طعامٌ أو صوم على الذي يكون في الطير. غير أنه قد ذكر في بيض النعام إذا إصابها المحرم، أن يحمل الفحل على عدة من أصاب من البيض على بِكارة الإبل، فما لَقِح منها أهداه إلى البيت, وما فسد منها فلا شيء فيه.

حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع قال ، أخبرني ابن جريج قال ، قال مجاهد: من قتله يعني الصيد ناسيًا, أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمد المكفَّر, فعليه مثله هديًا بالغ الكعبة. فإن لم يجد، ابتاع بثمنه طعامًا. فإن لم يجد، صام عن كل مُدٍّ يومًا. وقال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامة, كان له إن كان ذا يسار مُوَسَّعًا إن شاء يهدي جزورًا أو عَدْلَها طعامًا أو عدلها صيامًا, أيّتهن شاء، من أجل قوله: فجزاء، أو كذا أو كذا قال: فكل شيء في القران: « أو » « أو » , فليختر منه صاحبه ما شاء.

حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع قال ، أخبرني ابن جريج قال ، أخبرني الحسن بن مسلم قال : من أصاب من الصيد ما يبلغ أن يكون شاة فصاعدًا, فذلك الذي قال الله تعالى ذكره: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » . وأما كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ، فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فيه هدي, العصفورَ يقتل، فلا يكون فيه. قال: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا , عدل النعامة, أو عدل العصفور, أو عدل ذلك كله.

وقال آخرون: بل يقوَّم الصيد المقتول قيمتَه من الدراهم, ثم يشتري القاتل بقيمته نِدًّا من النعم, ثم يهديه إلى الكعبة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبدة, عن إبراهيم قال : ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته.

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن حماد قال : سمعت إبراهيم يقول: في كل شيء من الصيد ثمنه.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية, ما قال عمر وابن عباس، ومن قال بقولهما: أن المقتول من الصيد يُجْزَي بمثله من النعم, كما قال الله تعالى ذكره: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » . وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم، وقد قال الله تعالى: « من النعم » ، لأن الدراهم ليست من النعم في شيء.

فإن قال قائل: فإن الدراهمَ وإن لم تكن مثلا للمقتول من الصيد, فإنه يشتري بها المثل من النعم, فيهديه القاتل, فيكون بفعله ذلك كذلك جازيًا بما قتل من الصيد مثلا من النعم!

قيل له: أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرًا [ أو معيبا، ولا يصاب بقيمته من النعم إلا ] كبيرًا أو سليمًا أو كان المقتول من الصيد كبيرًا أو سليمًا بقيمته من النعم إلا صغيرًا أو معيبًا أيجوز له أن يشتريَ بقيمته خلافه وخلافَ صفته فيهديه, أم لا يجوز ذلك له, وهو لا يجوز إلا خلافه؟ فإن زعم أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته إلا مثله, ترك قوله في ذلك. لأنّ أهل هذه المقالة يزعمون أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمة ذلك فيهديه، إلا ما يجوز في الضحايا. وإذا أجاز شراءَ مثل المقتول من الصيد بقيمته وإهداءها وقد يكون المقتول صغيرًا معيبًا، أجاز في الهدي ما لا يجوز في الأضاحي.

وإن زعم أنه لا يجوز أن يشتري بقيمته فيهديه إلا ما يجوز في الضحايا أوضح بذلك من قوله الخلافَ لظاهر التنـزيل. وذلك أنّ الله تعالى ذكره، أوجب على قاتل الصيد من المحرِمين عمدًا، المثلَ من النعم إذا وجده. وقد زعم قائل هذه المقالة أنه لا يجب عليه المثل من النعم، وهو إلى ذلك واجدٌ سبيلا.

ويقال لقائل ذلك: أرأيت إن قال قائل آخر: « ما على قاتل ما لا تبلغُ من الصيد قيمته ما يصاب به من النَّعم ما يجوز في الأضاحي من إطعام ولا صيام. لأن الله تعالى إنما خيَّر قاتل الصيد من المحرمين في أحد الثلاثة الأشياء التي سماها في كتابه, فإذا لم يكن له إلى واحد من ذلك سبيل، سقط عنه فرض الآخرَيْن. لأن الخيار إنما كان له، وله إلى الثلاثة سبيل. فإذا لم يكن له إلى بعض ذلك سبيل، بطل فرض الجزاء عنه, لأنه ليس ممن عُني بالآية نظيرَ الذي قلت أنت: » إنه إذا لم يكن المقتول من الصيد يبلغ قيمته ما يصاب من النعم مما يجوز في الضحايا, فقد سقط فرض الجزاء بالمثل من النعم عنه, وإنما عليه الجزاء بالإطعام أو الصيام « ، هل بينك وبينه فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. »

 

القول في تأويل قوله : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم يعني: فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل « هديًا » ، يقول: يقضي بالجزاء ذوا عدل، أي يُهْدَي فيبلغ الكعبة. و « الهاء » في قوله: « ويحكم به » ، عائدة على « الجزاء » . .

قال أبو جعفر: ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل: أن ينظرا إلى المقتول ويستوصفاه, فإن ذكر أنه أصاب ظبيًا صغيرًا، حكما عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله في السن والجسم, فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرًا، حكما عليه من الضأن بكبير. وإن كان الذي أصاب حمار وَحْش، حكما عليه ببقرة. إن كان الذي أصاب كبيرًا من البقر, وإن كان صغيرًا فصغيرًا. وإن كان المقتول ذكرًا فمثله من ذكور البقر. وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى. ثم كذلك ذلك، ينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من الصيد شبهًا من النعم، فيحكمان عليه به، كما قال تعالى ذكره .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، على اختلافٍ في ذلك بينهم.

ذكر من قال ذلك بنحو الذي قلنا فيه:

حدثنا هنّاد بن السريّ قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرنا داود بن أبي هند, عن بكر بن عبد الله المزني قال : كان رجلان من الأعراب محرِمين, فأحاش أحدهما ظبيًا، فقتله الآخر. فأتيا عمر، وعنده عبد الرحمن بن عوف, فقال له عمر: وما ترى؟ قال: شاة، قال: وأنا أرى ذلك, اذهبا فأهديا شاة. فلما مضَيا قال أحدهما لصاحبه: ما درَى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه!! فسمعها عمر, فردّهما فقال: هل تقرأان سورة المائدة؟ فقالا لا! فقرأها عليهما: « يحكم به ذوا عدل منكم » ، ثم قال: استعنت بصاحبي هذا.

حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بن جابر قال : ابتدرت أنا وصاحب لي ظبيًا في العقبة, فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب, فذكرت ذلك له. فأقبل على رجل إلى جنبه, فنظرا في ذلك. قال فقال: اذبح كبشًا قال يعقوب في حديثه، فقال لي: اذبح شاة فانصرفت فأتيت صاحبي فقلت: إن أميرَ المؤمنين لم يدرِ ما يقول! فقال صاحبي: انحر ناقتك. فسمعها عمر بن الخطاب, فأقبل عليَّ ضربًا بالدِّرة وقال: تقتل الصيد وأنت محرم، وتَغْمِصُ الفُتْيا! إن الله تعالى يقول في كتابه: « يحكم به ذوا عدل منكم » ، هذا ابن عوف، وأنا عمر!

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين, عن الشعبي قال ، أخبرني قبيصة بن جابر, بنحو ما حدث به عبد الملك.

حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع, عن المسعودي, عن عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجًا فكنا إذا صلينا الغداة, اقتدرنا رواحلنا نتماشى نتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبيٌ أو بَرَح، فرماه رجل منا بحجر, فما أخطأ خُشَّاءه، فركب رَدْعَه ميتًا. قال: فعظَّمنا عليه. فلما قدمنا مكة, خرجت معه حتى أتينا عمر, فقص عليه القصة. قال : وإذا إلى جنبه رجلٌ كان وجهه قُلْبُ فضة يعني عبد الرحمن بن عوف فالتفت إلى صاحبه فكلمه. قال: ثم أقبل علي الرجل قال : أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمَّدت رميه, وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركتَ بين العمد والخطأ, أعمد إلى شاة فاذبحها, وتصدق بلحمها, وَاسْقِِ إهابَها. قال: فقمنا من عنده, فقلت: أيها الرجل، عظِّم شعائر الله! فما درى أمير المؤمنين ما يُفتيك حتى سأل صاحبه! اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعلَّ ذاك! قال قبيصة: ولا أذكر الآية من « سورة المائدة » : « يحكم به ذوا عدل منكم » قال: فبلغ عمر مقالتي, فلم يفجأنا إلا ومعه الدِّرّة! قال : فعلا صاحبي ضربًا بالدّرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفَّهت الحُكم! قال: ثم أقبل عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين, لا أحِلَّ لك اليوم شيئًا يحرُم عليك مني! قال: يا قبيصة بن جابر, إنّي أراك شابَّ السن، فسيحَ الصدر بيِّن اللسان, وإن الشاب يكون فيه تسعةُ أخلاق حسنة وخلق سييء, فيفسد الخلق السييء الأخلاقَ الحسنة, فإياك وعثرات الشباب!

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة, عن مخارق, عن طارق قال : أوطأ أربدُ ضَبًّا فقتله- وهو محرم. فأتى عمر ليحكم عليه, فقال له عمر: احكم معي! فحكما فيه جَدْيًا قد جَمَع الماء والشجر. ثم قال عمر: « يحكم به ذوا عدل منكم » .

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا أصاب صيدًا, فأتى ابن عمر فسأله عن ذلك، وعنده عبد الله بن صفوان, فقال ابن عمر لابن صفوان: إما إن أقول فتصدقني, وإما أن تقول فأصدقك. فقال ابن صفوان: بل أنت فقل. فقال ابن عمر, ووافقه على ذلك عبد الله بن صفوان.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا هشام, عن ابن سيرين, عن شريح, أنه قال: لو وجدت حكمًا عدلا لحكمت في الثعلب جَدْيًا, وجديٌ أحبُّ إليّ من الثعلب.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكير قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي مجلز: أن رجلا سأل ابن عمر عن رجل أصاب صيدًا وهو محرم, وعنده ابن صفوان, فقال له ابن عمر: إما أن تقول فأصدقك, أو أقول فتصدقني. قال: قل وأصدقك.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة, عن منصور, عن أبي وائل قال ، أخبرني ابن جرير البجلي قال : أصبت ظبيًا وأنا محرم, فذكرت ذلك لعمر, فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرحمن وسعدًا, فحكما عليّ تيسًا أعْفَر قال أبو جعفر: « الأعفر » : الأبيض.

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن منصور بإسناده عن عمر, مثله.

حدثنا عبد الحميد قال ، أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن أشعث بن سوار, عن ابن سيرين قال : كان رجل على ناقة وهو محرم, فأبصر ظبيًا يأوي إلى أكمة, فقال: لأنظرنّ أنا أسبق إلى هذه الأكمة أم هذا الظبي؟ فوقعت عَنـز من الظباء تحت قوائم ناقته فقتلتها، فأتى عمر فذكر ذلك له, فحكم عليه هو وابن عوف عنـزا عفراء قال: وهي البيضاء.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب, عن محمد: أن رجلا أوطأ ظبيًا وهو محرم، فأتى عمر فذكر ذلك له، وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف, فأقبل على عبد الرحمن فكلمه, ثم أقبل على الرجل فقال: أهد عنـزا عفراء .

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم: أنه كان يقول: ما أصاب المحرم من شيء لم يمض فيه حكومة, استقبل به, فيحكم فيه ذوا عدل.

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة, عن يعلي, عن عمرو بن حبشي قال: سمعت رجلا سأل عبد الله بن عمر، عن رجل أصاب ولدَ أرنب، فقال: فيه ولد ماعز، فيما أرى أنا. ثم قال لي: أكذاك؟ فقلت: أنت أعلم مني. فقال: قال الله تعالى ذكره: « يحكم به ذوا عدل منكم » .

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وسهل بن يوسف, عن حميد, عن بكر: أن رجلين أبصرا طبيًا وهما محرمان, فتراهنا, وخطرُ كل واحد منهما لمن سبق إليه. فسبق إليه أحدهما, فرماه بعصاه فقتله. فلما قدما مكة, أتيا عمر يختصمان إليه، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فذكرا ذلك له, فقال عمر: هذا قِمارٌ, ولا أجيزه! ثم نظر إلى عبد الرحمن, فقال: ما ترى! قال: شاة. فقال عمر: وأنا أرى ذلك. فلما قَفَّى الرجلان من عند عمر، قال أحدهما لصاحبه: ما درى عُمر ما يقول حتى سأل الرجل! فردّهما عمر فقال: إن الله تعالى ذكره لم يرضَ بعمر وحده، فقال: « يحكم به ذوا عدل منكم » ، وأنا عمر, وهذا عبد الرحمن بن عوف.

وقال آخرون: بل ينظر العَدْلان إلى الصيد المقتول، فيقوّمانه قيمته دراهمَ, ثم يأمران القاتل أن يشتري بذلك من النعم هَدْيًا. فالحاكمان يحكمان، في قول هؤلاء، بالقيمة. وإنما يحتاج إليهما لتقويم الصيد قيمتَه في الموضع الذي أصابه فيه.

وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي فيما مضى قبل أنه كان يقول: « ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته » ، وهو قول جماعة من متفقِّهة الكوفيين.

وأما قوله: « هديًا » فإنه مُصَدَّر على الحال من « الهاء » التي في قوله: « يحكم به » .

وقوله: « بالغ الكعبة » من نعت « الهدي » وصفته. وإنما جاز أن ينعت به، وهو مضاف إلى معرفة، لأنه في معنى النكرة. وذلك أن معنى قوله: « بالغ الكعبة » ، يبلغُ الكعبة. فهو وإن كان مضافًا فمعناه التنوين, لأنه بمعنى الاستقبال, وهو نظير قوله: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [ سورة الأحقاف :24 ] ، فوصف بقوله: مُمْطِرُنَا عَارِضًا , لأن في « ممطرنا » معنى التنوين, لأن تأويله الاستقبال, فمعناه: هذا عارض يمطرنا. فكذلك ذلك في قوله: « هديًا بالغ الكعبة » .

 

القول في تأويل قوله : أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو عليه كفارة طعام مساكين و « الكفارة » معطوفة على « الجزاء » في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ .

واختلف القرأة في قراءة ذلك:

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: ( أو كفارة طعام مساكين ) بالإضافة. وأما قرأة أهل العراق, فإنّ عامتهم قرءوا ذلك بتنوين « الكفارة » ورفع « الطعام » : أو كفارة طعام مساكين

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب, قراءة من قرأ بتنوين « الكفارة » ورفع « الطعام » , للعلة التي ذكرناها في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ . .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: « أو كفارة طعام مساكين » . فقال بعضهم: معنى ذلك أنّ القاتل وهو محرم صيدًا عمدًا, لا يخلو من وجوب بعض هذه الأشياء الثلاثة التي ذكر الله تعالى ذكره: من مثل المقتول هديًا بالغَ الكعبة, أو طعامُ مسكين كفارة لما فعل, أو عدلُ ذلك صيامًا إلا أنه مخيَّر في أيِّ ذلك شاء فعل, وأنه بأيِّها كان كفَّر فقد أدّى الواجب عليه. وإنما ذلك إعلامٌ من الله تعالى عبادَه أن قاتل ذلك كما وصف لن يخرُجَ حكمه من إحدى الخلال الثلاثة. قالوا: فحكمه إن كان على المثل قادرًا أن يحكم عليه بمثل المقتول من النعم, لا يجزيه غيرُ ذلك ما دام للمثل واجدًا. قالوا: فإن لم يكن له واجدًا, أو لم يكن للمقتول مثلٌ من النعم, فكفارته حينئذ إطعام مساكين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد, فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه, فعليه بقرة. فإن لم يجدها, أطعم عشرين مسكينًا. فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه, فعليه بَدَنَة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام مدٌّ مُدٌّ شِبَعَهم.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فالكفارة: من قتل ما دون الأرنب، إطعام.

حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير, عن منصور, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس قال : إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءَه، ذبحه فتصدق به. وإن لم يجد جزاءه، قُوِّم الجزاء دراهم, ثم قوِّمت الدراهم حنطة, ثم صام مكان كل صاع يومًا. قال: إنما أريد بالطعام الصوم, فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن زهير, عن جابر, عن عطاء ومجاهد وعامر: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، قال: إنما الطعام لمن لم يجد الهَدْي.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم أنه كان يقول: إذا أصاب المحرم شيئًا من الصيد، عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد قُوِّم الجزاء دراهم, ثم قومت الدراهم طعامًا, ثم صامَ لكل نصف صاع يومًا.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن حماد قال : إذا أصاب المحرم الصيد فحكم عليه, فإن فضل منه ما لا يتم نصف صاع، صام له يومًا. ولا يكون الصوم إلا على من لم يجد ثمن هديٍ، فيحكم عليه الطعام. فإن لم يكن عنده طعام يتصدق به, حكم عليه الصوم, فصام مكان كل نصف صاع يومًا « كفارة طعام مساكين » ، قال: فيما لا يبلغ ثمن هدي أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا, أو ما يتصدق به, مما لا يبلغ ثمن هدي, حكم عليه الصيام مكان كل نصف صاع يومًا.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال مجاهد: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم » ، قال: عليه من النعم مثلُه هديًا بالغَ الكعبة. ومن لم يجد، ابتاع بقيمته طعامًا, فيطعم كل مسكين مُدَّين. فإن لم يجد، صام عن كل مدَّين يومًا.

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ، إلى قوله: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ، قال: إذا قتل صيدًا، فعليه جزاؤه مثل ما قتل من النعم. فإن لم يجد، حكم عليه، ثم [ قُوِّم ] الفداءُ، كم هو درهمًا, ثمّ قدر ثمن ذلك بالطعام على المسكين، فصام عن كل مسكين يومًا, ولا يحل طعام المسكين, لأن من وجد طعام المسكين فهو يجد الفداء.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج قال : قال لي الحسن بن مسلم: من أصاب الصيد فيما جزاؤه شاة، فذلك الذي قال الله تعالى ذكره: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ . وما كان من كفارة بإطعام مساكين، مثل العصفورة يقتل ولا يبلغ أن يكون فيه هدي أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، قال عدل النعامة أو العصفور، أو عدل ذلك كله. فذكرت ذلك لعطاء فقال: كل شيء في القرآن « أو » « أو » , فلصاحبه أن يختار ما شاء.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا سفيان بن حسين, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس, في قوله: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، فإن لم يجد جزاءً, قوِّم عليه الجزاءُ طعامًا، ثم صاع لكل صاع يومين.

وقال آخرون: معنى ذلك: أن للقاتل صيدًا عمدًا وهو محرم, الخيارُ بين إحدى الكفارات الثلاث، وهي: الجزاء بمثله من النعم، والطعام، والصوم. قالوا: وإنما تأويل قوله: « فجزاء مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا » ، فعليه أن يجزي بمثله من النعم, أو يكفر بإطعام مساكين، أو بعدل الطعام من الصيام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, في قول الله تعالى ذكره: « فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم له ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا » ، قال: إن أصابَ إنسان محرم نعامة, فإن له وإن كان ذا يسار أن يهدي ما شاء، جزورًا، أو عدلها طعامًا، أو عدلها صيامًا. قال: كل شيء في القرآن « أو » « أو » , فليختر منه صاحبه ما شاء.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج, عن عطاء, في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قال: « ما كان في القرآن: أو كذا أو كذا » , فصاحبه فيه بالخيار, أيَّ ذلك شاء فعل.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أسباط وعبد الأعلى, عن داود, عن عكرمة قال : ما كان في القرآن « أو » « أو » , فهو فيه بالخيار. وما كان: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ، فالذي يليه ثم الذي يليه.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص, عن عمرو, عن الحسن, مثله.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا ليث, عن عطاء ومجاهد, أنهما قالا في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قالا ما كان في القران: « أو كذا أو كذا » , فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك: ما كان في القرآن: « أو كذا أو كذا » , فصاحبه فيه بالخيار, أيَّ ذلك شاء فعل.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو حُرّة, عن الحسن قال وأخبرنا عبيدة, عن إبراهيم قالا كل شيء في القرآن « أو » « أو » , فهو بالخيار, أيّ ذلك شاء فعل.

حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص, عن ليث, عن مجاهد, عن ابن عباس قال : كل شيء في القرآن « أو » « أو » فصاحبه مخيَّر فيه, وكل شيء: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فالأول, ثم الذي يليه.

واختلف القائلون بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الأشياء الثلاثة، في صفة اللازم له من التكفير بالإطعام والصوم، إذا اختار الكفارة بأحدهما دونَ الهدي.

فقال بعضهم: إذا اختار التكفير بذلك, فإنّ الواجب عليه أن يقوِّم المثلَ من النعم طعامًا, ثم يصوم مكان كلّ مُدّ يومًا

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال ، أخبرنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: ما أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاة، أقيمت الشاة طعامًا, ثم جعل مكان كل مدّ يومًا يصومه.

وقال آخرون: بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالإطعام أو الصوم, أن يقوِّم الصيد المقتولَ طعامًا, ثم الصدقة بالطعام إن اختار الصدقة. وإن اختار الصوم صام.

ثم اختلفوا أيضا في الصوم.

فقال بعضهم: يصوم لكل مدّ يومًا.

وقال آخرون: يصوم مكان كل نصف صاع يومًا.

وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يومًا.

* ذكر من قال: المقوَّم لإطعام هو الصيد المقتول.

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة, عن قتادة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ ، الآية، قال : كان قتادة يقول: يحكمان في النعم, فإن كان ليس عنده ما يبلغ ذلك، نظروا ثمنه فقوَّموه طعامًا, ثم صام مكان كل صاع يومين.

وقال آخرون: لا معنى للتكفير بالإطعام, لأن من وجد سبيلا إلى التكفير بالإطعام, فهو واجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا. ومن وجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا لم يجزه التكفير بغيره. قالوا: وإنما ذكر الله تعالى ذكره الكفارة بالإطعام في هذا الموضع، ليدلّ على صفة التكفير بالصوم لا أنه جعل التكفير بالإطعام إحدى الكفارات التي يكفر بها قتل الصيد. وقد ذكرنا تأويل ذلك فيما مضى قبل.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، أن يكون مرادا به: فعلى قاتله متعمدًا مثلُ الذي قتل من النعم لا القيمة، إن اختار أن يجزيه بالمثل من النعم. وذلك أن القيمة إنما هي من الدنانير أو الدراهم. والدراهم أو الدنانير ليست للصيد بمثل, والله تعالى ذكره إنما أوجب الجزاء مثلا من النعم.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله: « أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا » أن يكون تخييرًا, وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بقتله الصيد وهو محرم بأيِّ هذه الكفارات الثلاث شاء. لأن الله تعالى ذكره، جعل ما أوجبَ في قتل الصيد من الجزاء والكفارة عقوبة لفعله, وتكفيرًا لذنبه، في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حرامًا عليه إتلافه في حال إحرامه, وقد كان حلالا له قبل حال إحرامه, كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه, وقد كان له حلالا قبل حال إحرامه, [ عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه ] وحلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه، ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد. ثم جعل عليه إن حلقه جزاءً من حلقه إياه. فأجمع الجميع على أنه في حلقه إياه إذا حلقه من أذاته، مخيَّر في تكفيره, فعله ذلك بأيِّ الكفارات الثلاث شاء. لا فرق بين ذلك فمثله إن شاء الله قاتل الصيد من المحرمين، .

ومن أبى ما قلنا فيه, قيل له: حكم الله تعالى ذكره على قاتل الصيد بالمثل من النعم, أو كفارة طعام مساكين، أو عدله صيامًا كما حكم على الحالق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك, فزعمتَ أن أحدهما مخيَّر في تكفير ما جعل منه, عِوَضٌ بأيّ الثلاث شاء, وأنكرت أن يكونَ ذلك للآخر, فهل بينك وبين من عكس عليك الأمر في ذلك فجعل الخيارَ فيه حيث أبيت، وأبى حيث جعلته له فرقٌ من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا إذا ألزم في الآخر مثله.

ثم اختلفوا في صفة التقويم إذا أراد التكفير بالإطعام.

فقال بعضهم: يقوَّم الصيد قيمته بالموضع الذي أصابه فيه. وهو قول إبراهيم النخعي, وحماد, وأبي حنيفة, وأبي يوسف, ومحمد. وقد ذكرت الرواية عن إبراهيم وحماد فيما مضى بما يدل على ذلك، وهو نص قول أبي حنيفة وأصحابه.

وقال آخرون: بل يقوَّم ذلك بسعر الأرض التي يكفِّر فيها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن عامر قال في محرم أصاب صيدًا بخراسان، قال : يكفر بمكة أو بمنًى. وقال: يقوّم الطعام بسعر الأرض التي يكفّر بها.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو يمان, عن إسرائيل, عن جابر, عن الشعبي, في رجل أصاب صيدًا بخراسان، قال : يحكم عليه بمكة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا, أن قاتل الصيد إذا جزأه بمثله من النَّعم, فإنما يجزيه بنظيره في خلق وقدره في جسمه، من أقرب الأشياء به شبهًا من الأنعام. فإن جزاه بالإطعام، قوّمه قيمته بموضعه الذي أصابه فيه, لأنه هنالك وجب عليه التكفير بالإطعام. ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه ، وإن شاء بمكة، وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء، لأن الله تعالى ذكره؛ إنما شَرَط بلوغ الكعبة بالهدي في قتل الصيد دون غيره من جزائه, فللجازي بغير الهدى أن يجزيه بالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن أبي عروبة, عن أبي معشر, عن إبراهيم قال: ما كان من دم فبمكة. وما كان من صدقة أو صوم، حيث شاء.

وقد خالف ذلك مخالفون, فقالوا: لا يجزئ الهدى والإطعام إلا بمكة. فأما الصوم، فإن لم يكن كفَّر، به يصوم حيث شاء من الأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن حماد بن سلمة, عن قيس بن سعد, عن عطاء قال : الدم والطعام بمكة, والصيامُ حيث شاء.

حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن مالك بن مغول, عن عطاء قال : كفارة الحج بمكة.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج قال : قلت لعطاء: أين يُتصدق بالطعام إن بدا له؟ قال: بمكة ، من أجل أنه بمنـزله الهدي، قال : « فجزاء مثل ما قتل من النعم أو هديًا بالغ الكعبة » ، من أجل أنه أصابه في حَرَم يريد البيت فجزاؤه عند البيت.

فأما الهدي, فإنّ من جَزَى به ما قتل من الصيد، فلن يجزئه من كفارة ما قتل من ذلك إلا أن يبلغه الكعبة كما قال تعالى ذكره وينحره أو يذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم وعنَى بالكعبة في هذا الموضع، الحرم كله. ولمن قدَّم بهديه الواجبَ من جزاء الصيد، أن ينحره في كل وقت شاء، قبل يوم النحر وبعده, ويطعمه. وكذلك إن كفر بالطعام، فله أن يكفر به متى أحب وحيث أحب. وإن كفّر بالصوم فكذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, خلا ما ذكرنا من اختلافهم في التكفير بالإطعام على ما قد بينا فيما مضى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، هل لصيامه وقت؟ قال: لا إذ شاء وحيث شاء, وتعجيله أحبُّ إليّ.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: رجل أصابَ صيدًا في الحج أو العمرة, فأرسل بجزائه إلى الحرم في المحرَّم أو غيره من الشهور, أيجزئ عنه؟ قال: نعم. ثم قرأ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ قال هناد: قال يحيى: وبه نأخذ.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج وابن أبي سليم, عن عطاء قال : إذا قدمتَ مكة بجزاء صيدٍ فانحره, فإن الله تعالى ذكره يقول: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، إلا أن يقدَم في العشر, فيؤخِّرُه إلى يوم النحر.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن جريج, عن عطاء قال : يتصدّق الذي يصيب الصيدَ بمكة. فإن الله تعالى ذكره يقول: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو على قاتل الصيد محرِمًا، عدلُ الصّيد المقتول من الصيام. وذلك أن يقوّم الصيد حيًّا غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم, ثم يصوم مكان كل مدٍّ يومًا. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عَدَل المدَّ من الطعام بصوم يوم في كفَّارة المُوَاقع في شهر رمَضَان.

فإن قال قائل: فهلا جعلت مكان كلّ صاع في جزاءِ الصيد، صومَ يوم، قياسًا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في نظيره, وذلك حكمه على كَعْب بن عُجْرة إذ أمره أن يطعم إنْ كفَّر بالإطعام فَرْقًا من طعام، وذلك ثلاثة آصُعٍ بين ستّة مساكين إنْ كفر بالصيام أن يصوم ثلاثة أيام, فجعل الأيام الثلاثة في الصوم عَدْلا من إطعام ثلاثة آصع, فإن ذلك بالكفارة في جزاءِ الصيد، أشبهُ من الكفارة في قتلِ الصيد بكفَّارة المُواقع امرأتَه في شهر رمضان؟. قيل: إن « القياس » ، إنما هو رَدُّ الفروع المختلف فيها، إلى نظائرها من الأصول المجمع عليها. ولا خلافَ بين الجميع من الحجّة أنه لا يجزئ مكفِّرًا كفَّر في قتل الصيد بالصوم, أن يعدِلَ صوم يوم بصاعِ طعام. فإذْ كان ذلك كذلك, وكان غير جائز خلافها فيما حدَّثت به من الدين مجمعةً عليه، صحَّ بذلك أن حكم معادلة الصوم الطعامَ في قتل الصيد، مخالف حكم معادلته إيَّاه في كفارة الحلق, إذْ كان غير جائز ردّ أصْلٍ على أصْلٍ قياسًا. وإنما يجوز أن يقاس الفرعُ على الأصل. وسواء قال قائل: « هلا رددتَ حكم الصوم في كفارة قتلِ الصيد، على حكمه في حَلْق الأذى فيما يُعْدل به من الطعام » ؟ وآخر قال: « هلا رددت حكم الصوم في الحلق، على حكمه في كفارة قتل الصيد فيما يُعدلُ به من الطعام, فتُوجب عليه مكان كل مدٍّ أو مكان كل نصف صاع صومَ يوم » ؟

وقد بينا فيما مضى قبل أن « العَدْل » في كلام العرب بالفتح, هو قدر الشيء من غير جنسه وأن « العِدْل » هو قدره من جنسه.

وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: « العدل » مصدر من قول القائل: « عَدَلت بهذا عَدْلا حسنًا » . قال: « والعَدْل » أيضًا بالفتح، المثل. ولكنهم فرَّقوا بين « العدل » في هذا وبين « عِدْل المتاع » , بأن كسروا « العين » من « عِدْل المتاع » , وفتحوها من قول الله تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [ سورة البقرة:123 ] ، وقول الله عز وجل: « أو عدل ذلك صيامًا » ، كما قالوا: « امرأة رَزان » وحجر رَزين .

وقال بعضهم: « العدل » هو القسط في الحق, و « العِدْل » بالكسر، المثل. وقد بينا ذلك بشواهد فيما مضى. .

وأما نصب « الصيام » فأنه على التفسير، كما يقال: « عندي ملء زقٍّ سمنًا » , و « قدر رطلٍ عسلا » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: ما « عدل ذلك صيامًا » ؟ قال: عَدْل الطعامِ من الصيام. قال: لكل مدٍّ يومًا، يأخذ زعَم بصيام رمضان وبالظِّهار. وزعم إن ذلك رأى يراه، ولم يسمعه من أحد, ولم تمض به سنة. قال: ثم عاودته بعد ذلك بحين, قلت: ما « عدل ذلك صيامًا » ؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاةٌ, قوِّمت طعامًا، ثم صام مكان كل مدٍّ يومًا. قال: ولم أسأله: هذا رأي أو سنة مسنونة ؟

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل: « أو عدل ذلك صيامًا » ، قال: بصوم ثلاثةَ أيام إلى عشرة أيام.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن حماد: « أو عدل ذلك صيامًا » ، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا، أو ما يتصدق به مما لا يبلُغ ثمنَ هدي, حكم عليه الصيامُ مكان كل نصفِ صاعٍ يومًا.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أو عدل ذلك صيامًا » ، قال: إذ قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجدها، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا, فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامةً أو حمارَ وحش أو نحوه, فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام: مدٌّ مدٌّ، شِبَعَهم.

حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة, عن سعيد, [ سألته ] المحرِم يصيب الصيد فيكون عليه الفدية، شاة, أو البقرة أو البدنة. فلا يجد، فما عدل ذلك من الصيام أو الصدقة؟ قال: ثمن ذلك، فإن لم يجد ثمنه، قوّم ثمنه طعامًا يتصدق به لكل مسكين مُدّ, ثم يصومُ بكُلّ مدٍّ يومًا.

 

القول في تأويل قوله : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أوجبت على قاتل الصيد محرمًا ما أوجبت من الجزاء والكفارة الذي ذكرت في هذه الآية، كي يذوق وبال أمره وعذابه.

يعني: « بأمره » ، ذنبه وفعله الذي فعله من قتله ما نهاه الله عز وجل عن قتله في حال إحرامه.

يقول: فألزمته الكفارة التي ألزمته إياها, لأذيقه عقوبة ذنبه. بإلزامه الغرامة, والعمل ببدنه مما يتعبه ويشق عليه. .

وأصل « الوبال » ، الشدّة في المكروه، ومنه قول الله عز وجل: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا [ سورة المزمل:16 ] .

وقد بيّن تعالى ذكره بقوله: « ليذوق وبالَ أمره » ، أنَّ الكفاراتِ اللازمةَ الأموالَ والأبْدَانَ ، عقوباتٌ منه لخلقه, وإن كانت تمحيصًا لهم, وكفارةً لذُنُوبهم التي كفَّروها بها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « وبال أمره » , فعقوبة أمرِه.

 

القول في تأويل قوله : عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ

قال أبو جعفر: يقول جل من قائل لعباده المؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: عفا الله ، أيها المؤمنون، عمَّا سلف منكم في جاهليتكم، من إصابتكم الصيد وأنتم حُرُم، و قتلِكموه, فلا يؤاخذكم بما كان منكم في ذلك قبل تحريمه إياه عليكم, ولا يلزمكم له كفارةً في مال ولا نفس. ولكن من عاد منكم لقتله وهو محرم، بعد تحريمه بالمعنى الذي كان يَقْتُله في حال كفره، وقبل تحريمه عليه، من استحلاله قتلَه, فينتقم الله منه.

وقد يحتمل أن يكون معناه: من عاد لقتله بعد تحريمه في الإسلام، فينتقم الله منه في الآخرة. فأما في الدنيا، فإن عليه من الجزاء والكفَّارة فيها ما بيَّنت.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: ما « عفا الله عما سلف » ؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال قلت: ما « ومن عاد فينتقم الله منه » ؟ قال: من عاد في الإسلام, فينتقم الله منه. وعليه مع ذلك الكفارة.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء, فذكر نحوه وزاد فيه, وقال: وإن عاد فقتل، عليه الكفارة. قلت: هل في العَوْد من حدٍّ يعلم؟ قال: لا قلت: فترى حقًّا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله, ولكن يفتدي.

حدثنا سفيان قال ، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد, عن ابن جريج، عن عطاء: « ومن عاد فينتقم الله منه » ، قال: في الإسلام, وعليه مع ذلك الكفارة. قلت: عليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا.

حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء: « عفا الله عما سلف » ، عمَّا كان في الجاهلية « ومن عاد » ، قال: في الإسلام « فينتقم الله منه » ، وعليه الكفارة. قال قلت لعطاء: فعليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا.

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء قال : يحكم عليه في الخطإ والعمد والنسيان، وكلَّما أصاب، قال الله عز وجل: « عفا الله عما سلف » ، قال: ما كان في الجاهلية « ومن عاد فينتقم الله منه » ، مع الكفارة قال سفيان، قال ابن جريج: فقلت: أيعاقبه السلطان؟ قال: لا.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد, عن ابن جريج قال ، قلت لعطاء: « عفا الله عما سلف » ، قال: عما كان في الجاهلية.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: يحكم عليه كلَّما عاد.

حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد قال : كلَّما أصاب المحرم الصيد ناسيًا حُكِم عليه.

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض, عن منصور, عن إبراهيم قال : كلَّما أصاب الصيدَ المحرمُ حُكِم عليه.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء قال : من قتل الصيد ثم عاد ، حكم عليه.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن داود بن أبي هند, عن سعيد بن جبير قال : يحكم عليه ، أفيُخْلَع! أفيُتْرك!.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود بن أبي هند, عن سعيد بن جبير: الذي يصيب الصيد وهو محرم فيحكم عليه ثم يعود؟ قال: يحكم عليه.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا كثير بن هشام قال ، حدثنا الفرات بن سلمان, عن عبد الكريم, عن عطاء قال : يحكم عليه كلَّما عاد.

وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف منكم في ذلك في الجاهلية, ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه ، بإلزامه الكفّارة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو, عن زهير, عن سعيد بن جبير وعطاء في قوله الله تعالى ذكره : « ومن عاد فينتقم الله منه » ، قالا « ينتقم الله » , يعني بالجزاء « عفا الله عما سلف » ، في الجاهلية.

وقال آخرون في ذلك: عفا الله عما سلف من قتل من قتلَ منكم الصيدَ حرامًا في أول مرة. ومن عاد ثانية لقتله بعد أولى حرامًا, فاللهُ وليُّ الانتقام منه ، دون كفارة تلزمه لقتله إياه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: من قتل شيئًا من الصيد خطأ وهو محرم, حكم عليه فيه مرة واحدة. فإن عاد يقال له: « ينتقم الله منك » , كما قال الله عز وجل.

حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا فضيل بن عياض, عن هشام, عن عكرمة, عن ابن عباس قال . إذا أصاب المحرم الصيدَ حُكم عليه. فإن عاد ، لم يحكم عليه, وكان ذلك إلى الله عز وجل, إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه. ثم قرأ هذه الآية: « ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام » .

حدثنا هناد قال ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا داود, عن عامر قال : جاء رجل إلى شريح فقال: إني أصبت صيدًا وأنا محرم! فقال: هل أصبت قبل ذلك شيئًا؟ قال: لا. قال: لو قلت « نعم » ، وكلتك إلى الله يكون هو ينتقم منك, إنه عزيز ذو انتقام! قال داود: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: بل يحكم عليه, أفَيخْلَع!

حدثني أبو السائب وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن إبراهيم قال : إذا أصابَ الرجلُ الصيدَ وهو محرم, قيل له أصبت صيدًا قبل هذا؟ فإن قال: « نعم » , قيل له: اذهب, فينتقم الله منك! وإن قال « لا » , حكم عليه.

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن سليمان, عن إبراهيم ، في الذي يقتل الصيد ثم يعود ، قال : كانوا يقولون: من عاد لا يحكم عليه, أمرُه إلى الله عز وجل.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا ابن عيينة, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي: أن رجلا أتى شريحًا فقال: أصبت صيدًا؟ ، قال: أصبت قبله صيدًا؟ قال: لا. قال : أما إنك لو قلت « نعم » , لم أحكم عليك.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا ابن أبي عدي قال ، حدثنا داود, عن الشعبي, عن شريح, مثله.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم, عن الأشعث, عن محمد, عن شريح ، في الذي يصيب الصيد قال : يحكم عليه, فإن عاد انتقمَ الله منه.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكّام بن سلم, عن عنبسة, عن سالم, عن سعيد بن جبير: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، قال: يحكم عليه في العمد مرة واحدة, فإن عاد لم يحكم عليه ، وقيل له: « اذهب ينتقم الله منك » , ويحكم عليه في الخطأ أبدًا.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن سعيد بن جبير قال : رُخّص في قتل الصيد مرة, فمن عاد لم يدعه الله تعالى ذكره حتى ينتقم منه.

حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن خصيف, عن سعيد بن جبير, مثله.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي ، جميعًا عن هشام, عن عكرمة, عن ابن عباس ، فيمن أصاب صيدًا فحكم عليه, ثم أعاد ، قال : لا يحكم, ينتقم الله منه.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: إنما قال الله عز وجل: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ، يقول: متعمدًا لقتله ، ناسيًا لإحرامه, فذلك الذي يحكم عليه, فإن عاد لا يحكم عليه, وقيل له: « ينتقم الله منك » .

حدثنا عمرو قال ، حدثنا كثير بن هشام قال ، حدثنا الفرات بن سلمان, عن عبد الكريم, عن مجاهد: إن عاد لم يحكم عليه, وقيل له: « ينتقم الله منك » .

حدثنا عمرو قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا الأشعث, عن الحسن ، في الذي يصيب الصيد فيحكم عليه ثم يعود ، قال : لا يحكم عليه.

وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تحريم الله تعالى ذكره ذلك عليكم. ومن عاد لقتله بعد تحريم الله إياه عليه ، عالمًا بتحريمه ذلك عليه, عامدًا لقتله, ذاكرًا لإحرامه, فإن الله هو المنتقم منه, ولا كفارة لذنبه ذلك, ولا جزاء يلزمه له في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: « ومن عاد فينتقم الله منه » ، قال: من عاد بعد نهي الله - بعد أن يعرف أنه محرَّم ، وأنه ذاكرٌ لِحُرْمه - لم ينبغ لأحد أن يحكم عليه, ووكلوه إلى نقمة الله عز وجل. فأما الذي يتعمد قتلَ الصيد وهو ناس لحرمه, أو جاهل أنّ قتله محرَّم, فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله ، وهو يعرف أنه محرَّم ، وأنه حَرام، فذلك يوكل إلى نقمة الله, فذلك الذي جعل الله عليه النقمة.

وهذا شبيه بقول مجاهد الذي ذكرناه قبل.

وقال آخرون: عُنِي بذلك شخصٌ بعينه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا معتمر بن سليمان قال ، حدثنا زيد أبو المعلى: أن رجلا أصاب صيدًا وهو محرم, فتجُوِّز له عنه. ثم عاد, فأرسل الله عليه نارًا فأحرقته, فذلك قوله: « ومن عاد فينتقم الله منه » ، قال: في الإسلام.

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا, قولُ من قال: معناه: « ومن عاد في الإسلام لقتله بعد نهي الله تعالى ذكره عنه, فينتقم الله منه, وعليه مع ذلك الكفارة » , لأن الله عز وجل إذْ أخبر أنه ينتقم منه، لم يخبرنا وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمدًا ما أوجب من الجزاء أو الكفارة بقوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أنه قد أزال عنه الكفارة في المرة الثانية والثالثة, بل أعلم عبادَه ما أوجبَ من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمدًا, ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد, ولم يقل: « ولا كفارة عليه في الدنيا » .

فإن ظن ظانّ أن الكفارة مزيلةٌ العقابَ، ولو كانت الكفارةُ لازمةً له في الدنيا ، لبطلَ العقاب في الآخرة, فقد ظنّ خطأ. وذلك أن الله عز وجلّ أن يخالف بين عقوبات معاصيه بما شاء وأحب ، فيزيد في عقوبته على بعض معاصيه مما ينقصُ من بعض, وينقص من بعض مما يزيد في بعض, كالذي فعل من ذلك في مخالفته بين عقوبته الزانيَ البكرَ والزانيَ الثيِّبَ المحصن, وبين سارق ربع دينار وبين سارق أقلَّ من ذلك . فكذلك خالف بين عقوبته قاتلَ الصيد من المحرمين عمدًا ابتداءً ، وبين عقوبته عَوْدًا بعد بدء. فأوجب على الباديء المثلَ من النعم, أو الكفارة بالإطعام, أو العدل من الصيام, وجعل ذلك عقوبة جُرْمه بقوله: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ، وجعل على العائد بعد البدء, وزاده من عقوبته ما أخبر عبادَه أنه فاعل به من الانتقام ، تغليظًا منه عز وجل للعود بعد البدء. ولو كانت عقوباته على الأشياء متفقة, لوجب أن لا يكون حدٌّ في شيء ، مخالفًا حدًّا في غيره, ولا عقابٌ في الآخرة ، أغلظ من عقابٍ. وذلك خلاف ما جاء به محكم الفرقان.

وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك: ومن عاد في الإسلام بعد نَهْي الله عن قتله لقتله بالمعنى الذي كان القوم يقتلونه في جاهليتهم, فعفا لهم عنه عند تحريم قتله عليهم, وذلك قتله على استحلال قتله . قال: فأما إذا قتله على غير ذلك الوجه وذلك أن يقتله على وجه الفسوق لا على وجه الاستحلال فعليه الجزاء والكفارة كلَّما عاد.

وهذا قول لا نعلم قائلا قاله من أهل التأويل. وكفي خطأ بقوله ، خروجه عن أقوال أهل العلم ، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه, فكيف وظاهر التنـزيل ينبئ عن فساده؟ وذلك أن الله عز وجل عمّ بقوله: « ومن عاد فينتقم الله منه » ، كلَّ عائد لقتل الصيد بالمعنى الذي تقدم النهي منه به في أوّل الآية, ولم يخصّ به عائدًا منهم دون عائد. فمن ادَّعى في التنـزيل ما ليس في ظاهره ، كُلِّف البرهانَ على دعواه من الوجه الذي يجب التسليمُ له.

وأما من زعم أن معنى ذلك: ومن عاد في قتله متعمدًا بعد بدء لقتل تقدم منه في حال إحرامه ، فينتقم الله منه, كان معنى قوله: « عفا الله عما سلف » ، إنما هو: عفا الله عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءًا فإنّ في قول الله تعالى ذكره : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ، دليلا واضحًا على أن القول في ذلك غير ما قال ، لأن العفو عن الجرم: تركُ المؤاخذة به. ومن أذيق وبال جرمه ، فقد عوقب به. وغير جائز أن يقال لمن عوقب: « قد عفي عنه » . وخبر الله عز وجل أصدق من أن يقع فيه تناقض.

فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون قاتل الصيد من المحرمين في أوّل مرّة ، قد أذيق وبال أمره بما ألزم من الجزاء والكفارة, وعفي له من العقوبة بأكثر من ذلك مما كان لله عز وجل أن يعاقبه به؟

قيل له: فإن كان ذلك جائزًا أن يكون تأويلَ الآية عندك وإن كان مخالفًا لقول أهل التأويل فما تُنكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله تعالى ذكره على العود بعد البدء, هو تلك الزيادة التي عفاها عنه في أول مرة ، مما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبال أمره, فيذيقه في عوده بعد البدء وبالَ أمره الذي أذاقه المرة الأولى ويترك عفوَه عما عفا عنه في البدء, فيؤاخذه به؟ فلن يقول في ذلك شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.

 

القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 95 )

قال أبو جعفر: يقول عز وجل: والله منيعٌ في سلطانه, لا يقهره قاهرٌ, ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه, ولا من عقوبة من أراد عقوبته ، مانع. لأن الخلق خلقه, والأمر أمره, له العزة المَنَعة.

وأما قوله: « ذو انتقام » ، فإنه يعني به: معاقبتَه لمن عصاه على معصيته إياه.

 

القول في تأويل قوله : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « أحل لكم » ، أيها المؤمنون ، « صيد البحر » وهو ما صيد طريًّا ، كما:-

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة, عن أبيه, عن أبي هريرة قال : قال عمر بن الخطاب في قوله: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: صيده ، ما صيد منه.

حدثني ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن سماك قال : حُدِّثت, عن ابن عباس قال : خطب أبو بكر الناس فقال: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: فصيده ما أخذ.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: صيده ، ما صيد منه.

حدثنا سليمان بن عمر بن خالد البرقي قال ، حدثنا محمد بن سلمة الحرّاني, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: صيده ، الطريّ.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الهذيل بن بلال قال ، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير, عن ابن عباس في قوله: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: صيدُه ، ما صِيد.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: الطريّ.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا الحسن بن علي بن الحنفيّ أو: الحسين, شك أبو جعفر عن الحكم بن أبان, عن عكرمة ، قال : كان ابن عباس يقول: صيد البحر ، ما اصطاده.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: الطريّ.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن الحجاج, عن العلاء بن بدر, عن أبي سلمة قال : « صيد البحر » ، ما صيد.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: الطريّ.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير ، مثله.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: السمك الطريّ.

حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « أحل لكم صيد البحر » ، أما « صيد البحر » ، فهو السمك الطريّ, هي الحيتان.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب قال : صيده ، ما اصطدته طريًّا- قال معمر ، وقال قتادة: صيده ، ما اصطدته.

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : « أحل لكم صيد البحر » ، قال: حيتانه.

حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمر بن أبي سلمة قال ، سئل سعيد عن صيد البحر فقال ، قال مكحول ، قال زيد بن ثابت: صيده ، ما اصطدت.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، قال: يصطاد المحرِم والمحلُّ من البحر, ويأكلُ من صيده.

حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة قال : قال أبو بكر: طعام البحر كلُّ ما فيه وقال جابر بن عبد الله: ما حَسر عنه فكُلْ. وقال: كلّ ما فيه يعني: جميع ما صيدَ .

حدثنا سعيد بن الربيع قال ، حدثنا سفيان, عن عمرو, سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، قال: هو كل ما فيه.

وعنى ب « البحر » ، في هذا الموضع ، الأنهار كلها. والعرب تسمى الأنهار « بحارًا » , كما قال تعالى ذكره: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام: أحل لكم ، أيها المؤمنون ، طريّ سمك الأنهار الذي صدتموه في حال حِلِّكم وحَرَمكم, وما لم تصيدوه من طعامه الذي قتله ثم رَمى به إلى ساحله.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: « وطعامه » .

فقال بعضهم: عني بذلك: ما قذف به إلى ساحله ميتًا, نحو الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن سماك قال ، حدثت عن ابن عباس قال : خطب أبو بكر الناس فقال: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » , وطعامه ، ما قَذَف.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة, عن أبيه, عن أبي هريرة قال : كنت بالبحرين, فسألونى عما قذف البحر. قال : فأفتيتهم أن يأكلوا. فلما قدمتُ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه, ذكرت ذلك له, فقال لي: بم أفتيتهم؟ قال ، قلت: أفيتهم أن يأكلوا؟ قال : لو أفتيتهم بغير ذلك لعلوتك بالدِّرَّة! قال: ثم قال: إن الله تعالى قال في كتابه: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، فصيده ، ما صيد منه وطعامه ، ما قَذَف.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: طعامه ما قَذَف.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز, عن ابن عباس في قوله: « أحل لكم صيد البحر وطعامه » ، قال: طعامه ما قذف.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز, عن ابن عباس, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين بن علي, عن زائدة, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: « طعامه » ، كل ما ألقاه البحر.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا الحسن بن علي أو: الحسين بن على الحنفي, شك أبو جعفر عن الحكم بن أبان, عن عكرمة, عن ابن عباس قال : « طعامه » ، ما لفظ من ميتته.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الهذيل بن بلال قال ، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير, عن ابن عباس: « أحل لكم صيد البحر وطعامه » ، قال: « طعامه » ، ما وجد على الساحل ميتًا.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز, عن ابن عباس قال : « طعامه » ، ما قذف به.

حدثنا سعيد بن الربيع قال ، حدثنا سفيان, عن عمرو, سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر رضي الله عنه: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، هو كل ما فيه.

حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا الضحاك بن مخلد, عن ابن جريج قال ، أخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة مولى ابن عباس قال : قال أبو بكر: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، ميتته قال عمرو: وسمعت أبا الشعثاء يقول: ما كنت أحسب طعامه إلا مالحه.

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني الضحاك بن مخلد, عن ابن جريج قال ، أخبرني أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، ميتته.

حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع, عن عثمان, عن عكرمة: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، ما قذف.

حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا معمر بن سليمان قال ، سمعت عبيد الله, عن نافع قال : جاء عبد الرحمن إلى عبد الله فقال: البحر قد ألقى حيتانًا كثيرة؟ قال: فنهاه عن أكلها, ثم قال: يا نافع، هات المصحف! فأتيته به, فقرأ هذه الآية: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال، قلت: « طعامه » ، هو الذي ألقاه. قال: فالحقْهُ, فمُرْهُ بأكله.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب, عن نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر, فقال: إن البحر قذف حيتانًا كثيرة ميتة، أفنأكلها؟ قال: لا تأكلوها! فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ « سورة المائدة » , فأتى على هذه الآية: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ » ، قال: اذهب, فقل له فليأكله, فإنه طعامه.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب, عن نافع, عن ابن عمر, بنحوه.

حدثني المثنى قال ، حدثنا الضحاك بن مخلد, عن ابن جريج قال ، أخبرني عمرو بن دينار, عن عكرمة مولى ابن عباس قال ، قال أبو بكر رضي الله عنه: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: ميتته قال عمرو: سمعت أبا الشعثاء يقول: ما كنت أحسب « طعامه » إلا مالحه.

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا الضحاك بن مخلد, عن ابن جريج قال ، أخبرنا نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر عن حيتان كثيرة ألقاها البحر, أميتة هي؟ قال: نعم! فنهاه عنها، ثم دخل البيت فدعا بالمصحف فقرأ تلك الآية: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، كل شيء أخرج منه، فكله، فليس به بأس. وكل شيء فيه يأكل، ميت أو بساحليه.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان, عن معمر قال قتادة: « طعامه » ، ما قذف منه.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد, عن ليث, عن شهر, عن أبي أيوب قال : ما لفظ البحر فهو طعامه, وإن كان ميتًا.

حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص, عن ليث, عن شهر، قال : سئل أبو أيوب عن قول الله تعالى ذكره : « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا » ، قال: هو ما لفظ البحر.

وقال آخرون: عنى بقوله: « وطعامه » ، المليح من السمك فيكون تأويل الكلام على ذلك من تأويلهم: أحل لكم سمك البحر ومَليحه في كل حال، في حال إحلالكم وإحرامكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سليمان بن عُمَر بن خالد الرقيّ قال ، حدثنا محمد بن سلمة, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وطعامه » ، قال: « طعامه » ، المالح منه.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، يعني: بطعامه، مالحه, وما قذف البحر منه، مالحه.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، وهو المالح.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن مجمّع التيمي, عن عكرمة في قوله: « مَتَاعًا لَكُمْ » قال: المليح.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن سالم الأفطس وأبي حصين, عن سعيد بن جبير قال : المليح.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: المليح، وما لَفَظ.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سالم, عن سعيد بن جبير في قوله: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول: « أطعموني » ! فإن قال: « غريضًا » , ألقوا شبكتهم فصادوا له. وإن قال: « أطعموني من طعامكم » , أطعموه من سمكهم المالح.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء, عن سعيد: « أحل لكم صيد البحر وطعامه » ، قال: المنبوذ, السمك المالح.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « وطعامه » ، قال: المالح.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: « وطعامه » ، قال: هو مليحُه . ثم قال: ما قَذَف.

حدثنا ابن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وطعامه » ، قال: مملوح السمك.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرني الثوري, عن منصور قال : كان إبراهيم يقول: « طعامه » ، السمك المليح. ثم قال بعد: ما قذفَ به.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا الثوري, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير قال : « طعامه » ، المليح.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا إسرائيل, عن عبد الكريم, عن مجاهد قال : « طعامه » ، السمك المليح.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في هذه الآية: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: الصِّير قال شعبة، فقلت لأبي بشر: ما الصِّير؟ قال: المالح.

حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا هشام بن الوليد قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن جعفر بن أبي وحشية, عن سعيد بن جبير قوله: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: الصِّير. قال قلت: ما الصير؟ قال: المالح.

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: أما « طعامه » ، فهو المالح.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، ما تزوّدت مملوحًا في سفرك.

حدثنا عمرو بن عبد الحميد وسعيد بن الربيع الرازي قالا حدثنا سفيان، عن عمرو قال ، قال جابر بن زيد: كنا نُحَدَّث أن « طعامه » مليحه, ونكره الطافي منه.

وقال آخرون: « طعامه » ، ما فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة قال : طعام البحر، ما فيه.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن حريث, عن عكرمة: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: ما جاء به البحر بموجه، هكذا.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن حسن بن صالح, عن ليث, عن مجاهد قال : « طعامه » ، كل ما صيد منه.

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا, قولُ من قال: « طعامه » ، ما قذفه البحر، أو حَسَر عنه فوُجد ميتًا على ساحله. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قبله صيدَ الذي يصاد, فقال: « أحل لكم صيد البحر » ، فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يُصَدْ منه, فقال: أحل لكم ما صدتموه من البحر، وما لم تصيدوه منه.

وأما « المليح » , فإنه ما كان منه مُلِّح بعد الاصطياد, فقد دخل في جملة قوله: « أحل لكم صيد البحر » ، فلا وجه لتكريره, إذ لا فائدة فيه. وقد أعلم عبادَه تعالى ذكره: إحلالَه ما صيد من البحر بقوله: « أحل لكم صيد البحر » . فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك: « ومليحه الذي صيد حلال لكم » , لأن ما صيد منه فقد بُيِّن تحليله، طريًّا كان أو مليحًا، بقوله: « أحل لكم صيد البحر » والله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة.

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا خبر, وإن كان بعض نقلته يقف به على ناقلِه عنه من الصحابة, وذلك ما:-

حدثنا هناد بن السريّ قال ، حدثنا عبدة بن سليمان, عن محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة, عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، ما لفظه ميتًا فهو طعامه « . »

وقد وقف هذا الحديث بعضهم على أبي هريرة.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة, عن محمد بن عمرو, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة في قوله: « أحل لكم صيد البحر وطعامه » ، قال: « طعامه » ، ما لفظه ميتًا.

 

القول في تأويل قوله : مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « متاعًا لكم » ، منفعةً لمن كان منكم مقيمًا أو حاضرًا في بلده، يستمتع بأكله وينتفع به « وللسيارة » ، يقول: ومنفعةً أيضًا ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض, ومسافرين يتزوّدونه في سفرهم مليحًا.

و « السيارة » ، جمع « سيّار » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرني أبو إسحاق, عن عكرمة أنه قال في قوله: « متاعًا لكم وللسيارة » ، قال: لمن كان بحضرة البحر « وللسيارة » ، السَّفْر.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة في قوله: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، ما قذف البحر, وما يتزوّدون في أسفارهم من هذا المالح يتأوّلها على هذا.

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع عن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، مملوح السمك، ما يتزودون في أسفارهم.

حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقيّ قال ، حدثنا مسكين بن بكير قال ، حدثنا عبد السلام بن حبيب النجاري, عن الحسن في قوله: « وللسيارة » ، قال: هم المحرمون.

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، أما « طعامه » ، فهو المالح منه, بلاغٌ يأكل منه السيار في الأسفار.

حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، قال: « طعامه » ، مالحه، وما قذف البحر منه، يتزوَّده المسافر وقال مرة أخرى: مالحه، وما قذف البحر. فمالحه يتزوده المسافر.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، يعني المالح يتزوّده.

وكان مجاهد يقول في ذلك بما:-

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وطعامه متاعا لكم » ، قال: أهل القرَى « وللسيارة » ، أهل الأمصَار.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « متاعًا لكم » ، قال: لأهل القرى « وللسيارة » ، قال: أهل الأمصار، والحيتانُ للناس كلهم.

وهذا الذي قاله مجاهد: من أن « السيارة » هم أهل الأمصار، لا وجه له مفهوم, إلا أن يكون أراد بقوله: « هم أهل الأمصار » ، هم المسافرون من أهل الأمصار, فيجب أن يدخل في ذلك كل سيارة، من أهل الأمصار كانوا أو من أهل القرى. فأما « السيارة » ، فلا نعقله: المقيمون في أمصارهم.

 

القول في تأويل قوله : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وحرم الله عليكم، أيها المؤمنون، صيد البر « ما دمتم حرمًا » , يقول: ما كنتم محرمين، لم تحِلوا من إحرامكم.

ثم اختلف أهل العلم في المعنى الذي عَنى الله تعالى ذكره بقوله: « وحُرِّم عليكم صيدُ البر » .

فقال بعضهم: عنى بذلك: أنه حرَّم علينا كل معاني صيد البر: من اصطياد، وأكل، وقتل، وبيع، وشراء، وإمساك، وتملُّك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث بن نوفل, عن أبيه قال : حج عثمان بن عفان, فحج عليّ معه، قال: فأتي عثمان بلحم صيد صاده حَلال, فأكل منه، ولم يأكل عليّ, فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا! فقال عليّ: « وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » .

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هرون بن المغيرة, عن عمرو بن أبي قيس, عن سماك, عن صبيح بن عبد الله العبسي قال : بعث عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض، فنـزل قديدًا, فمرّ به رجل من أهل الشام معه باز وصقر, فاستعاره منه, فاصطاد به من اليعاقيب، فجعلهن في حظيرة. فلما مرّ به عثمان طبخهن, ثم قدمهن إليه, فقال عثمان: كلوا! فقال بعضهم: حتى يجيء علي بن أبي طالب، رحمة الله عليه. فلما جاء فرأى ما بين أيديهم، قال علي: إنا لن نأكل منه! فقال عثمان: مالك لا تأكل؟ فقال: هو صيد, ولا يحل أكله وأنا محرم! فقال عثمان: بيِّن لنا! فقال عليّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، فقال عثمان: أو نحن قتلناه؟ فقرأ عليه: « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » .

حدثنا تميم بن المنتصر وعبد الحميد بن بيان القناد قالا أخبرنا إسحاق الأزرق, عن شريك, عن سماك بن حرب, عن صبيح بن عبيد الله العبسي قال : استعمل عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض ثم ذكر نحوه, وزاد فيه، قال: فمكث عثمان ما شاء الله أن يمكث, ثم أتى فقيل له بمكة: هل لك في ابن أبي طالب، أهدي له صفيف حمار فهو يأكل منه! فأرسل إليه عثمان، وسأله عن أكل الصفيف, فقال: أما أنتَ فتأكل, وأما نحن فتنهانا؟ فقال: إنه صيد عام أوّلَ وأنا حلال, فليس عليّ بأكله بأس, وصيد ذلك يعني اليعاقيب وأنا محرم, وذبحن وأنا حرَام.

حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا يونس, عن الحسن: أن عمر بن الخطاب لم يكن يرى بأسًا بلحم الصيد للمحرم, وكرهه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب: أن عليًا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال.

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث: أنه شهد عثمان وعليًّا أُتيا بلحم, فأكل عثمان ولم يأكل عليّ, فقال عثمان: أنحن صِدْنا أو صيد لنا؟ فقرأ عليّ هذه الآية: « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » .

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة, عن أبيه قال : حج عثمان بن عفان, فحج معه علي, فأتي بلحم صَيدٍ صاده حلالٌ, فأكل منه وهو محرم, ولم يأكل منه عليّ, فقال عثمان: إنه صيدَ قبل أن نحرم! فقال له علي: ونحن قد نـزلنا وأهالينا لنا حلال، أفيحللن لنا اليوم؟

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون, عن عمرو, عن عبد الكريم, عن مجاهد, عن عبد الله بن الحارث بن نوفل: أن عليًّا أتى بِشِقّ عَجُز حمار وهو محرم, فقال: إنّي محرم.

حدثنا ابن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا سعيد, عن يعلى بن حكيم, عن عكرمة, عن ابن عباس: أنه كان يكرهه على كل حال، ما كان محرمًا.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا ابن جريج قال ، أخبرنا نافع: أن ابن عمر كان يكره كل شيء من الصيد وهو حرام, أخذ له أو لم يؤخذ له, وَشِيقةً وغيرها.

حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان, عن عبد الله قال ، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان لا يأكل الصيدَ وهو محرم، وإن صاده الحلالُ.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني الحسن بن مسلم بن يناق: أنّ طاوسًا كان ينهى الحرامَ عن أكل الصيد، وشيقة وغيرها، صيد له أو لم يُصد له.

حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا خالد بن الحارث قال ، حدثنا الأشعث قال ، قال الحسن: إذا صاد الصيد ثم أحرمَ لم يأكل من لحمه حتى يحلّ. فإن أكل منه وهو محرم، لم ير الحسن عليه شيئًا.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام وهارون عن عنبسة, عن سالم قال : سألت سعيد بن جبير, عن الصيد يصيده الحلال, أيأكل منه المحرم؟ فقال: سأذكر لك من ذلك, إن الله تعالى ذكره قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، فنهي عن قتله, ثم قال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، ثم قال تعالى ذكره: « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول: « أطعموني » ، فإن قال: « غريضًا » , ألقوا شبكتهم فصادوا له, وإن قال: « أطعموني من طعامكم » ، أطعموه من سمكهم المالح. ثم قال: « وحُرِّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرمًا » ، وهو عليك حرام, صدته أو صاده حلال.

وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى ذكره بقوله: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » ، ما استحدَث المحرم صيدَه في حال إحرامه أو ذبحه, أو استُحْدِث له ذلك في تلك الحال. فأما ما ذبحه حلال وللحلال، فلا بأس بأكله للمحرم. وكذلك ما كان في ملكه قبل حال إحرامه، فغير محرم عليه إمساكه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا سعيد قال ، حدثنا قتادة: أن سعيد بن المسيب حدّثه, عن أبي هريرة: أنه سئل عن صيد صاده حلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاه هو بأكله, ثم لقي عمر بن الخطاب رحمه الله فأخبره بما كان من أمره, فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك .

حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال ، حدثنا أبو عوانة, عن عمر بن أبي سلمة, عن أبيه قال : نـزل عثمان بن عفان رحمه الله العَرْجَ وهو محرم، فأهدى صاحبُ العرج له قَطًا، قال: فقال لأصحابه: كلوا فإنه إنما اصطيد على اسمي، قال: فأكلوا ولم يأكل.

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة كان بالرَّبَذة, فسألوه عن لحم صيدٍ صاده حلال، ثم ذكر نحو حديث ابن بزيع عن بشر.

حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, عن عمر, نحوه.

حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن أبي إسحاق, عن أبي الشعثاء قال : سألت ابن عمر عن لحم صيد يُهديه الحلال إلى الحرام, فقال: أكله عمر, وكان لا يرى به بأسًا. قال قلت: تأكله؟ قال: عمر خير مني.

حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد, عن شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق، عن أبي الشعثاء قال : سألت ابن عمر عن صيد صاده حلال يأكل منه حرام، قال: كان عمر يأكله. قال قلت: فأنت؟ قال: كان عمر خيرًا مني.

حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن هشام, عن يحيى, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة قال : استفتاني رجلٌ من أهل الشام في لحم صيد أصابه وهو محرم, فأمرته أن يأكله. فأتيت عمر بن الخطاب فقلت له: إن رجلا من أهل الشام استفتاني في لحم صيد أصابه وهو محرم، قال: فما أفتيته؟ قال: قلت: أفتيته أن يأكله. قال: فوالذي نفسي بيده، لو أفتيته بغير ذلك لعلوتك بالدرة! وقال عمر: إنما نُهيت أن تصطاده.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا خارجة عن زيد بن أسلم, عن عطاء, عن كعب قال : أقبلت في أناس محرمين, فأصبنا لحمَ حمار وحش, فسألني الناس عن أكله, فأفتيتهم بأكله، وهم محرمون. فقدمنا على عمر, فأخبروه أنّي أفتيتهم بأكل حمار الوحش وهم محرمون, فقال عمر: قد أمَّرته عليكم حتى ترجعوا.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يحيى بن سعيد, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة قال : مررت بالرَّبَذة, فسألني أهلها عن المحرم يأكل ما صاده الحلال؟ فأفتيتهم أن يأكلوه. فلقيت عمر بن الخطاب, فذكرت ذلك له. قال : بم أفتيتهم؟ قال: أفتيتهم أن يأكلوا. قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لخالفتك.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح, عن يونس, عن أبي الشعثاء الكندي قال : قلت لابن عمر: كيف ترى في قوم حرام لقوا قومًا حلالا ومعهم لحم صيد, فإما باعوهم، وإما أطعموهم؟ فقال: حلال.

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا محمد بن سعيد قال ، حدثنا هشام يعني ابن عروة قال ، حدثنا عروة, عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن عبد الرحمن حدثه: أنه اعتمر مع عثمان بن عفان في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى نـزلوا بالرَّوحاء, فقُرِّب إليهم طير وهم محرمون, فقال لهم عثمان: كلوا، فإني غير آكله! فقال عمرو بن العاص: أتأمرنا بما لست آكلا؟ فقال عثمان: إني لولا أظنّ أنه اصطيد من أجلي، لأكلت! فأكل القوم.

حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن هشام بن عروة, عن أبيه: أن الزبير كان يتزوّد لحوم الوحش وهو محرم.

حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس قال : ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال, وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون, عن عمرو, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس قال : ما صيد من شيء وأنت حرام فهو عليك حرام, وما صيد من شيء وأنت حلال فهو لك حلال.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » ، فجعل الصيد حرامًا على المحرم صيده وأكله ما دام حرامًا. وإن كان الصيدُ صِيدَ قبل أن يحرم الرجل، فهو حلالٌ. وإن صاده حرامٌ لحلال، فلا يحلّ له أكله.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، سألت أبا بشر عن المحرم يأكل مما صاده الحلال؟ قال : كان سعيد بن جبير ومجاهد يقولان: ما صيد قبل أن يُحرِم أكل منه, وما صيد بعد ما أحرم لم يأكل منه.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا ابن جريج قال : كان عطاء يقولُ إذا سئل في العَلانِية: أيأكل الحرامُ الوَشيقةَ والشيء اليابس؟ يقول بيني وبينه: لا أستطيع أن أبيِّن لك في مجلس, إن ذبح قبل أن نُحرم فكل, وإلا فلا تبع لحمه ولا تبتع.

وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بقوله: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » ، وحرم عليكم اصطياده. قالوا: فأما شراؤه من مالك يملكه وذبحه وأكله، بعد أن يكون مِلكه إياه على غير وجه الاصطياد له، وبيعه وشراؤه جائز. قالوا: والنهي من الله تعالى ذكره، عن صيده في حال الإحرام دون سائر المعاني.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، حدثنا يحيى بن أيوب قال ، أخبرني يحيى, أن أبا سلمة اشترى قَطًا وهو بالعَرْجِ وهو محرم، ومعه محمد بن المنكدر, فأكلها.

فعاب عليه ذلك الناس.

قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره، عمَّ تحريم كل معاني صيد البرّ على المحرم في حال إحرامه، من غير أن يخص من ذلك شيئًا دون شيء, فكل معاني الصيد حرام على المحرم ما دام حرامًا، بيعه وشراؤه واصطياده وقتله، وغير ذلك من معانيه, إلا أن يجده مذبوحًا قد ذبحه حلال لحلال, فيحلّ له حينئذ أكله, للثابت عن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-

حدثناه يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن جريج وحدثني عبد الله بن أبي زياد قال ، حدثنا مكي بن إبراهيم قال ، حدثنا عبد الملك بن جريج قال ، أخبرني محمد بن المنكدر, عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان, عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان قال : كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم, فأهدي لنا طائرٌ, فمنا من أكل، ومنا من تَورَّع فلم يأكل. فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكل، وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن الصعب بن جَثَّامة أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حمارِ وحش يقطر دمًا, فردّه فقال: إنا حُرُم وفيما روي عن عائشة: أن وَشِيقة ظبي أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم, فردّها وما أشبه ذلك من الأخبار؟

قيل: إنه ليس في واحد من هذه الأخبار التي جاءت بهذا المعنى، بيانُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ من ذلك ما ردّ وقد ذبحه الذابح إذ ذبحه, وهو حلال لحلال, ثم أهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام، فرده وقال: « إنه لا يحل لنا لأنا حرم » ، وإنما ذكر فيه أنه أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم صيد فردّه. وقد يجوز أن يكون ردُّه ذلك من أجل أنّ ذابحه ذبحه أو صائده صاده من أجله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.

وقد بيَّن خبر جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: « لحم صيد [ البر ] للمحرم حلال إلا ما صاد أو صيد له » ، معنى ذلك كله.

فإذ كان كلا الخبرين صحيحًا مخرجهما, فواجبٌ التصديقُ بهما، وتوجيه كلّ واحد منهما إلى الصحيح من وجه, وأن يقال: « ردُّه ما ردّ من ذلك من أجل أنه كان صِيد من أجله وإذنه في كل ما أذن في أكله منه، من أجل أنه لم يكن صِيد لمحرم ولا صاده محرم, فيصح معنى الخبرين كليهما. »

واختلفوا في صفة الصيد الذي عنى الله تعالى بالتحريم في قوله: « وحرم عليك صيد البر ما دمتم حرمًا » .

فقال بعضهم: « صيد البر » ، كل ما كان يعيش في البرّ والبحر، وإنما « صيد البحر » ، ما كان يعيش في الماء دون البرّ ويأوي إليه

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي , عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » ، قال: ما كان يعيش في البر والبحر فلا تصده، وما كان حياته في الماء فذاك.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الحجاج, عن عطاء قال : ما كان يعيش في البر فأصابه المحرم فعليه جزاؤه, نحو السلحفاة والسرطان والضفادع.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون بن المغيرة, عن عمرو بن أبي قيس, عن الحجاج, عن عطاء قال : كل شيء عاش في البر والبحر فأصابه المحرم، فعليه الكفارة.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا يزيد بن أبي زياد, عن عبد الملك بن سعيد بن جبير قال : خرجنا حجاجًا معنا رجلٌ من أهل السَّواد معه شُصُوص طير ماءٍ, فقال له أبي حين أحرمنا: اعزل هذا عنا.

وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت يزيد بن أبي زياد قال ، حدثنا حجاج, عن عطاء: أنه كَرِه للمحرم أن يذبح الدجاج الزِّنجي, لأن له أصلا في البر.

وقال بعضهم: صيد البر ما كان كونه في البرّ أكثر من كونه في البحر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال، ابن جريج أخبرناه، قال : سألت عطاء عن ابن الماء, أصيد برّ أم بحر؟ وعن أشباهه؟ فقال: حيث يكون أكثر، فهو صيده.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن عطاء بن أبي رباح قال، أكثر ما يكون حيث يُفْرِخ, فهو منه.

 

القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 96 )

قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله تعالى ذكره إلى خلقه بالحذر من عقابه على معاصيه.

يقول تعالى ذكره: واخشوا الله، أيها الناس, واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه وفيما نهاكم عنه في هذه الآيات التي أنـزلها على نبيكم صلى الله عليه وسلم، من النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام, وعن إصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم وفي غيرها, فإنّ لله مصيرَكم ومرجعَكم، فيعاقبكم بمعصيتكم إياه, ومجازيكم فيثيبكم على طاعتكم له.

 

القول في تأويل قوله : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قوامًا للناس الذين لا قِوَام لهم من رئيس يحجز قوِّيهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم « والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض, إذ لم يكن لهم قيامٌ غيره, وجعلها معالم لدينهم، ومصالح أمورهم.

و « الكعبة » ، سميت فيما قيل « كعبة » لتربيعها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إنما سميت « الكعبة » ، لأنها مربعة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا هاشم بن القاسم, عن أبي سعيد المؤدب, عن النضر بن عربي, عن عكرمة قال : إنما سميت « الكعبة » ، لتربيعها.

وقيل « قيامًا للناس » بالياء, وهو من ذوات الواو, لكسرة القاف، وهي « فاء » الفعل, فجعلت « العين » منه بالكسرة « ياء » , كما قيل في مصدر: « قمت » « قيامًا » و « صمت » « صيامًا » , فحوّلت « العين » من الفعل: وهي « واو » « ياء » لكسرة فائه. وإنما هو في الأصل: « قمت قوامًا » , و « صمت صِوَامًا » ، وكذلك قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، فحوّلت، واوها ياء, إذ هي « قوام » .

وقد جاء ذلك من كلامهم مقولا على أصله الذي هو أصله قال الراجز:

قَِوامُ دُنْيَا وَقَوَامُ دِين

فجاء به بالواو على أصله.

وجعل تعالى ذكره الكعبة والشهرَ الحرام والهديَ والقلائد قوامًا لمن كان يحرِّم ذلك من العرب ويعظّمه، بمنـزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تُبَّاعه.

وأما « الكعبة » ، فالحرم كله. وسمّاها الله تعالى « حرامًا » ، لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يُخْتلى خَلاها، أو يُعْضد شجرها، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل.

وقوله: « والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، يقول تعالى ذكره: وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضًا قيامًا للناس, كما جعل الكعبة البيت الحرام لهم قيامًا.

و « الناس » الذين جعل ذلك لهم قيامًا، مختلفٌ فيهم.

فقال بعضهم: جعل الله ذلك في الجاهلية قيامًا للناس كلهم.

وقال بعضهم: بل عنى به العربَ خاصة.

وبمثل الذي قلنا في تأويل « القوام » ، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، القوام، على نحو ما قلنا.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا من سمع خُصَيفًا يحدث، عن مجاهد في: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، قال: قوامًا للناس.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن خصيف, عن سعيد بن جبير: « قيامًا للناس » ، قال: صلاحًا لدينهم.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا داود, عن ابن جريج, عن مجاهد في: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، قال: حين لا يرْجون جنة ولا يخافون نارًا, فشدّد الله ذلك بالإسلام.

حدثني هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة, عن إسرائيل, عن أبي الهيثم, عن سعيد بن جبير قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، قال: شدةً لدينهم.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن أبي الهيثم, عن سعيد بن جيير, مثله.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، قال: قيامها، أن يأمن من توجَّه إليها.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، يعني قيامًا لدينهم, ومعالم لحجهم.

حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، جعل الله هذه الأربعةَ قيامًا للناس, هو قوام أمرهم.

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال وإن أختلفت من قائليها ألفاظُها، فإن معانيها آيلةٌ إلى ما قلنا في ذلك، من أن « القوام » للشيء، هو الذي به صلاحه, كما الملك الأعظم، قوامُ رعيته ومن في سلطانه، لأنه مدبِّر أمرهم، وحاجز ظالمهم عن مظلومهم، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم. وكذلك كانت الكعبة والشهرُ الحرام والهدي والقلائد، قوامَ أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية, وهي في الإسلام لأهله معالمُ حجهم ومناسكهم، ومتوجَّههم لصلاتهم، وقبلتهم التي باستقبالها يتمُّ فرضُهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قالت جماعة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، فكان الرجل لو جَرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقرَبه. وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادةً من شعر فأحمته ومنعته من الناس. وكان إذا نفر تقلَّد قلادة من الإذْخِر أو من لِحَاء السمُر, فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، حواجزُ أبقاها الله بين الناس في الجاهلية.

حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، قال: كان الناس كلهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضَهم عن بعض. قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعض, فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قيامًا، يُدْفع بعضُهم عن بعض به, والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم، والقلائد. قال: ويلقَى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له. وهذا كله قد نُسِخ.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « والقلائد » ، كان ناس يتقلَّدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحجّ, فيعرفون بذلك.

وقد أتينا على البيان عن ذكر: « الشهر الحرام » و « الهدي » و « القلائد » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 97 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، تصييرَه الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. يقول تعالى ذكره: صيرت لكم، أيها الناس، ذلك قيامًا، كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث، مما به قوامكم, علمًا منه بمنافعكم ومضاركم، أنه كذلك يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض مما فيه صلاحُ عاجلكم وآجلكم, ولتعلموا أنه بكل شيء « عليم » , لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم, وهو محصيها عليكم، حتى يجازي المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته.

 

القول في تأويل قوله : اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 98 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: اعلموا، أيها الناس، أن ربكم الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض, ولا يخف عليه شيء من سرائر أعمالكم وعلانيتها, وهو يُحْصيها عليكم لمجازيكم بها, شديد عقابُه من عصاه وتمرَّد عليه، على معصيته إياه وهو غفور لذنوب من أطاعه وأنابَ إليه، فساترٌ عليه، وتاركٌ فضيحته بها رحيم به أن يعاقبه على ما سلف من ذنوبه بعد إنابته وتوبته منها.

 

القول في تأويل قوله : مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( 99 )

قال أبو جعفر: وهذا من الله تعالى ذكره تهديد لعباده ووعيد. يقول تعالى ذكره: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم، أيها الناس، بإنذاركم عقابَنا بين يدي عذاب شديد، وإعذارنا إليكم بما فيه قطع حججكم إلا أن يؤدي إليكم رسالتنا, ثم إلينا الثواب على الطاعة، وعلينا العقاب على المعصية « والله يعلم ما تبدون وما تكتمون » ، يقول: وغير خفي علينا المطيعُ منكم، القابلُ رسالتنا، العاملُ بما أمرته بالعمل به من المعاصي الآبي رسالتنا، التارك العمل بما أمرته بالعمل به، لأنا نعلم ما عمله العامل منكم فأظهره بجوارحه ونطق به بلسانه « وما تكتمون » ، يعني: ما تخفونه في أنفسكم من إيمان وكفر، أو يقين وشك ونفاق.

يقول تعالى ذكره: فمن كان كذلك، لا يخفى عليه شيء من ضمائر الصدور، وظواهر أعمال النفوس, مما في السموات وما في الأرض، وبيده الثواب والعقاب فحقيق أن يُتَّقى، وأن يُطاع فلا يعصى.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل يا محمد: لا يعتدل الرديء والجيد, والصالح والطالح, والمطيع والعاصي ولو أعجبك كثرة الخبيث « ، يقول: لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله، ولو كثر أهل المعاصى فعجبت من كثرتهم, لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلُّوا، دون أهل معصيته وإن أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا. »

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فلا تعجبنَّ من كثرة من يعصى الله فيُمْهِله ولا يعاجله بالعقوبة، فإن العقبَى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي، « لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة » الخبيث « ، قال: الخبيث، هم المشركون و » الطيب « ، هم المؤمنون. »

وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فالمراد به بعض أتباعه, يدل على ذلك قوله: « فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون »

 

القول في تأويل قوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 100 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم, واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث, فتصيروا منهم « يا أولي الألباب » ، يعني بذلك أهلَ العقول والحِجَى, الذين عقلوا عن الله آياته, وعرفوا مواقع حججه. « لعلكم تفلحون » ، يقول: اتقوا الله لتفلحوا، أي: كي تنجحوا في طلبكم ما عنده.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ

قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية أنـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام, امتحانًا له أحيانًا, واستهزاءً أحيانًا. فيقول له بعضهم: « من أبي » ؟ ويقول له بعضهم إذا ضلت ناقته: « أين ناقتي » ؟ فقال لهم تعالى ذكره: لا تسألوا عن أشياءَ من ذلك كمسألة عبد الله بن حُذافة إياه من أبوه « إن تبد لكم تسؤكم » ، يقول: إن أبدينا لكم حقيقة ما تسألون عنه، ساءكم إبداؤها وإظهارها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* ذكر الرواية بذلك:

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حفص بن بُغَيل قال ، حدثنا زهير بن معاوية قال ، حدثنا أبو الجويرية قال : قال ابن عباس لأعرابيّ من بني سليم: هل تدري فيما أنـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ؟ حتى فرغ من الآية, فقال: كان قوم يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استهزاء, فيقول الرجل: « من أبي » ؟ والرجل تضل ناقته فيقول: « أين ناقتي » ؟ فأنـزل الله فيهم هذه الآية.

حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو عامر وأبو داود قالا حدثنا هشام, عن قتادة, عن أنس قال : سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم, فقال: « لا تسألوني عن شيء إلا بيَّنْتُ لكم! قال أنس: فجعلت أنظر يمينًا وشمالا فأرى كل إنسان لافًّا ثوبَه يبكي، فأنشأ رجل كان إذا لاحَى يُدعى إلى غير أبيه، فقال: يا رسول الله, من أبي؟ فقال: » أبوك حذافة « ! قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وأعوذ بالله من سوء الفتن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » لم أرَ الشرّ والخيرَ كاليوم قط! إنه صُوِّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط ! وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: « لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » .

حدثني محمد بن معمر البحراني قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرني موسى بن أنس قال ، سمعت أنسًا يقول، قال رجل: يا رسول الله، من أبي؟ قال: « أبوك فلان » ! قال: فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » .

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، قال: فحدَّثنا أن أنس بن مالك حدَّثهم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفَوْه بالمسألة, فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال: « لا تسألوني اليومَ عن شيء إلا بينته لكم! فأشفقَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يديه أمر قد حضر, فجعلتُ لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كُلا لافًّا رأسه في ثوبه يبكي. فأنشأ رجلٌ كان يُلاحَى فيدعى إلى غير أبيه, فقال: يا نبي الله، من أبي؟ قال: » أبوك حذافة « ! قال: ثم قام عمر أو قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا عائذًا بالله أو قال: أعوذ بالله من سوء الفتن! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أر في الخير والشر كاليوم قط, صُوِّرت لي الجنة والنارُ حتى رأيتهما دون الحائط. »

حدثنا أحمد بن هشام وسفيان بن وكيع قالا حدثنا معاذ بن معاذ قال ، حدثنا ابن عون، قال : سألت عكرمة مولى ابن عباس عن قوله: « ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، قال: ذاك يوم قام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به! قال: فقام رجل, فكره المسلمون مَقامه يومئذ, فقال: يا رسول الله ، من أبي؟ قال: أبوك حذافة، قال: فنـزلت هذه الآية.

حدثنا الحسين بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: نـزلت: « لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، في رجل قال: يا رسول الله ، من أبي؟ قال: أبوك فلان.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني سفيان, عن معمر, عن قتادة قال : سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكثروا عليه, فقام مغضبًا خطيبًا فقال: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي إلا حدثتكم! فقام رجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة. واشتدّ غضبه وقال: سلوني! فلما رأى الناس ذلك كثر بكاؤهم, فجثا عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًّا قال معمر، قال الزهري، قال أنس مثل ذلك: فجثا عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما والذي نفسي بيده, لقد صُوِّرت لي الجنةُ والنارُ آنفًا في عرض هذا الحائط, فلم أر كاليوم في الخير والشر قال الزهري، فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدًا أعقّ منك قط! أتأمن أن تكون أمك قارفت ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس!! فقال: والله لو ألحقني بعبدٍ أسود للحقتُه. »

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام، فقام خطيبًا فقال: سلوني، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا نبأتكم به! فقام إليه رجل من قريش، من بني سهم، يقال له « عبد الله بن حذافة » ، وكان يُطْعن فيه، قال : فقال: يا رسول الله ، من أبي؟ قال: أبوك فلان! فدعاه لأبيه. فقام إليه عمر فقبَّل رجله وقال: يا رسولَ الله, رضينا بالله ربًّا, وبك نبيًّا, وبالإسلام دينًا, وبالقرآن إمامًا, فاعف عنا عفا الله عنك! فلم يزل به حتى رَضِيَ, فيومئذ قال: « الولد للفراش وللعاهر الحجر » .

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس, عن أبي حصين, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارٌّ وجهه! حتى جلس على المنبر, فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام آخر فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة ! فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًّا, وبالإسلام دينًا, وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا, وبالقرآن إمامًا, إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشِرْك, والله يعلمُ من آباؤنا! قال: فسكن غضبه, ونـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » .

وقال آخرون: نـزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل مسألة سائل سأله عن شيء في أمر الحجّ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا منصور بن وردان الأسدي قال، حدثنا علي بن عبد الأعلى قال ، لما نـزلت هذه الآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا سورة آل عمران :97 ] ، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت. ثم قالوا: أفي كل عام؟ فسكت. ثم قال: لا ولو قلت: « نعم » لوجبت « ! فأنـزل الله هذه الآية: » يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم « . »

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان, عن إبراهيم بن مسلم الهجري, عن ابن عياض, عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، « إن الله كتب عليكم الحج! فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه, حتى عاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: من السائل؟ فقال: فلان! فقال: والذي نفسي بيده، لو قلت » نعم « لوجبت, ولو وجبت عليكم ما أطقتموه, ولو تركتموه لكفرتم! فأنـزل الله هذه الآية: » يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم « ، حتى ختم الآية. »

حدثني محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، سمعت أبي قال ، أخبرنا الحسين بن واقد, عن محمد بن زياد قال ، سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس, كتب الله عليكم الحج. فقام مِحْصن الأسدي فقال: أفي كل عام، يا رسول الله؟ فقال: « أمَا إنّي لو قلت » نعم « لوجبت, ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عنى ما سكتُّ عنكم, فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم! فأنـزل الله تعالى: » يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم « ، إلى آخر الآية. »

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد, عن محمد بن زياد قال : سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله, إلا أنه قام: فقام عُكَّاشة بن محصن الأسدي.

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر قال ، حدثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى, عن صفوان بن عمرو قال ، حدثني سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: كتب عليكم الحج! « فقام رجل من الأعراب فقال: أفي كل عام؟ قال: فغَلِقَ كلامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسكتَ واستغضب، فمكث طويلا ثم تكلم فقال: من السائل؟ فقال الأعرابي: أنا ذا! فقال: ويحك! ماذا يُؤْمِنك أن قول » نعم « , ولو قلت » نعم « لوجبت, ولو وجبت لكفرتم! ألا إنه إنما أهلك الذين قبلكم أئمة الحَرَج، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرَّمت عليكم منها موضع خُفٍّ، لوقعتم فيه! قال: فأنـزل الله تعالى عند ذلك: » يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء « ، إلى آخر الآية. »

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، وذلك أن رسول الله أذّن في الناس فقال: « يا قوم, كتب عليكم الحجّ! » فقام رجل من بني أسد فقال: يا رسول الله, أفي كل عام؟ فأغْضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا, فقال: والذي نفس محمد بيده، لو قلت « نعم » لوجبت, ولو وجبت ما استطعتم, وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم, فإذا أمرتكم بشيء فافعلوا, وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه! فأنـزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة, فأصبحوا بها كافرين. فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نـزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك, ولكن انتظروا، فإذا نـزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تِبيانه.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح قال ، حدثنا علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينـزل القرآن تبد لكم » ، قال: لما أنـزلت آية الحج, نادى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: يا أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحُجُّوا. فقالوا: يا رسول الله, أعامًا واحدًا أم كل عام؟، فقال: لا بل عامًا واحدًا, ولو قلت « كل عام » ، لوجبت, ولو وجبت لكفرتم. ثم قال الله تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم « ، قال: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فوعظهم فانتهوا. »

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج, فقيل: أواجب هو يا رسول الله كل عام؟ قال: لا لو قلتها لوجبت, ولو وجبت ما أطقتم, ولو لم تطيقوا لكفرتم. ثم قال: سلوني، فلا يسألني رجل في مجلسي هذا عن شيء إلا أخبرته, وإن سألني عن أبيه! فقام إليه رجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة بن قيس. فقام عمر فقال: يا رسول، رضينا بالله ربًّا, وبالإسلام دينًا, وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا, ونعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية من أجل أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوَصيلة والحامي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال ، حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن مجاهد, عن ابن عباس « لا تسألوا عن أشياء » ، قال: هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك: « ما جعل الله من كذا ولا كذا؟ قال: وأما عكرمة فإنه قال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات، فنهوا عن ذلك. ثم فال: » قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين « . قال: فقلت قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن ابن عباس, فما لك تقول هذا؟ فقال: هَيْهَ. »

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون, عن ابن عون, عن عكرمة قال : هو الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبي وقال سعيد بن جبير: هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: نـزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ, كمسألة ابن حذافة إياه مَن أبوه, ومسألة سائله إذ قال: « الله فرض عليكم الحج » ، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل, لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل.

وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس, فقولٌ غير بعيد من الصواب, ولكنْ الأخبارُ المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه, وكرهنا القولَ به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسئلة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها, كما كره الله لهم المسألة عن الحج: « أكل عام هو، أم عامًا واحدًا » ؟ وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه, فنـزلت الآية بالنهي عن المسائل كلِّها, فأخبرَ كل مخبر منهم ببعض ما نـزلت الآية من أجله، وأجل غيره. وهذا القول أولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة, لأن مخارج الأخبار بجميع المعاني التي ذُكرت صحاحٌ, فتوجيهها إلى الصواب من وجوهها أولى.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 101 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للذين نهاهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما نهاهم عن مسألتهم إياه عنه, من فرائض لم يفرضها الله عليهم, وتحليل أمور لهم يحلّلها لهم, وتحريم أشياء لم يحرِّمها عليهم قبلَ نـزول القرآن بذلك: أيها المؤمنون السائلون عما سألوا عنه رسولي مما لم أنـزل به كتابًا ولا وحيًا, لا تسألوا عنه, فإنكم إن أظهر ذلك لكم تبيانٌ بوحي وتنـزيل ساءكم، لأن التنـزيل بذلك إذا جاءكم إنما يجيئكم بما فيه امتحانكم واختباركم, إما بإيجاب عمل عليكم, ولزوم فرض لكم, وفي ذلك عليكم مشقة ولزوم مؤونة وكلفة وإما بتحريم ما لو لم يأتكم بتحريمه وحي، كنتم من التقدم عليه في فُسْحة وسَعة وإما بتحليل ما تعتقدون تحريمه, وفي ذلك لكم مساءة لنقلكم عما كنتم ترونه حقًّا إلى ما كنتم ترونه باطلا ولكنكم إن سألتم عنها بعد نـزول القرآن بها، وبعد ابتدائكم ببيان أمرها في كتابي إلى رسولي إليكم، ليسَّر عليكم ما أنـزلته إليه من بيان كتابي، وتأويل تنـزيلي ووحيي

وذلك نظير الخبر الذي روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي:-

حدثنا به هناد بن السري قال ، حدثنا أبو معاوية, عن داود بن أبي هند, عن مكحول, عن أبي ثعلبة الخشني قال : إن الله تعالى ذكره فرَض فرائض فلا تضيِّعوها, ونهى عن أشياء فلا تَنْتَهِكوها, وحدّ حدودًا فلا تعتدوها, وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء قال : كان عبيد بن عمير يقول: إن الله تعالى أحلّ وحرَّم, فما أحلّ فاستحلُّوه، وما حرَّم فاجتنبوه, وترك من ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه. ثم يتلو: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » .

حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا الضحاك قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني عطاء, عن عبيد بن عمير أنه كان يقول: إنّ الله حرّم وأحلَّ, ثم ذكر نحوه.

وأما قوله: « عفا الله عنها » فإنه يعني به: عفا الله لكم عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كره الله لكم مسألتكم إياه عنها, أن يؤاخذكم بها, أو يعاقبكم عليها, إن عرف منها توبتكم وإنابتكم « والله غفورٌ » ، يقول: والله ساتر ذنوب من تاب منها, فتارك أن يفضحه في الآخرة « حليم » [ ذو أناة عن ] أن يعاقبه بها، لتغمده التائبَ منها برحمته، وعفوه, عن عقوبته عليها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، روي الخبر عن ابن عباس الذي ذكرناه آنفًا. وذلك ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « لا تسألوا عن أشياء » ، يقول: لا تسألوا عن أشياء إن نـزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك, ولكن انتظروا، فإذا نـزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه.

 

القول في تأويل قوله : قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ( 102 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد سأل الآيات قومٌ من قبلكم، فلما آتاهموها الله أصبحوا بها جاحدين، منكرين أن تكون دلالة على حقيقة ما احتُجَّ بها عليهم, وبرهانًا على صحة ما جُعلت برهانًا على تصحيحه كقوم صالح الذين سألوا الآيةَ، فلما جاءتهم الناقة آيةً عقروها وكالذين سألوا عيسى مائدة تنـزل عليهم من السماء، فلما أعطوها كفروا بها، وما أشبه ذلك.

فحذَّر الله تعالى المؤمنين بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلكوا سبيل من قبلهم من الأمم التي هلكت بكفرهم بآيات الله لما جاءتهم عند مسألتهموها, فقال لهم: لا تسألوا الآيات, ولا تبحثوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم, فقد سأل الآيات من قبلكم قومٌ، فلما أوتوها أصبحوا بها كافرين، كالذي:-

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال؛ حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة, فأصبحوا بها كافرين, فنهى الله عن ذلك.

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « قد سألها قوم من قبلكم » ، قد سأل الآيات قوم من قبلكم, وذلك حين قيل له: غيِّر لنا الصَّفا ذهبًا.

 

القول في تأويل قوله : مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بحر الله بحيرة, ولا سيَّب سائبة, ولا وصل وصيلة, ولا حَمَى حاميًا ولكنكم الذين فعلتم ذلك، أيها الكفرة, فحرَّمتموه افتراء على ربكم، كالذي:-

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثني أبي وشعيب بن الليث, عن الليث, عن ابن الهاد وحدثني يونس قال ، حدثنا عبد الله بن يوسف قال ، حدثني الليث قال ، حدثني ابن الهاد ، عن ابن شهاب, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرُّ قُصْبَه في النار, وكان أول من سيَّب السُّيَّب » .

حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: يا أكثم, رأيتُ عمرو بن لُحيّ بن قَمَعَة بن خِنْدف يجرّ قُصْبه في النار, فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك! فقال أكثم: عسَى أن يضرّني شبهه، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا إنك مؤمن وهو كافر, إنه أوّل من غيَّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة, وسيَّب السائبة, وحمى الحامي » .

حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس قال ، حدثني هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد عرفت أوّلَ من بَحَر البحائر، رجلٌ من مُدْلج كانت له ناقتان, فجدَع آذانهما، وحرّم ألبانهما وظهورَهما، وقال: هاتان لله! ثم احتاج إليهما، فشرب ألبانهما، وركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار يؤذِي أهل النار ريح قُصْبه.

حدثنا هناد قال، حدثنا عَبْدة, عن محمد بن عمرو, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عُرِضت عليَّ النار، فرأيت فيها عمرو بن فلان بن فلان بن خندف يجرّ قصْبه في النار, وهو أوّل من غيَّر دين إبراهيم، وسيب السائبة, وأشبه من رأيت به أكثم بن الجون! فقال أكثم: يا رسول الله, أيضرني شبهه؟ قال: « لا لأنك مُسلم, وإنه كافر » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال : رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجرّ قُصْبه في النار, وهو أوّل من سيّب السوائب.

حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أوّل من سيب السوائب، وأوّل من غيَّر عهد إبراهيم! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب, لقد رأيته يجرّ قُصْبه في النار, يؤذي ريحه أهل النار. وإني لأعرف أوّل من بحر البحائر! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان, فجدع آذانهما، وحرّم ألبانهما, ثم شرب ألبانهما بعدَ ذلك, فلقد رأيته في النار هو، وهما يعضّانه بأفواههما, ويخبطانه بأخفافهما.

و « البحيرة » الفعيلة من قول القائل: « بَحَرْت أُذن هذه الناقة » ، إذا شقها, « أبحرُها بحرًا » , والناقة « مبحورة » , ثم تصرف « المفعولة » إلى « فعيلة » , فيقال: « هي بحيرة » . وأما « البَحِرُ » من الإبل فهو الذي قد أصابه داءٌ من كثرة شرب الماء, يقال منه: « بَحِر البعيرُ يبحر بَحَرًا » ، ومنه قول الشاعر:

لأعْلِطَــنَّهُ وَسْمًــا لا يُفَارَقُـهُ كَمَــا يُحَزُّ بِحَمْـيِ المِيسَمِ البَحِـرُ

وبنحو الذي قلنا في معنى « البحيرة » , جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا محمد بن يزيد, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص, عن أبيه قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلَّمةً آذانُها, فتأخذ الموسى فتجْدَعها، تقول: « هذه بحيرة » , وتشق آذانها، تقولون: « هذه صَرْم » ؟ قال: نعم! قال : فإن ساعدَ الله أشدّ, وموسَى الله أحدَ! كلّ مالك لك حلالٌ، لا يحرَّم عليك منه شيء.

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق قال ، سمعت أبا الأحوص, عن أبيه قال أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تُنتَجُ إبل قومك صحاحًا آذانُها، فتعمد إلى الموسَى فتقطع آذانها فتقول: « هذه بُحْرٌ » , وتشقها أو تشق جلودها فتقول: « هذه صُرُمٌ » , فتحرّمها عليك وعلى أهلك؟ قال: نعم! قال: فإن ما آتاك الله لك حِلّ, وساعد الله أشدّ, وموسى الله أحدّ وربما قال: ساعدُ الله أشد من ساعدك, وموسى الله أحدّ من موساك.

وأما « السائبة » : فإنها المسيَّبة المخلاة. وكانت الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه, فيحرِّم الانتفاع به على نفسه, كما كان بعض أهل الإسلام يعتق عبدَه سائبةً ، فلا ينتفع به ولا بولائه. وأخرجت « المسيَّبة » بلفظ « السائبة » , كما قيل: « عيشة راضية » , بمعنى: مرضية.

وأما « الوصيلة » , فإن الأنثى من نَعَمهم في الجاهلية كانت إذا أتأمت بطنًا بذكر وأنثى, قيل: « قد وصلت الأنثى أخاها » , بدفعها عنه الذبح, فسمَّوها « وَصيلة » .

وأما « الحامي » ، فإنه الفحل من النعم يُحْمَى ظهره من الركوب والانتفاع، بسبب تتابُعِ أولادٍ تحدُث من فِحْلته.

وقد اختلف أهل التأويل في صفات المسميات بهذه الأسماء، وما السبب الذي من أجله كانت تفعل ذلك.

* ذكر الرواية بما قيل في ذلك:

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل, عن ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ: أن أبا صالح السمان حدّثه: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعيّ: يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قُصْبه في النار, فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به، ولا به منك! فقال أكثم: أيضرّني شبهه يا نبيّ الله؟ قال: لا إنك مؤمن وهو كافر، وإنه كان أوّل من غيَّر دين إسماعيل، ونصب الأوثان, وسيَّب السائبَ فيهم.

وذلك أن الناقة إذا تابعت بين عشرإناث ليس فيها ذكر، سُيِّبت فلم يركب ظهرها، ولم يجزَّ وبرها، ولم يشرَب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقّ أذنها، ثم خلّى سبيلها مع أمها في الإبل, فلم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهي « البحيرة » ابنة « السائبة » .

و « الوصيلة » ، أن الشاة إذا نَتَجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت « وصيلة » ، قالوا: « وصلت » , فكان ما وَلدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله، ذكورُهم وإناثهم .

و « الحامي » أنّ الفحل إذا نُتِج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكرٌ، حمي ظهره ولم يركب, ولم يجزّ وبره, ويخلَّى في إبله يضرب فيها, لا ينتفع به بغير ذلك. يقول الله تعالى ذكره: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » إلى قوله: « ولا يهتدون » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق في هذه الآية: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » قال أبو جعفر: سقط عليّ فيما أظنّ كلام منه قال: فأتيت علقمة فسألتُه, فقال: ما تريد إلى شيء كانت يَصنعه أهل الجاهلية.

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ قال ، حدثنا أبي, عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن مسلم قال : أتيت علقمة, فسألته عن قول الله تعالى: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامٍ » ، فقال: وما تصنع بهذا؟ إنما هذا شيء من فعل الجاهلية! قال: فأتيت مسروقًا فسألته, فقال: « البحيرة » ، كانت الناقة إذا ولدت بطنًا خمسًا أو سبعًا, شقوا أذنها، وقالوا: « هذه بحيرة » قال: « ولا سائبة » ، قال: كان الرجل يأخذ بعضَ ماله فيقول: « هذه سائبة » قال: « ولا وصيلة » ، قال: كانوا إذا ولدت الناقة الذكر أكله الذكور دون الإناث, وإذا ولدت ذكرًا وأنثى في بطن قالوا: « وصلت أخاها » , فلا يأكلونهما. قال: فإذا مات الذكر أكله الذكور دون الإناث قال: « ولا حام » ، قال : كان البعير إذا وَلد وولد ولده، قالوا: « قد قضى هذا الذي عليه » , فلم ينتفعوا بظهره. قالوا: « هذا حمًى » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش, عن مسلم بن صبيح قال : سألت علقمة عن قوله: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة » ، قال: ما تصنع بهذا؟ هذا شيء كان يفعله أهل الجاهلية.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان، ويحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص: « ما جعل الله من بحيرة » ، قال: البحيرة: التي قد ولت خمسة أبطن ثم تركت.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير بن عبد الحميد, عن مغيرة, عن الشعبي: « ما جعل الله من بحيرة » . قال: البحيرة، المخضرمة « ولا سائبة » ، والسائبة: ما سُيِّب للعِدَى و « الوصيلة » ، إذا ولدت بعد أربعة أبطن فيما يرى جرير ثم ولدت الخامس ذكرًا وأنثى، وصلتْ أخاها و « الحام » ، الذي قد ضرب أولادُ أولاده في الإبل.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبي، بنحوه إلا أنه قال: و « الوصيلة » التي ولدت بعد أربعة أبطن ذكرًا وأنثى، قالوا: « وصلت أخاها » ، وسائر الحديث مثل حديث ابن حميد.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق الأزرق, عن زكريا, عن الشعبي: أنه سئل عن « البحيرة » , فقال: هي التي تجدع آذانها. وسئل عن « السائبة » , فقال: كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم فيتركونها عند آلهتهم، فتذهب فتختلطُ بغنم الناس، فلا يشرب ألبانها إلا الرجال, فإذا مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعًا.

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « ما جعل الله من بحيرة » وما معها: « البحيرة » ، من الإبل يحرّم أهل الجاهلية وَبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال, فما ولدت من ذكر وأنثى فهو على هيئتها, وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. فإذا ضَرَب الجمل من ولد البحيرة، فهو « الحامي » . و « الحامي » ، اسمٌ. و « السائبة » من الغنم على نحو ذلك، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد، كان على هيئتها. فإذا ولدت في السابع ذكرًا أو أنثى أو ذكرين, ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم. وإن توأمت أنثى وذكرًا فهي « وصيلة » ، لترك ذبح الذكر بالأنثى. وإن كانتا أنثيين تركتا.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة » ، فالبحيرة، الناقة, كان الرجل إذا ولدت خمسة أبطن, فيعمد إلى الخامسة, ما لم تكن سَقْبًا، فيبتك آذانها, ولا يجزّ لها وبرًا, ولا يذوق لها لبنًا, فتلك « البحيرة » « ولا سائبة » ، كان الرجل يسيِّب من ماله ما شاء « ولا وصيلة » ، فهي الشاة إذا ولدت سبعًا, عمد إلى السابع, فإن كان ذكرًا ذبح, وإن كانت أنثى تركت, وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما، قالوا: « وصلت أخاها » , فيتركان جميعًا لا يذبحان. فتلك « الوصيلة » وقوله: « ولا حام » ، كان الرجل يكون له الفحل، فإذا لقح عشرًا قيل: « حام, فاتركوه » .

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة » ، ليسيِّبوها لأصنامهم « ولا وصيلة » ، يقول: الشاة « ولا حام » يقول: الفحلُ من الإبل.

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » ، تشديدٌ شدّده الشيطانُ على أهل الجاهلية في أموالهم, وتغليظ عليهم, فكانت « البحيرة » من الإبل، إذا نتج الرجلُ خمسًا من إبله، نظر البطن الخامس, فإن كانت سقبًا ذبح فأكله الرجال دون النساء, وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرُهم وأنثاهم, وإن كانت حائلا وهي الأنثى تركت، فبتكت أذنها, فلم يجزّ لها وَبرٌ، ولم يشرب لها لبن، ولم يركب لها ظهرٌ، ولم يذكر لله عليها اسم. وكانت « السائبة » ، يسيبون ما بدا لهم من أموالهم, فلا تُمنع من حوض أن تشرع فيه، ولا من حمًى أن ترتع فيه وكانت « الوصيلة » من الشاء، من البطن السابع, إذا كان جديًا ذبح فأكله الرجال دون النساء. وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم. وإن جاءت بذكر وأنثى قيل: « وصلت أخاها فمنعته الذبح » و « الحام » ، كان الفحل إذا ركب من بني بنيه عشرة، أو ولد ولده, قيل: « حام حمى ظهره » , فلم يزَمَّ ولم يخطم ولم يركب.

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » ، فالبحيرة من الإبل، كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن, إن كان الخامس سقبًا ذبحوه فأهدوه إلى آلهتهم، وكانت أمه من عُرْض الإبل. وإن كانت رُبَعة استحيوها, وشقوا أذن أمِّها, وجزّوا وبرها, وخلوها في البطحاء, فلم تجُزْ لهم في دية, ولم يحلبوا لها لبنًا, ولم يجزّوا لها وبرًا, ولم يحملوا على ظهرها, وهي من الأنعام التي حرمت ظهورها وأما « السائبة » ، فهو الرجل يسيِّب من ماله ما شاء على وجه الشكر إن كثر ماله أو برأ من وَجع, أو ركب ناقة فأنجح, فإنه يسمي « السائبة » يرسلها فلا يعرض لها أحدٌ من العرب إلا أصابته عقوبة في الدنيا وأما « الوصيلة » , فمن الغنم, هي الشاة إذا ولدت ثلاثة أبطن أو خمسة, فكان آخر ذلك جديًا، ذبحوه وأهدوه لبيت الآلهة, وإن كانت عناقًا استحيوها, وإن كانت جديًا وعناقًا استحيوا الجدي من أجل العَناق, فإنها وصيلة وصلت أخاها وأما « الحام » ، فالفحل يضرب في الإبل عشرَ سنين ويقال: إذا ضرب ولد ولده قيل: « قد حمى ظهره » , فيتركونه لا يمسُّ ولا ينحرُ أبدًا, ولا يمنع من كلأ يريده, وهو من الأنعام التي حُرِّمت ظهورها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن الزهري, عن ابن المسيب في قوله: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » ، قال: « البحيرة » من الإبل، التي يمنح درّها للطواغيت و « السائبة » من الإبل، كانوا يسيِّبونها لطواغيتهم و « الوصيلة » ، من الإبل، كانت الناقة تبتكر بأنثى, ثم تثنى بأنثى, فيسمونها « الوصيلة » , يقولون: « وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر » , فكانوا يجدعونها لطواغيتهم أو: يذبحونها, الشك من أبي جعفر و « الحام » ، الفحل من الإبل, كان يضربُ. الضرابَ المعدودة. فإذا بلغ ذلك قالوا: « هذا حام, قد حمى ظهره » ، فترك, فسموه « الحام » قال معمر قال قتادة، إذا ضرب عشرة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة قال : « البحيرة » من الإبل، كانت الناقة إذا نُتِجت خمسة أبطن, فإن كان الخامس ذكرًا، كان للرجال دون النساء, وإن كانت أنثى، بتكوا آذانها ثم أرسلوها, فلم ينحروا لها ولدًا، ولم يشربوا لها لبنًا, ولم يركبوا لها ظهرًا وأما « السائبة » , فإنهم كانوا يسيِّبون بعض إبلهم, فلا تُمنع حوضًا أن تشرع فيه, ولا مرعًى أن ترتع فيه « والوصيلة » ، الشاة كانت إذا ولدت سبعة أبطن, فإن كان السابع ذكرًا، ذبح وأكله الرجال دون النساء, وإن كانت أنثى تركت.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سلمان, عن الضحاك: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » ، أما « البحيرة » فكانت الناقة إذا نَتَجُوها خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبًا, وإن كان رُبَعة شقُّوا أُذنها واستحيوها, وهي « بحيرة » ، وأما السَّقب فلا يأكل نساؤهم منه, وهو خالص لرجالهم, فإن ماتت الناقة أو نَتَجوها ميْتًا، فرجالهم ونساؤهم فيه سواءٌ، يأكلون منه وأما « السائبة » ، فكان يسيِّب الرجل من ماله من الأنعام, فيُهْمَل في الحمى، فلا ينتفع بظهره ولا بولده ولا بلبنه ولا بشعره ولا بصوفه وأما « الوصيلة » , فكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحُوا السابع إذا كان جديًا, وإن كان عناقًا استحيوه, وإن كان جديًا وعناقًا استحيوهما كليهما, وقالوا: « إن الجدي وصلته أخته, فحرَّمته علينا » وأما « الحامي » ، فالفحل إذا ركبوا أولاد ولده قالوا: « قد حمى هذا ظهره, وأحرزه أولاد ولده » ، فلا يركبونه, ولا يمنعونه من حِمى شجر, ولا حوض مَا شرع فيه, وإن لم يكن الحوض لصاحبه. وكانت من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء من شأنهم: لا إن ركبوا, ولا إن حملوا, ولا إن حلبوا, ولا إن نتجوا, ولا إن باعوا. ففي ذلك أنـزل الله تعالى ذكره: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة » ، إلى قوله: « وأكثرهم لا يعقلون » .

حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد, في قوله: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » ، قال: هذا شيء كان يعمل به أهل الجاهلية, وقد ذهب. قال: « البحيرة » ، كان الرجل يجدع أذني ناقته، ثم يعتقها كما يعتق جاريته وغلامه, لا تحلب ولا تركب و « السائبة » ، يسيبها بغير تجديع و « الحام » إذا نتج له سبع إناث متواليات, قد حمي ظهره, ولا يركب, ولا يعمل عليه و « الوصيلة » ، من الغنم: إذا ولدت سبع إناث متواليات، حمت لحمها أن يؤكل.

حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا عبد الله بن يوسف قال ، حدثنا الليث بن سعد قال ، حدثني ابن الهاد, عن ابن شهاب قال ، قال سعيد بن المسيب: « السائبة » التي كانت تسيَّب فلا يحمل عليها شيء و « البحيرة » ، التي يمنح دَرُّها للطواغيت فلا يحلبها أحد و « الوصيلة » ، الناقة البكر تبتكر أوّل نتاج الإبل بأنثى, ثم تثني بعد بأنثى, وكانوا يسمُّونها للطواغيت, يدعونها « الوصيلة » , أنْ وصلت أخواتها إحداهما بالأخرى « والحامي » ، فحل الإبل، يضرب العَشْر من الإبل. فإذا نقضَ ضِرابه يدعونه للطواغيت, وأعفوه من الحمل فلم يحملوا عليه شيئًا, وسموه « الحامي » .

قال أبو جعفر: وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام, فلا نعرف قومًا يعملون بها اليوم.

فإذا كان ذلك كذلك وكانَ ما كانت الجاهلية تعمل به لا يوصل إلى علمه إذ لم يكن له في الإسلام اليوم أثر, ولا في الشرك، نعرفه إلا بخبر, وكانت الأخبار عما كانوا يفعلون من ذلك مختلفة الاختلافَ الذي ذكرنا، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: أما معاني هذه الأسماء, فما بيّنا في ابتداء القول في تأويل هذه الآية، وأما كيفية عمل القوم في ذلك, فما لا علم لنا به. وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا, وغير ضائرٍ الجهلُ بذلك إذا كان المرادُ من علمه المحتاجُ إليه, موصلا إلى حقيقته, وهو أن القوم كانوا يحرِّمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله،

اتباعًا منهم خطوات الشيطان, فوبَّخهم الله تعالى ذكره بذلك, وأخبرهم أن كل ذلك حلال. فالحرام من كل شيء عندنا ما حرَّم الله تعالى ذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم, بنصٍّ أو دليل، والحلال منه ما حلله الله ورسوله كذلك.

 

القول في تأويل قوله : وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 103 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب « الذين كفروا » في هذا الموضع، والمراد بقوله: « وأكثرهم لا يعقلون » .

فقال بعضهم: المعنيّ ب « الذين كفروا » اليهود, وب « الذين لا يعقلون » ، أهل الأوثان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن سفيان, عن دواد بن أبي هند, عن محمد بن أبي موسى: « ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب » ، قال: أهل الكتاب « وأكثرهم لا يعقلون » ، قال: أهل الأوثان.

وقال آخرون: بل هم أهل ملّة واحدة, ولكن « المفترين » ، المتبوعون و « الذين لا يعقلون » ، الأتباع.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا خارجة, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي في قوله: « ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون » ، هم الأتباع وأما « الذين افتروا » , فعقلوا أنهم افتروا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن المعنيين بقوله: « ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب » ، الذين بحروا البحائر, وسيَّبوا السوائب, ووصلوا الوصائل, وحموا الحوامي، مثل عمرو بن لحي وأشكاله ممن سنّ لأهل الشرك السنن الرديئة، وغيَّر دين الله دين الحق، وأضافوا إلى الله تعالى ذكره: أنه هو الذي حرّم ما حرّموا، وأحلَّ ما أحلوا, افتراءً على الله الكذب وهم يعلمون, واختلاقًا عليه الإفك وهم يفهمون، فكذبهم الله تعالى ذكره في قيلهم ذلك, وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا, فقال تعالى ذكره: ما جعلت من بحيرة ولا سائبة, ولكن الكفار هم الذين يفعلون ذلك، ويفترون على الله الكذب.

وأن يقال، إن المعنيين بقوله: « وأكثرهم لا يعقلون » ، هم أتباع من سنّ لهم هذه السنن من جهلة المشركين, فهم لا شك أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك لهم، فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون, لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن وأخبروهم أنها من عند الله، كذبةٌ في إخبارهم، أفَكَةٌ, بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقُّون، وفي إخبارهم صادقون. وإنما معنى الكلام: وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرَّمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى ذكره كذب وباطل. وهذا القول الذي قلنا في ذلك، نظير قول الشعبي الذي ذكرنا قبلُ. ولا معنى لقول من قال: « عني بالذي كفروا أهل الكتاب » , وذلك أن النكير في ابتداء الآية من الله تعالى ذكره على مشركي العرب, فالختم بهم أولى من غيرهم, إذ لم يكن عرض في الكلام ما يُصرف من أجله عنهم إلى غيرهم.

وبنحو ذلك كان يقول قتادة:

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وأكثرهم لا يعقلون » ، يقول: تحريمُ الشيطان الذي حرّم عليهم, إنما كان من الشيطان، ولا يعقلون.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ( 104 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيِّبون السوائب؟ الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى ذكره يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنـزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله, ليتبين لكم كذبُ قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريمكم ما تحرِّمون من هذه الأشياء أجابوا من دعاهم إلى ذلك بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءَنا يعملون به, ويقولون: « نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة, وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل » . قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أوَ لو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئًا؟ يقول: لم يكونوا يعلمون أنّ ما يضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كذبٌ وفريةٌ على الله, لا حقيقة لذلك ولا صحة، لأنهم كانوا أتباع المفترين الذين ابتدءوا تحريم ذلك، افتراءً على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ذكره ما يضيفون ولا كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب, بل كانوا على ضلالة وخطأ.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فأصلحوها, واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى ذكره, وانظروا لها فيما يقرِّبها من ربها, فإنه « لا يضركم من ضَلّ » ، يقول: لا يضركم من كفر وسلك غير سبيل الحق، إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم، وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه, فحرمتم حرامه وحللتم حلاله.

ونصب قوله: « أنفسكم » بالإغراء, والعرب تغري من الصفات ب « عليك » و « عندك » ، و « دونك » ، و « إليك » .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم معناه: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم » ، إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سوار بن عبد الله قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبو الأشهب, عن الحسن: أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم » ، فقال ابن مسعود: « ليس هذا بزمانها, قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم » .

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن أبي الأشهب, عن الحسن قال : ذكر عند ابن مسعود « يا أيها الذين آمنوا » ، ثم ذكر نحوه.

حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن الحسن قال : قال رجل لابن مسعود: ألم يقل الله: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم » ؟ قال: ليس هذا بزمانها, قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدَّت عليكم فعليكم أنفسكم.

حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا شبابة بن سوار قال ، حدثنا الربيع بن صبيح, عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه, فإن الله تعالى ذكره يقول: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألا فليبلِّغ الشاهد الغائبَ » ، فكنَّا نحن الشهودَ وأنتم الغَيَب, ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم.

حدثنا أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال ، حدثنا قتادة, عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة, فإذا قومٌ من المسلمين جلوس, فقرأ أحدهم هذه الآية: « عليكم أنفسكم » ، فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم.

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عمرو بن عاصم قال ، حدثنا المعتمر, عن أبيه, عن قتادة, عن أبي مازن, بنحوه.

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عوف, عن سوّار بن شبيب قال ، كنت عند ابن عمر, إذ أتاه رجل جليدٌ في العين, شديد اللسان, فقال: يا أبا عبد الرحمن، نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه, وكلهم مجتهد لا يألو, وكلهم بغيضٌ إليه أن يأتي دناءةً, وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك! فقال رجل من القوم: وأيَّ دناءة تريد، أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك! قال: فقال الرجل: إني لستُ إيّاك أسأل, أنا أسأل الشيخ! فأعاد على عبد الله الحديث, فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى لا أبا لك، إني سآمرك أن تذهب أن تقتلهم! عظهم وانههم, فإن عصوك فعليك بنفسك, فإن الله تعالى يقول: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، قال: إن هذا ليس بزمانها, إنها اليوم مقبولة, ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانٌ تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال: فلا يقبل منكم فحينئذ: عليكم أنفسكم, لا يضركم من ضلّ « . »

حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة, عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة، في حلقة فيهم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم, فإذا فيهم شيخ يُسْنِدون إليه, فقرأ رجل: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، فقال الشيخ: إنما تأويلها آخرَ الزمان.

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال ، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد من بني الحُدَّان، قال : انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة, فقعدت إلى حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقرأ رجل من القوم هذه الآية « لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، قال فقالَ رجلٌ من أسنِّ القوم: دَعْ هذه الآية, فإنما تأويلها في آخر الزمان.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا ابن فضالة, عن معاوية بن صالح, عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنّي لأصغر القوم, فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ؟ فأقبلوا عليَّ بلسان واحد وقالوا: أتنتزِع بآية من القرآن لا تعرفها، ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت. ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: « إنك غلام حدَثُ السن, وإنك نـزعت بآية لا تدري ما هي, وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحًّا مطاعًا, وهوًى متبعًا وإعجابَ كل ذي رأي برأيه, فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. »

حدثنا هناد قال ، حدثنا ليث بن هارون قال ، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن عبد الله بن مسعود في قوله: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون » ، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا, فكان بين رجلين ما يكون بين الناس, حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه, فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرُهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك, فإن الله تعالى يقول: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ! قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مَهْ، لَمَّا يجئ تأويل هذه بعد! إن القرآن أنـزل حيث أنـزل، ومنه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن ينـزلن, ومنه ما وقع تأويلهن على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم, ومنه آيٌ وَقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بيسير, ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم, ومنه آي يقع تأويلهنّ عند الساعة على ما ذكر من الساعة, ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تُلبَسوا شيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض, فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض, فامرؤ ونفسه, فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن ابن مسعود: أنه كان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس, حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه, ثم ذكر نحوه.

حدثني أحمد بن المقدام قال ، حدثنا حرمي......... قال : سمعت الحسن يقول: تأوّل بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، فقال بعض أصحابه: دعوا هذه الآية، فليست لكم.

حدثني إسماعيل بن إسرائيل اللآل الرّملي قال ، حدثنا أيوب بن سويد قال ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم, عن عمرو بن جارية اللخمي, عن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم » ، فقال: لقد سألت عنها خبيرًا, سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبا ثعلبة، ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر, فإذا رأيت دنيا مؤثَرة، وشحًّا مطاعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه, فعليك نفسك! إنّ من بعدكم أيام الصبر, للمتمسك يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عاملا! قالوا: يا رسول الله, كأجر خمسين عاملا منهم؟ قال: لا كأجر خمسين عاملا منكم.

حدثنا علي بن سهل قال ، أخبرنا الوليد بن مسلم, عن ابن المبارك وغيره, عن عتبة بن أبي حكيم, [ عن عمرو بن جارية اللخمي ] ، عن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني: كيف نَصنع بهذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ؟ فقال أبو ثعلبة: سألت عنها خبيرًا, سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر, حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه, فعليك بِخُوَيصة نفسك, وذَرْ عوامَّهم، فإن وراءكم أيامًا أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم.

وقال آخرون: معنى ذلك أنّ العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضره من ضَلَّ بعده وهلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَ » ، يقول: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام, فلا يضره من ضل بعدُ، إذا عمل بما أمرته به.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، يقول: أطيعوا أمري, واحفظوا وصيَّتي.

حدثنا هناد قال ، حدثنا ليث بن هارون قال ، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي جعفر الرازي, عن صفوان بن الجون قال : دخل عليه شابّ من أصحاب الأهواء, فذكر شيئًا من أمره, فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي خصَّ بها أولياءه؟ « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل » ، الآية.

حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال ، حدثنا أبو المطرف المخزومي قال ، حدثنا جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال : « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، ما لم يكن سيف أو سوط.

حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة قال ، تلا الحسن هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها, ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكرَه عمله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم » ، فاعملوا بطاعة الله « لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، فأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم, عن عنبسة, عن سعد البقال, عن سعيد بن المسيب: « لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر, لا يضرك من ضل إذا اهتديت.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن أبي العميس, عن أبي البختري, عن حذيفة: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، قال: إذا أمرتم ونهيتم.

حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن ابن أبي خالد, عن قيس بن أبي حازم قال ، قال أبو بكر: تقرءون هذه الآية: « لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، وإن الناس إذا رأوا الظالم قال ابن وكيع فلم يأخذوا على يديه, أوشك أن يعمّهم الله بعقابه.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير وابن فضيل, عن بيان, عن قيس قال ، قال أبو بكر: إنكم تقرءون هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه, يعمُّهم الله بعقابه.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن إسماعيل, عن قيس, عن أبي بكر, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه.

حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، يقول: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قال أبو بكر بن أبي قحافة: يا أيها الناس لا تغترُّوا بقول الله: « عليكم أنفسكم » ، فيقول أحدكم: عليَّ نفسي، والله لتأمرن بالمعروف وتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليَستعملن عليكم شراركم، فليسومنّكم سوء العذاب, ثم ليدعون الله خياركم، فلا يستجيب لهم.

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا بيان, عن قيس بن أبي حازم قال ، قال أبو بكر وهو على المنبر: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها: « لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه, عَمَّهم الله بعقابه.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثني عيسى بن المسيب البجلي قال ، حدثنا قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى الناسُ المنكر فلم يغيِّروه، والظالم فلم يأخذوا على يديه, فيوشك أن يعمهم الله منه بعقاب.

حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا سعيد بن سالم قال ، حدثنا منصور بن دينار, عن عبد الملك بن ميسرة, عن قيس بن أبي حازم قال : صَعد أبو بكر المنبرَ منبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدُّونها رُخصة، والله ما أنـزل الله في كتابه أشدَّ منها: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر, أو ليعمنكم الله منه بعقاب.

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا إسحاق بن إدريس قال ، حدثنا سعيد بن زيد قال ، حدثنا مجالد بن سعيد, عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية ولا تدرون ما هي؟ : « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيِّروه، عمّهم الله بعقاب.

وقال آخرون: بل معنى هذه الآية: لا يضركم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في قوله: « لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، قال: يعني من ضلّ من أهل الكتاب.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في هذه الآية: « لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، قال: أنـزلت في أهل الكتاب.

وقال آخرون: عنى بذلك كل من ضل عن دين الله الحق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَل إذا اهتديتم » ، قال: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفَّهت آباءك وضللتهم, وفعلت وفعلت, وجعلت آباءك كذا وكذا! كان ينبغي لك أن تنصرهم، وتفعل!

فقال الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية، ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها, وهو: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم » ، الزموا العملَ بطاعة الله وبما أمركم به, وانتهوا عما نهاكم الله عنه « لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله, وأدَّيتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه, والأخذ على يديه إذا رام ظلمًا لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النـزوع عن ذلك, ولا ضير عليكم في تماديه في غيِّه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب, لأن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى. ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان للناس تركُ ذلك, لم يكن للأمر به معنًى، إلا في الحال التي رخَّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ ذلك, وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة، فيكون مرخصًا له تركه، إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه.

وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى, فبيِّنٌ أنه قد دخل في معنى قوله: « إذا اهتديتم » ، ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب من أن ذلك: « إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر » , ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله : إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 105 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده: اعملوا، أيها المؤمنون، بما أمرتكم به, وانتهوا عما نهيتكم عنه, ومروا أهل الزَّيغ والضلال وما حاد عن سبيلي بالمعروف, وانهوهم عن المنكر. فإن قبلوا، فلهم ولكم, وإن تمادَوْا في غيهم وضلالهم، فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الآخرة ومصيرهم, وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشر, فأخبر هناك كلَّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا، ثم أجازيه على عمله الذي قَدِم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه, فإنه لا يخفى عليَّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: « يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم » ، يقول: ليشهد بينكم « إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية » ، يقول: وقت الوصية « اثنان ذوا عدل منكم » ، يقول: ذوا رشد وعقل وحِجًى من المسلمين، كما:-

حدثنا محمد بن بشار وعبيد الله بن يوسف الجبيري قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب في قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ سورة الطلاق: 2 ] ، قال: ذَوَي عقل.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « ذوا عدل منكم » .

فقال بعضهم: عنى به: من أهل ملتكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب قال : شاهدان « ذوا عدل منكم » ، من المسلمين.

حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم » ، من المسلمين.

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم » ، قال: اثنان من أهل دينكم.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : سألته, عن قول الله تعالى ذكره: « اثنان ذوا عدل منكم » ، قال: من الملة.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, بمثله إلا أنه قال فيه: من أهل الملة.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن هشام, عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن هذه الآية: « اثنان ذوا عدل منكم » ، قال: من أهل الملة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن ابن عون, عن ابن سيرين, عن عبيدة, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين, عن زائدة, عن هشام, عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة, فذكر مثله.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي, عن حماد, عن ابن أبي نجيح وقال، حدثنا مالك بن إسماعيل, عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح عن مجاهد, مثله.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « ذوا عدل منكم » ، قال: ذوا عدل من أهل الإسلام.

حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: « ذوا عدل منكم » ، قال: من المسلمين.

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال : كان سعيد بن المسيب يقول: « اثنان ذوا عدل منكم » ، أي: من أهل الإسلام.

وقال آخرون: عنى بذلك: ذوا عدل من حَيِّ الموصِي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما.

واختلفوا في صفة « الاثنين » اللذين ذكرهما الله في هذه الآية، ما هي, وما هما؟

فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي.

وقال آخرون: هما وصيان.

وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان. قولَه: « شهادة بينكم » ، ليشهد شاهدان ذوا عدل منكم على وصيتكم.

وتأويل الذين قالوا: « هما وصيان لا شاهدان » قولَه: « شهادة بينكم » ، بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريضُ, من قولك: « شهدت وصية فلان » , بمعنى حضرته.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله: « اثنان ذوا عدل منكم » ، تأويلُ من تأوّله بمعنى أنهما من أهل الملة، دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية, لأن الله تعالى ذكره، عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم » فغير جائز أن يصرف ما عمَّه الله تعالى ذكره إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون العائدُ من ذكره على العموم, كما كان ذكرهم ابتداءً على العموم.

وأولى المعنيين بقوله: « شهادة بينكم » اليمين, لا « الشهادة » التي يقوم بها مَنْ عنده شهادة لغيره، لمن هي عنده، على مَن هي عليه عند الحكام. لأنا لا نعلم لله تعالى ذكره حكمًا يجب فيه على الشاهد اليمين, فيكون جائزًا صرفُ « الشهادة » في هذا الموضع، إلى « الشهادة » التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة.

وفي حكم الآية في هذه، اليمينَ على ذوي العدل وعلى من قام مقامهم، باليمين بقوله « تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله » أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا في ذلك، من أن « الشهادة » فيه: الأيمان، دون الشهادة التي يقضَى بها للمشهود له على المشهود عليه وفسادِ ما خالفه.

فإن قال قائل: فهل وجدتَ في حكم الله تعالى ذكره يمينًا تجب على المدَّعي، فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟

فإن قلتَ: « لا » , تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت, لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله: « فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما » ، هما المدعيين.

وإن قلت: « بلى » , قيل لك: وفي أيّ حكم لله تعالى ذكره وجدتَ ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني. وذلك في حكم الرجل يدَّعي قِبَل رجل مالا فيقرّ به المدّعَى عليه قِبَله ذلك، ويدّعي قضاءه. فيكون القول قول ربّ الدين

والرجل يعرّف في يد الرجل السلعةَ, فيزعم المعرّف في يده أنه اشتراها من المدّعِي، أو أنّ المدعي وهبها له, وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجبَ الله تعالى ذكره في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الخائنين فيما خانا فيه.

قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في الرافع قولَه: « شهادة بينكم » , وقولَه: « اثنان ذوا عدل منكم » .

فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: « شهادة بينكم » ، شهادة اثنين ذوي عدل, ثم ألقيت « الشهادة » ، وأقيم « الاثنان » مقامها, فارتفعا بما كانت « الشهادة » به مرتفعة لو جعلت في الكلام. قال: وذلك في حذف ما حذف منه، وإقامة ما أقيم مقام المحذوف نظيرُ قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ سورة يوسف: 82 ] ، وإنما يريد: واسأل أهل القرية, وانتصبت « القرية » بانتصاب « الأهل » ، وقامت مقامه, ثم عطف قوله: « أو آخران » على « الاثنين » .

وقال بعض نحويي الكوفة: رفع « الاثنين » ب « الشهادة » ، أي: ليشهدكم اثنان من المسلمين, أو آخران من غيركم.

وقال آخر منهم: رفعت « الشهادة » ، ب « إذا حضر » . وقال: إنما رفعت بذلك، لأنه قال: « إذا حضر » فجعلها « شهادة » محذوفة مستأنفة, ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق, لأنه قال تعالى ذكره: « أو آخران من غيركم » , وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال, وليست مما يثبت.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: « الشهادة » مرفوعة بقوله: « إذا حضر » ، لأن قوله: « إذا حضر » ، بمعنى: عند حضور أحدكم الموت, و « الاثنان » مرفوع بالمعنى المتوهَّم, وهو: أن يشهد اثنان فاكتفي من قيل: « أن يشهد » ، بما قد جرى من ذكر « الشهادة » في قوله: « شهادة بينكم » .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن « الشهادة » مصدر في هذا الموضع, و « الاثنان » اسم, والاسم لا يكون مصدرًا. غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال. فالأمر وإن كان كذلك, فصرْفُ كل ذلك إلى أصح وُجوهه ما وجدنا إليه سبيلا أولى بنا من صرفه إلى أضعفها.

 

القول في تأويل قوله : أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت، عدلان من المسلمين, أو آخران من غير المسلمين.

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « أو آخران من غيركم » .

فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملتكم، نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حميد بن مسعدة وبشر بن معاذ قالا حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب: « أو آخران من غيركم » ، من أهل الكتاب.

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت قتادة يحدث, عن سعيد بن المسيب: « أو آخران من غيركم » ، من أهل الكتاب.

حدثني أبو حفص الجبيري، عبيد الله بن يوسف قال ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله.

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد, مثله.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسليمان التيمي, عن سعيد بن المسيب, أنهما قالا في قوله: « أو آخران من غيركم » ، قالا من غير أهل ملتكم.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة قال ، حدثني من سمع سعيد بن جبير يقول, مثل ذلك.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا التيمي, عن أبي مجلز قال : من غير أهل ملتكم.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم قال : إن كان قُرْبَه أحدٌ من المسلمين أشهدهم, وإلا أشهد رجلين من المشركين.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو قتيبة قال ، حدثنا هشيم, عن المغيرة, عن إبراهيم وسعيد بن جبير في قوله: « أو آخران من غيركم » ، قالا من غير أهل ملتكم.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد: « أو آخران من غيركم » ، قال: من أهل الكتاب.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا محمد بن سواء قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله.

حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله.

حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم » ، من المسلمين, فإن لم تجدوا من المسلمين, فمن غير المسلمين.

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود, عن عامر, عن شريح في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم » ، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته, فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا, فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما, أجيزت شهادة المسلمين, وأبطلت شهادة الآخرَيْن.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح: أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية, ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفَر.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصرانيّ إلا في سفر, ولا تجوز في سفر إلا في وصية.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح, نحوه.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي قال ، حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم قال : كتب هشام بن هُبَيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين, فكتب: « لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية, ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرًا » .

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن أشهب, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : سألته عن قول الله تعالى ذكره: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير الملة.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, بمثله.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن هشام, عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة, عن ذلك فقال: من غير أهل الملة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : من غير أهل الصلاة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : من غير أهل دينكم.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين, عن زائدة, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : من غير أهل الملة.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا أبو حرّة, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير أهل ملتكم.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال، حدثنا هشام بن محمد قال ، سألت سعيد بن جبير عن [ قول الله: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير أهل ملتكم ] .

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل, عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال : من غير أهل ملتكم.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « أو آخران من غيركم » ، من غير أهل الإسلام.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، قال أبو إسحاق: « أو آخران من غيركم » ، قال: من اليهود والنصارى قال قال شريح: لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصراني إلا في وصية, ولا تجوز في وصية إلا في سفر.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا, عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقَا هذه. قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته, فأشهده رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة, فأتيا الأشعريّ فأخبراه, وقدِما بتركته ووصيته, فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأحلفهما وأمضى شهادتهما.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة الأزرق, عن الشعبي: أن أبا موسى قضى بها بدَقوقَا.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا عثمان بن الهيثم قال ، حدثنا عوف, عن محمد: أنه كان يقول في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم » ، شاهدان من المسلمين وغير المسلمين.

حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: « أو آحران من غيركم » ، من غير أهل الإسلام.

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو حفص, عن ليث, عن مجاهد قال : من غير أهل الإسلام.

حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الله بن عياش قال : قال زيد بن أسلم في هذه الآية: « شهادة بينكم » الآية كلها، قال: كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام, وذلك في أوّل الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار, إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة, وكان الناس يتوارثون بالوصية, ثم نُسِخت الوصية وفرضت الفرائض, وعمل المسلمون بها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حَيِّكم وعشيرتكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم قال ، حدثنا عوف, عن الحسن في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم » ، قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم.

حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري قال : مضت السُّنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر, إنما هي في المسلمين.

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال : كان الحسن يقول: « اثنان ذوا عدل منكم » ، أي: من عشيرته « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير عشيرته.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن ثابت بن زيد, عن عاصم, عن عكرمة: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير أهل حيِّكم.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي, عن ثابت بن زيد, عن عاصم, عن عكرمة: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير حيكم.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا ثابت بن زيد, عن عاصم الأحول, عن عكرمة في قول الله تعالى ذكره: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير أهل حيه يعني: من المسلمين.

حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك, عن الحسن: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير عشيرتك, ومن غير قومك، كلهم من المسلمين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين, عن عبيدة قوله: « أو آخران من غيركم » ، قال: مسلمين من غير حيكم.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل قال: سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى ذكره: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت » ، إلى قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ، قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله، من غير أهل المرء الموصي، أهما من المسلمين، أم هما من أهل الكتاب؟ وأرأيت الآخرين اللذين يقومان مقامهما, أتراهما من [ غير ] أهل المرء الموصي، أم هما من غير المسلمين؟ قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أئمة العامة، سنة أذكرها, وقد كنا نتذاكرها أناسًا من علمائنا أحيانًا, فلا يذكرون فيها سُنة معلومة، ولا قضاءً من إمام عادل, ولكنه يختلف فيها رأيهم. وكان أعجبهم فيها رأيًا إلينا، الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين, يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه، ويغيب عنه بعضهم, ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى، فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضرُوا من وصية. فإن سلّموا جازت وصيته، وإن ارتابوا أن يكونوا بدَّلوا قولَ الميت، وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء، حَلَف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة، وهي صلاة المسلمين, فيقسمان بالله: « إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين » . فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما، ما لم يعثر على أنهما [ استحقا إثمًا في شيء من ذلك, فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا في شيء من ذلك ] ، قام آخران مقامهما من أهل الميراث، من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوَّلان المستحلفان أول مرة, فيقسمان بالله لشهادتنا [ أحق من شهادتكما ] ، على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ، الآية.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب، تأويل من تأوّله: أو آخران من غير أهل الإسلام. وذلك أن الله تعالى عرَّف عباده المؤمنين عند الوصية، شهادة اثنين من عدول المؤمنين، أو اثنين من غير المؤمنين. ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم، أو رجلين من غير عشيرتكم, وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين.

فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام, فغير جائز صرف معنى كلام الله تعالى ذكره إلا إلى أحسن وجوهه.

وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى: « ذوا عدل منكم » ، إنما هو من أهل دينكم وملتكم، بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه.

وإذ صح ذلك بما دللنا عليه, فمعلوم أن معنى قوله: « أو آخران من غيركم » ، إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك, فسواء كان الآخران اللذان من غير أهل ديننا، يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدَيْ وثَن، أو على أي دين كانا. لأنّ الله تعالى ذكره لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دونَ ملة، بعد أن يكونا من [ غير ] أهل الإسلام.

 

القول في تأويل قوله : إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ وقتَ الوصية, أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم، أيها المؤمنون، أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم, إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض.

وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر: « الضارب في الأرض » .

« فأصابتكم مصيبة الموت » ، يقول: فنـزل بكم الموت.

ووجَّه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير، وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم إن وجدا, فإن لم يوجدا فآخران من غيركم وإنما فعل ذلك من فعله, لأنه وجَّه معنى « الشهادة » في قوله: « شهادة بينكم » ، إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيامَ صاحبها عند الحاكم, أو يُبطلها. * ذكر بعض من تأول ذلك كذلك:

حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: « ذوا عدل منكم » ، من المسلمين. فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم » ، قال: اثنان من أهل دينكم « أو آخران من غيركم » ، من أهل الكتاب، إذا كان ببلادٍ لا يجد غيرهم.

حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود, عن عامر, عن شريح في هذه الآية: « شهادة بينكم » إلى قوله: « أو آخران من غيركم » ، قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته, فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا, فشهادتهم جائزة.

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم » ، قال: هذا في الحضر « أو آخران من غيركم » ، في السفر « إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت » ، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين, فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس, فيوصي إليهما.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » الآية ، قال : إذا حضر الرجلَ الوفاةُ في سفر, فيشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد رجلين من المسلمين، فرجلين من أهل الكتاب.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » إلى قوله: « ذوا عدل منكم » ، فهذا لمن مات وعنده المسلمون, فأمره الله أن يشهد على وصيته عَدْلين من المسلمين. ثم قال: « أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت » ، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين, فأمره الله تعالى ذكره بشهادة رجلين من غير المسلمين.

ووجَّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير, وقالوا: إنما عنى بالشهادة في هذا الموضع، الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما، وائتمانَ الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدِّياه إلى ورثته بعد وفاته، إن ارتيب بهما. قالوا: وقد يتَّمِن الرجلُ على ماله من رآه موضعًا للأمانة من مؤمن وكافر في السفر والحضر. وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى, وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد.

 

القول في تأويل قوله : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت, إن شهد اثنان ذوا عدل منكم, أو كان أوصى إليهما أو آخران من غيركم إن كنتم في سفر فحضرتكم المنيّة، فأوصيتم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم. فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فأصابتكم مصيبة الموت, فأدَّيا إلى ورثتكم ما اتَّمنتموهما وادَّعوا عليهما خيانة خاناها مما اتُّمنا عليه, فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف, وهو: « فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم وصيتكم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال » , فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة « فيقسمان بالله إن ارتبتم » ، يقول: فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اُّتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها أو تبديلها و « الارتياب » ، هو الاتهام « لا نشتري به ثمنًا » ، يقول: يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنًا, يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه، وعلى مال نذهب به، أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وَليُّهم وميِّتهم.

و « الهاء » في قوله: « به » ، من ذكر « الله » , والمعنيُّ به الحلف والقسم، ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به, فعُرِف معنى الكلام, اكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف.

« ولو كان ذا قربى » ، يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضًا فنكذب فيها لأحد, ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت » ، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين, فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنًا قليلا.

وقوله: « تحبسونهما من بعد الصلاة » ، من صلاة الآخرين. ومعنى الكلام: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة، إن ارتبتم بهما, فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى.

واختلفوا في « الصلاة » التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فقال: « تحبسونهما من بعد الصلاة » .

فقال بعضهم: هي صلاة العصر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا, فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته, فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة, فأتيا الأشعري فأخبراه, وقدما بتركته ووصيته, فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فأحلفهما بعد العصر: بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما، ولا غيَّرا, وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما.

حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: « أو آخران من غيركم » ، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب, فإنهما يحلفان بعد العصر.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, بمثله.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » إلى « فأصابتكم مصيبة الموت » ، فهذا رجل مات بغُرْبة من الأرض، وترك تركته، وأوصى بوصيته، وشهد على وصيته رجلان. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر. وكان يقال: عندها تصير الأيمان.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسعيد بن جبير: أنهما قالا في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » ، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر, فليشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب. فإذا قدما بتركته, فإن صدّقهما الورثة قُبِل قولهما, وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كذبنا ولا كتمنا ولا خُنَّا ولا غيَّرنا.

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن القطان قال ، حدثنا زكريا قال ، حدثنا عامر: أن رجلا توفي بدَقُوقا, فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها. فأحلفهما أبو موسى دُبُر صلاة العصر في مسجد الكوفة: بالله ما كتما ولا غيرا, وأن هذه الوصية. فأجازها.

وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » إلى قوله: « ذوا عدل منكم » ، قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما لَهُ وعليه، قال : هذا في الحضر « أو آخران من غيركم » في السفر « إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت » ، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين, فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس, فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه. فيقبلان به. فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مالَ صاحبهم، تركوا الرجلين. وإن ارتابوا، رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله: « تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم » . قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتُهِى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره, ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت، وخوَّنوهما. فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر, فقلت له: « إنهما لا يباليان صلاة العصر, ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما, فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, ويحلفان بالله: لا نشتري ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنّا إذًا لمن الآثمين, أنّ صاحبهم لبهذا أوصى, وأنّ هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما, ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك, فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها. »

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا, قولُ من قال: « تحبسونهما من بعد صلاة العصر » . لأن الله تعالى عرَّف « الصلاة » في هذا الموضع بإدخال « الألف واللام » فيها, ولا تدخلهما العرب إلا في معروف, إما في جنس, أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك, وكانت « الصلاة » في هذا الموضع مجمعًا على أنه لم يُعْنَ بها جميع الصلوات, لم يجز أن يكون مرادًا بها صلاة المستحلَف من اليهود والنصارى, لأن لهم صلوات ليست واحدة, فيكون معلومًا أنها المعنيَّة بذلك. فإذْ كان ذلك كذلك, صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك, وكان النبي صلى الله عليه وسلم صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله: « تحبسونهما من بعد الصلاة » ، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت, وذلك لقربه من غروب الشمس.

وكان ابن زيد يقول في قوله: « لا نشتري به ثمنًا » ، ما:-

حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « لا نشتري به ثمنًا » ، قال: نأخذ به رشوة.

 

القول في تأويل قوله : وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ( 106 )

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( ولا نكتم شهادة الله ) ، بإضافة « الشهادة » إلى « الله » ، وخفض اسم الله تعالى يعني: لا نكتم شهادة لله عندنا.

وذكر عن الشعبي أنه كان يقرؤه كالذي:-

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن ابن عون, عن عامر: أنه كان يقرأ: ( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) بقطع « الألف » ، وخفض اسم الله هكذا حدثنا به ابن وكيع.

وكأن الشعبي وجَّهَ معنى الكلام إلى: أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا، ولا نكتم شهادةً عندنا. ثم ابتدأ يمينًا باستفهام: بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنًا أو كتما شهادته عندهما، لمن الآثمين.

وقد روي عن الشعبي في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية, وذلك ما:-

حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا عباد بن عباد, عن ابن عون, عن الشعبي: أنه قرأ: ( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) قال أحمد: قال أبو عبيد: تنوّن « شهادة » ويخفض « الله » على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع « الألف » على الاستفهام.

قال أبو جعفر: وحفظي أنا لقراءة الشعبي بترك الاستفهام.

وقرأها بعضهم: ( ولا نكتم شهادة الله ) ، بتنوين « الشهادة » ، ونصب اسم « الله » بمعنى: ولا نكتم الله شهادةً عندنا.

قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب, قراءة من قرأ: ( ولا نكتم شهادة الله ) ، بإضافة « الشهادة » إلى اسم « الله » ، وخفض اسم « الله » لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا تتناكر صحَّتَها الأمة.

وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله، وإن كان بعيدًا.

حدثني بذلك يونس قال ، أخبرنا ابن زيد، عنه.

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن عُثِر » ، فإن اطُّلع منهما أو ظهر.

وأصل « العثر » ، الوقوع على الشيء والسقوط عليه, ومن ذلك قولهم: « عثرت إصبع فلان بكذا » ، إذا صدمته وأصابته ووقعت عليه، ومنه قول الأعشي ميمون بن قيس:

بِــذَاتِ لَـوْثٍ عَفَرْنَـاةٍ إذَا عَـثَرَتْ فَـالتَّعْسُ أَدْنَـى لَهَـا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا

يعني بقوله: « عثرت » ، أصاب منسِمُ خُفِّها حجرًا أو غيرَه. ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شيء كان عنه خفيًّا, كقولهم: ( عَثَرتْ على الغَزْل بأَخَرة* فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةَ ) , بمعنى: وقعت.

وأما قوله: « على أنهما استحقا إثمًا » ، فإنه يقول تعالى ذكره: فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنًا ولو كان ذا قربى, ولا نكتم شهادة الله « على أنهما استحقا إثمًا » , يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثمًا, وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خُنّا ولا بدَّلنا ولا غيَّرنا. فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئًا, أو غيرا وصيته, أو بدّلا فأثما بذلك من حلفهما بربهما « فآخران يقومان مقامهما » ، يقول، يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت، الأوليان الموصَى إليهما.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب, فإنهما يحلفان بعد العصر. فإذا اطُّلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئًا, حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا, ثم استحقوا.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, بمثله.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، من غير المسلمين « تحبسونهما من بعد الصلاة » , فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما, قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله: « إن شهادة الكافرين باطلة, وإنا لم نعتد » . فذلك قوله: « فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا » ، يقول: إن اطلع على أنّ الكافرَيْن كذبا « فآخران يقومان مقامهما » ، يقول: من الأولياء, فحلفا بالله: « إن شهادة الكافرين باطلة, وإنا لم نعتد » ، فتردّ شهادة الكافرين, وتجوز شهادة الأولياء.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا » ، أي: اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما.

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حَكَم اللهُ تعالى ذكره على الشاهدين بالأيمان فنقلها إلى الآخرين، بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثمًا.

فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين، إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى بغير الذي يجوز في حكم الإسلام. وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله, أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إلى قوله: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، من أهل الإسلام أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، من غير أهل الإسلام إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ إلى: « فيقسمان بالله » ، يقول: فيحلفان بالله بعد الصلاة, فإن حلفا على شيء يخالف ما أنـزل الله تعالى ذكره من الفريضة, يعني اللذين ليسا من أهل الإسلام « فآخران يقومان مقامهما » ، من أولياء الميت, فيحلفان بالله: « ما كان صاحبنا ليوصي بهذا » , أو: « إنهما لكاذبان, ولشهادتنا أحق من شهادتهما » .

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السديّ قال : « يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, يحلفان بالله: لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين » ، إن صاحبكم لبهذا أوصى, وإنّ هذه لتركته: فإذا شهدا, وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا، قال لأولياء الرجل: اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما, فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة، أو أحدًا يطعُن عليهما، رددنا شهادتهما. فينطلق الأولياء فيسألون, فإن وجدوا أحدًا يطعُن عليهما، أو هما غير مرضيين عندهم, أو اطُّلع على أنهما خانا شيئًا من المال وجدُوه عندهما, أقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام، وحلفوا بالله: « لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليها، أحق من شهادتهما بما شهدا, وما اعتدينا » . فذلك قوله: « فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان » .

وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين, لأنهما ادَّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك، إذا ارتابوا بدعواهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: « تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله » ، قال: زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا « فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا » . أي بدعواهما لأنفسهما « فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان » ، أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا, أنّ الشاهدين ألزما اليمينَ في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله, ودعواهم قبلهما خيانةَ مالٍ معلوم المبلغ, ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما, وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما, فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما، أو على أحدهما، إنما صحح دعواه إذا حُقِّق حقه أو: الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادَّعى عليهما الوارث أو بجميعه, ثم دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة, ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بيِّنة, فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت.

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة, لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكمًا يجب فيه اليمين على الشهود، ارتيب بشهادتهما أو لم يُرْتَبْ بها, فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرًا لذلك ولا - إذا لم نجد ذلك كذلك- صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بإجماع من الأمة. لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى ذكره, فيكون أصلا مسلمًا. والقول إذا خرج من أن يكون أصلا أو نظيرًا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة, كان واضحًا فسادُه.

وإذا فسد هذا القول بما ذكرنا, فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله، أفسد من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أنّ من حكم الله تعالى ذكره أن مدّعيًا لو ادّعى في مال ميت وصية، أنّ القول قولُ ورثة المدعي في ماله الوصية مع أيمانهم, دون قول مدعي ذلك مع يمينه, وذلك إذا لم يكن للمدعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما, وإنما نُقِل الأيمانُ عنهم إلى أولياء الميت, إذا عثر على أن الشهود استحقوا إثمًا في أيمانهم. فمعلوم بذلك فساد قول من قال: « ألزم اليمينَ الشهودُ، لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت من ماله » .

على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبارُ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى به حين نـزلت هذه الآية، بين الذين نـزلت فيهم وبسببهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم, عن يحيى بن أبي زائدة, عن محمد بن أبي القاسم, عن عبد الملك بن سعيد بن جبير, عن أبيه, عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بدَّاء, فمات السَّهمي بأرض ليس فيها مسلم. فلما قدِما بتركته, فقدوا جامًا من فضة مخوَّصًا بالذهب, فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وُجِد الجام بمكة, فقالوا: اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بدّاء! فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: « لشهادتنا أحق من شهادتهما » , وأنّ الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » .

حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني قال ، حدثنا محمد بن سلمة الحراني قال ، حدثنا محمد بن إسحاق, عن أبي النضر, عن باذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب, عن ابن عباس, عن تميم الدرايّ في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت » ، قال: برئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بدّاء وكانا نصرانيّين يختلفان إلى الشأم قبل الإسلام. فأتيا الشأم لتجارتهما, وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بريل بن أبي مريم بتجارة, ومعه جامُ فضّة يريد به الملك, وهو عُظم تجارته, فمرض, فأوصى إليهما، وأمرهما أن يُبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجامَ فبعناه بألف درهم، فقسمناه أنا وعديّ بن بدّاء, [ فلما قدمنا إلى أهله، دفعنا إليهم ما كان معنا, وفقدوا الجام، فسألوا عنه ] ، فقلنا: ما ترك غيرَ هذا, وما دفع إلينا غيره: قال تميم: فلما أسلمتُ بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، تأثَّمت من ذلك, فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر, وأدّيت إليهم خمسمئة درهم, وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها! فوثبوا إليه، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألهم البينة، فلم يجدوا. فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه, فحلف, فأنـزل الله تعالى ذكره: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » إلى قوله: « أن ترد أيمان بعد أيمانهم » ، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا, فنـزعتُ الخمسمئة من عدي بن بدَّاء.

حدثنا القاسم، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة وابن سيرين وغيره قال، وثنا الحجاجُ, عن ابن جريج, عن عكرمة دخل حديث بعضهم في بعض: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » الآية، قال : كان عدي وتميم الداري، وهما من لَخْم ، نصرانيَّان، يتَّجران إلى مكة في الجاهلية. فلما هاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حوَّلا متجرهما إلى المدينة, فقدم ابن أبي مارية، مولى عمرو بن العاص المدينة, وهو يريد الشأم تاجرًا، فخرجوا جميعًا, حتى إذا كانوا ببعض الطريق، مرض ابن أبي مارية, فكتب وصيَّته بيده تم دسَّها في متاعه, ثم أوصى إليهما. فلما مات فتحا متاعه, فأخذا ما أرادا، ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا, ففتح أهله متاعه, فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به, وفقدوا شيئًا، فسألوهما عنه, فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا. قال لهما أهله: فباع شيئًا أو ابتاعه؟ قالا لا! قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئًا؟ قالا لا! قالوا: فهل تَجَر تجارة؟ قالا لا! قالوا: فإنا قد فقدنا بعضَه! فاتُّهما, فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت » إلى قوله: « إنا إذا لمن الآثمين » . قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دُبُر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو, ما قبضنا له غيرَ هذا، ولا كتمنا « . قال: فمكثنا ما شاء الله أن يمكثَا, ثم ظُهِرَ معهما على إناء من فضةٍ منقوش مموَّه بذهب, فقال، أهله: هذا من متاعه؟ قالا نعم, ولكنا اشترينا منه، ونسينا أن نذكره حين حلفنا, فكرهنا أن نكذِّب أنفسنا! فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنـزلت الآية الأخرى: » فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان « ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيَّبا ويستحقَّانه. ثم إنّ تميمًا الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم, وكان يقول: صدق الله ورسوله: أنا أخذت الإناء! »

حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد, في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، الآية كلها. قال : هذا شيء [ كان ] حين لم يكن الإسلام إلا بالمدينة, وكانت الأرض كلها كفرًا, فقال الله تعالى ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، من المسلمين أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، من غير أهل الإسلام إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ، قال: كان الرجل يخرج مسافرًا، والعرب أهلُ كفر, فعسى أن يموت في سفره، فيُسند وصيته إلى رجلين منهم فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ ، في أمرهما. إذا قال الورثة: كان مع صاحبنا كذا وكذا, فيقسمان بالله: ما كان معه إلا هذا الذي قلنا « فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا » ، أنما حلفا على باطل وكذب « فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان » بالميت « فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين » ، ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا، قال هؤلاء: لم يكن معه! قال: ثم عثر على بعض المتاع عندهما, فلما عثر على ذلك رُدّت القسامة على وارثه, فأقسما, ثم ضمن هذان. قال الله تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ، فتبطل أيمانهم « واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين » ، الكاذبين، الذين يحلفون على الكذب. وقال ابن زيد: قدم تميمٌ الداريّ وصاحب له, وكانا يومئذ مشركين، ولم يكونا أسلما, فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجلٌ, وجاءا بتركته. فقال أولياء الميت: كان مع صاحبنا كذا وكذا, وكان معه إبريق فضة! وقال الآخران: لم يكن معه إلا الذي جئنا به! فحلفا خَلْف الصلاة، ثم عثر عليهما بعدُ والإبريق معهما. فلما عثر عليهما، رُدَّت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم, ثم ضمنهما الذي حلف عليه الأوليان.

حدثنا الربيع قال ، حدثنا الشافعي قال ، أخبرنا أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري, عن بكير بن معروف, عن مقاتل بن حيان قال بكير، قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك في قول الله: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، أن رجلين نصرانيين من أهل دارِين, أحدهما تميمي، والآخر يماني, صاحَبهما مولًى لقريش في تجارة, فركبوا البحر، ومع القرشي مال معلومٌ قد علمه أولياؤه، من بين آنية وبزّ ورِقَة. فمرض القرشي, فجعل وصيته إلى الداريّين, فمات، وقبض الداريّان المال والوصية, فدفعاه إلى أولياء الميت, وجاءا ببعض ماله، وأنكر القوم قلّة المال, فقالوا للداريَّين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به, فهل باع شيئًا أو اشترى شيئًا، فوُضِع فيه، وهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا لا! قالوا: فإنكما خنتمانا! فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأنـزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إلى آخر الآية. فلما نـزل: أن يُحْبسا من بعد الصلاة, أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاما بعد الصلاة, فحلفا بالله رب السموات: « ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به, وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنًا قليلا من الدنيا، ولو كان ذا قربى, ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين » . فلما حلفا خلَّى سبيلهما. ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناءً من آنية الميت, فأُخذ الداريَّان، فقالا اشتريناه منه في حياته! وكذبا, فكلِّفا البينة، فلم يقدرا عليها. فرفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأنـزل الله تعالى ذكره: « فإن عثر » ، يقول: فإن اطُّلع « على أنهما استحقا إثمًا » , يعني الداريين، إن كتما حقًّا « فآخران » ، من أولياء الميت « يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان » , فيقسمان بالله: « إنّ مال صاحبنا كان كذا وكذا, وإن الذي يُطلب قبل الداريين لحقّ, وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين » ، هذا قول الشاهدين أولياء الميت « ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها » , يعني: الداريَّين والناس، أن يعودوا لمثل ذلك.

قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا، دليلٌ واضح على صحة ما قلنا، من أنّ حكم الله تعالى ذكره باليمين على الشاهدين في هذا الموضع, إنما هو من أجل دعوى وَرَثته على المسنَد إليهما الوصية، خيانةً فيما دفع الميت من ماله إليهما, أو غير ذلك مما لا يبرأ فيه المدعي ذلك قِبَله إلا بيمين وأن نقل اليمين إلى ورثة الميت بما أوجبه الله تعالى ذكره، بعد أن عثر على الشاهدين [ أنهما استحقا إثمًا ] ، في أيمانهما, ثم ظُهِر على كذبهما فيها, إن القوم ادَّعوا فيما صَحَّ أنه كان للميت دعوًى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك, مما يكون اليمينُ فيها على ورثة الميت دون المدَّعَى, وتكون البينة فيها على المدعي وفسادِ ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل.

وفيها أيضًا، البيانُ الواضح على أن معنى « الشهادة » التي ذكرها الله تعالى في أول هذه القصة إنما هي اليمين, كما قال الله تعالى في مواضع أُخر: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين , [ سورة النور:6 ] . فالشهادة في هذا الموضع، معناها القَسم، من قول القائل: « أشهد بالله إني لمن الصادقين » , وكذلك معنى قوله: « شهادة بينكم » إنما هو: قسَم بينكم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ ، أن يقسم اثنان ذوا عدل منكم، إن كانا اتُّمنا على مال فارتيب بهما, أو اتُّمِنَ آخران من غير المؤمنين فاتُّهما. وذلك أن الله تعالى ذكره، لما ذكر نقل اليمين من اللذين ظُهر على خيانتهما إلى الآخرين، قال : « فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما » . ومعلومٌ أنّ أولياء الميت المدعين قِبل اللذين ظُهر على خيانتهما, غير جائز أن يكونا شهداء، بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حق مدعًى عليه لمدّع. لأنه لا يعلم لله تعالى ذكره حكم قضى فيه لأحد بدعواه ويمينه على مدعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدعَى عليه ولا برهان. فإذ كان معلومًا أن قوله: « لشهادتنا أحق من شهادتهما » ، إنما معناه: قسمُنا أحق من قَسَمهما وكان قسم اللذين عُثر على أنهما أثِمَا، هو الشهادة التي ذكر الله ذكره تعالى في قوله: « أحق من شهادتهما » صحَّ أن معنى قوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ، بمعنى: « الشهادة » في قوله: « لشهادتنا أحق من شهادتهما » ، وأنها بمعنى القسم.

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: « من الذين استحق عليهم الأوليان » .

فقرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشأم: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ، بضم « التاء » .

وروي عن علي، وأبيّ بن كعب، والحسن البصري أنهم قرءوا ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ، بفتح « التاء » .

واختلفت أيضًا في قراءة قوله: « الأوليان » .

فقرأته عامة قراء أهل المدينة والشأم والبصرة: ( الأَوْلَيَان ) .

وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: ( الأَوَّلِينَ ) .

وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوَّلانِ ) .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في قوله: « من الذين استحق عليهم » ، قراءة من قرأ بضم « التاء » , لإجماع الحجة من القرأة عليه, مع مشايعة عامة أهل التأويل على صحة تأويله, وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله: فآخران من أهل الميت، الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم, يقومان مقام المستحقَّيْ الإثم فيهما، بخيانتهما ما خانَا من مال الميت.

وقد ذكرنا قائلي ذلك، أو أكثر قائليه، فيما مضى قبل, ونحن ذاكُرو باقيهم إن شاء الله ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ، أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران، لا يحضُره غير اثنين منهم. فإن رضي ورَثته ما عاجل عليه من تركته فذاك, وحلف الشاهدان إن اتُّهما: إنهما لصادقان « فإن عثر » وُجد.........، حلف الاثنان الأوليان من الورثة, فاستحقّا وأبطَلا أيمانَ الشَّاهدين.

وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بفتح « التاء » , أرادوا أن يوجهوا تأويلَه إلى: « فآخران يقومان مقامهما » ، مقام المؤتمنين اللذين عُثِر على خيانتهما في القَسم، و « الاستحقاق به عليهما » ، دعواهما قِبَلهما من « الذين استحقَّ » على المؤتمنين على المالِ على خيانتهما القيامَ مقامهما في القَسَم والاستحقاق، الأوليان بالميت. وكذلك كانت قراءة من رُوِيت هذه القراءة عنه, فقرأ ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ بفتح « التاء » و « الأوليان » ، على معنى: الأوليان بالميت وماله. وذلك مذهبٌ صحيحٌ ، وقراءةٌ غير مدفوعة صحَّتها, غير أنا نختار الأخرى، لإجماع الحجة من القرأة عليها، مع موافقتها التأويل الذي ذكرْنا عن الصحابة والتابعين.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن وكريب، عن علي: أنه كان يقرأ: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَان )

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل, عن حماد بن زيد, عن واصل مولى أبي عُيينة, عن يحيى بن عقيل, عن يحيى بن يعمر, عن أبيّ بن كعب: أنه كان يقرأ: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَان ) .

قال أبو جعفر: وأما أولى القراءات بالصَّواب في قوله: « الأوليان » عندي, فقراءة من قرأ: ( الأَوْلَيَانِ ) لصحة معناها. وذلك لأن معنى: « فآخران يقومان مقامهما من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان » :فآخران يقومان مقامهما من الذي استُحقّ ] فيهم الإثم, ثم حذف « الإثم » ، وأقيم مقامه « الأوليان » , لأنهما هما اللذان ظَلَما وأثِما فيهما، بما كان من خيانة اللذين استحقا الإثم، وعُثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان اُّتمنهما عليه الميت, كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مِثل ذلك، من حذفهم الفعل اجتراء بالاسم, وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل. ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة، وهو قوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ، ومعناه: أن يشهد اثنان, وكما قال: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا ، فقال: « به » , فعاد بالهاء على اسم الله، وإنما المعنى: لا نشتري بقسمنا بالله, فاجتزئ بالعود على اسم الله بالذكر, والمراد به: « لا نشتري بالقسم بالله » ، استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم. وكذلك اجتزئ، بذكر « الأوليين » من ذكر « الإثم » الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إيَّاهما, إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته, وذلك قوله: « فإن عثر على أنَّهما استحقا إثمًا » .

وأما الذين قرءوا ذلك ( الأَوَّلِينَ ) ، فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن « الذين » , فأخرجوا ذلك على وجه الجمع, إذْ كان « الذين » جميعًا، وخفضًا, إذ كان « الذين » مخفوضًا، وذلك وجه من التأويل, غير أنه إنما يقال للشيء « أوّل » ، إذا كان له آخر هو له أوّل. وليس للذين استحق عليهم الإثم، آخرهم له أوّل. بل كانت أيمان اللذين عثر على أنهما استحقَّا إثمًا قبل أيمانهم, فهم إلى أن يكونوا إذ كانت أيمانهم آخرًا أولى أن يكونوا « آخرين » ، من أن يكونوا « أوّلين » ، وأيمانهم آخرة لأولى قبلها.

وأما القراءة التي حكيت عن الحسن؛ فقراءةٌ عن قراءَة الحجة من القرأة شاذة, وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلا على بُعدها من الصواب.

واختلف أهل العربية في الرافع لقوله: « الأوليان » ، إذا قرئ كذلك.

فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع ذلك، بدلا من: « آخران » في قوله: « فآخران يقومان مقامهما » . وقال: إنما جاز أن يبدل « الأوليان » ، وهو معرفة، من « آخران » وهو نكرة, لأنه حين قال: « يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم » ، كان كأنه قد حدَّهما حتى صارا كالمعرِفة في المعنى, فقال: « الأوليان » , فأجرى المعرفة عليهما بدلا. قال: ومثل هذا مما يجري على المعنى كثير، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز:

عَـــلَيَّ يَــوْمَ يَمْلِــكُ الأُمُــورَا صَــوْمُ شُــهُورٍ وَجَــبَتْ نُـذُورَا

وَبَادِنًا مُقَلَّدًا مَنْحُورَا

قال: فجعله: عليَّ واجب, لأنه في المعنى قد أوجب.

وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول: لا يجوز أن يكون « الأوليان » بدلا من: « آخران » ، من أجل أنه قد نَسَق « فيقسمان » على « يقومان » في قوله « فآخران يقومان » ، فلم يتمّ الخبر بعد « مِنْ » . قال: ولا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر. وقال: غير جائز: « مررت برجل قام زيدٍ وقَعَد » ، و « زيد » بدل من « رجل » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: « الأوليان » مرفوعان بما لم يسمَّ فاعله, وهو قوله: ( اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ ) وأنهما وُضِعا موضع الخبر عنهما, فعمل فيهما ما كان عاملا في الخبر عنهما. وذلك أن معنى الكلام: « فآخران يقومان مَقامهما من الذين استُحِقَّ عليهم الإثم بالخيانة » , فوضع « الأوليان » موضع « الإثم » كما قال تعالى ذكره في موضع آخر: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [ سورة التوبة: 19 ] ، ومعناه: أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارةَ المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وكما قال: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ , [ سورة البقرة: 93 ] ، وكما قال بعض الهذليين.

يُمَشِّــي بَيْنَنَــا حَــانُوتُ خَــمْرٍ مِـنَ الخُـرْسِ الصَّرَاصِـرَةِ الْقِطَـاطِ

وهو يعني: صاحب حانوت خمر, فأقام « الحانوت » مقامه، لأنه معلوم أن « الحانوت » ، لا يمشي! ولكن لما كان معلومًا عنده أنَّه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه، حذف « الصاحب » , واجتزأ بذكر « الحانوت » منه. فكذلك قوله: « من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان » ، إنما هو من الذين استُحِقّ فيهم خيانتهما, فحذفت « الخيانة » وأقيم « المختانان » ، مقامها. فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر.

وأما قوله: « عليهم » في هذا الموضع, فإن معناها: فيهم, كما قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، [ سورة البقرة: 102 ] ، يعني: في ملك سليمان, وكما قال: وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [ سورة طه: 71 ] . ف « في » توضع موضع « على » , و « على » في موضع « في » ، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام,

ومنه قول الشاعر:

مَتَــى مَــا تُنِْكرُوهــا تَعْرِفُوهَـا عَــلَى أَقْطَارِهَــا عَلَــقٌ نَفِيــثُ

وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى ذكره: « فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الأوليان » ، أنهما رجلان آخرَان من المسلمين, أو رجلان أعدل من المقسمين الأوَّلَين

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود بن أبي هند, عن عامر, عن شريح في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته, فأشهد يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا, فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدَا بخلاف شهادتهم, أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين.

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فإن عثر » ، أي: اطلع منهما على خيانة، على أنهما كذبا أو كَتما, فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلافِ ما قالا أجيزت شهادة الآخرين، وأبطلت شهادة الأوَّلين.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن عطاء قال : كان ابن عباس يقرأ: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ ) قال، كيف يكون « الأوليان » , أرأيت لو كان الأوليان صغيرين؟

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عبدة, عن عبد الملك, عن عطاء, عن ابن عباس قال : كان يقرأ: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ ) قال، وقال: أرأيت لو كان الأوليان صغيرين, كيف يقومان مقامهما؟

قال أبو جعفر: فذهب ابن عباس، فيما أرى، إلى نحو القول الذي حكيتُ عن شريح وقتادة, من أنّ ذلك رجلان آخران من المسلمين، يقومان مقام النَّصرانيين, أو عَدْلان من المسلمين هما أعدل وأجوزُ شهادة من الشاهدين الأولين أو المقسمين.

وفي إجماع جميع أهل العلم على أنْ لا حكم لله تعالى ذكره يجب فيه على شاهدٍ يمينٌ فيما قام به من الشهادة, دليلٌ واضح على أنّ غير هذا التأويل الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى ذكره: « فآخران يقومان مقامهما » أولى به.

وأما قوله « الأوليان » ، فإن معناه عندنا: الأوْلى بالميت من المقسمين الأولين فالأولى. وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى ثم حذف « منهما » ، والعرب تفعل ذلك فتقول: « فلان أفضل » , وهي تريد: « أفضل منك » , وذلك إذا وضع « أفعل » موضع الخبر. وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه « الألف واللام » , فعلوا ذلك أيضًا، إذا كان جوابًا لكلام قد مضى, فقالوا: « هذا الأفضل, وهذا الأشرف » ، يريدون: هو الأشرف منك. * * *

وقال ابن زيد: معنى ذلك: الأوليان بالميت.

حدثني يونس, عن ابن وهب, عنه.

 

القول في تأويل قوله : فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 107 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيقسم الآخران اللذان يقومان مقام اللَّذين عثر على أنهما استحقا إثمًا بخيانتهما مالَ الميت، الأوْليان باليمين والميِّت من الخائنين: « لشهادتنا أحقُّ من شهادتهما » ، يقول: لأيماننا أحقُّ من أيمان المقسمَين المستحقَّين الإثم، وأيمانِهما الكاذبة في أنَّهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميّتنا, وكذا في أيمانِهما التي حلفا بها « وما اعتدينا » ، يقول: وما تجاوزنا الحقَّ في أيماننا.

وقد بينا أن معنى « الاعتداء » ، المجاوزة في الشيء حدَّه.

« إنا إذًا لمن الظالمين » يقول: « إنّا إن كنا اعتدينا في أيماننا, فحلفنا مبطلين فيها كاذبين » لمن الظالمين « ، يقول: لَمِنْ عِدَادِ مَنْ يأخذ ما ليس له أخذه, ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس. »

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، هذا الذي قلت لكم في أمر الأوصياء إذا ارتبتم في أمرهم، واتهمتموهم بخيانة لمالِ من أوصى إليهم، من حبسهم بعد الصلاة, واستحلافكم إيَّاهم على ما ادَّعى قِبَلهم أولياء الميت « أدنى » لهم « أن يأتوا بالشهادة على وجهها » ، يقول: هذا الفعل، إذا فعلتم بهم، أقربُ لهم أن يصدُقوا في أيمانهم, ولا يكتموا, ويقرُّوا بالحق ولا يخونوا « أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم » ، يقول: أو يخاف هؤلاء الأوصياء إن عثر عليهم أنهم استحقُّوا إثمًا في أيمانهم بالله, أن تردَّ أيمانهم على أولياء الميت، بعد أيمانهم التي عُثِر عليها أنها كذب, فيستحقُّوا بها ما ادّعوا قِبَلهم من حقوقهم, فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم، مخافةَ الفضيحة على أنفسهم، وحذرًا أن يستحقّ عليهم ما خانُوا فيه أولياء الميِّت وورثته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد تقدّمت الروايةُ بذلك عن بعضهم, نحن ذاكرو الرواية في ذلك عن بعضِ من بَقي منهم.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ، يقول: إن اطُّلع على أنّ الكافرين كذبَا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ، يقول: من الأولياء, فحلفا بالله أنّ شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد, فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها, أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم. وليس على شُهود المسلمين أقسْام, وإنما الأقسام إذا كانوا كافرين.

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة » الآية, يقول: ذلك أحرَى أن يصدقوا في شهادتهم, وأن يخافوا العَقِب.

حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: « أو يخافوا أن تردَّ أيمان بعد أيمانهم » ، قال: فتبطل أيمانهم, وتؤخذ أيمانُ هؤلاء.

وقال آخرون: [ معنى ذلك تحبسونهما من بعد الصلاة. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها, على أنهما استحقا إثمًا, فآخران يقومان مقامهما ] .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قال : يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, فيحلفان بالله: « لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين, أنّ صاحبكم لبهذا أوصى, وأنّ هذه لتركته » . فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: « إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما، فضحتكما في قومكما، ولم أجز لكما شهادة، وعاقبتكما » . فإن قال لهما ذلك, فإنّ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.

 

القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 108 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وخافوا الله، أيها الناس, وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبةً، وأن تُذْهبوا بها مال من يَحْرم عليكم ماله, وأن تخونوا من اتَّمنكم « واسمعوا » ، يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به, فاعملوا به، وانتهوا إليه « والله لا يهدي القوم الفاسقين » ، يقول: والله لا يوفِّق من فَسَق عن أمر ربّه، فخالفه وأطاع الشيطانَ وعصى ربَّه.

وكان ابن زيد يقول: « الفاسق » ، في هذا الموضع، هو الكاذب.

حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: « والله لا يهدي القومَ الفاسقين » ، الكاذبين، يحلفون على الكذب.

وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفُوعٍ, إلا أن الله تعالى ذكره عَمَّ الخبر بأنه لا يهدي جميع الفسَّاق, ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض بخبر ولا عقلٍ, فذلك على معاني « الفسق » كلها، حتى يخصِّص شيئًا منها ما يجب التسليمُ له، فيُسلِّم له.

ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين, هل هو منسوخ, أو هو مُحكَم ثابت؟

فقال بعضهم: هو منسوخ

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال ، ثنا ابن إدريس, عن رجل قد سماه, عن حماد, عن إبراهيم قال : هي منسوخة.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: هي منسوخة يعني هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ، الآية.

وقال جماعة: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد ذكرنا قولَ أكثرهم فيما مضَى.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية غيرُ منسوخ وذلك أن من حكم الله تعالى ذكره الذي عليه أهل الإسلام, من لدن بعث الله تعالى ذكره نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا, أنّ من ادُّعِي عليه دَعْوى ممَّا يملكه بنو آدم، أنّ المدَّعَى عليه لا يبرئه مما ادُّعي عليه إلا اليمين، إذا لم يكن للمدَّعِي بيّنة تصحح دَعواه وأنه إن اعترف في يَدِ المدَّعى [ عليه ] سلعةً له, فادَّعَى أنها له دون الذي في يده, فقال الذي هي في يده: « بل هي لي، اشتريتها من هذا المدَّعِي » , أنّ القول قول من زَعَم الذي هي في يده أنه اشتراها منه، دون من هي في يده مع يمينه، إذا لم يكن للذي هي في يده بيّنة تحقق به دعواه الشراءَ منه.

فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلافَ فيه بين أهل العلم, وكانت الآيتان اللتان ذكر الله تعالى ذكره فيهما أمرَ وصية الموصِي إلى عدلين من المسلمين، أو إلى آخرين من غيرهم, إنما ألزَم النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر عنه، الوصيَّين اليمينَ حين ادَّعَى عليهما الورثة ما ادَّعوا، ثم لم يلزم المدَّعَى عليهما شيئًا إذ حلفا, حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفُوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم، فزعما أنهما اشترياه من ميتهم, فحينئذ ألزم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ورثَة الميِّت اليمين, لأن الوصيين تحوَّلا مُدَّعِيين بدعواهما ما وجدَا في أيديهما من مال الميِّت أنه لهما، اشتريَا ذلك منه، فصارَا مُقِرَّين بالمال للميِّت، مدَّعيين منه الشراء, فاحتاجا حينئذ إلى بيِّنةٍ تصحِّح دعواهما، وصارتْ وورثة الميتِ ربِّ السلعة، أولى باليمين منهما. فذلك قوله تعالى ذكره: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ، الآية.

فإذ كان تأويل ذلك كذلك، فلا وجه لدعوَى مدَّعٍ أن هذه الآية منسوخة, لأنه غير جائز أن يُقْضَى على حُكم من أحكام الله تعالى ذكره أنه منسوخ، إلا بخبَرٍ يقطع العذرَ: أمّا من عند الله، أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم, أو بورود النَّقل المستفيض بذلك. فأمَّا ولا خبر بذلك, ولا يدفع صحته عقل, فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ.

 

القول في تأويل قوله : يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 109 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتقوا الله، أيها الناس. واسمعوا وَعْظه إياكم وتذكيرَه لكم, واحذروا يَوْم يَجْمع الله الرسل ثم حذف وَاحْذَرُوا ، واكتفى بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ، عن إظهاره, كما قال الراجز:

عَلَفْتُهَـــا تِبْنًــا وَمَــاءً بَــارِدًا حَــتَّى شَــتَتْ هَمَّالَــةً عَيْنَاهَــا

يريد: « وسقيتها ماء باردًا » , فاستغنى بقوله « علفتها تبنًا » من إظهار « سقيتها » , إذ كان السامع إذا سَمِعه عرف معناه. فكذلك في قوله: « يوم يجمع الله الرسل » ، حذف وَاحْذَرُوا لعلم السامع معناه, اكتفاءً بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ، إذ كان ذلك تحذيرًا من أمر الله تعالى ذكره، خلقَه عقابَه على معاصيه.

وأما قوله: « ماذا أُجبتم » ، فإنه يعني به: ما الذي أجابتكم به أممكم، حين دعوتموهم إلى توحيدي، والإقرار بي، والعمل بطاعتي، والانتهاء عن معصيتي؟ « قالوا لا علم لنا » .

فاختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى قولهم: « لا علم لنا » ، لم يكن ذلك من الرسل إنكارًا أن يكونوا كانوا عالمين بما عملت أممهم, ولكنهم ذَهِلوا عن الجواب من هَوْلِ ذلك اليوم, ثم أجابوا بعد أن ثَابَتْ إليهم عقولهم بالشَّهادة على أممهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل. قال ، حدثنا أسباط, عن السديّ: « يوم يجمع الله الرسل فيقول مَاذا أجبتم قالوا لا علم لنا » ، قال: فذلك أنهم نـزلوا منـزلا ذَهِلت فيه العقول, فلما سئلوا قالوا: « لا علم لنا » ، ثم نـزلوا منـزلا آخر, فشهدوا على قومهم.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام, عن عنبسة......... قال : سمعت الحسن يقول في قوله: « يوم يجمع الله الرسل » ، الآية، قال : من هول ذلك اليوم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري, عن الأعمش, عن مجاهد في قوله: « يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم » ، فيفزعون, فيقول: ماذا أجبتم؟ فيقولون: لا علم لنا !

وقال آخرون: معنى ذلك: لا علم لنا إلا ما علّمتنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله: « يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم » ، فيقولون: لا علم لنا إلا ما علمتنا « إنك أنتَ علام الغيوب » .

وقال آخرون: معنى ذلك: قالوا لا علم لنا، إلا علمٌ أنت أعلَمُ به منَّا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا » ، إلا علم أنت أعلم به منا.

وقال آخرون: معنى ذلك: « ماذا أجبتم » ، ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم » ، ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا بعدكم؟ « قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب » .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال: « معناه: لا علم لنا، إلا علم أنت أعلم به منّا » , لأنه تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم قالوا: « لا علم لنا إنَّك أنتَ علام الغيوب » ، أي: إنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفيِّ العلوم وجليِّها. فإنما نَفى القومُ أن يكون لهم بما سُئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو تعالى ذكره لا أنَّهم نَفَوا أن يكونوا علموا ما شاهدُوا. كيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وهو تعالى ذكره يخبر عنهم أنَّهم يُخْبرون بما أجابتهم به الأمم، وأنهم يسْتشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء, فقال تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ سورة البقرة:143 ] .

وأما الذي قاله ابن جريج، من أن معناه: « ماذا عملت الأمم بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟ » فتأويل لا معنَى له. لأن الأنبياء لم يكن عندها من العلم بما يَحدُث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك, وإذا سئلت عَمَّا عملت الأمم بعدها والأمر كذلك، فإنما يقال لها: ماذا عَرَّفناك أنه كائن منهم بعدك؟ وظاهرُ خَبر الله تعالى ذكره عن مسألته إيّاهم، يدلّ على غير ذلك.

 

القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعباده: احذروا يومَ يجمع الله الرسلَ فيقول لهم: ماذا أجابتكم أممكم في الدنيا « إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس » .

ف « إذْ » من صلة أُجِبْتُمْ , كأنّ معناها: ماذا أجابت عيسى الأمم التي أرسل إليها عيسى.

فإن قال قائل: وكيف سئلت الرسل عن إجابة الأمم إيَّاها في عهد عيسى, ولم يكن في عهد عيسى من الرُّسل إلا أقلُّ ذلك؟

قيل: جائزٌ أن يكون الله تعالى ذكره عنى بقوله: فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ، الرسلَ الذين كانوا أرسلوا في عهد عيسى، فخرَج الخبر مخرج الجميع, والمراد منهم من كان في عهد عيسى, كما قال تعالى ذكره: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [ سورة آل عمران : 173 ] ، والمراد واحدٌ من الناس, وإن كان مخرج الكلام على جميع الناس.

قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: « إذ قال الله » ، حين قال « يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس » ، يقول: يا عيسى اذكر أياديّ عندك وعند والدتك, إذ قوّيتك برُوح القُدس و أعنتُك به.

وقد اختلف أهل العربية في « أيدتك » ، ما هو من الفعل.

فقال بعضهم: هو « فعّلتك » , [ « من الأيد » ] ، كما قولك: « قوّيتك » « فعّلت » من « القوّة » .

وقال آخرون: بل هو « فاعلتك » من « الأيد » .

وروي عن مجاهد أنه قرأ: ( إذْ آيَدْتُك ) ، بمعنى « أفعلتك » ، من القوّة والأيد. .

وقوله: « بروح القدس » ، يعني: بجبريل. يقول: إذ أعنتك بجبريل.

وقد بينت معنى ذلك، وما معنى « القدس » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 110 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قِيله، لعيسى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، في حال تكليمك الناسَ في المهدِ وكهلا.

وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره: أنه أيده بروح القدس صغيرًا في المهد، وكهلا كبيرًا فردّ « الكهل » على قوله « في المهد » ، لأن معنى ذلك: صغيرًا, كما قال الله تعالى ذكره: دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ، [ سورة يونس: 12 ] .

وقوله: « وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل » ، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك « إذ علمتك الكتاب » ، وهو الخطّ « والحكمة » ، وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنـزلته إليك، وهو الإنجيل « وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير » ، يقول: كصورة الطير...... « بإذني » ، يعني بقوله « تخلق » تعمل وتصلح - « من الطين كهيئة الطير بإذني » ، يقول: بعوني على ذلك، وعلمٍ منّي به « فتنفخ فيها » ، يقول: فتنفخ في الهيئة, قتكون الهيئة والصورة طيرًا بإذني « وتبرئ الأكمه » ، يقول: وتشفي « الأكمهَ » ، وهو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا، المطموس البصر « والأبرص بإذني » .

وقد بينت معاني هذه الحروف فيما مضى من كتابنا هذا مفسرًا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله « وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات » ، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك بكفِّي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك، وقد هموا بقتلك « إذ جئتهم بالبينات » ، يقول: إذ جئتهم بالأدِلة والأعلام المعجزة على نبوّتك، وحقيقة ما أرسلتك به إليهم. « فقال الذين كفروا منهم » ، يقول تعالى ذكره: فقال الذين جحدُوا نبوَّتك وكذبوك من بني إسرائيل « إن هذا إلا سحر مبين » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: يبين عمَّا أتى به لمن رأه ونظر إليه، أنه سحر لا حقيقةَ له.

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: ( إن هذا إلا ساحر مبين ) ، بمعنى: « ما هذا » , يعني به عيسى, « إلا ساحر مبين » , يقول: يبين بأفعاله وما يأتي به من هذه الأمور العجيبة عن نفسه، أنه ساحرٌ لا نبيٌّ صادق.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنَّهما قراءتان معروفتان صحيحتَا المعنى، متفقتان غير مختلفتين. وذلك أن كل من كان موصوفًا بفعل « السحر » ، فهو موصوف بأنه « ساحر » . ومن كان موصوفًا بأنه « ساحر » ، فأنه موصوف بفعل « السحر » . فالفعل دالٌ على فاعله، والصفة تدلُّ على موصوفها, والموصوف يدل على صفته، والفاعلُ يدلُّ على فعله. فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( 111 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر أيضًا، يا عيسى، إذ ألقيت « إلى الحواريين » ، وهم وزراء عيسى على دينه.

وقد بينا معنى ذلك، ولم قيل لهم « الحواريون » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.

وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله: « وإذ أوحيت » ، وإن كانت متفقة المعاني.

فقال بعضهم، بما:-

حدثني به محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ أوحيت إلى الحواريين » ، يقول: قدفت في قلوبهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: ألهمتهم.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذْ ألقيتُ إلى الحواريين أنْ صدّقوا بي وبرسولي عيسى، فقالوا: « آمنا » ، أي: صدقنا بما أمرتنا أن نؤمنَ يا ربنا « واشهد » علينا « بأننا مسلمون » ، يقول: واشهد علينا بأننا خاضِعُون لك بالذّلة، سامعون مطيعُون لأمرك.

 

القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنـَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 112 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا عيسى، أيضًا نعمتي عليك, إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي, إذ قالوا لعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء - ف « إذ » ، الثانية من صلة أَوْحَيْتُ .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « يستطيع ربك »

فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين: ( هَلْ تَسْتَطِيعُ ) بالتاء ( رَبَّكَ ) بالنصب, بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ أو: هل تستطيع أن تدعوَ ربَّك؟ أو: هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكِّين أن الله تعالى ذكره قادرٌ أن ينـزل عليهم ذلك, وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن نافع, عن ابن عمر, عن ابن أبي مليكة قال : قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكّون أن الله قادر أن ينـزل عليهم مائدة, ولكن قالوا: يا عيسى هل تَسْتطيع ربَّك؟

حدثني أحمد بن يوسف التَّغْلِبيّ قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا ابن مهدي, عن جابر بن يزيد بن رفاعة, عن حسّان بن مخارق, عن سعيد بن جبير: أنه قرأها كذلك: ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ) ، وقال: تستطيع أن تسأل ربَّك. وقال: ألا ترى أنهم مؤمنون؟

وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والعراق: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ ) بالياء ( رَبُّكَ ) ، بمعنى: أن ينـزل علينا ربُّك, كما يقول الرجل لصاحبه: « أتستطيع أن تنهض معنا في كذا » ؟ وهو يعلم أنه يستطيع, ولكنه إنما يريد: أتنهض معنا فيه؟ وقد يجوز أن يكون مرادُ قارئه كذلك: هل يستجيب لك ربك ويُطِيعك أنْ تنـزل علينا؟

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ ) بالياء ( رَبُّكَ ) برفع « الربّ » , بمعنى: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟

وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب، لما بيّنّا قبلُ من أن قوله: « إذ قال الحواريون » ، من صلة: « إذ أوحيت » , وأنَّ معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريون أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربَّك؟ فبيِّنٌ إذ كان ذلك كذلك, أن الله تعالى ذكره قد كرِه منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه, وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قِيلهم ذلك, والإقرارِ لله بالقدرة على كل شيء, وتصديقِ رسوله فيما أخبرهم عن ربِّهم من الأخبار. وقد قال عيسى لهم، عند قيلهم ذلك له، استعظامًا منه لما قالوا: « اتقوا الله إن كنتم مؤمنين » . ففي استتابة الله إيّاهم, ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم عند قيلهم ما قالوا من ذلك, واستعظام نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم كلمتهم الدلالةُ الكافيةُ من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع « الرب » ، إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى، لو كانوا قالوا له: « هل تستطيع أن تسأل ربَّك أن ينـزل علينا مائدة من السماء » ؟ أن يُستكبر هذا الاستكبار.

فإن ظنّ ظانّ أنّ قولهم ذلك له إنما استُعظِمَ منهم, لأنّ ذلك منهم كان مسألة آيةٍ, [ فقد ظنّ خطأ ] . فإن الآيةَ، إنّما يسألها الأنبياء مَنْ كان بها مكذّبًا ليتقرَّر عنده حقيقةُ ثبوتها وصحَّة أمرها, كما كانت مسألة قريش نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل لهم الصَّفَا ذهبًا، ويفجر فجَاج مكة أنهارًا، مَنْ سأله من مشركي قومه وكما كانت مسألة صالح الناقةَ من مكذّبي قومه ومسألة شُعَيْب أن يسقط كِسْفًا من السماءِ، من كفّار من أرسل إليه.

فإنْ وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينـزل عليهم مائدة من السماء, على هذا الوجه كانت مسألتهم, فقد أحلّهم الذين قرءوا ذلك ب « التاء » ونصب « الرب » محلا أعظم من المحلِّ الذي ظنوا أنَّهم يحيدون بهم عنه أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسلٌ, وأن الله تعالى ذكره على ما سألوا من ذلك قادر.

فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك, وإنما كانت مسألتهم إيَّاه ذلك على نحو ما يسأل أحدُهم نبيَّه, إذا كان فقيرًا، أن يسأل له ربه أن يُغْنيه وإن عرضتْ له حاجة، أن يسأل له ربه أن يقضيَها, فليسَ ذلك من مسألةَ الآية في شيء، بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه, فسأل نبيَّه مسألةَ ربه أن يقضيها له.

وخبر الله تعالى ذكره عن القوم، ينبئ بخلاف ذلك. وذلك أنهم قالوا لعيسى, إذ قال لهم: « اتقوا الله إن كنتم مؤمنين » نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا . فقد أنبأ هذا من قِيلهم، أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدَقهم, ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوّته. فلا بيان أبين من هذا الكلام، في أن القوم كانوا قد خالط قلوبَهم مرضٌ وشك فى دينهم وتصديق رسولهم, وأنهم سَألوا ما سألوا من ذلك اختبارًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس: أنه كان يحدِّث عن عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا, ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجرَ العامل على من عمل له! ففعلوا، ثم قالوا: يا معلِّم الخير, قلت لنا: « إن أجر العامل على من عمل له » ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا، ففعلنا, ولم نكن نعمل لأحدٍ ثلاثين يومًا إلا أطعمنا حين نفرُغ طعامًا، فهل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى: « اتقوا الله إن كنتم مؤمنين » قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ، إلى قوله: لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ . قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدةٍ من السماء عليها سبعةُ أحواتٍ وسبعة أرغفة, حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم.

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ » ، قالوا: هل يطيعك ربُّك، إن سألته؟ فأنـزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطَّعام إلا اللحم، فأكلوا منها.

وأما « المائدة » فإنها « الفاعلة » من: « ماد فلان القوم يَميدهم مَيْدًا » ، إذا أطعمهم ومارهم، ومنه قول رؤبة:

نُهْــدِي رُؤُوسَ المــتْرَفينَ الأنْـدَادْ إلَــى أَمِــيرِ المُــؤْمِنِينَ المُمْتَـادْ

يعني بقوله: « الممتاد » ، المستعْطَى. ف « المائدة » المطعِمة، سميت « الخوان » بذلك, لأنها تطعم الآكل ممّا عليها. و « المائد » ، المُدَار به في البحر, يقال: « مادَ يَمِيدُ مَيْدًا » .

وأما قوله: « قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين » ، فإنه يعني: قال عيسى للحواريّين القائلين له: « هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء » راقبوا الله، أيها القوم, وخافوه أن يَنـزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا, فإن الله لا يعجزه شيء أراده, وفي شكّكم في قدرة الله على إنـزال مائدة من السماء، كفرٌ به, فاتقوا الله أن يُنـزل بكم نقمته « إن كنتم مؤمنين » ، يقول: إن كنتم مصدقيَّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم: « هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء » ؟

 

القول في تأويل قوله : قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 113 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الحواريون مجيبي عيسى على قوله لهم: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، في قولكم لي هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ : إنا إنما قلنا ذلك، وسألناك أن تسأل لنا ربنا لنأكل من المائدة, فنعلم يقينًا قدرته على كل شيء « وتطمئن قلوبنا » ، يقول: وتسكن قلوبنا، وتستقرّ على وحدانيته وقدرته على كل ما شاء وأراد, « ونعلم أن قد صدقتنا » , ونعلم أنك لم تكذبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبيّ مبعوث « ونكون عليها » ، يقول: ونكون على المائدة « من الشاهدين » ، يقول: ممن يشهد أن الله أنـزلها حجةً لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء، ولك على صدقكَ في نبوّتك.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ( 114 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم، أنه أجاب القوم إلى ما سألوا من مسألة ربه مائدةً تنـزل عليهم من السماء.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا » . فقال بعضهم: معناه: نتخذ اليومَ الذي نـزلت فيه عيدًا نُعَظِّمه نحن ومن بعدَنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا » ، يقول: نتخذ اليوم الذي نـزلت فيه عيدًا نعظِّمه نحن ومن بعدنا.

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله « تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا » ، قال: أرادوا أن تكون لعَقِبهم من بعدهم.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « أنـزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا » ، قال: الذين هم أحياء منهم يومئذ « وآخرنا » ، من بعدهم منهم.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، قال سفيان: « تكون لنا عيدًا » ، قالوا: نصلي فيه. نـزلت مرتين.

وقال آخرون: معناه: نأكل منها جميعًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس أنه قال: أكل منها يعني: من المائدة حين وضعت بين أيديهم، آخر الناس، كما أكل منها أولهم.

وقال آخرون: معنى قوله « عيدًا » ، عائدة من الله تعالى ذكره علينا، وحجة وبرهانًا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال: « معناه: تكون لنا عيدًا, نعبد ربنا في اليوم الذي تنـزل فيه، ونصلي له فيه, كما يعبد الناس في أعيادهم » ، لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في « العيد » ، ما ذكرنا، دون القول الذي قاله من قال: « معناه: عائدة من الله علينا » . وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به، أولى من توجيهه إلى المجهول منه، ما وجد إليه السبيل.

وأما قوله: « لأولنا وآخرنا » ، فإن الأولى من تأويله بالصواب، قولُ من قال: « تأويله: للأحياء منا اليوم، ومن يجيء بعدنا منا » ، للعلة التي ذكرناها في قوله: « تكون لنا عيدًا » ، لأن ذلك هو الأغلب من معناه.

وأما قوله: « وآية منك » ، فإن معناه: وعلامةً وحجة منك يا رب، على عبادك في وحدانيتك, وفي صدقي على أنّي رسولٌ إليهم بما أرسلتني به « وارزقنا وأنت خير الرازقين » ، وأعطنا من عطائك, فإنك يا رب خير من يعطي، وأجود من تفضَّل, لأنه لا يدخل عطاءه منٌّ ولا نكَد.

وقد اختلف أهل التأويل في « المائدة » , هل أنـزلت عليهم، أم لا؟ وما كانت؟

فقال بعضهم: نـزلت، وكانت حوتًا وطعامًا, فأكل القوم منها, ولكنها رفعت بعد ما نـزلت بأحداثٍ منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى ذكره.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : نـزلت المائدة، خبزًا وسمكًا.

حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا أبي, عن الفضيل, عن عطية قال : « المائدة » ، سمكة فيها طعم كلِّ طعام.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله, عن فضيل, عن مسروق, عن عطية قال : « المائدة » ، سمك فيه من طعم كل طعام.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن قال : نـزلت المائدة خبزًا وسمكًا.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال : نـزلت على عيسى ابن مريم والحواريين، خِوانٌ عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نـزلوا إذا شاؤوا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا المنذر بن النعمان, أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: « أنـزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا » ، قال: نـزل عليهم قرصة من شعير وأحوات قال الحسن، قال أبو بكر: فحدَّثت به عبد الصمد بن معقل فقال: سمعت وهبًا، وقيل له: وما كان ذلك يُغْني عنهم؟ فقال: لا شيء، ولكن الله حَثَا بين أضعافهن البركة, فكان قوم يأكلون ثم يخرجون, ويجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون, حتى أكلوا جميعهم وأفضَلُوا.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد قال : هو الطعام ينـزل عليهم حيث نـزلوا.

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « مائدة من السماء » ، قال: مائدة عليها طعام، أُتوا بها؛ حين عرض عليهم العذاب إن كفروا. ألوان من طعام ينـزل عليهم.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن أبي معشر, عن إسحاق بن عبد الله: أن المائدة نـزلت على عيسى ابن مريم, عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات, يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: « لعلها لا تنـزل غدًا! » ، فرفعت.

حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود, عن سماك بن حرب, عن رجل من بني عجل قال: صليت إلى جنب عَمار بن ياسر, فلما فرغ قال : هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال فقلت: لا! قال: إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد. قال : فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا، أو تخونوا، أو ترفعوا, فإن فعلتم فإنّي أعذبكم عذابًا لا أعذّبه أحدا من العالمين! قال: فما تمّ يومهم حتى خبئوا ورَفعوا وخانوا, فعذبوا عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم معشر العرب، كنتم تتْبعون أذنابَ الإبل والشاء, فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم، تعرفون حسبه ونسبه, وأخبركم على لسان نبيكم أنكم ستظهارون على العرَب, ونهاكم أن تكنـزوا الذهبَ والفضة. وايمْ الله. لا يذهبُ الليلُ والنهارُ حتى تكنـزوهما، ويعذِّبكم عذابًا أليمًا.

حدثنا الحسن بن قزعة البصري قال ، حدثنا سفيان بن حبيب قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن خلاس بن عمرو, عن عمار بن ياسر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نـزلت المائدة خبزًا ولحمًا, وأُمروا أن لا يخونوا ولا يدَّخروا ولا يرفعوا لغدٍ, فخانوا وادّخروا ورفعوا, فمسخوا قردة وخنازير.

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا يوسف بن خالد قال ، حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة, عن ابن عباس في المائدة قال : كانت طعامًا ينـزل عليهم من السماء حيثما نـزلوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن خلاس بن عمرو, عن عمار قال : نـزلت المائدة وعليها ثمرٌ من ثمر الجنة, فأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا، قال: فخان القوم وخبئوا وادَّخروا, فحوّلهم الله قردة وخنازير.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذُكر لنا أنها كانت مائدة ينـزل عليها الثمرُ من ثمار الجنة, وأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد, بلاء ابتلاهم الله به, وكانوا إذا فعلوا شيئًا من ذلك، أنبأهم به عيسى, فخان القوم فيه فخبئوا وادّخروا لغدٍ.

وقال آخرون: كان عليها من كلّ طعام إلا اللحم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جرير, عن عطاء, عن ميسرة قال : كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل, اختلفت عليها الأيدي بكل طعام.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن ميسرة وزاذان قالا كانت الأيدي تختلف عليها بكل طعام.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان الثوري, عن عطاء بن السائب, عن زاذان وميسرة، في: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ، قالا رأوا الأيدي تختلف عليها بكل شيء إلا اللحم.

وقال آخرون: لم ينـزل الله على بني إسرائيل مائدة.

ثم اختلف قائلو هذه المقالة.

فقال بعضهم: إنما هذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لخلقه، نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الآيات.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « أنـزل علينا مائدة من السماء » ، قال: مثل ضُرب, لم ينـزل عليهم شيء.

وقال آخرون: إنّ القوم لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، استعفَوْا منها فلم تنـزل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال : كان الحسن يقول: لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ ، إلى آخر الآية، قالوا: لا حاجة لنا فيها‍ فلم تنـزل.

حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الحسن: أنه قال في المائدة: لم تنـزل.

حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا, فأبوا أن تَنـزل عليهم.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنـزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألتَه ذلك ربَّه.

وإنما قلنا ذلك، للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم، غير من انفرد بما ذكرنا عنه.

وبعدُ, فإن الله تعالى ذكره لا يخلف وعدَه، ولا يقع في خبره الْخُلف, وقد قال تعالى ذكره مخبرًا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك: إِنِّي مُنَـزِّلُهَا عَلَيْكُمْ , وغير جائز أن يقول تعالى ذكره: إِنِّي مُنَـزِّلُهَا عَلَيْكُمْ , ثم لا ينـزلها، لأن ذلك منه تعالى ذكره خبر, ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول: إِنِّي مُنَـزِّلُهَا عَلَيْكُمْ , ثم لا ينـزلها عليهم, جاز أن يقول: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، ثم يكفر منهم بعد ذلك، فلا يعذّبه, فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك.

وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة, فأن يقال: كان عليها مأكول. وجائز أن يكون كان سمكًا وخبزًا, وجائزٌ أن يكون كانَ ثمرًا من ثمر الجنة، وغيرُ نافع العلم به، ولا ضارّ الجهل به، إذا أقرَّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنـزيل.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ( 115 )

قال أبو جعفر: وهذا جواب من الله تعالى ذكره القومَ فيما سألوا نبيّهم عيسى مسألةَ ربهم، من إنـزاله مائدة عليهم. فقال تعالى ذكره: إني منـزلها عليكم، أيها الحواريون، فمطعمكموها « فمن يكفر بعد منكم » ، يقول: فمن يجحد بعد إنـزالها عليكم، وإطعاميكموها - منكم رسالتي إليه، وينكر نبوة نبيِّي عيسى صلى الله عليه وسلم، ويخالفْ طاعتي فيما أمرته ونهيته « فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدا من العالمين » ، من عالمي زمانه. ففعل القوم, فجحدوا وكفروا بعد ما أنـزلت عليهم، فيما ذكر لنا, فعذبوا، فيما بلغنا، بأن مُسِخوا قردة وخنازير، كالذي:-

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إني منـزلها عليكم » الآية, ذكر لنا أنهم حوِّلوا خنازير.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب ومحمد بن أبي عدي, ومحمد بن جعفر, عن عوف, عن أبي المغيرة القوّاس, عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشدّ الناس عذابًا ثلاثة: المنافقون, ومن كفر من أصحاب المائدة, وآل فرعون.

حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن عوف قال : سمعت أبا المغيرة القوّاس يقول: قال عبد الله بن عمرو: إنّ أشد الناس عذابًا يوم القيامة: من كفر من أصحاب المائدة, والمنافقون, وآل فرعون.

حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « فمن يكفر بعد منكم » ، بعد ما جاءته المائدة « فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين » ، يقول: أعذبه بعذاب لا أعذبه أحدًا من العالمين غير أهل المائدة.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ , « إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمِّيَ إلهين من دون الله » .

وقيل: إن الله قال هذا القولَ لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » ، قال: لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه، قالت النصارى ما قالت, وزعموا أنّ عيسى أمرَهم بذلك, فسأله عن قوله فقال: « سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب » إلى قوله: وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .

وقال آخرون: بل هذا خبر من الله تعالى ذكره عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » ، قال: والناس يسمعون, فراجعه بما قد رأيت, وأقرَّ له بالعبودية على نفسه, فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول: أنه إنما كان يقول باطلا.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن عطاء, عن ميسرة قال : قال الله: يا عيسى، أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله؟ فأُرْعِدت مفاصله, وخشي أن يكون قد قال, فقال: سبحانك، إن كنت قلته فقد علمته الآية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » ، متى يكون ذلك؟ قال: يوم القيامة, ألا ترى أنه يقول: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ؟

فعلى هذا التأويل الذي تأوَّله ابن جريج، يجب أن يكون « وإذ » بمعنى: و « إذا » , كما قال في موضع آخر: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا ، [ سورة سبأ: 51 ] ، بمعنى: يفزعون، وكما قال أبو النجم:

ثُــمَّ جَــزَاهُ اللـهُ عَنَّـا إذْ جَـزَى جَنَّــاتِ عَـدْنٍ فِـي العَلالِـيِّ العُـلا

والمعنى: إذا جزى، وكما قال الأسود:

فَـــالآنَ , إذْ هَــازَلْتُهُنَّ , فإنَّمَــا يَقُلْـنَ: ألا لَـمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا !!ٌٌ

بمعنى: إذا هازلتهن.

وكأنّ من قال في ذلك بقول ابن جريج هذا, وجَّه تأويل الآية إلى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ في الدنيا وأعذبه أيضًا في الآخرة: « إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » .

قال أبو جعفر: وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك, قولُ من قال بقول السدي، وهو أن الله تعالى ذكره قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه, وأن الخبرَ خبرٌ عما مضى، لعلَّتين:

إحداهما: أن « إذْ » إنما تصاحب في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها الماضيَ من الفعل, وإن كانت قد تدخلها أحيانًا في موضع الخبر عما يحدث، إذا عرف السامعون معناها. وذلك غير فاشٍ، ولا فصيح في كلامهم, وتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل، أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر.

والأخرى: أن عيسى لم يشك هو ولا أحد من الأنبياء، أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه, فيجوز أن يُتَوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبًا لربه تعالى ذكره: إن تعذّب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك, وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.

فإن قال قائل: وما كان وجه سؤال الله عيسى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله « ، وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك؟ »

قيل: يحتمل ذلك وجهين من التأويل:

أحدهما: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيُه, كما يقول القائل لآخر: « أفعلت كذا وكذا » ؟ مما يعلم المقولُ له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له: « أفعلته » ، على وجه النهي عن فعله، والتهديد له فيه.

والآخر: إعلامه أنّ قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده، وبدّلوا دينهم بعده. فيكون بذلك جامعًا إعلامَه حالَهم بعده، وتحذيرًا له قيله.

قال أبو جعفر: وأما تأويل الكلام، فإنه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين « ، أي: معبودين تعبدونهما من دون الله. قال عيسى: تنـزيهًا لك يا رب وتعظيمًا أن أفعل ذلك أو أتكلم به ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق » ، يقول: ليس لي أن أقول ذلك، لأني عبد مخلوق، وأمي أمَةٌ لك, وكيف يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ « إن كنت قلته فقد علمته » , يقول: إنك لا يخفى عليك شيء, وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمُرهم به.

 

القول في تأويل قوله : تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 116 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه يبرأ إليه مما قالت فيه وفي أمه الكفرةُ من النصارى، أن يكون دعاهم إليه أو أمرهم به, فقال: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ . ثم قال: « تعلم ما في نفسي » ، يقول: إنك، يا رب، لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطق به ولم أظهره بجوارحي, فكيف بما قد نطقتُ به وأظهرته بجوارحي؟ يقول: لو كنت قد قلت للناس: « اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » ، كنت قد علمته, لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما قد نطقت به؟ « ولا أعلم ما في نفسك » ، يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه, لأني إنما أعلم من الأشياء ما أعلمتنيه « إنك أنت عَلام الغيوب » ، يقول: إنك أنت العالم بخفيّات الأمور التي لا يطلع عليها سواك، ولا يعلمها غيرك.

 

القول في تأويل قوله : مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 117 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول عيسى, يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم, وهو أن قلت لهم: « اعبدوا الله ربي وربكم » « وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم » ، يقول: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم « فلما توفيتني » ، يقول: فلما قبضتني إليك « كنت أنت الرقيب عليهم » ، يقول: كنت أنت الحفيظ عليهم دوني, لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم.

وفي هذا تبيانُ أن الله تعالى ذكره إنما عرّفه أفعالَ القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ .

« وأنت على كل شيء شهيد » يقول: وأنت تشهد على كل شيء, لأنه لا يخفى عليك شيء, وأما أنا، فإنما شهدت بعض الأشياء, وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظهر القوم, فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيتُ وشهدت.

وبنحو الذي قلنا في قوله: « كنت أنت الرقيب عليهم » ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدى: « كنت أنت الرقيب عليهم » ، أما « الرقيب » ، فهو الحفيظ.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « كنت أنت الرقيب عليهم » ، قال: الحفيظ.

وكانت جماعة من أهل العلم تقول: كان جواب عيسى الذي أجاب به ربَّه من الله تعالى، توقيفًا منه له فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ، قال: الله وقَّفَه.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو داود الحفري قال ، قرئ على سفيان, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه طاوس قال : احتج عيسى، والله وقّفه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، الآية.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن عطاء, عن ميسرة قال : قال الله تعالى ذكره: « يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » ؟ قال: فأُرعدت مفاصله, وخشى أن يكون قد قالها, فقال: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ .

 

القول في تأويل قوله : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 118 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنْ تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها « فإنهم عبادك » ، مستسلمون لك, لا يمتنعون مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به « وإن تغفر لهم » ، بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم « فإنك أنت العزيز » ، في انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه « الحكيم » ، في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة، وتوفيقه من وفَّق منهم لسبيل النجاة من العقاب، كالذي:-

حثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم » ، فتخرجهم من النصرانية، وتهديهم إلى الإسلام « فإنك أنت العزيز الحكيم » . وهذا قول عيسى في الدنيا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » ، قال: والله ما كانوا طعَّانين ولا لعَّانين.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: « هذا يوم ينفع الصادقين » . فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة: ( هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ ) ، بنصب « يوم » .

وقرأه بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة، وعامة قرأة أهل العراق: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ ، برفع « يوم » . فمن رفعه رفعه ب « هذا » , وجعل « يوم » اسمًا, وإن كانت إضافته غير محضة, لأنه قد صار كالمنعوت. وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الأوقات مثل « اليوم » و « الليلة » ، عملهم فيما بعدها. إن كان ما بعدها رفعًا رفعوها, كقولهم: « هذا يومُ يركب الأمير » , و « ليلةُ يصدر الحاج » , و « يومُ أخوك منطلق » . وإن كان ما بعدها نصبًا نصبوها, وذلك كقولهم: « هذا يومَ خرج الجيش، وسار الناس » , و « ليلةَ قتل زيد » ، ونحو ذلك, وإن كان معناها في الحالين « إذ » و « إذا » .

وكأن من قرأ هذا هكذا رفعًا، وجَّه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة.

وكذلك كان السدي يقول في ذلك.

حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قال الله: « هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم » ، هذا فصل من كلام عيسى, وهذا يوم القيامة.

يعني السدي بقوله: « هذا فصل من كلام عيسى » : أن قوله: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إلى قوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، من خبر الله عز وجل عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه, وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة.

وأما النصب في ذلك, فإنه يتوجه من وجهين:

أحدهما: أن إضافة « يوم » ما لم تكن إلى اسم، تجعله نصبًا, لأن الإضافة غير محضة, وإنما تكون الإضافة محضة، إذا أضيف إلى اسم صحيح. ونظير « اليوم » في ذلك: « الحين » و « الزمان » ، وما أشبههما من الأزمنة, كما قال النابغة:

عَـلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا وَقُلْـتُ ألَمَّـا تَصْـحُ وَالشَّـيْبُ وَازِعُ

والوجه الآخر: أن يكون مرادًا بالكلام: هذا الأمر وهذا الشأن, يومَ ينفع الصادقين فيكون « اليوم » حينئذ منصوبًا على الوقت والصفة, بمعنى: هذا الأمر في يوم ينفع الصادقين صدقهم.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: ( هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ ) ، بنصب « اليوم » ، على أنه منصوب على الوقت والصفة. لأن معنى الكلام: إنّ الله جل وتعالى ذكره أجاب عيسى حين قال: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، إلى قوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، فقال له عز وجل: هذا القولُ النافعُ أو هذا الصدق النافع يوم ينفع الصادقين صدقهم. ف « اليوم » وقت القول والصدق النافع.

فإن قال قائل: فما موضع « هذا » ؟

قيل: رفع.

فإن قال: فأين رَافعه؟

قيل: مضمر. وكأنه قال: قال الله عز وجل: هذا, هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم, كما قال الشاعر:

أَمَـا تَـرَى السَّـحَابَ كَـيْفَ يَجْرِي ? هــذا, وَلا خَــيْلُكَ يَـا ابْـن بِشْـرِ

يريد: هذا هذا, ولا خيلك.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا لما بينا: قال الله لعيسى: هذا القول النافع في يوم ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم ذلك، في الآخرة عند الله لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، يقول: للصادقين في الدنيا، جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة، ثوابًا لهم من الله عز وجل على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه, فوفوا به لله, فوفى الله عز وجل لهم ما وعدهم من ثوابه خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ، يقول: باقين في الجنات التي أعطاهموها « أبدًا » ، دائمًا، لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول.

وقد بينا فيما مضى أن معنى « الخلود » ، الدوام والبقاء.

 

القول في تأويل قوله : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 119 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: رَضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما وعدوه، من العمل بطاعته واجتناب معاصيه « ورضوا عنه » ، يقول: ورضوا هم عن الله تعالى ذكره في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه فيما أمرهم ونهاهم، من جزيل ثوابه « ذلك الفوز العظيم » ، يقول: هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار, خالدين فيها, مرضيًّا عنهم وراضين عن ربهم, هو الظفر العظيم بالطَّلِبة، وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا, ولها كانوا يعملون فيها, فنالوا ما طلبوا، وأدركوا ما أمَّلوا.

 

القول في تأويل قوله : لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 120 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيها النصارى، « لله ملك السموات والأرض » ، يقول: له سلطان السموات والأرض « وما فيهن » ، دون عيسى الذين تزعمون أنه إلهكم، ودون أمه, ودون جميع من في السموات ومن في الأرض، فإن السموات والأرض خلق من خلقه وما فيهن، وعيسى وأمُّه من بعض ذلك بالحلول والانتقال, يدلان بكونهما في المكان الذي هما فيه بالحلول فيه والانتقال، أنهما عبدان مملوكان لمن له ملك السموات والأرض وما فيهن. ينبِّههم وجميعَ خلقه على موضع حجته عليهم، ليدَّبروه ويعتبروه فيعقلوا عنه « وهو على كل شيء قدير » ، يقول تعالى ذكره: والله الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن, قادرٌ على إفنائهن وعلى إهلاكهن، وإهلاك عيسى وأمه ومن في الأرض جميعًا كما ابتدأ خلقهم, لا يعجزه ذلك ولا شيء أراده، لأن قدرته القدرةُ التي لا تشبهها قدرة، وسلطانه السلطان الذي لا يشبهه سلطان ولا مملكة.

( آخر تفسير سورة المائدة )

 

تفسير سورة الأنعام

القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم

رَبِّ يسِّرْ

 

القول في تأويل قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : « الحمد لله » ، الحمدُ الكامل لله وحده لا شريك له دون جميع الأندادِ والآلهة, ودون ما سواه مما تعبده كَفَرةُ خلْقه من الأوثان والأصنام .

وهذا كلام مخرجه مَخرج الخبر يُنْحَى به نحو الأمر. يقول: أخلصوا الحمد والشكر للذي خَلَقَكم، أيها الناس، وخلق السماوات والأرض, ولا تشركوا معه في ذلك أحدًا أو شيئًا, فإنه المستوجب عليكم الحمدَ بأياديه عندكم ونعمة عليكم, لا من تعبدونه من دونه، وتجعلونه له شريكًا من خَلْقه .

وقد بينا الفصل بين معنى « الحمد والشكر » بشواهده فيما مضى قبل .

 

القول في تأويل قوله : وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض, وأظلم الليلَ ، وأنارَ النَّهار، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وجعل الظلمات والنور » ، قال: الظلمات ظلمة الليل, والنور نورُ النهار .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أمّا قوله: « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور » ، فإنه خلق السَّماوات قبل الأرض, والظلمةَ قبل النور, والجنّة قَبل النار .

فإن قال قائل: فما معنى قوله إذًا: « جعل » .

قيل: إن العرب تجعلها ظرفًا للخبرِ والفِعْل فتقول: « جعلت أفعل كذا » , و « جعلت أقوم وأقعد » , تدل بقولها « جعلت » على اتصال الفعل, كما تقول « علقت أفعل كذا » لا أنها في نفسها فِعْلٌ. يدلُّ على ذلك قول القائل: « جعلت أقوم » , وأنه لا جَعْلَ هناك سوى القيام, وإنما دَلَّ بقوله: « جعلت » على اتّصال الفعل ودوامه،

ومن ذلك قول الشاعر:

وَزَعَمْـتَ أنَّـكَ سَـوْفَ تَسْـلُكُ فَارِدًا وَالمَــوْتُ مُكْــتَنِعٌ طَـرِيقَيْ قَـادِرِ

فَــاجْعَلْ تَحَـلَّلْ مِـنْ يَمِينِـكَ إنَّمَـا حِـنْثٌ اليَمِيـنِ عَـلَى الأثِيـمِ الفَـاجِرِ

يقول: « فاجعل تحلّل » ، بمعنى: تحلل شيئًا بعد شيء لا أن هناك جَعْلا من غير التحليل . فكذلك كل « جَعْلٍ » في الكلام، إنما هو دليل على فعلٍ له اتصال, لا أن له حظًّا في معنى الفعْل.

فقوله: « وجعل الظلمات والنور » ، إنما هو: أظلم ليلَهما، وأنارَ نَهارَهُما.

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 1 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، معجِّبًا خلقَه المؤمنين من كفَرة عباده، ومحتجًّا على الكافرين: إنّ الإله الذي يجبُ عليكم، أيها الناس، حمدُه، هو الذي خلَق السماوات والأرض, الذي جعل منهما معايشَكم وأقواتكم، وأقواتَ أنعامكم التي بها حياتكم. فمن السماوات ينـزل عليكم الغيثُ، وفيها تجري الشمس والقمر باعتِقابٍ واختلاف لمصالحكم. ومن الأرض ينبُتُ الحب الذي به غذاؤكم، والثمارُ التي فيها ملاذُّكم, مع غير ذلك من الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم بها والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم، أيها الناس « بربهم » ، الذي فعل ذلك وأحدثه « يعدلون » ، يجعلون له شريكًا في عبادتهم إياه, فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثانَ, وليس منها شيء شرِكه في خلق شيءٍ من ذلك، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم, بل هو المنفرد بذلك كله, وهم يشركون في عبادتهم إيّاه غيره . فسبحان الله ما أبلغها من حجة، وأوجزها من عظة, لمن فكَّر فيها بعقل، وتدبرها بفهم !

ولقد قيل: إنها فاتحة التوراة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب قال: فاتحة التوراة فاتحة « الأنعام » : « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجَعَل الظلمات والنور ثم الذين كَفَروا بربِّهم يعدلون » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب, عن جعفر بن سليمان, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب, مثله وزاد فيه: وخاتمة التوراة خاتمة « هود » .

يقالُ من مساواة الشيء بالشيء: « عدلتُ هذا بهذا » , إذا ساويته به، « عَدْلا » . وأما في الحكم إذا أنصفت فيه, فإنك تقول: « عَدَلت فيه أعدلُ عَدْلا » .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « يعدلون » ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن محمد عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « يعدلون » ، قال: يشركون .

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بذلك:

فقال بعضهم: عُني به أهل الكتاب .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن ابن أبزى قال: جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية: « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربِّهم يعدِلون » ، قال له: أليس الذين كفروا بربِّهم يعدلون؟ قال: بلى ! قال: وانصرف عنه الرجل, فقال له رجل من القوم: يا ابن أبزى, إن هذا قد أراد تفسيرَ هذه غير هذا! إنه رجلٌ من الخوارج ! فقال: ردّوه عليّ . فلما جاءه قال: هل تدري فيمن نـزلت هذه الآية؟ قال: لا! قال: إنها نـزلت في أهل الكتاب, اذهبْ، ولا تضعها على غير حدِّها .

وقال آخرون: بل عُنى بها المشركون من عبدةِ الأوثان .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » ، قال: [ هؤلاء: أهل صراحيه ] .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » ، قال: هم المشركون .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » ، قال: الآلهة التي عبَدوها، عدلوها بالله . قال: وليس لله عِدْلٌ ولا نِدٌ, وليس معه آلهة, ولا اتخذ صاحبةً ولا ولدًا .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أخبر أنّ الذين كفروا بربهم يعدلون, فعمّ بذلك جميع الكفّار, ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. فجميعهم داخلون في ذلك: يهودهم, ونصاراهم, ومجوسهم, وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر .

 

القول في تأويل قوله : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « هو الذي خلقكم من طين » ، أن الله الذي خلق السماوات والأرض, وأظلم ليلهما وأنَار نهارهما, ثم كفر به مع إنعامه عليهم الكافرون, وعدلوا به من لا ينفعهم ولا يضرُّهم . هو الذي خلقكم، أيها الناس، من طين. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره: أنَّ الناس وَلدُ مَنْ خلقه من طين, فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم, إذ كانوا وَلَده .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « هو الذي خلقكم من طين » ، بدءُ الخلق، خلقَ الله آدم من طين .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « هو الذي خلقكم من طين » ، قال: هو آدم .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا « خلقكم من طين » ، فآدم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم قال: خلق آدم من طين, وخلق الناس من سُلالةٍ من ماءٍ مَهين .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « خلقكم من طين » ، قال: خلق آدم من طين, ثم خلقنا من آدم حين أخذَنا من ظهره .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى قوله: « ثم قضى أجلا » ، ثم قضى لكم، أيها الناس، « أجلا » . وذلك ما بين أن يُخْلق إلى أن يموت « وأجل مسمى عنده » ، وذلك ما بين أن يموت إلى أن يبعث .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع وهناد بن السري قالا حدثنا وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن الحسن في قوله: « قضى أجلا » ، قال: ما بين أن يخلق إلى أن يموت « وأجل مسمى عنده » ، قال: ما بين أن يموت إلى أن يبعث .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ثم قضى أجلا وأجلٌ مسمى عِنده » ، كان يقول: أجل حياتك إلى أن تموت، وأجل موتك إلى أن تُبْعث. فأنت بين أجَلين من الله تعالى ذكره .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم: « قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قال: قضى أجل الموت, وكل نفسٍ أجلها الموت . قال: ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها « وأجل مسمى عنده » ، يعني: أجل الساعة، ذهاب الدنيا، والإفضاءُ إلى الله .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم قضى الدنيا، وعنده الآخرة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله: « أجلا » ، قال: الدنيا « وأجل مسمى عنده » ، الآخرة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو عاصم, عن زكريا بن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قضى أجلا » ، قال: الآخرة عنده « وأجل مسمى » ، الدنيا .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أجلا » ، قال: الآخرة عنده « وأجل مسمًّى » ، قال: الدنيا .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أجلا » ، قال: الآخرة عنده « وأجل مسمى » ، قال: الدنيا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة والحسن: « ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قالا قضى أجل الدنيا، من حين خلقك إلى أن تموت « وأجل مسمى عنده » ، يوم القيامة .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: « ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قال: قَضَى أجل الدنيا « وأجل مسمى عنده » ، قال: هو أجل البعث .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: « ثم قضى أجلا » ، قال: الموت « وأجل مسمى عنده » ، الآخرة .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة والحسن في قوله: « قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قالا قضى أجل الدنيا، منذ يوم خلقت إلى أن تموت « وأجل مسمى عنده » ، يوم القيامة .

حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد: « قضى أجلا » ، قال: أجل الدنيا « وأجل مسمى عنده » ، قال: البعث .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ثم قضى أجلا وأجلٌ مسمى عنده » ، يعني: أجل الموت « والأجل المسمى » ، أجلُ الساعة والوقوفِ عند الله .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قضى أجلا » ، قال: أمّا « قضى أجلا » ، فأجل الموت « وأجل مسمى عنده » ، يوم القيامة .

وقال آخرون في ذلك بما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قال: أمّا قوله: « قضى أجلا » ، فهو النومُ، تُقْبض فيه الروح، ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة « وأجل مسمى عنده » ، هو أجل موت الإنسان .

وقال آخرون بما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب في قوله: « هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون » ، قال: خلق آدم من طين, ثم خلقنا من آدم, أخذنا من ظهره, ثم أخذ الأجل والمِيثاق في أجلٍ واحد مسمًّى في هذه الحياة الدنيا .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: ثم قضى أجلَ الحياة الدنيا « وأجلٌ مسمى عنده » ، وهو أجل البَعْث عنده .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأنه تعالى ذكره نبَّه خلقَه على موضع حُجَّته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس, إن الذي يعدِلُ به كفارُكم الآلهةَ والأندادَ ، هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين, فجعلكم صورًا أجساًما أحياءً، بعد إذ كنتم طينًا جمادًا, ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم, ليعيدكم ترابًا وطينًا كالذي كنتم قبل أن ينشئكم ويخلقكم وأجل مسمى عندَه لإعادتكم أحياءً وأجسامًا كالذي كنتم قبل مماتكم . وذلك نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، [ سورة البقرة: 28 ] .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ( 2 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم أنتم تَشكُّون في قدرة من قَدَر على خلق السماوات والأرض, وإظلام الليل وإنارة النهار, وخلقكم من طين حتى صيَّركم بالهيئة التي أنتم بها على إنشائه إياكم من بعد مماتكم وفنائكم, وإيجاده إيّاكم بعد عدمكم .

و « المرية » في كلام العرب، هي الشك. وقد بيّنت ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته.

وقد:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « ثم أنتم تمترون » ، قال: الشك . قال: وقرأ قول الله: فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [ سورة هود: 17 ] ، قال: في شكٍّ منه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم أنتم تمترون » ، بمثله .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ( 3 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذي له الألوهةُ التي لا تنبغي لغيره، المستحقَّ عليكم إخلاصَ الحمد له بآلائه عندكم، أيها الناس، الذي يعدل به كفاركم مَن سواه, هو الله الذي هو في السماوات وفي الأرض يعلم سِرَّكم وجَهْركم، فلا يخفى عليه شيء. يقول: فربكم الذي يستحقُّ عليكم الحمدَ، ويجب عليكم إخلاصُ العبادة له, هو هذا الذي صفته لا من لا يقدر لكم على ضرّ ولا نفع، ولا يعمل شيئًا، ولا يدفع عن نفسه سُوءًا أريد بها .

وأما قوله: « ويعلم ما تكسبون » ، يقول: ويعلم ما تَعمَلون وتجرَحُون, فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 4 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما تأتي هؤلاء الكفار الذين بربهم يعدِلون أوثانَهم وآلهتهم « آية من آيات ربهم » ، يقول: حجّة وعلامة ودلالة من حُجج ربهم ودلالاته وأعلامه على وحدانيته، وحقيقة نبوتك، يا محمد، وصدق ما أتيتهم به من عندي « إلا كانوا عنها معرضين » ، يقول: إلا أعرضوا عنها, يعني عن الآية, فصدّوا عن قَبُولها والإقرار بما شهدت على حقيقته ودلّت على صحته, جهلا منهم بالله، واغترارًا بحلمه عنهم .

 

القول في تأويل قوله : فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 5 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقد كذب هؤلاء العادلون بالله، الحقَّ لما جاءهم, وذلك « الحق » ، هو محمد صلى الله عليه وسلم كذّبوا به, وجحدوا نبوَّته لما جاءهم. قال الله لهم متوعّدًا على تكذيبهم إياه وجحودِهم نبوَّته: سوف يأتي المكذّبين بك، يا محمد، من قومِك وغيرهم « أنْباء ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: سوف يأتيهم أخبارُ استهزائهم بما كانوا به يستهزئون من آياتي وأدلَّتي التي آتيتهم . ثم وفى لهم بوعيده لمّا تمادَوا في غيِّهم، وعَتْوا على ربهم, فقتلتهم يوم بدرٍ بالسَّيف .

 

القول في تأويل قوله : أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( 6 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ألم يرَ هؤلاء المكذبون بآياتي، الجاحدون نبوّتك, كثرةَ من أهلكت من قبلهم من القُرون وهم الأمم الذين وطَّأت لهم البلادَ والأرض توطئة لم أوطِّئها لهم, وأعطيتهم فيها ما لم أعطهم؟ كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم » ، يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم .

قال أبو جعفر: أمطرت فأخرجت لهم الأشجارُ ثمارها, وأعطتهم الأرض رَيْع نَباتها, وجابوا صخورَ جبالها, ودرَّت عليهم السماء بأمطارها, وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني, فغمَطُوا نعمة ربهم، وعصوا رسولَ خالقهم، وخالفوا أمرَ بارئهم, وبغَوْا حتى حقَّ عليهم قَوْلي, فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم، وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم, وأهلكت بعضهم بالرَّجفة، وبعضهم بالصيحة، وغير ذلك من أنواع العذاب .

ومعنى قوله: « وأرسلنا السماء عليهم مدرارًا » ، المطرَ. ويعني بقوله: « مدرارًا » ، غزيرة دائمةً « وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين » ، يقول: وأحدثنا من بعد الذين أهلكناهم قرنًا آخرين، فابتدأنَا سِواهم .

فإن قال قائل: فما وجهُ قوله: « مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم » ؟ ومن المخاطب بذلك؟ فقد ابتدأ الخبر في أول الآية عن قوم غَيَبٍ بقوله: « ألم يروا كم أهلكنا من قَبَلهم من قرن » ؟

قيل: إن المخاطب بقوله: « ما لم نمكن لكم » ، هو المخبر عنهم بقوله: « ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن » ، ولكن في الخبر معنى القول ومعناه: قُلْ، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين كذبوا بالحقِّ لما جاءهم: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قَرْن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم.

والعرب إذا أخبرت خبرًا عن غائبٍ ، وأدخلت فيه « قولا » ، فعلت ذلك، فوجهت الخبرَ أحيانًا إلى الخبر عن الغائب, وأحيانًا إلى الخطاب, فتقول: « قلت لعبد الله: ما أكرمه » , و « قلت لعبد الله: ما أكرمك » , وتخبر عنه أحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، ثم تعود إلى الخطاب. وتخبر على وجه الخطاب له، ثم تعود إلى الخبر عن الغائب. وذلك في كلامها وأشعارها كثيرٌ فاشٍ. وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقد كان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك: كأنه أخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خاطبه معهم. وقال: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ] ، فجاء بلفظ الغائب، وهو يخاطب, لأنه المخاطَب .

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 )

قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، عن هؤلاء القوم الذين يعدلون بربهم الأوثانَ والآلهة والأصنام. يقول تعالى ذكره: وكيف يتفقهون الآيات, أم كيف يستدِلُّون على بُطْلان ما هم عليه مُقِيمون من الكفر بالله وجحودِ نبوتك، بحجج الله وآياته وأدلته, وهم لعنادهم الحقَّ وبعدِهم من الرشد, لو أنـزلت عليك، يا محمد، الوحيَ الذي أنـزلته عليك مع رسولي، في قِرْطاس يعاينونه ويمسُّونه بأيديهم، وينظرون إليه ويقرءونه منه، معلَّقًا بين السماء والأرض، بحقيقة ما تدعوهم إليه، وصحَّةِ ما تأتيهم به من توحيدي وتنـزيلي, لقال الذين يعدلُون بي غيري فيشركون في توحيدِي سواي: « إنْ هذا إلا سحرٌ مبينٌ » ، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحرتَ به أعيننا, ليست له حقيقة ولا صحة « مبين » ، يقول: مبين لمن تدبّره وتأمَّله أنه سحر لا حقيقة له.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم » ، قال: فمسوه ونظروا إليه، لم يصدِّقوا به .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولو نـزلنا عليك كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم » ، يقول: فعاينوه معاينة « لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحرٌ مبين » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولو نـزلنا عليك كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم » ، يقول: لو نـزلنا من السماء صُحُفًا فيها كتاب فلمسوه بأيديهم, لزادهم ذلك تكذيبًا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولو نـزلنا عليك كتابًا في قرطاس » ، الصحف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « في قرطاس » ، يقول: في صحيفة « فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إنْ هذا إلا سحرٌ مبين » .

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ( 8 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المكذبون بآياتي، العادلون بي الأندادَ والآلهةَ، يا محمد، لك لو دعوتهم إلى توحيدي والإقرار بربوبيتي, وإذا أتيتهم من الآيات والعبر بما أتيتهم به، واحتججت عليهم بما احتججت عليهم مما قطعتَ به عذرَهم: هَلا نـزل عليك ملك من السماء في صورته، يصدّقكَ على ما جئتنا به, ويشهد لك بحقيقة ما تدَّعي من أنَّ الله أرسلك إلينا! كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن المشركين في قِيلهم لنبي الله صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [ سورة الفرقان: 7 ] ، « ولو أنـزلنا مَلَكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، يقول: ولو أنـزلنا ملكًا على ما سألوا، ثم كفروا ولم يؤمنوا بي وبرسولي, لجاءهم العذابُ عاجلا غيرَ آجل, ولم يُنْظروا فيؤخَّروا بالعقوبة مراجعةَ التوبة, كما فعلت بمن قبلهم من الأمم التي سألت الآيات، ثم كفرت بعد مجيئها، من تعجيل النقمة، وترك الإنظار، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، يقول: لجاءهم العذاب.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، يقول: ولو أنهم أنـزلنا إليهم ملكًا، ثم لم يؤمنوا، لم يُنْظَروا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « لولا أنـزل عليه ملك » في صورته « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر » ، لقامت الساعة.

حدثنا ابن وكيع, عن أبيه قال، حدثنا أبو أسامة, عن سفيان الثوري, عن عكرمة: « لقضي الأمر » ، قال: لقامت الساعة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر » ، قال يقول: لو أنـزل الله ملكًا ثم لم يؤمنوا, لعجل لهم العذاب.

وقال آخرون في ذلك بما :-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، أخبرنا بشر بن عمارة, عن أبي روق، عن الضحاك, عن ابن عباس قوله: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، قالا لو آتاهم ملك في صورته لماتوا, ثم لم يؤخَّرُوا طرفةَ عينٍ .

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا رسولنا إلى هؤلاء العادلِين بي, القائلين: لولا أنـزل على محمّدٍ ملك بتصديقه- ملكًا ينـزل عليهم من السماء, يشهد بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم باتباعه « لجعلناه رجلا » ، يقول: لجعلناه في صورة رجل من البشر, لأنهم لا يقدرون أن يروا الملك في صورته . يقول: وإذا كان ذلك كذلك, فسواء أنـزلت عليهم بذلك ملكًا أو بشرًا, إذ كنت إذا أنـزلت عليهم ملكًا إنما أنـزله بصورة إنسيّ, وحججي في كلتا الحالتين عليهم ثابتة: بأنك صادق، وأنّ ما جئتهم به حق.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: ما آتاهم إلا في صورة رجل, لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، في صورة رجل، في خَلْق رجل.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: لو بعثنا إليهم ملكًا لجعلناه في صورة آدم.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: في صورة آدمي.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » قال: لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل, لم نرسله في صورة الملائكة .

 

القول في تأويل قوله : وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ( 9 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وللبسنا عليهم » : ولو أنـزلنا ملكًا من السماء مصدِّقًا لك، يا محمد, شاهدًا لك عند هؤلاء العادلين بي، الجاحدين آياتِك على حقيقة نبوّتك, فجعلناه في صورة رجل من بني آدم، إذ كانوا لا يُطيقون رؤية الملك بصورته التي خلقتُه بها التبس عليهم أمرُه، فلم يدروا أملك هو أمْ إنسيّ! فلم يوقنوا به أنَّه ملك، ولم يصدّقوا به, وقالوا: « ليس هذا ملكًا » ! وللبسنا عليهم ما يلبسونه على أنفسهم من حقيقة أمرك، وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك.

يقال منه: « لَبَست عليهم الأمر أَلْبِسُه لَبْسًا » ، إذا خلطته عليهم « ولبست الثوبَ ألبَسُه لُبْسًا » . و « اللَّبوس » ، اسم الثياب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: لشبَّهنا عليهم.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: ما لبَّس قوم على أنفسهم إلا لَبَّس الله عليهم. واللَّبْس إنما هو من الناس.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: شبَّهنا عليهم ما يشبِّهون على أنفسهم .

وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول آخر, وهو ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، فهم أهل الكتاب، فارقوا دينهم، وكذَّبوا رسلهم, وهو تحريفُ الكلام عن مواضعه .

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يعني: التحريفَ، هم أهل الكتاب, فرقوا كتبهم ودينَهم، وكذَّبوا رسلهم, فلبَّس الله عليهم ما لبَّسوا على أنفسهم .

وقد بينا فيما مضى قبل أن هذه الآيات من أوّل السورة، بأن تكون في أمر المشركين من عبدة الأوثان، أشبهُ منها بأمرِ أهل الكتاب من اليهود والنصارى, بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 10 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، مسليًّا عنه بوعيده المستهزئين به عقوبةَ ما يلقى منهم من أذىَ الاستهزاء به، والاستخفاف في ذات الله: هَوِّنْ عليك، يا محمد، ما أنت لاقٍ من هؤلاء المستهزئين بك، المستخفِّين بحقك فيّ وفي طاعتي, وامضِ لما أمرتك به من الدُّعاء إلى توحيدي والإقرار بي والإذعان لطاعتي، فإنهم إن تمادوا في غيِّهم، وأصَرُّوا على المقام على كفرهم, نسلك بهم سبيلَ أسلافهم من سائر الأمم من غيرهم، من تعجيل النقمة لهم، وحلول المَثُلاثِ بهم. فقد استهزأت أمم من قبلك برسلٍ أرسلتهم إليهم بمثل الذي أرسلتك به إلى قومك, وفعلوا مثل ما فعل قومُك بك « فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون » ، يعني بقوله: « فحاق » ، فنـزل وأحاط بالذين هزئوا من رسلهم « ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: العذابُ الذي كانوا يهزءون به، وينكرون أن يكون واقعًا بهم على ما أنذرتهم رسلهم .

يقال منه: « حاق بهم هذا الأمر يَحِيقُ بهم حَيْقًا وحُيُوقًا وحَيَقَانًا » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فحاق بالذين سخروا منهم » ، من الرسل « ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 11 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « قل » ، يا محمد لهؤلاء العادلين بيَ الأوثانَ والأندادَ، المكذِّبين بك، الجاحدين حقيقة ما جئتهم به من عندي « سيروا في الأرض » ، يقول: جولوا في بلاد المكذِّبين رسلَهم، الجاحدين آياتي مِنْ قبلهم من ضُرَبائهم وأشكالهم من الناس « ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين » ، يقول: ثم انظروا كيف أعقَبَهم تكذيبهم ذلك، الهلاكَ والعطبَ وخزيَ الدنيا وعارَها, وما حَلَّ بهم من سَخَط الله عليهم، من البوار وخراب الديار وعفوِّ الآثار. فاعتبروا به, إن لم تنهكم حُلُومكم, ولم تزجركم حُجج الله عليكم, عمَّا أنتم [ عليه ] مقيمون من التكذيب, فاحذروا مثل مصارعهم، واتقوا أن يحلّ بكم مثلُ الذي حلّ بهم.

وكان قتادة يقول في ذلك بما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين » ، دمَّر الله عليهم وأهلكهم، ثم صيَّرهم إلى النار.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم « لمن ما في السماوات والأرض » ، يقول: لمن ملك ما في السماوات والأرض؟ ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبدَ كل شيء، وقهر كل شيء بملكه وسلطانه لا للأوثان والأنداد، ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلهًا من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضُرًّا.

وقوله: « كتب على نفسه الرحمة » ، يقول: قضى أنَّه بعباده رحيم, لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.

وهذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة.

يقول تعالى ذكره: أن هؤلاء العادلين بي، الجاحدين نبوّتك، يا محمد, إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم, وإني قد قضيت في خَلْقي أنّ رحمتي وسعت كل شيء، كالذي:-

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن ذكوان, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما فرغ الله من الخلق، كتب كتابًا: » إنّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي « . »

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: إنّ الله تعالى ذكره لما خلق السماء والأرض, خلق مئة رحمةٍ, كل رحمة ملء ما بين السماء إلى الأرض. فعنده تسع وتسعون رحمةً, وقسم رحمة بين الخلائق. فبها يتعاطفون، وبها تشرب الوَحْش والطير الماءَ. فإذا كان يوم ذلك، قصرها الله على المتقين، وزادهم تسعًا وتسعين.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن داود, عن أبي عثمان, عن سلمان، نحوه إلا أن ابن أبي عدي لم يذكر في حديثه: « وبها تشرب الوحش والطير الماء » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: نجد في التوراة عطفتين: أن الله خلق السماوات والأرض, ثم خلق مئة رحمة أو: جعل مئة رحمة قبل أن يخلق الخلق. ثم خلق الخلق، فوضع بينهم رحمة واحدة, وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال: فبها يتراحمون, وبها يتباذلون, وبها يتعاطفون, وبها يتزاورون, وبها تحنُّ الناقة, وبها تثُوجُ البقرة, وبها تيعر الشاة, وبها تتَّابع الطير, وبها تتَّابع الحيتان في البحر. فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده. ورحمته أفضل وأوسع.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان في قوله: « كتب على نفسه الرحمة » ، الآية قال: إنا نجد في التوراة عَطْفتين ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: « وبها تَتَابع الطير, وبها تَتَابع الحيتان في البحر » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال ابن طاوس, عن أبيه: إن الله تعالى ذكره لما خلق الخلق, لم يعطف شيء على شيء, حتى خلق مئة رحمة, فوضع بينهم رحمة واحدة, فعطف بعضُ الخلق على بعض.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه، بمثله .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، وأخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة ، حسبته أسنده قال: إذا فرغ الله عز وجلّ من القضاء بين خلقه, أخرج كتابًا من تحت العرش فيه: « إن رحمتي سبقت غضبي, وأنا أرحم الراحمين » ، قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال: « مِثلا أهل الجنة » , ولا أعلمه إلا قال: « مثلا » , وأما « مثل » فلا أشك مكتوبًا ها هنا, وأشار الحكم إلى نحره, « عتقاء الله » ، فقال رجل لعكرمة: يا أبا عبد الله, فإن الله يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [ سورة المائدة: 37 ] ؟ قال: ويلك ! أولئك أهلها الذين هم أهلها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة ، حسبت أنه أسنده قال: إذا كان يوم القيامة، أخرج الله كتابًا من تحت العرش ثم ذكر نحوه, غير أنه قال: فقال رجل: يا أبا عبد الله, أرأيت قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وسائر الحديث مثل حديث ابن عبد الأعلى .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما قضى الله الخلق، كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: » إنّ رحمتي سبقت غضبي « . »

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن لله مئة رحمة, فأهبط رحمةً إلى أهل الدنيا، يتراحم بها الجن والإنس، وطائر السماء، وحيتان الماء، ودوابّ الأرض وهوامّها. وما بين الهواء. واختزن عنده تسعًا وتسعين رحمة, حتى إذا كان يوم القيامة، اختلج الرحمةَ التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا, فحواها إلى ما عنده, فجعلها في قلوب أهل الجنة، وعلى أهل الجنة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: قال عبد الله بن عمرو: إن لله مئة رحمة, أهبط منها إلى الأرض رحمة واحدة، يتراحم بها الجنّ والإنس، والطير والبهائم وهوامُّ الأرض.

حدثنا محمد بن عوف قال، أخبرنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج قال، حدثنا صفوان بن عمرو قال، حدثني أبو المخارق زهير بن سالم قال، قال عمر لكعب: ما أوَّل شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابًا لم يكتبه بقلم ولا مداد, ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت « أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي » .

 

القول في تأويل قوله : لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ

قال أبو جعفر: وهذه « اللام » التي في قوله: « ليجمعنكم » ، لام قسم .

ثم اختلف أهل العربية في جالبها, فكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت « الرحمة » غاية كلام، ثم استأنفت بعدها: « ليجمعنكم » . قال: وإن شئت جعلتَه في موضع نصب يعني: كتب ليجمعنكم كما قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [ سورة الأنعام: 54 ] ، يريد: كتب أنه من عمل منكم قال: والعرب تقول في الحروف التي يصلح معها جوابُ كلام الأيمان ب « أن » المفتوحة وب « اللام » , فيقولون: « أرسلت إليه أن يقوم » , « وأرسلت إليه ليقومن » . قال: وكذلك قوله: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ، [ سورة يوسف: 35 ] . قال: وهو في القرآن كثير. ألا ترى أنك لو قلت: « بدا لهم أن يسجنوه » , لكان صوابًا؟ وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصبت « لام » « ليجمعنكم » ، لأن معنى: « كتب » [ : فرضَ، وأوجب، وهو بمعنى القسم ] ، كأنه قال: والله ليجمعنكم.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يكون قوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، غايةً, وأن يكون قوله: « ليجمعنكم » ، خبرًا مبتدأ ويكون معنى الكلام حينئذ: ليجمعنكم الله، أيها العادلون بالله، ليوم القيامة الذي لا ريب فيه، لينتقم منكم بكفركم به.

وإنما قلت: هذا القول أولى بالصواب من إعمال « كتب » في « ليجمعنكم » ، لأن قوله: « كتب » قد عمل في الرحمة, فغير جائز، وقد عمل في « الرحمة » ، أن يعمل في « ليجمعنكم » ، لأنه لا يتعدَّى إلى اثنين.

فإن قال قائل: فما أنت قائل في قراءة من قرأ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ ، [ سورة الأنعام: 54 ] بفتح « أنّ » ؟

قيل: إن ذلك إذ قرئ كذلك, فإن « أنّ » بيانٌ عن « الرحمة » ، وترجمة عنها. لأن معنى الكلام: كتب على نفسه الرحمة أن يرحم [ من تاب ] من عباده بعد اقتراف السوء بجهالة ويعفو، و « الرحمة » ، يترجم عنها ويبيَّن معناها بصفتها. وليس من صفة الرحمة « ليجمعنكم إلى يوم القيامة » ، فيكون مبينًا به عنها. فإذ كان ذلك كذلك, فلم يبق إلا أن تنصب بنية تكرير « كتب » مرة أخرى معه, ولا ضرورة بالكلام إلى ذلك، فيوجَّه إلى ما ليس بموجود في ظاهره.

وأما تأويل قوله: « لا ريب فيه » ، فإنه لا شك فيه, يقول: في أنّ الله يجمعكم إلى يوم القيامة، فيحشركم إليه جميعًا, ثم يؤتى كلَّ عامل منكم أجرَ ما عمل من حسن أو سيئ .

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 12 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، العادلين به الأوثانَ والأصنامَ. يقول تعالى ذكره: ليجمعن الله « الذين خسروا أنفسهم » , يقول: الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها بادعائهم لله الندَّ والعَدِيل, فأوبقوها باستيجابهم سَخَط الله وأليم عقابه في المعاد.

وأصل « الخسار » ، الغُبْنُ. يقال منه « : خسر الرجل في البيع » ، إذا غبن, كما قال الأعشى:

لا يَــأخُذُ الرِّشْــوَةَ فِــي حُكْمِـهِ وَلا يُبَـــالِي خَسَـــرَ الخَاسِــر

وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته.

وموضوع « الذين » في قوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، نصبٌ على الرد على « الكاف والميم » في قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ ، على وجه البيان عنها. وذلك أنّ الذين خسروا أنفسهم, هم الذين خوطبوا بقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ .

وقوله: « فهم لا يؤمنون » ، يقول: « فهم » ، لإهلاكهم أنفسهم وغَبْنهم إياه حظَّها « لا يؤمنون » , أي لا يوحِّدون الله، ولا يصدِّقون بوعده ووعيده، ولا يقرُّون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله : وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 13 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يؤمن هؤلاء العادلون بالله الأوثانَ, فيخلصوا له التوحيد، ويُفْرِدوا له الطاعة، ويقرّوا بالألوهية، جهلا « وله ما سكن في الليل والنهار » ، يقول: وله ملك كل شيء, لأنه لا شيء من خلق الله إلا وهو ساكنٌ في الليل والنهار. فمعلوم بذلك أن معناه ما وصفنا « وهو السميع » ، يقول: وهو السميع ما يقول هؤلاء المشركون فيه، من ادّعائهم له شريكًا, وما يقول غيرهم من خلقه « العليم » ، بما يضمرونه في أنفسهم، وما يظهرونه بجوارحهم, لا يخفى عليه شيء من ذلك, فهو يحصيه عليهم, ليوفّي كل إنسان ثوابَ ما اكتسبَ، وجزاء ما عمل .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « سكن » ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وله ما سكن في الليل والنهار » ، يقول: ما استقرَّ في الليل والنهار.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثانَ والأصنامَ, والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك, الداعين إلى عبادة الآلهة والأوثان: أشيئًا غيرَ الله تعالى ذكره: « أتخذ وليًّا » ، أستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل أغير الله أتخذ وليًّا » ، قال: أما « الولي » ، فالذي يتولَّونه ويقرّون له بالربوبية .

« فاطر السماوات والأرض » ، يقول: أشيئًا غير الله فاطر السماوات والأرض أتخذ وليًّا؟ ف « فاطر السماوات » ، من نعت « الله » وصفته، ولذلك خُفِض.

ويعني بقوله: « فاطر السماوات والأرض » ، مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما، كالذي:-

حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان, عن سفيان, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما « فاطر السماوات والأرض » , حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر, فقال أحدهما لصاحبه: « أنا فَطَرتها » , يقول: أنا ابتدأتها.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فاطر السماوات والأرض » ، قال: خالق السماوات والأرض.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فاطر السماوات والأرض » ، قال: خالق السماوات والأرض.

يقال من ذلك: « فطرها الله يَفطُرُها وَيفطِرها فَطرًا وفطورًا » ومنه قوله: هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [ سورة الملك: 3 ] ، يعني: شقوقًا وصدوعًا. يقال: « سيف فُطارٌ » ، إذا كثر فيه التشقق, وهو عيب فيه، ومنه قول عنترة:

وَسَــيْفِي كَالْعَقِيقَــةِ فَهْـوَ كِـمْعِي, سِـــلاحِي, لا أَفَــلَّ وَلا فُطَــارَا

ومنه يقال: « فَطَر ناب الجمل » ، إذا تشقق اللحم فخرج، ومنه قوله: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [ سورة الشورى: 5 ] ، أي: يتشققن، ويتصدعن.

وأما قوله: « وهو يطعم ولا يطعم » ، فإنه يعني : وهو يرزق خلقه ولا يرزق، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهو يطعم ولا يطعم » ، قال: يَرْزق, ولا يُرزق.

وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يَطْعَمُ ) ، أي: أنه يُطعم خلقه, ولا يأكل هو ولا معنى لذلك، لقلة القراءة به.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 14 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، للذين يدعونك إلى اتخاذ الآلهة أولياء من دون الله، ويحثّونك على عبادتها: أغير الله فاطر السماوات والأرض, وهو يرزقني وغيري ولا يرزقه أحد, أتخذ وليًّا هو له عبد مملوك وخلق مخلوق؟ وقل لهم أيضًا: إني أمرني ربي: « أن أكون أول من أسلم » يقول: أوّل من خضع له بالعبودية، وتذلّل لأمره ونهيه، وانقاد له من أهل دهرِي وزماني « ولا تكوننَّ من المشركين » ، يقول: وقل: وقيل لي: لا تكونن من المشركين بالله، الذين يجعلون الآلهة والأنداد شركاء.

وجعل قوله: « أمرت » بدلا من: « قيل لي » , لأن قوله « أمرت » معناه: « قيل لي » . فكأنه قيل: قل إني قيل لي: كن أول من أسلم, ولا تكونن من المشركين فاجتزئ بذكر « الأمر » من ذكر « القول » , إذ كان « الأمر » ، معلومًا أنه « قول » .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 15 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين العادلين بالله، الذين يدعونك إلى عبادة أوثانهم: إنّ ربي نهاني عن عبادة شيء سواه « وإني أخاف إن عصيت ربي » , فعبدتها « عذاب يوم عظيم » , يعني: عذاب يوم القيامة. ووصفه تعالى ب « العظم » لعظم هَوْله، وفظاعة شأنه .

 

القول في تأويل قوله : مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 16 )

قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ ، بضم « الياء » وفتح « الراء » , بمعنى: من يُصرف عنه العذاب يومئذ .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: ( مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ ) ، بفتح « الياء » وكسر « الراء » , بمعنى: من يصرف الله عنه العذاب يومئذ.

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي, قراءة من قرأه: ( يَصْرِفْ عَنْهُ ) ، بفتح « الياء » وكسر « الراء » , لدلالة قوله: « فقد رحمه » على صحة ذلك, وأنّ القراءة فيه بتسمية فاعله. ولو كانت القراءة في قوله: « من يصرف » ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله, كان الوجه في قوله: « فقد رحمه » أن يقال : « فقد رُحِم » غير مسمى فاعله. وفي تسمية الفاعل في قوله: « فقد رحمه » ، دليل بيِّن على أن ذلك كذلك في قوله: « من يَصرف عنه » .

وإذا كان ذلك هو الوجه الأولَى بالقراءة, فتأويل الكلام: منْ يصرف عنه من خلقه يومئذ عذابه فقد رحمه « وذلك هو الفوز المبين » ، ويعني بقوله: « وذلك » ، وصرفُ الله عنه العذاب يوم القيامة, ورحمته إياه « الفوز » ، أي: النجاة من الهلكة، والظفر بالطلبة « المبين » ، يعني الذي بيَّن لمن رآه أنه الظفر بالحاجة وإدراك الطَّلِبة.

وبنحو الذي قلنا في قوله: « من يصرف عنه يومئذ » قال أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله « من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه » ، قال: من يصرف عنه العذاب .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 17 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد, إن يصبك الله « بضر » , يقول: بشدة في دنياك، وشظَف في عيشك وضيق فيه, فلن يكشف ذلك عنك إلا الله الذي أمرك أن تكون أوّل من أسلم لأمره ونهيه, وأذعن له من أهل زمانك, دون ما يدعوك العادلون به إلى عبادته من الأوثان والأصنام، ودون كل شيء سواها من خلقه « وإن يمسسك بخير » ، يقول: وإن يصبك بخير، أي: برخاء في عيش، وسعة في الرزق، وكثرة في المال، فتقرّ أنه أصابك بذلك « فهو على كل شيء قدير » ، يقول تعالى ذكره: والله الذي أصابك بذلك، فهو على كل شيء قدير هو القادر على نفعك وضرِّك, وهو على كل شيء يريده قادر, لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه, ليس كالآلهة الذليلة المَهينة التي لا تقدر على اجتلاب نفع على أنفسها ولا غيرها، ولا دفع ضر عنها ولا غيرها. يقول تعالى ذكره: فكيف تعبد من كان هكذا، أم كيف لا تخلص العبادة, وتقرُّ لمن كان بيده الضر والنفع، والثواب والعقاب، وله القدرة الكاملة، والعزة الظاهرة؟

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 18 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وهو » ، نفسَه، يقول: والله الظاهر فوق عباده ويعني بقوله: « القاهر » ، المذلِّل المستعبد خلقه، العالي عليهم. وإنما قال: « فوق عباده » , لأنه وصف نفسه تعالى ذكره بقهره إياهم. ومن صفة كلّ قاهر شيئًا أن يكون مستعليًا عليه .

فمعنى الكلام إذًا: والله الغالب عبادَه, المذلِّلهم, العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إياهم, فهو فوقهم بقهره إياهم, وهم دونه « وهو الحكيم » ، يقول: والله الحكيم في علِّوه على عباده، وقهره إياهم بقدرته، وفي سائر تدبيره « الخبير » ، بمصالح الأشياء ومضارِّها, الذي لا يخفي عليه عواقب الأمور وبواديها, ولا يقع في تدبيره خلل , ولا يدخل حكمه دَخَل.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يكذّبون ويجحدون نبوَّتك من قومك: أيُّ شيء أعظم شهادة وأكبر؟ ثم أخبرهم بأن أكبر الأشياء شهادة: « الله » ، الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقع في [ شهادة ] غيره من خلقه من السهو والخطأ، والغلط والكذب. ثم قل لهم: إن الذي هو أكبر الأشياء شهادة، شهيدٌ بيني وبينكم, بالمحقِّ منا من المبطل، والرشيد منا في فعله وقوله من السفيه, وقد رضينا به حكمًا بيننا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « أيّ شيء أكبر شهادة » ، قال: أمر محمد أن يسأل قريشًا, ثم أمر أن يخبرهم فيقول: « الله شهيد بيني وبينكم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه .

 

القول في تأويل قوله : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ « وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به » عقابَه, وأُنذر به من بَلَغه من سائر الناس غيركم إن لم ينته إلى العمل بما فيه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والإيمان بجميعه نـزولَ نقمة الله به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أيّ شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ » ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا أيها الناس، بلِّغوا ولو آية من كتاب الله, فإنه من بَلَغه آيةٌ من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله, أخذه أو تركه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لأنذركم به ومن بلغ » ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلِّغوا عن الله, فمن بلغه آيه من كتاب الله, فقد بلغه أمر الله.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي: « لأنذركم به ومن بلغ » ، قال: من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ: « ومن بلغ أئنكم لتشهدون » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن , عن حسن بن صالح قال: سألت ليثًا: هل بقي أحدٌ لم تبلغه الدعوة ؟ قال: كان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآنُ فهو داعٍ، وهو نذير. ثم قرأ: « لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ومن بلغ » ، من أسلم من العجم وغيرهم .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خالد بن يزيد قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب في قوله: « لأنذركم به ومن بلغ » ، قال: من بلغه القرآن, فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به » ، يعني أهل مكة « ومن بلغ » ، يعني: ومن بلغه هذا القرآن، فهو له نذير.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت سفيان الثوري يحدّث, لا أعلمه إلا عن مجاهد: أنه قال في قوله: « وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به » ، العرب « ومن بلغ » ، العجم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « لأنذركم به ومن بلغ » ، أما « من بلغ » ، فمن بلغه القرآن فهو له نذير.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ » ، قال يقول: من بلغه القرآن فأنا نذيره. وقرأ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ سورة الأعراف: 158 ] . قال: فمن بلغه القرآن, فرسول الله صلى الله عليه وسلم نذيره .

قال أبو جعفر: فمعنى هذا الكلام: لأنذركم بالقرآن، أيها المشركون، وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم.

ف « من » في موضع نصب بوقوع « أنذر » عليه, « وبلغ » في صلته, وأسقطت « الهاء » العائدة على « من » في قوله: « بلغ » ، لاستعمال العرب ذلك في صلات « مَن » و « ما » و « الذي » .

 

القول في تأويل قوله : أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 19 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين، الجاحدين نبوَّتك, العادلين بالله، ربًّا غيره: « أئنكم » ، أيها المشركون « لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى » , يقول: تشهدون أنّ معه معبودات غيره من الأوثانَ والأصنام.

وقال: « أُخْرَى » ، ولم يقل « أخَر » ، و « الآلهة » جمع, لأن الجموع يلحقها، التأنيث, كما قال تعالى : فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [ سورة طه: 51 ] ، ولم يقل: « الأوَل » ولا « الأوَّلين » .

ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد « لا أشهد » ، بما تشهدون: أن مع الله آلهة أخرى, بل أجحد ذلك وأنكره « قل إنما هو إله واحد » ، يقول: إنما هو معبود واحد, لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة « وإنني بريء مما تشركون » ، يقول: قل: وإنني بريء من كلّ شريك تدعونه لله، وتضيفونه إلى شركته، وتعبدونه معه, لا أعبد سوى الله شيئًا، ولا أدعو غيره إلهًا.

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم من اليهود بأعيانهم، من وجه لم تثبت صحته، وذلك ما:-

حدثنا به هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال، جاء النحَّام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحريّ بن عمير فقالوا: يا محمد، ما تعلم مع الله إلهًا غيرَه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، بذلك بعثت, وإلى ذلك أدعو! فأنـزل الله تعالى فيهم وفي قولهم: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إلى قوله: لا يُؤْمِنُونَ .

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 20 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين « آتيناهم الكتاب » ، التوراة والإنجيل يعرفون أنما هو إله واحد ، لا جماعة الآلهة, وأن محمدًا نبيُّ مبعوث « كما يعرفون أبناءهم » .

وقوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، من نعت « الذين » الأولى.

ويعنى بقوله: « خسروا أنفسهم » ، أهلكوها وألقوها في نار جهنم، بإنكارهم محمدًا أنه لله رسول مرسل, وهم بحقيقة ذلك عارفون « فهم لا يؤمنون » ، يقول: فهم بخسارتهم بذلك أنفسهم لا يؤمنون.

وقد قيل: إنّ معنى « خسارتهم أنفسهم » ، أن كل عبد له منـزل في الجنة ومنـزل في النار. فإذا كان يوم القيامة، جعل الله لأهل الجنة منازلَ أهل النار في الجنة, وجعل لأهل النار منازلَ أهل الجنة في النار, فذلك خسران الخاسرين منهم، لبيعهم منازلهم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار, بما فرط منهم في الدنيا من معصيتهم الله، وظلمهم أنفسهم, وذلك معنى قول الله تعالى ذكره: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، [ سورة المؤمنون: 11 ] .

وبنحو ما قلنا في معنى قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله : « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، يعرفون أنّ الإسلام دين الله, وأن محمدًا رسول الله, يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة في قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، النصارى واليهود , يعرفون رسول الله في كتابهم, كما يعرفون أبناءهم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، [ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم: « كما يعرفون أبناءهم » ، لأن نَعْته معهم في التوراة ] .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم . قال: زعم أهل المدينة عن أهل الكتاب ممن أسلم, أنهم قالوا: والله لنحن أعرف به من أبنائنا، من أجل الصفة والنعت الذي نجده في الكتاب، وأما أبناؤنا فلا ندري ما أحدثَ النساء !

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 21 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أشدُّ اعتداءً، وأخطأ فعلا وأخطأ قولا « ممن افترى على الله كذبًا » , يعني: ممن اختلق على الله قيلَ باطل, واخترق من نفسه عليه كذبًا, فزعم أن له شريكًا من خلقه، وإلهًا يعبد من دونه - كما قاله المشركون من عبدة الأوثان - أو ادعى له ولدًا أو صاحبةً، كما قالته النصارى « أو كذب بآياته » ، يقول: أو كذب بحججه وأعلامه وأدلته التي أعطاها رسله على حقيقة نبوتهم، كذّبت بها اليهود « إنه لا يفلح الظالمون » ، يقول: إنه لا يفلح القائلون على الله الباطل, ولا يدركون البقاءَ في الجنان, والمفترون عليه الكذب، والجاحدون بنبوة أنبيائه.

 

القول في تأويل قوله : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 22 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المفترين على الله كذبًا، والمكذبين بآياته, لا يفلحون اليومَ في الدنيا، ولا يوم نحشرهم جميعًا- يعني: ولا في الآخرة.

ففي الكلام محذوف قد استغني بذكر ما ظَهر عما حذف.

وتأويل الكلام: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا، « ويوم نحشرهم جميعًا » ، فقوله: « ويوم نحشرهم » , مردود على المراد في الكلام. لأنه وإن كان محذوفًا منه، فكأنه فيه، لمعرفة السامعين بمعناه « ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم » ، يقول: ثم نقول، إذا حشرنا هؤلاء المفترين على الله الكذب، بادِّعائهم له في سلطانه شريكًا، والمكذِّبين بآياته ورسله, فجمعنا جميعهم يوم القيامة « أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » ، أنهم لكم آلهة من دون الله, افتراء وكذبًا, وتدعونهم من دونه أربابًا؟ فأتوا بهم إن كنتم صادقين !

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( 23 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم: « أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » ؟ إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك، إذ فتناهم فاختبرناهم, « إلا أن قالوا والله ربّنا ما كنا مشركين » ، كذبًا منهم في أيمانهم على قِيلهم ذلك.

ثم اختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته جماعة من قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ ) بالتاء، بالنصب, بمعنى: لم يكن اختبارَناهم لهم إلا قيلُهم « والله ربنا ما كنا مشركين » غير أنهم يقرءون « تكن » بالتاء على التأنيث. وإن كانت للقول لا للفتنة، لمجاورته الفتنة، وهي خبر. وذلك عند أهل العربية شاذٌ غير فصيح في الكلام. وقد روي بيتٌ للبيد بنحو ذلك, وهو قوله:

فَمَضَــى وَقَدَّمَهَـا , وكـانت عـادةً مِنْــهُ إذا هــيَ عَــرَّدَتْ إقْدَامُهَـا

فقال: « وكانت » بتأنيث « الإقدام » ، لمجاورته قوله: « عادة » .

وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفيين: ( ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ) بالياء، ( فِتْنَتَهُمْ ) بالنصب، ( إلا أَنْ قَالُوا ) ، بنحو المعنى الذي قصده الآخرون الذين ذكرنا قراءتهم.

غير أنهم ذكَّروا « يكون » لتذكير « أن » .

قال أبو جعفر: وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب, لأن « أنْ » أثبت في المعرفة من « الفتنة » .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « ثم لم تكن فتنتهم » .

فقال بعضهم : معناه: ثم لم يكن قولهم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة في قوله: « ثم لم تكن فتنتهم » ، قال: مقالتهم قال معمر: وسمعت غير قتادة يقول: معذرتهم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: « ثم لم تكن فتنتهم » ، قال: قولهم .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبى, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا » ، الآية, فهو كلامهم « قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » .

حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك: « ثم لم تكن فتنتهم » ، يعني: كلامهم .

وقال آخرون: معنى ذلك: معذرتهم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن قتادة: « ثم لم تكن فتنتهم » ، قال: معذرتهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » ، يقول: اعتذارهم بالباطل والكذب.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: معناه: ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم، اعتذارًا مما سلف منهم من الشرك بالله « إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » ، فوضعت « الفتنة » موضع « القول » ، لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما « الفتنة » ، الاختبار والابتلاء ولكن لما كان الجواب من القوم غيرَ واقع هنالك إلا عند الاختبار, وضعت « الفتنة » التي هي الاختبار، موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم .

واختلفت القرأة أيضًا في قراءة قوله: « إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين والبصريين: وَاللَّهِ رَبِّنَا ، خفضًا، على أن « الرب » نعت لله .

وقرأ ذلك جماعة من التابعين: ( وَاللهِ رَبَّنَا ) ، بالنصب، بمعنى: والله يا ربنا. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: ( وَاللهِ رَبَّنَا ) ، بنصب « الرب » , بمعنى: يا ربَّنا. وذلك أن هذا جواب من المسئولين المقول لهم: « أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » ؟ وكان من جواب القوم لربهم: والله يا ربنا ما كنا مشركين فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا. يقول الله تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ .

ويعني بقوله : « ما كنا مشركين » ، ما كنا ندعو لك شريكًا، ولا ندعو سواك.

 

القول في تأويل قوله : انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 24 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر، يا محمد، فاعلم، كيف كذَب هؤلاء المشركون العادلون بربهم الأوثانَ والأصنامَ، في الآخرة عند لقاء الله على أنفسهم بقيلهم: « والله يا ربنا ما كنا مشركين » , واستعملوا هنالك الأخلاق التي كانوا بها يتخلّقون في الدنيا، من الكذب والفرية .

ومعنى « النظر » في هذا الموضع، النظر بالقلب، لا النظر بالبصر. وإنما معناه: تبين فاعلم كيف كذبوا في الآخرة .

وقال: « كذبوا » , ومعناه: يكذبون, لأنه لما كان الخبر قد مضى في الآية قبلها، صار كالشيء الذي قد كانَ ووُجد .

« وضل عنهم ما كانوا يفترون » ، يقول: وفارقهم الأنداد والأصنام، وتبرءوا منها, فسلكوا غير سبيلها، لأنها هلكت, [ وأعيد الذين كانوا يعبدونها اجتراء ] , ثم أخذوا بما كانوا يفترونه من قيلهم فيها على الله، وعبادتهم إياها، وإشراكهم إياها في سلطان الله, فضلت عنهم, وعوقب عابدُوها بفريتهم.

وقد بينا فيما مضى أن معنى « الضلال » ، الأخذ على غير الهدى.

وقد ذكر أن هؤلاء المشركين يقولون هذا القول عند معاينتهم سَعةَ رحمة الله يومئذ.

ذكر الرواية بذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عمرو, عن مطرّف, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير قال: أتى رجلٌ ابنَ عباس فقال: سمعت الله يقول: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ , وقال في آية أخرى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ، [ سورة النساء: 42 ] ؟ قال ابن عباس: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام: قالوا: « تعالوا نجحد » ، فقالوا: « وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ » ، فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم، « وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، قال: قول أهل الشرك، حين رأوا الذنوب تغفر, ولا يغفر الله لمشرك « انظر كيف كذبوا على أنفسهم » ، بتكذيب الله إياهم .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، ثم قال: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ، [ سورة النساء: 42 ] ، بجوارحهم .

حدثنا ابن وكيع, قال ، حدثنا أبي, عن حمزة الزيات, عن رجل يقال له هشام, عن سعيد بن جبير: « ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » ، قال : حلفوا واعتذروا, قالوا: « والله ربنا » .

حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان, عن سعيد بن جبير قال، أقسموا واعتذروا: « والله ربنا » .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن حمزة الزيات, عن رجل يقال له هشام, عن سعيد بن جبير، بنحوه .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية, عن سفيان بن زياد العُصْفري, عن سعيد بن جبير في قوله: « والله ربنا ما كنا مشركين » والله : لما أمر بإخراج رجال من النار من أهل التوحيد, قال من فيها من المشركين: « تعالوا نقول: لا إله إلا الله, لعلنا نخرج مع هؤلاء » . قال: فلم يصدَّقوا . قال: فحلفوا: « والله ربنا ما كنا مشركين » . قال: فقال الله: « انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وضل عنهم ما كانوا يفترون » أي: يشركون.

حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا المنهال بن عمرو, عن سعيد عن جبير, عن ابن عباس في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، قال: لما رأى المشركون أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم, قالوا: تعالوا إذا سئلنا قلنا: « والله ربنا ما كنا مشركين » . فسئلوا, فقالوا ذلك, فختم الله على أفواههم، وشهدت عليهم جوارحهم بأعمالهم, فودَّ الذين كفروا حين رأوا ذلك: « لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا » .

حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا مسلم بن خلف, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: يأتي على الناس يوم القيامة ساعة، لما رأوا أهلُ الشرك أهلَ التوحيد يغفر لهم فيقولون: « والله ربنا ما كنا مشركين » ، قال: « انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون » .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز, قال حدثنا سفيان عن رجل, عن سعيد بن جبير: أنه كان يقول: « والله ربِّنا ما كنا مشركين » ، يخفضها. قال : أقسموا واعتذروا قال الحارث قال، عبد العزيز, قال سفيان مرة أخرى: حدثني هشام, عن سعيد بن جبير .

 

القول في تأويل قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء العادلين بربِّهم الأوثانَ والأصنامَ من قومك، يا محمد « من يستمع إليك » , يقول: من يستمع القرآن منك, ويستمع ما تدعوه إليه من توحيد ربك، وأمره ونهيه, ولا يفقه ما تقول ولا يُوعِيه قلبَه, ولا يتدبره، ولا يصغي له سمعه، ليتفقهه فيفهم حجج الله عليه في تنـزيله الذي أنـزله عليك, إنما يسمع صوتك وقراءَتك وكلامك, ولا يعقل عنك ما تقول، لأن الله قد جعل على قلبه « أكنّة » .

وهي جمع « كنان » ، وهو الغطاء، مثل: « سِنان » ، « وأسنة » . يقال منه: « أكننت الشيءَ في نفسي » ، بالألف, « وكننت الشيء » ، إذا غطيته, ومن ذلك: بَيْضٌ مَكْنُونٌ ، [ سورة الصافات: 49 ] ، وهو الغطاء, ومنه قول الشاعر:

تَحْــــتَ عَيْــــنٍ, كِنَانُنَـــا ظِــــلُّ بُــــرْدٍ مُرَحَّــــلُ

يعني: غطاؤُهم الذي يكنُهم.

« وفي آذانهم وقرًا » ، يقول تعالى ذكره: وجعل في آذانهم ثِقلا وصممًا عن فهم ما تتلو عليهم، والإصغاء لما تدعوهم إليه.

والعرب تفتح « الواو » من « الوَقْر » في الأذن، وهو الثقل فيها وتكسرها في الحمل فتقول: « هو وِقْرُ الدابة » . ويقال من الحمل: « أوقرْتُ الدَّابة فهي مُوقَرة » ومن السمع: « وَقَرْتُ سمعه فهو موقور » , ومنه قول الشاعر:

وَلِي هَامَةٌ قَدْ وَقَّر الضَّرْبُ سَمْعَهَا

وقد ذكر سماعًا منهم: « وُقِرَتْ أذنه » ، إذا ثقلت « فهي موقورة » « وأوقرتِ النخلةُ، فهي مُوقِر » كما قيل: « امرأة طامث، وحائض » , لأنه لا حظّ فيه للمذكر. فإذا أريد أن الله أوقرها، قيل « مُوقَرةٌ » .

وقال تعالى ذكره: « وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه » ، بمعنى: أن لا يفقهوه, كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ سورة النساء: 176 ] ، بمعنى: أن لا تضلوا, لأن « الكنّ » إنما جعل على القلب، لئلا يفقهه، لا ليفقهه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا » ، قال: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئًا, كمثل البهيمة التي تسمع النداء، ولا تدري ما يُقَال لها.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا » ، أما « أكنة » ، فالغطاءُ أكنّ قلوبهم، لا يفقهون الحق « وفي آذانهم وقرًا » ، قال: صمم .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « ومنهم من يستمع إليك » ، قال: قريش .

حدثني المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 25 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : وإن ير هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام, الذين جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوا عنك ما يسمعون منك « كل آية » ، يقول: كل حجة وعلامة تدلُّ أهل الحجَا والفهم على توحيد الله وصدق قولك وحقيقة نبوتك « لا يؤمنوا بها » ، يقول: لا يصدّقون بها، ولا يقرّون بأنها دالّة على ما هي عليه دالة « حتى إذا جاءوك يجادلونك » ، يقول: حتى إذا صاروا إليك بعد معاينتهم الآيات الدالة على حقيقة ما جئتهم به « يجادلونك » , يقول: يخاصمونك « يقول الذين كفروا » ، يعنى بذلك: الذين جحدوا آيات الله وأنكروا حقيقتها, يقولون لنبيِّ الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا حجج الله التي احتجَّ بها عليهم، وبيانَه الذي بيَّنه لهم « إن هذا إلا أساطير الأوّلين » ، أي: ما هذا إلا أساطير الأوّلين.

و « الأساطير » جمع « إسْطارة » و « أُسطُورة » مثل « أفكوهة » و « أضحوكة » وجائز أن يكون الواحد « أسطارًا » مثل « أبيات » ، و « أبابيت » ، و « أقوال وأقاويل » , من قول الله تعالى ذكره: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ، [ سورة الطور: 2 ] . من: « سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرا » .

فإذ كان من هذا: فإن تأويله: ما هذا إلا ما كتبه الأوَّلون.

وقد ذكر عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا يتأوّلونه بهذا التأويل, ويقولون: معناه: إنْ هذا إلا أحاديث الأوّلين .

حدثني بذلك المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, أمّا « أساطير الأوّلين » ، فأسَاجيع الأولين.

وكان بعض أهل العلم وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى بكلام العرب يقول: « الإسطارةُ » لغةٌ، ومجازُها مجازُ الترهات.

وكان الأخفش يقول: قال بعضهم : واحده « أسطورة » . وقال بعضهم: « إسطارة » . قال: ولا أراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد, نحو « العباديد » و « المَذَاكير » ، و « الأبابيل » . قال : وقال بعضهم: واحد « الأبابيل » ، « إبِّيل » ، وقال بعضهم: « إبَّوْل » مثل « عِجَّوْل » , ولم أجد العرب تعرف له واحدًا, وإنما هو مثل « عباديد » لا واحد لها. وأما « الشَّماطيط » ، فإنهم يزعمون أن واحده « شمطاط » . قال: وكل هذه لها واحد, إلا أنه لم يستعمل ولم يتكلم به, لأن هذا المثال لا يكون إلا جميعًا. قال: وسمعت العرب الفصحاء تقول: « أرسل خيله أبابيل » , تريد جماعات, فلا تتكلم بها بواحدة. وكانت مجادلتهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الله في هذه الآية، فيما ذُكِر, ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « حتى إذا جاءوك يجادلونك » الآية، قال: هم المشركون، يجادلون المسلمين في الذَّبيحة, يقولون: « أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون, وأما ما قتل الله فلا تأكلون! وأنتم تتَّبعون أمرَ الله تعالى ذكره » !

 

القول في تأويل قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 26 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » .

فقال بعضهم: معناه: هؤلاء المشركون المكذبون بآيات الله, ينهونَ الناس عن اتباع محمّد صلى الله عليه وسلم والقبول منه « وينأَوْن عنه » ، يتباعدون عنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث وهانئ بن سعيد، عن حجاج, عن سالم, عن ابن الحنفية: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجيبونه, وينهون الناس عنه.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، يعني : ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به « وينأون عنه » ، يعني : يتباعدون عنه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، أن يُتَّبع محمد، ويتباعدون هم منه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، يقول: لا يلقونَه, ولا يَدَعُون أحدًا يأتيه.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول في قوله: « وهم ينهون عنه » ، يقول: عن محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، جمَعُوا النهي والنأي. و « النأي » ، التباعد. وقال بعضهم: بل معناه: « وهم ينهون عنه » عن القرآن، أن يسمع له ويُعمَل بما فيه.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وهم ينهون عنه » ، قال: ينهون عن القرآن, وعن النبي صلى الله عليه وسلم « وينأون عنه » ، ويتباعدون عنه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « وهم ينهون عنه » ، قال: قريش، عن الذكر « وينأون عنه » ، يقول: يتباعدون .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قريش، عن الذكر. « ينأون عنه » ، يتباعدون.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: ينهون عن القرآن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم, ويتباعدون عنه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ينأون عنه » ، قال: « وينأون عنه » ، يباعدونه.

وقال آخرون: معنى ذلك: وهم ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم « وينأون عنه » ، يتباعدون عن دينه واتّباعه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وقبيصة وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عمن سمع ابن عباس يقول: نـزلت في أبي طالب, كان ينهى عن محمد أن يُؤذَى، وينأى عما جاء به أن يؤمن به .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب، ينهى عنه أن يؤذى، وينأى عما جاء به.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن حبيب بن أبي ثابت, عمن سمع ابن عباس: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذُوا محمدًا, وينأى عمّا جاء به.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة قال: كان أبو طالب ينهى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصدِّقه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ومحمد بن بشر, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة في قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب قال ابن وكيع، قال ابن بشر: كان أبو طالب ينهي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذَى ولا يصدّق به.

حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير, عن أبي محمد الأسدي, عن حبيب بن أبي ثابت قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول في قول الله تعالى ذكره: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، نـزلت في أبي طالب، كان ينهى عن أذى محمد, وينأى عما جاء به أن يتّبعه.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة في قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى, عن عبد العزيز بن سياه, عن حبيب قال: ذاك أبو طالب, في قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » .

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني سعيد بن أبي أيوب قال، قال عطاء بن دينار في قول الله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، أنها نـزلت في أبي طالب, أنه كان ينهى الناسَ عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأى عما جاء به من الهدى.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية, قولُ من قال: تأويلُه: « وهم ينهون عنه » ، عن إتباع محمد صلى الله عليه وسلم مَنْ سواهم من الناس, وينأون عن اتباعه.

وذلك أن الآيات قبلَها جرت بذكر جماعة المشركين العادِلين به, والخبرِ عن تكذيبهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والإعراض عما جاءهم به من تنـزيل الله ووحيه, فالواجب أن يكون قوله: « وهم ينهون عنه » ، خبرًا عنهم, إذ لم يأتنا ما يدُلُّ على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. بل ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدلّ على صحة ما قلنا، من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون خبرًا عن خاصٍّ منهم .

وإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الآية: وإن يرَ هؤلاء المشركون، يا محمد، كلَّ آية لا يؤمنوا بها, حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقولون: « إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأوَّلين وأخبارهم » ! وهم ينهون عن استماع التنـزيل، وينأون عنك فيبعدون منك ومن اتباعك « وإن يهلكون إلا أنفسهم » ، يقول: وما يهلكونَ بصدّهم عن سبيل الله، وإعراضهم عن تنـزيله، وكفرهم بربهم - إلا أنفسهم لا غيرها, وذلك أنهم يكسِبُونها بفعلهم ذلك، سخط الله وأليم عقابه، وما لا قِبَل لها به « وما يشعرون » ، يقول: وما يدرون ما هُمْ مكسبوها من الهلاك والعطب بفعلهم.

والعرب تقول لكل من بعد عن شيء: « قد نأى عنه, فهو ينأى نَأْيًا » . ومسموع منهم: « نأيتُكَ » ، بمعنى: « نأيت عنك » . وأما إذا أرادوا: أبعدتُك عني, قالوا: « أنأيتك » . ومن « نأيتك » بمعنى: نأيتُ عنك، قول الحطيئة:

نَــــأَتْكَ أُمَامَـــةُ إلا سُـــؤَالا وَأَبْصَــرْتَ مِنْهَــا بِطَيْـفٍ خَيَـالا

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 27 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: « ولو ترى » ، يا محمد، هؤلاء العادلين بربهم الأصنامَ والأوثانَ، الجاحدين نبوّتك، الذين وصفت لك صفتهم « إذ وُقفوا » ، يقول: إذ حُبِسوا « على النار » ، يعني: في النار- فوضعت « على » موضع « في » كما قال: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [ سورة البقرة: 102 ] ، بمعنى في ملك سليمان.

وقيل: « ولو ترى إذ وقفوا » ، ومعناه: إذا وقفوا لما وصفنا قبلُ فيما مضى: أن العرب قد تضع « إذ » مكان « إذا » , و « إذا » مكان « إذ » , وإن كان حظّ « إذ » أن تصاحب من الأخبار ما قد وُجد فقضي, وحظ « إذا » أن تصاحب من الأخبار ما لم يوجد, ولكن ذلك كما قال الراجز، وهو أبو النجم:

مَــدَّ لَنَــا فِـي عُمْـرِهِ رَبُّ طَهَـا ثُــمَّ جَــزَاهُ اللـهُ عَنَّـا إذْ جَـزَى

جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي العَلالِيِّ العُلَى

فقال: « ثم جزاه الله عنا إذ جزى » فوضع، « إذ » مكان « إذا » .

وقيل: « وقفوا » ، ولم يُقَل: « أُوقِفوا » , لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب. يقال: « وقَفتُ الدابة وغيرها » ، بغير ألف، إذا حبستها. وكذلك: « وقفت الأرضَ » ، إذا جعلتها صدقةً حَبيسًا, بغير ألف، وقد:-

حدثني الحارث, عن أبي عبيد قال: أخبرني اليزيديّ والأصمعي، كلاهما, عن أبي عمرو قال: ما سمعت أحدًا من العرب يقول: « أوقفت الشيء » بالألف. قال: إلا أني لو رأيت رجلا بمكانٍ فقلت: « ما أوقفك ها هنا؟ » ، بالألف، لرأيته حسنًا.

« فقالوا يا ليتنا نردّ » ، يقول: فقال هؤلاء المشركون بربهم، إذ حُبسوا في النار: « يا ليتنا نردّ » ، إلى الدنيا حتى نتوب ونراجعَ طاعة الله « ولا نكذب بآيات ربنا » ، يقول: ولا نكذّب بحجج ربنا ولا نجحدها « ونكون من المؤمنين » ، يقول: ونكون من المصدّقين بالله وحججه ورسله, متَّبعي أمره ونهيه.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والعراقيين: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، بمعنى: يا ليتنا نردُّ, ولسنا نكذب بآيات ربنا، ولكنّا نكون من المؤمنين.

وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفة : يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بمعنى: يا ليتنا نرد, وأن لا نكذب بآيات ربنا، ونكونَ من المؤمنين. وتأوَّلوا في ذلك شيئًا:-

حدثنيه أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون قال: في حرف ابن مسعود: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبَ ) بالفاء .

وذكر عن بعض قرأة أهل الشام، أنه قرأ ذلك: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ ) بالرفع ( وَنَكُونَ ) بالنصب، كأنه وجَّه تأويله إلى أنهم تمنوا الردَّ، وأن يكونوا من المؤمنين, وأخبروا أنهم لا يكذِّبون بآيات ربهم إن رُدُّوا إلى الدنيا .

واختلف أهل العربية في معنى ذلك منصوبًا ومرفوعًا.

فقال بعض نحويي البصرة: « ولا نكذِّبَ بآيات ربِّنا ونكونَ من المؤمنين » ، نصبٌ، لأنه جواب للتمني, وما بعد « الواو » كما بعد « الفاء » . قال: وإن شئت رفعتَ وجعلته على غير التمني, كأنهم قالوا: ولا نكذِّبُ والله بآيات ربنا, ونكونُ والله من المؤمنين. هذا، إذا كان على ذا الوجه، كان منقطعًا من الأوّل. قال: والرفع وجهُ الكلام , لأنه إذا نصب جعلها « واوَ » عطف. فإذا جعلها « واو » عطف, فكأنهم قد تمنوا أن لا يكذِّبوا، وأن يكونوا من المؤمنين. قال: وهذا، والله أعلم، لا يكون, لأنهم لم يتمنوا هذا, إنما تمنوا الردّ , وأخبروا أنهم لا يكذبون، ويكونون من المؤمنين.

وكان بعض نحويي الكوفة يقول: لو نصب « نكذب » و « نكون » على الجواب بالواو، لكان صوابًا. قال: والعرب تجيب ب « الواو » ، و « ثم » , كما تجيب بالفاء. يقولون: « ليت لي مالا فأعطيَك » , « وليت لي مالا وأُعْطيَك » ، « وثم أعطيَك » . قال: وقد تكون نصبًا على الصَّرف, كقولك: « لا يَسَعُنِي شيء ويعجِزَ عَنك. »

وقال آخر منهم: لا أحبُّ النصب في هذا, لأنه ليس بتمنٍّ منهم, إنما هو خبرٌ، أخبروا به عن أنفسهم. ألا ترى أن الله تعالى ذكره قد كذَّبهم فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ؟ وإنما يكون التكذيب للخبر لا للتمنِّي.

وكان بعضهم ينكر أن يكون الجواب « بالواو » , وبحرف غير « الفاء » . وكان يقول: إنما « الواو » موضع حال, لا يسعني شيء ويضيقَ عنك « ، أي: وهو يضيق عنك. قال: وكذلك الصَّرف في جميع العربية. قال: وأما « الفاء » فجواب جزاء: » ما قمت فنأتيَك « ، أي: لو قمت لأتينَاك. قال: فهذا حكم الصرف و « الفاء » . قال: وأمّا قوله: » ولا نكذب « ، و » نكون « فإنما جاز, لأنهم قالوا: » يا ليتنا نرد « ، في غير الحال التي وقفنا فيها على النار. فكان وقفهم في تلك, فتمنَّوا أن لا يكونوا وُقِفُوا في تلك الحال. »

قال أبو جعفر: وكأنّ معنى صاحب هذه المقالة في قوله هذا: ولو ترى إذ وقفوا على النار, فقالوا: قد وقفنا عليها مكذِّبين بآيات ربِّنا كفارًا, فيا ليتنا نردّ إليها فنُوقَف عليها غير مكذبين بآيات ربِّنا ولا كفارًا.

وهذا تأويلٌ يدفعه ظاهر التنـزيل, وذلك قول الله تعالى ذكره: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، فأخبر الله تعالى أنهم في قيلهم ذلك كذبة, والتكذيب لا يقع في التمني. ولكن صاحب هذه المقالة أظنُّ به أنَّه لم يتدبر التأويل، ولَزِم سَنَن العربيّة.

قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بالرفع في كليهما, بمعنى: يا ليتنا نردّ, ولسنا نكذب بآيات ربِّنا إن رددنا, ولكنا نكون من المؤمنين على وجه الخبر منهم عما يفعلون إن هم ردُّوا إلى الدنيا, لا على التمنّي منهم أن لا يكذِّبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين. لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنهم لو ردُّوا لعادوا لما نهوا عنه, وأنهم كذبة في قيلهم ذلك. ولو كان قيلهم ذلك على وجه التمني، لاستحال تكذيبهم فيه, لأن التمني لا يكذَّب, وإنما يكون التصديقُ والتكذيبُ في الأخبار.

وأما النصب في ذلك, فإني أظنّ بقارئه أنه توخَّى تأويل قراءة عبد الله التي ذكرناها عنه, وذلك قراءته ذلك: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، على وجه جواب التمني بالفاء. وهو إذا قرئ بالفاء كذلك، لا شك في صحة إعرابه. ومعناه في ذلك: أن تأويله إذا قرئ كذلك: لو أنّا رددنا إلى الدنيا ما كذَّبنا بآيات ربِّنا, ولكُنَّا من المؤمنين. فإن يكن الذي حَكَى من حكى عن العرب من السماع منهم الجوابَ بالواو، و « ثم » كهيئة الجواب بالفاء، صحيحًا, فلا شك في صحّة قراءة من قرأ ذلك: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ نصبًا على جواب التمني بالواو, على تأويل قراءة عبد الله ذلك بالفاء. وإلا فإن القراءة بذلك بعيدةُ المعنى من تأويل التنـزيل. ولستُ أعلم سماعَ ذلك من العرب صحيحًا, بل المعروف من كلامها: الجوابُ بالفاء، والصرفُ بالواو.

 

القول في تأويل قوله : بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 28 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء العادلين بربهم، الجاحدين نبوتك، يا محمد، في قيلهم إذا وقفوا على النار: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأسَى والندمُ على ترك الإيمان بالله والتصديق بك، لكن بهم الإشفاق مما هو نازلٌ بهم من عقاب الله وأليم عذابه، على معاصيهم التي كانوا يخفونها عن أعين الناس ويسترونها منهم, فأبداها الله منهم يوم القيامة وأظهرها على رؤوس الأشهاد, ففضحهم بها، ثم جازاهم بها جزاءَهم .

يقول: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من أعمالهم السيئة التي كانوا يخفونها « من قبل ذلك في الدنيا, فظهرت » وَلَوْ رُدُّوا « ، يقول: ولو ردّوا إلى الدنيا فأمْهلوا » لعادوا لما نهوا عنه « ، يقول: لرجعوا إلى مثل العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا قبل ذلك، من جحود آيات الله، والكفر به، والعمل بما يسخط عليهم ربِّهم » وإنهم لكاذبون « ، في قيلهم: » لو رددنا لم نكذب بآيات ربّنا وكنا من المؤمنين « , لأنهم قالوه حين قالوه خشية العذاب، لا إيمانًا بالله. »

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل » ، يقول: بدت لهم أعمالهم في الآخرة، التي أخفوها في الدنيا .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل » ، قال: من أعمالهم .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولو ردُّوا لعادُوا لما نهوا عنه » ، يقول: ولو وصل الله لهم دُنيا كدنياهم, لعادوا إلى أعمالهم أعمالِ السوء.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( 29 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين، العادلين به الأوثان والأصنام، الذين ابتدأ هذه السورة بالخبرعنهم.

يقول تعالى ذكره: « وقالوا إنْ هي إلا حياتنا الدنيا » ، يخبر عنهم أنهم ينكرون أنّ الله يُحيي خلقه بعد أن يُميتهم, ويقولون: « لا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور بعد الفناء » . فهم بجحودهم ذلك، وإنكارهم ثوابَ الله وعقابَه في الدار الآخرة, لا يبالون ما أتوا وما ركبوا من إثم ومعصية، لأنهم لا يرجون ثوابًا على إيمان بالله وتصديق برسوله وعملٍ صالح بعد موت, ولا يخافون عقابًا على كفرهم بالله ورسوله وسيّئٍ من عمل يعملونه.

وكان ابن زيد يقول: هذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء الكفرة الذين وقفوا على النار: أنهم لو ردُّوا إلى الدنيا لقالوا: « ما هي إلا حياتُنا الدنيا وما نحن بمبعوثين » .

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ، وقالوا حين يردون: « إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين » .

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 30 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « لو ترى » ، يا محمد، هؤلاء القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين « إذ وقفوا » ، يوم القيامة، أي: حبسوا, « على ربهم » ، يعني على حكم الله وقضائه فيهم « قال أليس هذا بالحق » ، يقول: فقيل لهم: أليس هذا البعثُ والنشر بعد الممات الذي كنتم تنكرونَه في الدنيا، حقًّا ؟ فأجابوا، فقالوا: « بَلَى » والله إنه لحقّ « قال فَذُوقُوا الْعَذَابَ » ، يقول: فقال الله تعالى ذكره لهم: فذوقوا العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذبون « بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » ، يقول: بتكذيبكم به وجحودكموه الذي كان منكم في الدنيا .

 

القول في تأويل قوله : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله » ، قد هلك ووُكس، في بيعهم الإيمان بالكفر « الذين كذبوا بلقاء الله » , يعني: الذين أنكروا البعثَ بعد الممات، والثواب والعقابَ، والجنةَ والنارَ, من مشركي قريش ومَنْ سلك سبيلهم في ذلك « حتى إذا جاءَتهم الساعة » ، يقول: حتى إذا جاءتهم السَّاعة التي يَبْعث الله فيها الموتى من قبورهم.

وإنما أدخلت « الألف واللام » في « الساعة » , لأنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها, وأنها مقصود بها قصدُ الساعة التي وصفت.

ويعني بقوله: « بغتة » ، فجأةً، من غير علم من تفجؤه بوقت مفاجأتها إيّاه.

يقال منه: « بغتُّه أبغته بَغْتةً » ، إذا أخذته كذلك:

« قالوا يا حَسْرتَنا على ما فرّطنا فيها » ، يقول تعالى ذكره: وُكس الذين كذبوا بلقاء الله ببيعهم منازلهم من الجنة بمنازل من اشتروا منازله من أهل الجنة من النار, فإذا جاءتهم الساعة بغتةً قالوا إذا عاينوا ما باعوا وما اشتروا، وتبيَّنوا خسارة صفقة بَيْعهم التي سلفت منهم في الدنيا، تندُّمًا وتلهُّفًا على عظيم الغَبْن الذي غبنوه أنفسهم، وجليلِ الخسران الذي لا خسرانَ أجلَّ منه « يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » ، يقول: يا ندامتنا على ما ضيّعنا فيها، يعني: صفقتهم تلك.

و « الهاء والألف » في قوله: « فيها » ، من ذكر « الصفقة » , ولكن اكتفى بدلالة قوله: « قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله » عليها من ذكرها, إذ كان معلومًا أن « الخسران » لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت.

وإنما معنى الكلام: قد وُكس الذين كذبوا بلقاء الله, ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانَه وجنته، بالكفر الذي يستوجبون به منه سَخَطه وعقوبته, ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك، حتى تقوم الساعة, فإذا جاءتهم الساعة بغتةً فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم، قالوا حينئذ، تندمًا: « يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » ، أمّا « يا حسرتنا » ، فندامتنا « على ما فرطنا فيها » ، فضيعنا من عمل الجنة .

حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا يزيد بن مهران قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « يا حسرتنا » ، قال: « يرى أهلُ النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا » .

 

القول في تأويل قوله : وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ( 31 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين كذَّبوا بلقاء الله، « يحملون أوزارهم على ظهورهم » . وقوله: « وهم » من ذكرهم « يحملون أوزارهم » ، يقول: آثامهم وذنوبهم.

واحدها « وِزْر » , يقال منه: « وَزَر الرجل يزِر » ، إذا أثم, قال الله: « ألا ساء ما يزرون » . فإن أريد أنهم أُثِّموا، قيل: « قد وُزِر القوم فهم يُوزَرُون، وهم موزورون » .

قد زعم بعضهم أن « الوِزْر » الثقل والحمل. ولست أعرف ذلك كذلك في شاهد، ولا من رواية ثِقة عن العرب.

وقال تعالى ذكره: « على ظهورهم » ، لأن الحمل قد يكون على الرأس والمنكِب وغير ذلك, فبيَّن موضع حملهم ما يحملون منْ ذلك.

وذكر أنّ حملهم أوزارهم يومئذ على ظهورهم، نحو الذي:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سَلْمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبُه ريحًا, فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد طيَّب ريحك وحسَّن صورتك ! فيقول: كذلك كنت في الدنيا, أنا عملك الصالح, طالما ركبتك في الدنيا، فاركبني أنت اليوم! وتلا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ، [ سورة مريم: 85 ] . وإن الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنُه ريحًا, فيقول، هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قَبّح صورتك وأنتن ريحك ! فيقول: كذلك كنتُ في الدنيا, أنا عملك السيئ، طالما ركبتني في الدنيا، فأنا اليوم أركبك وتلا « وهم يحملون أوزارهم على ظُهورهم ألا ساء ما يزرون » .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم » ، فإنه ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلا جاء رجل قبيح الوجه، أسودُ اللون، مُنتن الريح، عليه ثياب دَنِسة, حتى يدخل معه قبره, فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك! قال: كذلك كان عملك قبيحًا! قال: ما أنتن ريحك! قال: كذلك كان عملك منتنًا! قال: ما أدْنس ثيابك! قال فيقول: إن عملك كان دنسًا. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك! قال: فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذَّات والشهوات, فأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخلَه النار، فذلك قوله: « يحملون أوزارهم على ظهورهم » .

وأما قوله تعالى ذكره: « ألا ساء ما يزرون » ، فإنه يعني: ألا ساء الوزر الذي يزرون - أي: الإثم الذي يأثمونه بربهم، كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ألا ساء ما يزرون » ، قال: ساء ما يعملون .

 

القول في تأويل قوله : وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 32 )

قال أبو جعفر: وهذا تكذيب من الله تعالى ذكره هؤلاء الكفارَ المنكرين البعثَ بعد الممات في قولهم: إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ , [ سورة الأنعام : 29 ] .

يقول تعالى ذكره، مكذبًا لهم في قبلهم ذلك: « ما الحياة الدنيا » ، أيها الناس « إلا لعب ولهو » ، يقول : ما باغي لذاتِ الحياة التي أدْنيت لكم وقرّبت منكم في داركم هذه، ونعيمَها وسرورَها، فيها، والمتلذذُ بها، والمنافسُ عليها, إلا في لعب ولهو، لأنها عما قليل تزول عن المستمتع بها والمتلذذِ فيها بملاذّها, أو تأتيه الأيام بفجائعها وصروفها، فَتُمِرُّ عليه وتكدُر، كاللاعب اللاهي الذي يسرع اضمحلال لهوه ولعبه عنه, ثم يعقبه منه ندمًا، ويُورثه منه تَرحًا. يقول: لا تغتروا، أيها الناس، بها, فإن المغتر بها عمّا قليل يندم « وللدار الآخرة خير للذين يتقون » ، يقول: وللعمل بطاعته، والاستعدادُ للدار الآخرة بالصالح من الأعمال التي تَبقى منافعها لأهلها، ويدوم سرورُ أهلها فيها, خيرٌ من الدار التي تفنى وشيكًا، فلا يبقى لعمالها فيها سرور، ولا يدوم لهم فيها نعيم « للذين يتقون » ، يقول: للذين يخشون الله فيتقونه بطاعته واجتناب معاصيه، والمسارعة إلى رضاه « أفلا تعقلون » ، يقول: أفلا يعقل هؤلاء المكذّبون بالبعث حقيقةَ ما نخبرهم به، من أن الحياة الدنيا لعب ولهوٌ, وهم يرون من يُخْتَرم منهم، ومن يهلك فيموت، ومن تنوبه فيها النوائب وتصيبُه المصائب وتفجعه الفجائع. ففي ذلك لمن عقل مدَّكر ومزدجر عن الركون إليها، واستعباد النفس لها ودليلٌ واضح على أن لها مدبِّرًا ومصرفًا يلزم الخلقَ إخلاصُ العبادة له، بغير إشراك شيءٍ سواه معه .

 

القول في تأويل قوله : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( 33 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قد نعلم » ، يا محمد، إنه ليحزنك الذي يقول المشركون, وذلك قولهم له: إنه كذّاب « فإنهم لا يكذبونك » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك

[ فقرأته جماعة من أهل الكوفة: ( فَإنَّهُمْ لا يُكْذِبونَكَ ) بالتخفيف ] ، بمعنى: إنهم لا يُكْذِبونك فيما أتيتهم به من وحي الله, ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحًا، بل يعلمون صحته, ولكنهم يجحَدون حقيقته قولا فلا يؤمنون به.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يحكي عن العرب أنهم يقولون: « أكذبت الرجل » ، إذا أخبرت أنه جاءَ بالكذب ورواه. قال: ويقولون: « كذَّبْتُه » ، إذا أخبرت أنه كاذبٌ.

وقرأته جماعة من قرأة المدينة والعراقيين والكوفة والبصرة: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بمعنى: أنهم لا يكذّبونك علمًا, بل يعلمون أنك صادق ولكنهم يكذبونك قولا عنادًا وحسدًا .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة, ولكل واحدة منهما في الصحة مخرج مفهوم.

وذلك أن المشركين لا شكَّ أنه كان منهم قوم يكذبون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ويدفعونه عما كان الله تعالى ذكره خصه به من النبوّة، فكان بعضهم يقول: « هو شاعر » , وبعضهم يقول: « هو كاهن » , وبعضهم يقول: « هو مجنون » ، وينفي جميعُهم أن يكون الذي أتَاهم به من وحي السماء، ومن تنـزيل رب العالمين، قولا. وكان بعضهم قد تبين أمرَه وعلم صحة نبوّته, وهو في ذلك يعاند ويجحد نبوّته حسدًا له وبغيًا.

فالقارئ: ( فَإنَّهُمْ لا يُكْذِبونَكَ ) بمعنى أن الذين كانوا يعرفون حقيقة نبوّتك وصدق قولك فيما تقول, يجحدونَ أن يكون ما تتلوه عليهم من تنـزيل الله ومن عند الله، قولا - وهم يعلمون أن ذلك من عند الله علمًا صحيحًا مصيبٌ، لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته.

وفي قول الله تعالى في هذه السورة: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ [ سورة الأنعام : 20 ] ، أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم المعاند في جحود نبوّته صلى الله عليه وسلم, مع علمٍ منهم به وبصحة نبوّته.

وكذلك القارئ: ( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) بمعنى: أنهم لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عنادًا، لا جهلا بنبوّته وصدق لَهْجته مصيب، لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم مَنْ هذه صفته.

وقد ذَهب إلى كل واحد من هذين التأويلين جماعة من أهل التأويل .

* ذكر من قال: معنى ذلك: فإنهم لا يكذبونك ولكنهم يجحدون الحقّ على علم منهم بأنك نبيٌّ لله صادق .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله: « قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك » ، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزينٌ, فقال له: ما يُحزنك؟ فقال: كذَّبني هؤلاء! قال فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك، هم يعلمون أنك صادق, « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل, عن أبي صالح قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين, فقال له: ما يحزنك؟ . فقال: كذَّبني هؤلاء! فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك, إنهم ليعلمون أنك صادق, « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، قال: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط: عن السدي في قوله: « قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة, إن محمدًا ابن أختكم, فأنتم أحقُّ مَنْ كَفَّ عنه، فإنه إن كان نبيًّا لم تقاتلوهُ اليوم، وإن كان كاذبًا كنتم أحق من كف عن ابن أخته! قفوا ههنا حتى ألقى أبا الحكم فإن غُلب محمدٌ [ صلى الله عليه وسلم ] رجعتم سالمين, وإن غَلَب محمدٌ فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئًا فيومئذ سمّي « الأخنس » , وكان اسمه « أبيّ » فالتقى الأخنس وأبو جهل, فخلا الأخنس بأبي جهل, فقال: يا أبا الحكم, أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا! فقال أبو جهل: وَيْحك, والله إن محمدًا لصادق, وما كذب محمّد قط, ولكن إذا ذهب بنو قُصَيِّ باللواء والحجابة والسقاية والنبوة, فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: « فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، « فآيات الله » ، محمدٌ صلى الله عليه وسلم .

حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير: « فإنهم لا يكذبونك » ، قال: ليس يكذّبون محمدًا, ولكنهم بآيات الله يجحدون .

* ذكر من قال: ذلك بمعنى: فإنهم لا يكذّبونك، ولكنهم يكذِّبون ما جئت به.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن ناجية قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نتهمك, ولكن نتَّهم الذي جئت به! فأنـزل الله تعالى ذكره: « فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن ناجية بن كعب: أنّ أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّا لا نكذبك, ولكن نكذب الذي جئت به! فأنـزل الله تعالى ذكره: « فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » .

وقال آخرون: معنى ذلك، فإنهم لا يبطلون ما جئتهم به .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب: « فإنهم لا يكذبونك » ، قال: لا يبطلون ما في يديك .

وأما قوله: « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، فإنه يقول: ولكن المشركين بالله، بحجج الله وآي كتابه ورسولِه يجحدون, فينكرون صحَّة ذلك كله.

وكان السدي يقول: « الآيات » في هذا الموضع، معنيٌّ بها محمّد صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبلُ.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( 34 )

قال أبو جعفر: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وتعزيةٌ له عما ناله من المساءة بتكذيب قومه إيّاه على ما جاءهم به من الحق من عند الله .

يقول تعالى ذكره: إن يكذبك، يا محمد، هؤلاء المشركون من قومك, فيجحدوا نبوّتك, وينكروا آيات الله أنّها من عنده, فلا يحزنك ذلك, واصبر على تكذيبهم إياك وما تلقى منهم من المكروه في ذات الله, حتى يأتي نصر الله, فقد كُذبت رسلٌ من قبلك أرسلتهم إلى أممهم، فنالوهم بمكروه, فصبروا على تكذيب قومهم إياهم، ولم يثنهم ذلك من المضيّ لأمر الله الذي أمرهم به من دعاء قومهم إليه, حتى حكم الله بينهم وبينهم « ولا مبدّل لكلمات الله » ، يقول: ولا مغيِّر لكلمات الله و « كلماته » تعالى ذكره: ما أنـزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، من وعده إياه النصر على من خَالفه وضادّه, والظفرَ على من تولّى عنه وأدبر « ولقد جاءك من نبإ المرسلين » ، يقول: ولقد جاءك يا محمد، من خبر من كان قبلك من الرسل، وخبر أممهم, وما صنعتُ بهم حين جحدوا آياتي وتمادَوا في غيهم وضلالهم أنباء وترك ذكر « أنباء » ، لدلالة « مِنْ » عليها.

يقول تعالى ذكره: فانتظر أنت أيضًا من النصرة والظفر مثل الذي كان منِّي فيمن كان قبلك من الرسل إذ كذبهم قومهم, واقتد بهم في صبرهم على ما لَقُوا من قومهم.

وبنحو ذلك تأوَّل من تأوَّل هذه الآية من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا » ، يعزِّي نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمعون, ويخبره أن الرسل قد كُذّبت قبله، فصبروا على ما كذبوا، حتى حكم الله وهو خير الحاكمين .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: « ولقد كذبت رسل من قبلك » ، قال: يعزّي نبيَّه صلى الله عليه وسلم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « ولقد كذبت رسل من قبلك » ، الآية، قال: يعزِّي نبيّه صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن كان عظم عليك، يا محمد، إعراض هؤلاء المشركين عنك، وانصرافهم عن تصديقك فيما جئتهم به من الحق الذي بعثتُك به, فشقَّ ذلك عليك، ولم تصبر لمكروه ما ينالك منهم « فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض » ، يقول: فإن استطعت أن تتَّخذ سَرَبا في الأرض مثلَ نَافِقاء اليَرْبُوع, وهي أحد جِحَرِته فتذهب فيه « أو سُلمًا في السماء » ، يقول: أو مصعدًا تصعد فيه، كالدَّرَج وما أشبهها, كما قال الشاعر:

لا تُحْـرِزُ الْمَـرْءُ أَحْجَـاءُ البِلادِ, وَلا يُبْنَـى لَـهُ فِـي السَّـمَاوَاتِ السَّـلالِيم

« فتأتيهم بآية » ، منها يعني بعلامةٍ وبرهان على صحة قولك، غير الذي أتيتك فافعل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك: قال بعض أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء » ، و « النفق » السَّرب, فتذهب فيه « فتأتيهم بآية » , أو تجعل لك سلَّمًا في السماء, فتصعد عليه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به، فافعل .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض » ، قال: سَرَبًا « أو سلمًا في السماء » ، قال: يعني الدَّرَج .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء » ، أما « النفق » فالسرب, وأما « السلم » فالمصعد.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: « نفقًا في الأرض » ، قال: سربًا .

وتُرِك جواب الجزاء فلم يذكر، لدلالة الكلام عليه، ومعرفة السامعين بمعناه. وقد تفعل العرب ذلك فيما كان يُفهم معناه عند المخاطبين به, فيقول الرجل منهم للرجل: « إن استطعت أن تنهض معنا في حاجتنا، إن قدرت على مَعُونتنا » , ويحذف الجواب, وهو يريد: إن قدرت على معونتنا فافعل. فأما إذا لم يعرف المخاطب والسامع معنى الكلام إلا بإظهار الجواب، لم يحذفوه. لا يقال: « إن تقم » , فتسكت وتحذف الجواب، لأن المقول ذلك له لا يعرف جوابه إلا بإظهاره, حتى يقال: « إن تقم تصب خيرًا » , أو: « إن تقم فحسن » , وما أشبه ذلك. ونظيرُ ما في الآية مما حذف جَوَابه وهو مراد، لفهم المخاطب لمعنى الكلام قول الشاعر:

فَبِحَـــظٍّ مِمَّـــا نَعِيشُ, وَلا تَــذْ هَـبْ بِـكِ التُّرَّهَـاتُ فِـي الأهْـوَالِ

والمعنى: فبحظٍّ مما نعيش فعيشي.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 35 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يكذبونك من هؤلاء الكفار، يا محمد، فيحزنك تكذيبهم إياك, لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدِّين، وصوابٍ من محجة الإسلام، حتى تكون كلمة جميعكم واحدة، وملتكم وملتهم واحدة, لجمعتهم على ذلك, ولم يكن بعيدًا عليَّ، لأنّي القادرُ على ذلك بلطفي, ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي، ونافذ قضائي فيهم، من قبل أن أخلقهم وأصوِّر أجسامهم « فلا تكونن » ، يا محمد، « من الجاهلين » ، يقول: فلا تكونن ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجَمع على الهدى جميع خلقه بلطفه, وأنَّ من يكفر به من خلقه إنما يكفر به لسابق علم الله فيه، ونافذ قضائه بأنه كائنٌ من الكافرين به اختيارًا لا إضطرارًا, فإنك إذا علمت صحة ذلك، لم يكبر عليك إعراضُ من أعرض من المشركين عما تدعُوه إليه من الحق، وتكذيبُ من كذَّبك منهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنى معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين.

قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، الدلالةُ الواضحة على خطإ ما قال أهل التَّفْويض من القدريّة، المنكرون أن يكون عند الله لطائف لمن شاءَ توفيقه من خلقه, يلطفُ بها له حتى يهتدِيَ للحقّ, فينقاد له، وينيبَ إلى الرشاد فيذعن به ويؤثره على الضلال والكفر بالله. وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه لو شاءَ الهداية لجميع من كفر به، حتى يجتمعوا على الهدى، فعلَ. ولا شك أنه لو فعل ذلك بهم، كانوا مهتدين لا ضلالا. وهم لو كانوا مهتدين، كان لا شك أنّ كونهم مهتدين كان خيرًا لهم. وفي تركه تعالى ذكره أن يجمعهم على الهدى، تركٌ منه أن يفعل بهم في دينهم بعض ما هو خيرٌ لهم فيه، مما هو قادر على فعله بهم، وقد ترك فعله بهم. وفي تركه فعل ذلك بهم، أوضحُ الدليل أنه لم يعطهم كل الأسباب التي بها يصلون إلى الهداية، ويتسبّبون بها إلى الإيمان.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( 36 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يكبُرنّ عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك، وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربّهم والإقرار بنبوّتك, فإنه لا يستجيب لدعائك إلى ما تدعوه إليه من ذلك، إلا الذين فتح الله أسماعهم للإصغاء إلى الحق، وسهَّل لهم اتباع الرُّشد, دون من ختم الله على سمعه، فلا يفقه من دعائك إياه إلى الله وإلى اتباع الحق إلا ما تفقه الأنعام من أصوات رُعاتها, فهم كما وصفهم به الله تعالى ذكره: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ سورة البقرة: 171 ] « والموتى يبعثهم الله » ، يقول: والكفارُ يبعثهم الله مع الموتى, فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتًا، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولا إذ كانوا لا يتدبرون حُجج الله، ولا يعتبرون آياته، ولا يتذكرون فينـزجرون عما هم عليه من تكذيب رُسل الله وخلافهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إنما يستجيب الذين يسمعون » ، المؤمنون، للذكر « والموتى » ، الكفار, حين يبعثهم الله مع الموتى.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إنما يستجيب الذين يسمعون » ، قال: هذا مَثَل المؤمن، سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله. والذين كذَّبوا بآياتنا صم وبكم, وهذا مثل الكافر أصم أبكم, لا يبصر هدًى ولا ينتفع به.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن سفيان الثوري, عن محمد بن جحادة, عن الحسن: « إنما يستجيب الذين يسمعون » ، المؤمنون « والموتى » ، قال: الكفار.

حدثني ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن محمد بن جحادة قال: سمعت الحسن يقول في قوله: « إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله » ، قال: الكفار.

وأما قوله: « ثم إليه يرجعون » ، فإنه يقول تعالى ذكره: ثم إلى الله يرجع المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول, والكفارُ الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئًا, فيثيب هذا المؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الإيمان به من الثواب, ويعاقب هذا الكافرَ بما أوعدَ أهل الكفر به من العقاب, لا يظلم أحدًا منهم مثقال ذرة.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 37 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم، المعرضون عن آياته: « لولا نزل عليه آية من ربه » ، يقول: قالوا: هلا نـزل على محمد آية من ربه؟ كما قال الشاعر:

تَعُـدُّونَ عَقْـرَ النِّيـبِ أَفْضَـل مَجْدِكُمْ بَنِـي ضَوْطَـرَي, لَـولا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا

بمعنى: هلا الكميَّ.

و « الآية » ، العلامة.

وذلك أنهم قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْـزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [ سورة الفرقان : 7،8 ] . قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لقائلي هذه المقالة لك: « إنّ الله قادر على أن ينزل آية » , يعني: حجة على ما يريدون ويسألون « ولكن أكثرهم لا يعلمون » ، يقول: ولكن أكثر الذين يقولون ذلك فيسألونك آية, لا يعلمون ما عليهم في الآية إن نـزلها من البلاء, ولا يدرون ما وجه ترك إنـزال ذلك عليك, ولو علموا السبب الذي من أجله لم أنـزلها عليك، لم يقولوا ذلك، ولم يسألوكه, ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( 38 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المعرضين عنك، المكذبين بآيات الله: أيها القوم, لا تحسبُنَّ الله غافلا عما تعملون, أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون! وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغيرٍ أو كبيرٍ، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء، بل جعل ذلك كله أجناسًا مجنَّسة وأصنافًا مصنفة, تعرف كما تعرفون، وتتصرف فيما سُخِّرت له كما تتصرفون, ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها, ومُثْبَت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب, ثم إنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاءَ أعمالها. يقول: فالرب الذي لم يضيِّع حفظَ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء, أحرى أن لا يُضيع أعمالكم، ولا يُفَرِّط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها، أيها الناس، حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها, إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا, إذ كان قد خصكم من نعمه، وبسط عليكم من فضله، ما لم يعمَّ به غيركم في الدنيا, وكنتم بشكره أحقَّ، وبمعرفة واجبه عليكم أولى، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميِّزون، والفهم الذي لم يعطه البهائم والطيرَ، الذي به بين مصالحكم ومضارِّكم تفرِّقون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « أمم أمثالكم » ، أصناف مصنفة تُعرَف بأسمائها .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد , مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم » ، يقول: الطير أمة, والإنس أمة, والجن أمة.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « إلا أمم أمثالكم » ، يقول: إلا خلق أمثالكم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج, عن ابن جريج في قوله: « وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم » ، قال: الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب .

وأما قوله: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، فإن معناه: ما ضيعنا إثبات شيء منه، كالذي:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، قال : لم نُغفِل الكتاب, ما من شيء إلا وهو في الكتاب.

وحدثني به يونس مرة أخرى, قال في قوله: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، قال: كلهم مكتوبٌ في أم الكتاب .

وأما قوله: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، فإن أهل التأويل اختلفوا في معنى « حشرهم » ، الذي عناه الله تعالى ذكره في هذا الموضع.

فقال بعضهم: « حشرها » ، موتها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن سعيد, عن مسروق, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم » ، قال ابن عباس: موت البهائم حشرها.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، قال: يعني بالحشر، الموت .

حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله : « ثم إلى ربهم يحشرون » ، يعني بالحشر: الموت.

وقال آخرون: « الحشر » في هذا الموضع، يعني به الجمعُ لبعث الساعة وقيام القيامة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصم, عن أبي هريرة في قوله: « إلا أمم أمثالكم ما فرَّطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون » ، قال: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة, البهائمَ والدوابَّ والطيرَ وكل شيء, فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذَ للجمَّاء من القَرْناء, ثم يقول: « كوني ترابًا » , فلذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [ سورة النبأ: 40 ] .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الأعمش, عمن ذكره، عن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عنـزان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون فيما انتطحتا؟ قالوا: لا ندري! قال: « لكن الله يدري, وسيقضي بينهما. »

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليم قال، حدثنا فطر بن خليفة, عن منذر الثوري, عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أبا ذَرّ، أتدري فيم انتطحتا « ؟ قلت: لا! قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما! قال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلِّب طائرٌ جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علمًا. »

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ كل دابة وطائر محشورٌ إليه. وجائز أن يكون معنيًّا بذلك حشر القيامة وجائز أن يكون معنيًّا به حشر الموت وجائز أن يكون معنيًّا به الحشران جميعًا ، ولا دلالة في ظاهر التنـزيل، ولا في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ ذلك المراد بقوله: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، إذ كان « الحشر » ، في كلام العرب الجمع, ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ سورة ص: 19 ] ، يعني: مجموعة. فإذ كان الجمع هو « الحشر » ، وكان الله تعالى ذكره جامعًا خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت, كان أصوبُ القول في ذلك أن يُعَمَّ بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها وأن يقال: كل دابة وكل طائر محشورٌ إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة, إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، ولم يخصص به حشرًا دون حشر.

فإن قال قائل: فما وجهُ قوله: « ولا طائر يطير بجناحيه » ؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟

قيل : قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنـزل هذا الكتاب بلسان قوم، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم. فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا: « كلمت فلانًا بفمي » , و « مشيت إليه برجلي » , و « ضربته بيدي » ، خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم، ويستعملونه في خطابهم, ومن ذلك قوله تعالى ذكره : ( إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَي ) [ سورة ص: 23 ] .

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 39 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بحجج الله وأعلامه وأدلته « صمٌّ » ، عن سماع الحق « بكم » ، عن القيل به « في الظلمات » ، يعني: في ظلمة الكفر حائرًا فيها, يقول: هو مرتطم في ظلمات الكفر, لا يبصر آيات الله فيعتبر بها, ويعلم أن الذي خلقه وأنشأه فدبَّره وأحكم تدبيره، وقدَّره أحسن تقدير، وأعطاه القوة، وصحح له آلة جسمه لم يخلقه عبثًا، ولم يتركه سدًى, ولم يعطه ما أعطاه من الآلات إلا لاستعمالها في طاعته وما يرضيه، دون معصيته وما يسخطه. فهو لحيرته في ظلمات الكفر، وتردّده في غمراتها, غافلٌ عمَّا الله قد أثبت له في أمّ الكتاب، وما هو به فاعلٌ يوم يحشر إليه مع سائر الأمم. ثم أخبر تعالى ذكره أنه المضِلّ من يشاء إضلالَه من خلقه عن الإيمان إلى الكفر، والهادي إلى الصراط المستقيم منهم من أحبَّ هدايته، فموفّقه بفضله وطَوْله للإيمان به، وترك الكفر به وبرسله وما جاءت به أنبياؤه, وأنه لا يهتدي من خلقه أحد إلا من سبق له في أمّ الكتاب السعادة, ولا يضل منهم أحد إلا من سبق له فيها الشقاء, وأنّ بيده الخير كلُّه, وإليه الفضل كله, له الخلق والأمر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « صم وبكم » ، هذا مثل الكافر، أصم أبكم, لا يبصر هدًى، ولا ينتفع به, صَمَّ عن الحق في الظلمات، لا يستطيع منها خروجًا، متسكِّع فيها.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 40 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في معنى قوله: « أرأيتكم » .

فقال بعض نحويي البصرة: « الكاف » التي بعد « التاء » من قوله: « أرأيتكم » إنما جاءت للمخاطبة, وتركت « التاء » مفتوحة كما كانت للواحد. قال: وهي مثل « كاف » « رويدك زيدًا » , إذا قلت: أرود زيدًا هذه « الكاف » ليس لها موضع مسمى بحرف، لا رفع ولا نصب, وإنما هي في المخاطبة مثل كاف « ذاك » . ومثل ذلك قول العرب: « أبصرَك زيدًا » , يدخلون « الكاف » للمخاطبة.

وقال آخرون منهم: معنى: « أرأيتكم إن أتاكم » ، أرأيتم. قال: وهذه « الكاف » تدخل للمخاطبة مع التوكيد, و « التاء » وحدها هي الاسم, كما أدخلت « الكاف » التي تفرق بين الواحد والاثنين والجميع في المخاطبة، كقولهم: « هذا, وذاك, وتلك, وأولئك » ، فتدخل « الكاف » للمخاطبة، وليست باسم, و « التاء » هو الاسم للواحد والجميع, تركت على حال واحدة, ومثل ذلك قولهم: « ليسك ثَمَّ إلا زيد » , يراد: ليس و « لا سِيَّك زيد » , فيراد: ولا سيما زيد و « بلاك » فيراد، « بلى » في معنى: « نعم » و « لبئسك رجلا ولنعمك رجلا » . وقالوا : « انظرك زيدًا ما أصنع به » و « أبصرك ما أصنع به » ، بمعنى: أبصره. وحكى بعضهم: « أبصركُم ما أصنع به » , يراد: أبصروا و « انظركم زيدًا » ، أي انظروا. وحكي عن بعض بني كلاب: « أتعلمك كان أحد أشعرَ من ذي الرمة؟ » فأدخل « الكاف » .

وقال بعض نحويي الكوفة: « أرأيتك عمرًا » أكثر الكلام فيه ترك الهمز. قال: و « الكاف » من « أرأيتك » في موضع نصب, كأن الأصل: أرأيت نفسك على غير هذه الحال؟ قال: فهذا يثني ويجمع ويؤنث, فيقال: « أرأيتما كما » و « أرأيتموكم » . و « وَأَرَأَيْتُنَّكُنَّ » ، أوقع فعله على نفسه, وسأله عنها, ثم كثر به الكلام حتى تركوا « التاء » موحدة للتذكير والتأنيث والتثنية والجمع, فقالوا: « أرأيتكم زيدًا ما صنع » , و « أرأيتكنّ ما صنع » , فوحدوا التاء وثنوا الكاف وجمعوها، فجعلوها بدلا من « التاء » ، كما قال: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [ سورة الحاقة: 19 ] ، و « هاء يا رجل » , و « هاؤما » , ثم قالوا: « هاكم » , اكتفى بالكاف والميم مما كان يثنى ويجمع. فكأن « الكاف » في موضع رفع، إذ كانت بدلا من « التاء » . وربما وحدت للتثنية والجمع والتذكير والتأنيث, وهي كقول القائل: « عليك زيدًا » , « الكاف » في موضع خفض, والتأويل رفع. فأما ما يُجْلب فأكثر ما يقع على الأسماء, ثم تأتي بالاستفهام فيقال: « أرأيتك زيدًا هل قام » , لأنها صارت بمعنى: أخبرني عن زيد, ثم بيَّن عما يستخبر. فهذا أكثر الكلام. ولم يأت الاستفهام يليها. لم يقل: « أرأيتك هل قمت » , لأنهم أرادوا أن يبيِّنوا عمن يسأل, ثم تُبيّن الحالة التي يسأل عنها. وربما جاء بالجزاء ولم يأت بالاسم, فقالوا: « أرأيت إن أتيت زيدًا هل يأتينا » و « أرأيتك » أيضًا و « أرأيتُ زيدًا إن أتيته هل يأتينا » ، إذا كانت بمعنى: « أخبرني » , فيقال باللغات الثلاث.

قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ: أخبروني، إن جاءكم، أيها القوم، عذاب الله, كالذي جاء من قبلكم من الأمم الذين هلك بعضهم بالرجفة, وبعضهم بالصاعقة أو جاءتكم الساعة التي تنشرون فيها من قبوركم، وتبعثون لموقف القيامة, أغير الله هناك تدعون لكشف ما نـزل بكم من البلاء، أو إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نـزل بكم من عظيم البلاء؟ « إن كنتم صادقين » ، يقول: إن كنتم محقّين في دعواكم وزعمكم أنّ آلهتكم التي تدعونها من دون الله تنفع أو تضر.

 

القول في تأويل قوله : بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ( 41 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مكذِّبًا لهؤلاء العادلين به الأوثان: ما أنتم، أيها المشركون بالله الآلهةَ والأندادَ، إن أتاكم عذابُ الله أو أتتكم الساعة، بمستجيرين بشيء غير الله في حال شدة الهول النازل بكم من آلهة ووثن وصنم, بل تدعون هناك ربّكم الذي خلقكم، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون، دون كل شيء غيره « فيكشف ما تدعون إليه » ، يقول: فيفرِّج عنكم عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه، عظيم البلاء النازل بكم إن شاء أن يفرج ذلك عنكم, لأنه القادر على كل شيء، ومالك كل شيء، دون ما تدعونه إلهًا من الأوثان والأصنام « وتنسون ما تشركون » ، يقول: وتنسون حين يأتيكم عذاب الله أو تأتيكم الساعة بأهوالها، ما تشركونه مع الله في عبادتكم إياه, فتجعلونه له ندًّا من وثن وَصنم, وغير ذلك مما تعبدونه من دونه وتدعونه إلهًا.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( 42 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: متوعدًا لهؤلاء العادلين به الأصنامَ ومحذِّرَهم أن يسلك بهم إن هم تمادَوا في ضلالهم سبيلَ من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم، في تعجيل الله عقوبته لهم في الدنيا ومخبرًا نبيَّه عن سنته في الذين خلوا قبلهم من الأمم على منهاجهم في تكذيب الرسل : « لقد أرسلنا » ، يا محمد، « إلى أمم » ، يعني: إلى جماعات وقرون « من قبلك فأخذناهم بالبأساء » ، يقول: فأمرناهم ونهيناهم, فكذبوا رسلنا، وخالفوا أمرنا ونهينا, فامتحناهم بالابتلاء « بالبأساء » , وهي شدة الفقر والضيق في المعيشة « والضراء » ، وهي الأسقام والعلل العارضة في الأجسام.

وقد بينا ذلك بشواهده ووجوه إعرابه في « سورة البقرة » ، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله: « لعلهم يتضرعون » يقول: فعلنا ذلك بهم ليتضرعوا إليّ, ويخلصوا لي العبادة, ويُفْردوا رغبتهم إليَّ دون غيري، بالتذلل منهم لي بالطاعة، والاستكانة منهم إليّ بالإنابة.

وفي الكلام محذوفٌ قد استغني بما دلّ عليه الظاهرمن إظهاره دون قوله: « ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم » ، وإنما كان سبب أخذه إياهم، تكذيبهم الرسل وخلافهم أمرَه لا إرسال الرسل إليهم. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن معنى الكلام: « ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك » رسلا فكذبوهم, « فأخذناهم بالبأساء » .

و « التضرع » : هو « التفعل » من « الضراعة » , وهي الذلة والاستكانة.

 

القول في تأويل قوله : فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 43 )

قال أبو جعفر: وهذا أيضًا من الكلام الذي فيه متروك استغني بدلالة الظاهر عن ذكر ما تُرك. وذلك أنه تعالى ذكره أخبرَ عن الأمم التي كذّبت رسلها أنه أخذهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا له, ثم قال: « فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا » , ولم يخبر عما كان منهم من الفعل عند أخذه إياهم بالبأساء والضراء. ومعنى الكلام: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ، فلم يتضرعوا, « فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا » .

ومعنى: « فلولا » ، في هذا الموضع، فهلا. والعرب إذ أوْلَتْ « لولا » اسمًا مرفوعًا، جعلت ما بعدها خبرًا، وتلقتها بالأمر, فقالت: « فلولا أخوك لزرتك » و « لولا أبوك لضربتك » , وإذا أوْلتها فعلا أو لم تُولها اسمًا, جعلوها استفهامًا فقالوا: « لولا جئتنا فنكرمك » , و « لولا زرت أخاك فنـزورك » , بمعنى: « هلا » ، كما قال تعالى ذكره: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [ سورة المنافقون: 10 ] . وكذلك تفعل ب « لوما » مثل فعلها ب « لولا » .

فتأويل الكلام إذًا: فهلا إذ جاء بأسنا هؤلاء الأمم المكذبة رسلَها، الذين لم يتضرعوا عند أخذِناهم بالبأساء والضراء « تضرعوا » ، فاستكانوا لربهم، وخضعوا لطاعته, فيصرف ربهم عنهم بأسه، وهو عذابه.

وقد بينا معنى « البأس » في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

« ولكن قست قلوبهم » ، يقول: ولكن أقاموا على تكذيبهم رسلهم, وأصرُّوا على ذلك، واستكبروا عن أمر ربهم, استهانةً بعقاب الله، واستخفافًا بعذابه، وقساوةَ قلب منهم. « وزين لهم الشيطانُ ما كانوا يعملون » ، يقول: وحسن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الأعمال التي يكرهها الله ويسخطها منهم.

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ( 44 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فلما نسوا ما ذكروا به » ، فلما تركوا العمل بما أمرناهم به على ألسن رسلنا، كالذي:-

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « فلما نسوا ما ذكروا به » ، يعني: تركوا ما ذكروا به.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « نسوا ما ذكروا به » ، قال: ما دعاهم الله إليه ورسله, أبوْه وردُّوه عليهم.

« فتحنا عليهم أبوابَ كل شيء » ، يقول: بدلنا مكان البأساء الرخاء والسعة في العيش، ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام، استدراجًا منَّا لهم، كالذي:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، قال: رخاء الدنيا ويُسْرها، على القرون الأولى.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، قال: يعني الرخاء وسعة الرزق .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط . عن السدي قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، يقول: من الرزق.

فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « فتحنا عليهم أبوابَ كل شيء » ، وقد علمت أن بابَ الرحمة وباب التوبة [ لم يفتحا لهم ] , لم تفتح لهم أبواب أخر غيرهما كثيرة؟

قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننتَ من معناه, وإنما معنى ذلك: فتحنا عليهم، استدراجًا منا لهم، أبوابَ كل ما كنا سددنا عليهم بابه، عند أخذنا إياهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا, إذ لم يتضرعوا وتركوا أمر الله تعالى ذكره، لأنّ آخر هذا الكلام مردودٌ على أوله. وذلك كما قال تعالى ذكره في موضع آخر من كتابه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، [ سورة الأعراف: 94- 95 ] ، ففتح الله على القوم الذين ذكر في هذه الآية [ أنهم نسوا ما ] ذكرهم، بقوله: « فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، هو تبديله لهم مكانَ السيئة التي كانوا فيها في حال امتحانه إياهم، من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة, ومن الضر في الأجسام إلى الصحة والعافية, وهو « فتح أبواب كل شيء » كان أغلق بابه عليهم، مما جرى ذكره قبل قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، فردّ قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، عليه.

ويعني تعالى بقوله: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا » ، يقول: حتى إذا فرح هؤلاء المكذّبون رسلهم بفتحنا عليهم أبوابَ السَّعة في المعيشة، والصحة في الأجسام، كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا » ، من الرزق .

حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، سمعت عبد الرحمن بن مهدي يحدّث، عن حماد بن زيد قال: كان رجل يقول: رَحم الله رجلا تلا هذه الآية، ثم فكر فيها ماذا أريد بها: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة » .

حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا ابن أبي رجاء رجل من أهل الشعر, عن عبد الله بن المبارك, عن محمد بن النضر الحارثي في قوله : « أخذناهم بغتة » ، قال: أُمهلوا عشرين سنة.

ويعني تعالى ذكره بقوله: « أخذناهم بغتة » ، أتيناهم بالعذاب فجأة، وهم غارُّون لا يشعرون أن ذلك كائن، ولا هو بهم حالٌّ، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة » ، قال: أعجبَ ما كانت إليهم، وأغَرَّها لهم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي « أخذناهم بغتة » ، يقول: أخذهم العذابُ بغتةً .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أخذناهم بغتة » ، قال: فجأة آمنين.

وأما قوله: « فإذا هم مبلسون » ، فإنهم هالكون, منقطعة حججهم, نادمون على ما سلف منهم من تكذيبهم رسلَهم، كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط, عن السدي: « فإذا هم مبلسون » ، قال: فإذا هم مهلكون، متغيِّر حالهم.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ, عن مجاهد: « فإذا هم مبلسون » ، قال: الاكتئاب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « فإذا هم مبلسون » ، قال: « المبلس » الذي قد نـزل به الشرّ الذي لا يدفعه. والمبلس أشد من المستكين, وقرأ: فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ، [ سورة المؤمنون: 76 ] . وكان أول مرة فيه معاتبة وبقيّة. وقرأ قول الله: « أخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون » فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ، حتى بلغ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، ثم جاء أمرٌ ليس فيه بقية. وقرأ: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون » ، فجاء أمر ليس فيه بقية. وكان الأوّل، لو أنهم تضرعوا كُشف عنهم .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد, عن أبي شريح ضبارة بن مالك, عن أبي الصلت, عن حرملة أبي عبد الرحمن, عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت الله يعطي عبدَه في دنياه, إنما هو استدراج. ثم تلا هذه الآية: « فلما نسوا ما ذكِّروا به » إلى قوله: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

وحدثت بهذا الحديث عن محمد بن حرب, عن ابن لهيعة, عن عقبة بن مسلم, عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا رأيت الله تعالى ذكره يعطي العبادَ ما يسألون على معاصيهم إياه, فإنما ذلك استدراج منه لهم! ثم تلا « فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء » الآية.

وأصل « الإبلاس » في كلام العرب، عند بعضهم: الحزن على الشيء والندم عليه وعند بعضهم: انقطاع الحجة، والسكوت عند انقطاع الحجة وعند بعضهم: الخشوع وقالوا: هو المخذول المتروك, ومنه قول العجاج:

يَـا صَـاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا ? قَــالَ: نَعَــمْ! أَعْرِفُــه! وَأَبْلَسَـا

فتأويل قوله: « وأبلسا » ، عند الذين زعموا أن « الإبلاس » ، انقطاع الحجة والسكوت عنده, بمعنى: أنه لم يُحِرْ جوابًا.

وتأوَّله الآخرون بمعنى الخشوع, وترك أهله إياه مقيمًا بمكانه.

والآخرون بمعنى الحزن والندم.

يقال منه: « أبلس الرجل إبلاسًا » , ومنه قيل: لإبليس « إبليس » .

 

القول في تأويل قوله : فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 45 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » ، فاستؤصل القوم الذين عَتَوا على ربهم، وكذّبوا رسله، وخالفوا أمره، عن آخرهم, فلم يترك منهم أحد إلا أهلك بغتةً إذ جاءهم عذاب الله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » ، يقول: قُطع أصل الذين ظلموا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » ، قال: استؤصلوا.

و « دابر القوم » ، الذي يدبرُهم, وهو الذي يكون في أدبارهم وآخرهم. يقال في الكلام: « قد دَبَر القومَ فلانٌ يدبُرُهم دَبْرًا ودبورًا » ، إذا كان آخرهم, ومنه قول أمية:

فَــاُهْلِكُوا بِعَــذَابٍ حَـصَّ دَابِـرَهُمْ فَمَـا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلا انْتَصَرُوا

« والحمد لله رب العالمين » ، يقول: والثناء الكامل والشكر التام « لله رب العالمين » ، على إنعامه على رسله وأهل طاعته, بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر, وتحقيق عِدَاتِهم ما وَعدوهم على كفرهم بالله وتكذيبهم رسله من نقم الله وعاجل عذابه.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ( 46 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بي الأوثانَ والأصنامَ، المكذبين بك: أرأيتم، أيها المشركون بالله غيرَه، إن أصمَّكم الله فذهب بأسماعكم، وأعماكم فذهب بأبصاركم, وختم على قلوبكم فطبع عليها، حتى لا تفقهوا قولا ولا تبصروا حجة، ولا تفهموا مفهومًا, أيّ إله غير الله الذي له عبادة كل عابد « يأتيكم به » ، يقول: يرد عليكم ما ذهب الله به منكم من الأسماع والأبصار والأفهام، فتعبدوه أو تشركوه في عبادة ربكم الذي يقدر على ذهابه بذلك منكم، وعلى ردّه عليكم إذا شاء ؟

وهذا من الله تعالى ذكره، تعليم نبيَّه الحجة على المشركين به, يقول له: قل لهم: إن الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا, وإنما يستحق العبادةَ عليكم من كان بيده الضر والنفع، والقبض والبسط, القادرُ على كل ما أراد، لا العاجز الذي لا يقدر على شيء.

ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « انظر كيف نصرف الآيات » ، يقول : انظر كيف نتابع عليهم الحجج، ونضرب لهم الأمثال والعبر، ليعتبروا ويذكروا فينيبوا، « ثم هم يصدفون » ، يقول: ثم هم مع متابعتنا عليهم الحجج، وتنبيهنا إياهم بالعبر، عن الادّكار والاعتبار يُعْرضون.

يقال منه: « صدف فلانٌ عني بوجهه، فهو يصدِفُ صُدوفًا وصَدفًا » ، أي: عدل وأعرض, ومنه قول ابن الرقاع:

إِذَا ذَكَــرْنَ حَدِيثًــا قُلْـنَ أَحْسَـنَهُ, وَهُـنَّ عَـنْ كُـلِّ سُـوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ

وقال لبيد:

يُـرْوِي قَـوامِحَ قَبْـلَ اللَّيْـلِ صَادِفَـةً أَشْــبَاهَ جِـنّ, عَلَيْهَـا الـرَّيْطُ وَالأزُرُ

فإن قال قائل: وكيف قيل: « من إله غير الله يأتيكم به » ، فوحّد « الهاء » , وقد مضى الذكر قبلُ بالجمع فقال: « أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم » ؟

قيل: جائز أن تكون « الهاء » عائدة على « السمع » , فتكون موحّدة لتوحيد « السمع » وجائز أن تكون معنيًّا بها: من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار والأفئدة, فتكون موحده لتوحيد « ما » . والعرب تفعل ذلك، إذا كنتْ عن الأفعال وحّدت الكناية، وإن كثر ما يكنى بها عنه من الأفاعيل, كقولهم: « إقبالك وإدبارك يعجبني » .

وقد قيل: إن « الهاء » التي في « به » كناية عن « الهدى » .

وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: « يصدفون » ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « يصدفون » ، قال: يعرضون.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد , مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يصدفون » ، قال: يعدلون.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « نصرف الآيات ثم هم يصدفون » ، قال: يعرضون عنها.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم هم يصدفون » ، قال: يصدُّون .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ( 47 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ، المكذبين بأنك لي رسول إليهم: أخبروني « إن أتاكم عذاب الله » ، وعقابه على ما تشركون به من الأوثان والأنداد, وتكذيبكم إيايَ بعد الذي قد عاينتم من البرهان على حقيقة قولي « بغتة » ، يقول: فجأة على غرة لا تشعرون « أو جهرة » ، يقول: أو أتاكم عذاب الله وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه « هل يهلك إلا القوم الظالمون » ، يقول: هل يهلك الله منا ومنكم إلا من كان يعبد غير من يستحق علينا العبادة، وترك عبادة من يستحق علينا العبادة ؟

وقد بينا معنى « الجهرة » في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته، وأنها من « الإجهار » , وهو إظهار الشيء للعين، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « جهرة » ، قال: وهم ينظرون .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة » ، فجأة آمنين « أو جهرة » ، وهم ينظرون .

 

القول في تأويل قوله : وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 48 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما نرسل رسلنا إلا ببشارة أهل الطاعة لنا بالجنة والفوز المبين يوم القيامة, جزاءً منَّا لهم على طاعتنا وبإنذار من عصَانا وخالف أمرنا, عقوبتنا إياه على معصيتنا يوم القيامة, جزاءً منا على معصيتنا, لنعذر إليه فيهلك إن هلك عن بينة « فمن آمن وأصلح » ، يقول: فمن صدَّق من أرسلنا إليه من رسلنا إنذارهم إياه, وقبل منهم ما جاؤوه به من عند الله، وعمل صالحًا في الدنيا « فلا خوف عليهم » ، عند قدومهم على ربهم، من عقابه وعذابه الذي أعدَّه الله لأعدائه وأهل معاصيه « ولا هم يحزنون » ، عند ذلك على ما خلَّفوا وراءَهم في الدنيا.

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 49 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما الذين كذَّبوا بمن أرسلنا إليه من رسلنا، وخالفوا أمرنا ونهينا، ودافعوا حجتنا, فإنهم يباشرهم عذابُنا وعقابنا، على تكذيبهم ما كذبوا به من حججنا « بما كانوا يفسقون » ، يقول: بما كانوا يكذّبون.

وكان ابن زيد يقول: كل « فسق » في القرآن, فمعناه الكذب.

حدثني بذلك يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عنه.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ( 50 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المنكرين نبوّتك: لستُ أقول لكم إنّي الرب الذي له خزائنُ السماوات والأرض، وأعلم غيوب الأشياء الخفية التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء, فتكذبوني فيما أقول من ذلك، لأنه لا ينبغي أن يكون ربًّا إلا من له ملك كل شيء، وبيده كل شيء، ومن لا يخفى عليه خافية, وذلك هو الله الذي لا إله غيره « ولا أقول لكم إني ملك » ، لأنه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهرًا بصورته لأبصار البشر في الدنيا, فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك « إن أتبع إلا ما يوحى إليّ » ، يقول: قل لهم: ما أتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه، إلا وحي الله الذي يوحيه إليّ، وتنـزيله الذي ينـزله عليّ, فأمضي لوحيه وأئتمر لأمره, وقد أتيتكم بالحجج القاطعة من الله عذركم على صحة قولي في ذلك, وليس الذي أقول من ذلك بمنكر في عقولكم ولا مستحيل كونه، بل ذلك مع وجود البرهان على حقيقته هو الحكمة البالغة, فما وجه إنكاركم ذلك؟

وذلك تنبيه من الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم على موضع حُجته على منكري نبوّته من مشركي قومه.

« قل هل يستوي الأعمى والبصير » ، يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهم: هل يستوي الأعمى عن الحق، والبصير به « والأعمى » ، هو الكافر الذي قد عَمى عن حجج الله فلا يتبيَّنها فيتبعها « والبصير » ، المؤمن الذي قد أبصرَ آيات الله وحججه، فاقتدى بها واستضاء بضيائها « أفلا تتفكرون » ، يقول لهؤلاء الذين كذبوا بآيات الله: أفلا تتفكرون فيما أحتجّ عليكم به، أيها القوم، من هذه الحجج, فتعلموا صحة ما أقول وأدعوكم إليه، من فساد ما أنتم عليه مقيمون من إشراك الأوثان والأنداد بالله ربّكم، وتكذيبكم إياي مع ظهور حجج صدقي لأعينكم, فتدعوا ما أنتم عليه من الكفر مقيمون، إلى ما أدعوكم إليه من الإيمان الذي به تفوزون؟

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : « قل هل يستوي الأعمى والبصير » ، قال: الضال والمهتدي.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « قل هل يستوي الأعمى والبصير » ، الآية، قال: « الأعمى » ، الكافر الذي قد عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه و « البصير » ، العبد المؤمن الذي أبصر بصرًا نافعًا, فوحّد الله وحده, وعمل بطاعة ربه, وانتفع بما آتاه الله.

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 51 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر، يا محمد، بالقرآن الذي أنـزلناه إليك، القومَ الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، علمًا منهم بأن ذلك كائن، فهم مصدقون بوعد الله ووعيده, عاملون بما يرضي الله, دائبون في السعي، فيما ينقذهم في معادهم من عذاب الله

« ليس لهم من دونه وليّ » ، أي ليس لهم من عذاب الله إن عذبهم ، « وليّ » ، ينصرهم فيستنقذهم منه، « ولا شفيع » ، يشفع لهم عند الله تعالى ذكره فيخلصهم من عقابه « لعلهم يتقون » ، يقول: أنذرهم كي يتقوا الله في أنفسهم, فيطيعوا ربهم، ويعملوا لمعادهم, ويحذروا سَخطه باجتناب معاصيه.

وقيل: « وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا » ، ومعناه: يعلمون أنهم يحشرون, فوضعت « المخافة » موضع « العلم » ، لأنّ خوفهم كان من أجل علمهم بوقوع ذلك ووجوده من غير شك منهم في ذلك.

وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه ما أنـزل الله إليه من وحيه، وتذكيرهم، والإقبال عليهم بالإنذار وصدَّ عنه المشركون به، بعد الإعذار إليهم، وبعد إقامة الحجة عليهم, حتى يكون الله هو الحاكم في أمرهم بما يشاء من الحكم فيهم.

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( 52 )

قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين، قال المشركون له: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك!

* ذكر الرواية بذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو زبيد, عن أشعث, عن كردوس الثعلبي, عن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنده صهيب وعمار وبلال وخبّاب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك؟ هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتّبعك! فنـزلت هذه الآية : « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ، إلى آخر الآية.

.........حدثنا جرير, عن أشعث, عن كردوس الثعلبي, عن عبد الله قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر نحوه .

حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث, عن أشعث, عن كردوس, عن ابن عباس قال: مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملأ من قريش, ثم ذكر نحوه.

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن أبي سعد الأزدي وكان قارئ الأزد ، عن أبي الكنود, عن خبّاب, في قول الله تعالى ذكره: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » إلى قوله: « فتكون من الظالمين » ، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاريّ, فوجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدًا مع بلال وصهيب وعمار وخباب, في أناس من الضعفاء من المؤمنين. فلما رأوهم حوله حَقَروهم , فأتوه فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا العرب به فضلَنا, فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبُد, فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا, فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت! قال: نعم! قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابًا. قال: فدعا بالصحيفة, ودعا عليًّا ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية, إذ نـزل جبريل بهذه الآية: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين » , ثم قال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ , ثم قال: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفةَ من يده, ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ! فكنا نقعد معه, فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا, فأنـزل الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، [ سورة الكهف: 28 ] . قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد, فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه حتى يقوم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن أبي سعيد الأزدي, عن أبي الكنود, عن خباب بن الأرت بنحو حديث الحسين بن عمرو، إلا أنه قال في حديثه: فلما رأوهم حوله نفّروهم, فأتوه فخلَوا به. وقال أيضًا: « فتكون من الظالمين » , ثم ذكر الأقرع وصاحبه فقال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية. وقال أيضًا: فدعانا فأتيناه وهو يقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، فدنونا منه يومئذ حتى وَضعنا ركبنا على ركبتيه وسائر الحديث نحوه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة وحدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة والكلبي: أنّ ناسًا من كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سرَّك أن نتبعك، فاطرد عنا فلانًا وفلانًا، ناسًا من ضعفاء المسلمين! فقال الله تعالى ذكره: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ » إلى قوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية، قال: وقد قال قائلون من الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن سرك أن نتبعك فاطرد عنا فلانًا وفلانًا لأناس كانوا دونهم في الدنيا، ازدراهم المشركون، فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية إلى آخرها.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، بلال وابن أم عبد، كانا يجالسان محمدًا صلى الله عليه وسلم, فقالت قريش محقِّرتهما: لولاهما وأمثالهما لجالسناه! فنُهي عن طردهم, حتى قوله : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ، قال: « قل سلام عليكم » ، فيما بين ذلك، في هذا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان, عن المقدام بن شريح, عن أبيه قال، قال سعد: نـزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, منهم ابن مسعود، قال: كنا نسبق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وندنو منه ونسمع منه, فقالت قريش: يدني هؤلاء دوننا! فنـزلت: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ الآية، قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عديّ، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف من الكفار، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءَنا, فإنما هم عبيدنا وعُسَفاؤنا, كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتّباعنا إياه، وتصديقنا له! قال: فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به, فقال عمر بن الخطاب: لو فعلتَ ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم؟ فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ إلى قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ، قال: وكانوا: بلال، وعمارُ بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيح مولى أسيد ومن الحلفاء: ابن مسعود, والمقداد بن عمرو, ومسعود بن القاريّ, وواقد بن عبد الله الحنظلي, وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين, ومرثد بن أبي مرثد وأبو مرثد، من غنيّ، حليفُ حمزة بن عبد المطلب وأشباههم من الحلفاء. ونـزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا الآية. فلما نـزلت، أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر من مَقالته, فأنـزل الله تعالى ذكره: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، الآية.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أستحيي من الله أن يرَاني مع سلمان وبلال وذَوِيهم, فاطردهم عنك، وجالس فلانًا وفلانًا! قال فنـزل القرآن: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » فقرأ، حتى بلغ: « فتكون من الظالمين » ، ما بينك وبين أن تكون من الظالمين إلا أن تطردهم . ثم قال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ . ثم قال: وهؤلاء الذين أمروك أن تطردهم، فأبلغهم منّي السلام، وبشرهم وأخبرهم أني قد غفرت لهم! وقرأ: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، فقرأ حتى بلغ: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ، قال: لتعرفها.

واختلف أهل التأويل في الدعاء الذي كان هؤلاء الرَّهط، الذين نهى الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم، يدعون ربّهم به.

فقال بعضهم: هي الصلوات الخمس.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ » ، يعني: يعبدون ربّهم « بالغداة والعشيّ » , يعني: الصلوات المكتوبة .

حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أبي حمزة, عن إبراهيم في قوله: « يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه » ، قال: هي الصلوات الخمس الفرائض. ولو كان ما يقول القُصَّاص، هلك من لم يجلس إليهم.

حدثنا هناد بن السري وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل, عن الأعمش, عن إبراهيم: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه » ، قال: هي الصلاة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، الصلاة المفروضة، الصبح والعصر.

حدثني محمد بن موسى بن عبد الرحمن الكندي قال، حدثنا حسين الجعفي قال، أخبرني حمزة بن المغيرة, عن حمزة بن عيسى قال: دخلت على الحسن فسألته فقلت: يا أبا سعيد, أرأيت قول الله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] ، أهم هؤلاء القُصّاص؟ قال: لا ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا ورقاء جميعًا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: الصلاة المكتوبة .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: يعبدون ربّهم « بالغداة والعشي » ، يعني الصلاة المفروضة .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] ، هما الصلاتان: صلاة الصبح وصلاة العصر .

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب قال، حدثنا محمد بن عجلان , عن نافع, عن عبد الله بن عمر في هذه الآية: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الآية, أنهم الذين يشهدون الصلوات المكتوبة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد وإبراهيم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ، قالا الصلوات الخمس.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: المصلين المؤمنين، بلال وابن أم عبد قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن كثير, عن مجاهد قال: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب, فلما سلّم الإمام ابتدر الناس القاصَّ, فقال سعيد: ما أسرعَ بهم إلى هذا المجلس! قال مجاهد: فقلت يتأولون ما قال الله تعالى ذكره. قال: وما قال؟ قلت: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: وفي هذا ذَا ؟ إنما ذاك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن, إنما ذاك في الصلاة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع, عن أبيه, عن منصور, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: الصلاة المكتوبة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن عامر قال: هي الصلاة .

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع, عن أبيه, عن إسرائيل, عن عامر قال: هي الصلاة .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه » ، يقول: صلاة الصبح وصلاة العصر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد قال: صلى عبد الرحمن بن أبي عمرة في مسجد الرسول, فلما صلى قامَ فاستند إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم, فانثال الناس عليه, فقال: يا أيها الناس، إليكم! فقيل: يرحمك الله, إنما جاؤوا يريدون هذه الآية : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] . فقال: وهذا عُنِي بهذا! إنما هو في الصلاة.

وقال آخرون: هي الصلاة، ولكن القوم لم يسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طردَ هؤلاء الضعفاء عن مجلسه، ولا تأخيرهم عن مجلسه, وإنما سألوه تأخيرهم عن الصفّ الأول، حتى يكونوا وراءهم في الصفّ .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية, فهم أناس كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفقراء, فقال أناس من أشراف الناس: نؤمن لك, وإذا صلينا فأخِّر هؤلاء الذين معك فليصلُّوا خلفنا!

وقال آخرون: بل معنى « دعائهم » كان، ذكرُهم الله تعالى ذكره .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: أهل الذكر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: هم أهل الذكر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: لا تطردهم عن الذكر.

وقال آخرون: بل كان ذلك، تعلمهم القرآن وقراءته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] ، قال: كان يقرئهم القرآن، من الذي يَقُصُّ على النبي صلى الله عليه وسلم؟!

وقال آخرون: بل عنى بدعائهم ربّهم، عبادتهم إياه.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: يعني: يعبدون, ألا ترى أنه قال: لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [ سورة غافر: 43 ] ، يعني: تعبدون.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يطرُد قومًا كانوا يدعون ربّهم بالغداة والعشي، و « الدعاء لله » ، يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولا وكلامًا وقد يكون بالعمل له بالجوارح الأعمالَ التي كان عليهم فرضُها، وغيرُها من النوافل التي ترضي عن العامل له عابدَه بما هو عامل له. وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها, فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشي, لأن الله قد سمى « العبادة » ، « دعاء » , فقال تعالى ذكره: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ، [ سورة غافر: 60 ] . وقد يجوز أن يكون ذلك على خاصّ من الدعاء.

ولا قول أولى بذلك بالصحة، من وصف القوم بما وصفهم الله به: من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي، فيعمُّون بالصفة التي وصفهم بها ربهم، ولا يخصُّون منها بشيء دون شيء.

فتأويل الكلام إذًا: يا محمد، أنذر القرآن الذي أنـزلته إليك, الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير, في العمل له دائبون إذ أعرض عن إنذارك واستماع ما أنـزل الله عليك المكذبون بالله واليوم الآخر من قومك، استكبارًا على الله ولا تطردهم ولا تُقْصِهم, فتكون ممن وضع الإقصاء في غير موضعه، فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه, وقرّب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدناؤه، فإن الذين نهيتُك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألونه عفوه ومغفرته بصالح أعمالهم، وأداء ما ألزمهم من فرائضه، ونوافل تطوّعهم، وذكرهم إياه بألسنتهم بالغداة والعشي, يلتمسون بذلك القربة إلى الله، والدنوّ من رضاه « ما عليك من حسابهم من شيء » ، يقول: ما عليك من حساب ما رزقتهم من الرزق من شيء وما عليهم من حساب ما رزقتك من الرزق من شيء « فتطردهم » ، حذارَ محاسبتي إياك بما خوّلتهم في الدنيا من الرزق.

وقوله: « فتطردهم » ، جواب لقوله: « ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء » .

وقوله: « فتكون من الظالمين » جواب لقوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم » .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( 53 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، وكذلك اختبرنا وابتلينا، كالذي:-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر وحدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، يقول: ابتلينا بعضهم ببعض.

وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى « الفتنة » , وأنها الاختبار والابتلاء, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما فتنة الله تعالى ذكره بعضَ خلقه ببعضٍ, مخالفتُه بينهم فيما قسم لهم من الأرزاق والأخلاق, فجعل بعضًا غنيًّا وبعضًا فقيرًا، وبعضًا قويًّا، وبعضًا ضعيفًا, فأحوج بعضهم إلى بعض, اختبارًا منه لهم بذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء, فقال الأغنياء للفقراء: « أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا » ، يعني: هداهم الله. وإنما قالوا ذلك استهزاءً وسُخريًّا.

وأما قوله: « ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا » ، يقول تعالى: اختبرنا الناس بالغنى والفقر، والعزّ والذل، والقوة والضعف، والهدى والضلال, كي يقول من أضلّه الله وأعماه عن سبيل الحق، للذين هداهم الله ووفقهم: « أهؤلاء منّ الله عليهم » ، بالهدى والرشد، وهم فقراء ضعفاء أذلاء « من بيننا » ، ونحن أغنياء أقوياء؟ استهزاءً بهم, ومعاداةً للإسلام وأهله.

يقول تعالى ذكره: « أليس الله بأعلم بالشاكرين » ، وهذا منه تعالى ذكره إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحق, وخذلهم عنه وهم أغنياء وتقريرٌ لهم: أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكرًا نعمتي، ممن هو لها كافر. فمنِّي على من مَنَنْتُ عليه منهم بالهداية، جزاء شكره إياي على نعمتي, وتخذيلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد، عقوبة كفرانه إياي نعمتي، لا لغنى الغني منهم ولا لفقر الفقير، لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحدٌ إلا جزاءً على عمله الذي اكتسبه، لا على غناه وفقره, لأن الغنى والفقر والعجز والقوة ليس من أفعال خلقي.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 54 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى ذكره بهذه الآية.

فقال بعضهم: عنى بها الذين نهى الله نبيَّه عن طردهم. وقد مضت الرواية بذلك عن قائليه.

وقال آخرون: عنَى بها قومًا استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب أصابوها عظامٍ, فلم يؤيسهم الله من التوبة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان, عن مجمع قال، سمعت ماهان قال: جاء قوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوبًا عظامًا. قال ماهان: فما إخاله ردّ عليهم شيئًا. قال: فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم » الآية.

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن مجمع, عن ماهان: أنّ قومًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا! فما إخاله ردّ عليهم شيئًا, فانصرفوا فأنـزل الله تعالى ذكره: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة » . قال: فدعاهم فقرأها عليهم.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن مجمّع التميمي قال، سمعت ماهان يقول: فذكر نحوه.

وقال آخرون: بل عُني بها قومٌ من المؤمنين كانوا أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين نهاه الله عن طردهم , فكان ذلك منهم خطيئة, فغفرها الله لهم وعفا عنهم, وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم إذا أتوه أن يبشرهم بأن قد غفر لهم خطيئتهم التي سلفت منهم بمشورتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين أشاروا عليه بطردهم. وذلك قول عكرمة وعبد الرحمن بن زيد, وقد ذكرنا الرواية عنهما بذلك قبل.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بتأويل الآية, قولُ من قال: المعنيُّون بقوله: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم » ، غيرُ الذين نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن طردهم. لأن قوله: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا » ، خبر مستأنَفٌ بعد تقضِّي الخبر عن الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم. ولو كانوا هم، لقيل: « وإذا جاؤوك فقل سلام عليكم » . وفي ابتداء الله الخبرَ عن قصة هؤلاء، وتركه وصلَ الكلام بالخبر عن الأولين، ما ينبئ عن أنهم غيرُهم.

فتأويل الكلام إذًا إذ كان الأمر على ما وصفنا وإذا جاءك، يا محمد، القومُ الذين يصدِّقون بتنـزيلنا وأدلتنا وحججنا، فيقرّون بذلك قولا وعملا مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم, هل لهم منها توبة، فلا تؤيسهم منها, وقل لهم: « سلام عليكم » ، أَمَنَةُ الله لكم من ذنوبكم، أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها « كتب ربكم على نفسه الرحمة » ، يقول: قضى ربكم الرحمة بخلقه « أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة ثم تابَ من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك:

فقرأته عامة قرأة المدنيين: ( أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا ) ، فيجعلون « أنّ » منصوبةً على الترجمة بها عن « الرحمة » ( ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، على ائتناف « إنه » بعد « الفاء » فيكسرونها، ويجعلونها أداة لا موضع لها, بمعنى: فهو له غفور رحيم أو: فله المغفرة والرحمة.

وقرأهما بعض الكوفيين بفتح « الألف » منهما جميعًا, بمعنى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ثم ترجم بقوله: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ، عن الرحمة، ( فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، فيعطف ب « أنه » الثانية على « أنه » الأولى, ويجعلهما اسمين منصوبين على ما بينت.

وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرأة أهل العراق من الكوفة والبصرة: بكسر « الألف » من « إنه » و « إنه » على الابتداء, وعلى أنهما أداتان لا موضع لهما.

قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب, قراءة من قرأهما بالكسر: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إِنَّهُ ) ، على ابتداء الكلام, وأن الخبر قد انتهى عند قوله: « كتب ربكم على نفسه الرحمة » ، ثم استؤنف الخبر عما هو فاعلٌ تعالى ذكره بمن عمل سوءًا بجهالة ثم تاب وأصلح منه.

ومعنى قوله: « أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، أنه من اقترف منكم ذنبًا, فجهل باقترافه إياه ثم تاب وأصلح « فأنه غفورٌ » ، لذنبه إذا تاب وأناب، وراجع العمل بطاعة الله، وترك العود إلى مثله، مع الندم على ما فرط منه « رحيم » ، بالتائب أن يعاقبه على ذنبه بعد توبته منه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن عثمان, عن مجاهد: « من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، قال: من جهل: أنه لا يعلم حلالا من حرام, ومن جهالته ركب الأمر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: « يعملون السوء بجهالة » ، قال: من عمل بمعصية الله, فذاك منه جهل حتى يرجع .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا بكر بن خنيس, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، قال: كل من عمل بخطيئة فهو بها جاهل.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا خالد بن دينار أبو خلدة قال: كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة » .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( 55 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك نفصل الآيات » ، وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحتها، يا محمد، إلى هذا الموضع، حجتَنا على المشركين من عبدة الأوثان، وأدلتَنا, وميَّزناها لك وبيَّناها, كذلك نفصِّل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حقّ ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل غيرهم, فنبينها لك، حتى تبين حقه من باطله، وصحيحهُ من سقيمه.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « ولتستبين سبيل المجرمين » .

فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة: ( وَلِتَسْتَبِينَ ) بالتاء ( سَبِيلَ الْمُجِرمِينَ ) بنصب « السبيل » , على أن « تستبين » ، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، كأن معناه عندهم: ولتستبين، أنت يا محمد، سبيل المجرمين.

وكان ابن زيد يتأول ذلك: ولتستبين، أنت يا محمد، سبيلَ المجرمين الذين سألوك طردَ النفر الذين سألوه طردهم عنه من أصحابه .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن ريد : « ولتستبين سبيلَ المجرمين » ، قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء .

وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصرين: ( وَلِتَسْتَبِينَ ) بالتاء ( سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ ) برفع « السبيل » ، على أن القصد للسبيل, ولكنه يؤنثها وكأن معنى الكلام عندهم: وكذلك نفصل الآيات، ولتتضح لك وللمؤمنين طريقُ المجرمين.

وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: ( وَلِيَسْتَبِينَ ) بالياء ( سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ ) برفع « السبيل » على أن الفعل للسبيل، ولكنهم يذكرونه ومعنى هؤلاء في هذا الكلام, ومعنى من قرأ ذلك بالتاء في: « ولتستبين » ورفع « السبيل » ، واحدٌ, وإنما الاختلاف بينهم في تذكير « السبيل » وتأنيثها.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندي في « السبيل » الرفع, لأن الله تعالى ذكره فصَّل آياته في كتابه وتنـزيله, ليتبين الحقَّ بها من الباطل جميعُ من خوطب بها, لا بعضٌ دون بعض.

ومن قرأ « السبيل » بالنصب, فإنما جعل تبيين ذلك محصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما القراءة في قوله: « ولتستبين » ، فسواء قرئت بالتاء أو بالياء, لأن من العرب من يذكر « السبيل » وهم تميم وأهل نجد ومنهم من يؤنث « السبيل » وهم أهل الحجاز. وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، ولغتان مشهورتان من لغات العرب, وليس في قراءة ذلك بإحداهما خلافٌ لقراءته بالأخرى، ولا وجه لاختيار إحداهما على الأخرى بعد أن يرفع « السبيل » للعلة التي ذكرنا.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « نفصل الآيات » قال أهل التأويل.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « وكذلك نفصل الآيات » ، نبين الآيات .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في : « نفصل الآيات » ، نبين.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( 56 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين بربّهم من قومِك, العادلين به الأوثان والأنداد, الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الأوثان: إنّ الله نهاني أن أعبد الذين تدعون من دونه, فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك، ولا أوافقكم عليه, ولا أعطيكم محبّتكم وهواكم فيه. وإن فعلت ذلك، فقد تركت محجَّة الحق، وسلكت على غير الهدى, فصرت ضالا مثلكم على غير استقامة.

وللعرب في « ضللت » لغتان: فتح « اللام » وكسرها, واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها, وبها قرأ عامة قرأة الأمصار, وبها نقرأ لشهرتها في العرب. وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها، والقراأة بها قليلون. فمن قال « ضَلَلتُ » قال: « أَضِلُّ » , ومن قال « ضَلِلتُ » قال في المستقبل « أَضَلُّ » . وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا بفتح اللام [ سورة السجدة: 10 ] .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ( 57 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم, الداعين لك إلى الإشراك بربك « إني على بيّنة من ربي » ، أي إني على بيان قد تبينته، وبرهان قد وضح لي « من ربي » ، يقول: من توحيدي, وما أنا عليه من إخلاص عُبُودته من غير إشراك شيء به.

وكذلك تقول العرب: « فلان على بينة من هذا الأمر » ، إذا كان على بيان منه, ومن ذلك قول الشاعر:

أَبَيِّنَــةً تَبْغُــونَ بَعْــدَ اعْتِرَافِــهِ وقَــوْلِ سُـوَيْدٍ قَـدْ كَفَيْتُكُـمُ بِشْـرَا

« وكذبتم به » يقول: وكذبتم أنتم بربكم و « الهاء » في قوله « به » من ذكر الرب جلّ وعز « ما عندي ما تستعجلون به » ، يقول: ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي, ولا أنا على ذلك بقادر. وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتوحيده, فدعاهم إلى الله، وأخبرهم أنه رسوله إليهم: هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [ سورة الأنبياء: 3 ] . وقالوا للقرآن: هو أضغاث أحلام . وقال بعضهم: بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون: بل محمد شاعر, فليأتنا بآية كما أرسل الأولون فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: أجبهم بأن الآيات بيد الله لا بيدك, وإنما أنت رسول, وليس عليك إلا البلاغ لما أرسلت به, وأنّ الله يقضي الحق فيهم وفيك، ويفصل به بينك وبينهم، فيتبين المحقُّ منكم والمبطل « وهو خير الفاصلين » ، أي: وهو خير من بيّن وميّز بين المحق والمبطل وأعدلهم, لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حَيْف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة, ولا في قضائه جور، لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور, فهو أعدل الحكام وخيرُ الفاصلين.

وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله: ( وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ ) .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: أنه قال: في قراءة عبد الله: ( يَقْضِي الْحَقَّ وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ ) .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « يقصُّ الحق » .

فقرأه عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة أهل الكوفة والبصرة: « إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ » ، بالصاد، بمعنى « القصص » ، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى ذكره: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [ سورة يوسف: 3 ] . وذكر ذلك عن ابن عباس.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس قال، « يقص الحق » , وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ .

وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة والبصرة: ( إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقْضِي الْحَقَّ ) بالضاد، من « القضاء » ، بمعنى الحكم والفصل بالقَضَاء، واعتبروا صحة ذلك بقوله: « وهو خير الفاصلين » ، وأن « الفصل » بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقَصَص.

وهذه القراءة عندنا أولى القراءَتين بالصواب، لما ذكرنا لأهلِها من العلّة.

فمعنى الكلام إذًا: ما الحكم فيما تستعجلون به، أيها المشركون، من عذاب الله وفيما بيني وبينكم, إلا الله الذي لا يجور في حكمه, وبيده الخلق والأمر, يقضي الحق بيني وبينكم, وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ( 58 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأوثان، المكذبيك فيما جئتهم به, السائليك أن تأتيهم بآية استعجالا منهم بالعذاب: لو أنّ بيدي ما تستعجلون به من العذاب « لقضي الأمر بيني وبينكم » ، ففصل ذلك أسرع الفصل، بتعجيلي لكم ما تسألوني من ذلك وتستعجلونه, ولكن ذلك بيد الله، الذي هو أعلم بوقت إرساله على الظالمين، الذين يضعون عبادتهم التي لا تنبغي أن تكون إلا لله في غير موضعها، فيعبدون من دونه الآلهة والأصنام, وهو أعلم بوقت الانتقام منهم، وحالِ القضاء بيني وبينهم.

وقد قيل: معنى قوله: « لقضي الأمر بيني وبينكم » ، بذبح الموت.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن ابن جريج قال، بلغني في قوله: « لقضي الأمر » ، قال : ذبح الموت .

وأحسب أن قائل هذا القول، نـزع لقوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [ سورة مريم: 39 ] ، فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قصة تدل على معنى ما قاله هذا القائل في « قضاء الأمر » , وليس قوله: « لقضي الأمر بيني وبينكم » من ذلك في شيء, وإنما هذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن استعجله فصلَ القضاء بينه وبينهم من قوله بآية يأتيهم بها: لو أن العذاب والآيات بيدي وعندي، لعاجلتكم بالذي تسألوني من ذلك, ولكنه بيد من هو أعلم بما يُصلح خلقه، منّي ومن جميع خلقه .

 

القول في تأويل قوله : وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

قال أبو جعفر: يقول: وعند الله مفاتح الغيب.

و « المفاتح » : جمع « مِفْتَح » , يقال فيه: « مِفْتح » و « مِفْتَاح » . فمن قال: « مِفْتَح » ، جمعه « مفاتح » , ومن قال: « مفتاح » ، جمعه « مفاتيح » .

ويعني بقوله: « وعنده مفاتح الغيب » ، خزائن الغيب, كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وعنده مفاتح الغيب » ، قال، يقول: خزائن الغيب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن مسعر, عن عمرو بن مرة, عن عبد الله بن سلمة, عن ابن مسعود قال: أعطي نبيُّكم كل شيءٍ إلا مفاتح الغيب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: « وعنده مفاتح الغيب » ، قال: هن خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَـزِّلُ الْغَيْثَ إلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ سورة لقمان: 34 ] .

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم بالظالمين من خلقه، وما هم مستحقُّوه وما هو بهم صانع, فإنّ عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه، ولن يعلموه ولن يدركوه « ويعلم ما في البر والبحر » ، يقول: وعنده علم ما لم يغب أيضًا عنكم, لأن ما في البر والبحر مما هو ظاهر للعين، يعلمه العباد. فكأن معنى الكلام: وعند الله علم ما غابَ عنكم، أيها الناس، مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثرَ بعلمه نفسَه, ويعلم أيضًا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعُكم, لا يخفى عليه شيء, لأنه لا شيءَ إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم. فأخبر الله تعالى ذكره أن عنده علم كل شيء كان ويكون، وما هو كائن مما لم يكن بعد, وذلك هو الغيب.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 59 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تسقط ورقةٌ في الصحاري والبراري، ولا في الأمصار والقرى، إلا الله يعلمها « ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين » ، يقول: ولا شيء أيضًا مما هو موجود، أو ممّا سيوجد ولم يوجد بعد, إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ, مكتوبٌ ذلك فيه، ومرسوم عددُه ومبلغه، والوقت الذي يوجد فيه، والحالُ التي يفنى فيها.

ويعني بقوله: « مبين » ، أنه يبين عن صحة ما هو فيه، بوجود ما رُسم فيه على ما رُسم.

فإن قال قائل: وما وجهُ إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين، ما لا يخفى عليه, وهو بجميعه عالم لا يُخَاف نسيانَه؟

قيل له : لله تعالى ذكره فعل ما شاء. وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانًا منه لحفَظَته، واختبارًا للمتوكلين بكتابة أعمالهم, فإنهم فيما ذُكر مأمورون بكتابة أعمال العباد، ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ, حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم. وقيل إن ذلك معنى قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ سورة الجاثية: 29 ] . وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك مما هو أعلم به, إمّا بحجة يحتج بها على بعض ملائكته، وأما على بني آدم وغير ذلك، وقد:-

حدثني زياد بن يحيى الحسّاني أبو الخطاب قال، حدثنا مالك بن سعير قال، حدثنا الأعمش, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة ولا كمغرِز إبرة, إلا عليها ملك موكّل بها يأتي الله بعلمها: يبسها إذا يبست، ورطوبتها إذا رَطبت.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وقل لهم، يا محمد, والله أعلم بالظالمين، والله هو الذي يتوفى أرواحكم بالليل فيقبضها من أجسادكم « ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، يقول: ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار.

ومعنى « التوفي » ، في كلام العرب استيفاء العدد, كما قال الشاعر:

إِنَّ بَنِــي الأدْرَم لَيْسُــوا مِـنْ أَحَـدْ وَلا تَوَفَّــاهُمْ قُــرَيْشٌ فِـي العَـدَدْ

بمعنى: لم تدخلهم قريش في العدد.

وأما « الاجتراح » عند العرب، فهو عمل الرجل بيده أو رجله أو فمه, وهي « الجوارح » عندهم، جوارح البدن فيما ذكر عنهم. ثم يقال لكل مكتسب عملا « جارح » , لاستعمال العرب ذلك في هذه « الجوارح » , ثم كثر ذلك في الكلام حتى قيل لكل مكتسب كسبًا، بأيّ أعضاء جسمه اكتسب: « مجترِح » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، أما « يتوفاكم بالليل » ففي النوم وأما « يعلم ما جرحتم بالنهار » ، فيقول: ما اكتسبتم من الإثم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، يعني: ما اكتسبتم من الإثم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ما جرحتم بالنهار » ، قال: ما عملتم بالنهار .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله : « وهو الذي يتوفاكم بالليل » ، يعني بذلك نومهم « ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، أي: ما عملتم من ذنب فهو يعلمه, لا يخفى عليه شيء من ذلك.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، قال: أمّا وفاته إياهم بالليل، فمنامهم وأما « ما جرحتم بالنهار » ، فيقول: ما اكتسبتم بالنهار.

قال أبو جعفر: وهذا الكلام وإن كان خبرًا من الله تعالى عن قدرته وعلمه, فإنّ فيه احتجاجًا على المشركين به، الذين كانوا ينكرون قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم. فقال تعالى ذكره محتجًا عليهم: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ) ، يقول: فالذي يقبض أرواحكم بالليل ويبعثكم في النهار, لتبلغوا أجلا مسمى، وأنتم ترون ذلك وتعلمون صحّته, غير منكرٍ له القدرة على قبض أرواحكم وإفنائكم، ثم ردِّها إلى أجسادكم، وإنشائكم بعد مماتكم, فإن ذلك نظير ما تعاينون وتشاهدون, وغير منكر لمن قدر على ما تعاينون من ذلك، القدرةُ على ما لم تعاينوه. وإن الذي لم تروه ولم تعاينوه من ذلك، شبيه ما رأيتم وعاينتم.

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 60 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: « ثم يبعثكم » , يثيركم ويوقظكم من منامكم « فيه » يعني في النهار، و « الهاء » التي في « فيه » راجعة على « النهار » « ليقضى أجلٌ مسمى » ، يقول: ليقضي الله الأجل الذي سماه لحياتكم, وذلك الموت, فيبلغ مدته ونهايته « ثم إليه مرجعكم » ، يقول: ثم إلى الله معادكم ومصيركم « ثم ينبئكم بما كنتم تعملون » ، يقول: ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا, ثم يجازيكم بذلك, إن خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ثم يبعثكم فيه » ، قال: في النهار.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ثم يبعثكم فيه » ، في النهار, و « البعث » ، اليقظة .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة مثله .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم يبعثكم فيه » ، قال: بالنهار.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: « ثم يبعثكم فيه » ، قال: يبعثكم في المنام.

« ليقضى أجل مسمى » ، وذلك الموت.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليقضى أجل مسمى » ، وهو الموت .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ليقضى أجل مسمى » ، قال: هو أجل الحياة إلى الموت .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: « ليقضى أجل مسمى » ، قال: مدّتهم .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ( 61 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « وهو القاهر » ، والله الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته, لا المقهور من أوثانهم وأصنامهم، المذلَّل المعْلُوّ عليه لذلته « ويرسل عليكم حفظة » ، وهي ملائكته الذين يتعاقبونكم ليلا ونهارًا, يحفظون أعمالكم ويحصونها, ولا يفرطون في حفظ ذلك وإحصائه ولا يُضيعون.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « ويرسل عليكم حفظة » ، قال: هي المعقبات من الملائكة, يحفظونه ويحفظون عمله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، يقول: حفظة، يا ابن آدم، يحفظون عليك عملك ورزقك وأجلك، إذا توفَّيت ذلك قبضت إلى ربك « حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، يقول تعالى ذكره: إن ربكم يحفظكم برسل يعقِّب بينها، يرسلهم إليكم بحفظكم وبحفظ أعمالكم، إلى أن يحضركم الموت، وينـزل بكم أمر الله, فإذا جاء ذلك أحدكم، توفاه أملاكنا الموكَّلون بقبض الأرواح، ورسلنا المرسلون به « وهم لا يفرطون » ، في ذلك فيضيعونه.

فإن قال قائل: أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت, فكيف قيل: « توفته رسلنا » ، « والرسل » جملة وهو واحد ؟ أو ليس قد قال: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [ سورة السجدة: 11 ] ؟

قيل: جائز أن يكون الله تعالى ذكره أعان ملك الموت بأعوان من عنده, فيتولون ذلك بأمر ملك الموت, فيكون « التوفي » مضافًا وإن كان ذلك من فعل أعوان ملك الموت إلى ملك الموت إذ كان فعلهم ما فعلوا من ذلك بأمره، كما يضاف قتلُ من قتل أعوانُ السلطان وجلدُ من جلدوه بأمر السلطان، إلى السلطان, وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه، ولا وليه بيده.

وقد تأول ذلك كذلك جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم في قوله: « حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: كان ابن عباس يقول: لملك الموت أعوانٌ من الملائكة.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن عبيد الله في قوله: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: سئل ابن عباس عنها فقال: إن لملك الموت أعوانًا من الملائكة .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم في قوله: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: أعوان ملك الموت.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: الرسل توفَّى الأنفس, ويذهب بها ملك الموت.

حدثنا هناد قال، حدثنا حفص, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم, عن ابن عباس: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، أعوان ملك الموت من الملائكة.

[ حدثنا هناد قال، حدثنا حفص, عن الحسن بن عبيد الله, عن ابن عباس : « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » . قال: أعوان ملك الموت من الملائكة ] .

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم: « توفته رسلنا » ، قال: هم الملائكة أعوان ملك الموت .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « توفته رسلنا » ، قال: إن ملك الموت له رسل، فيرسل ويرفع ذلك إليه وقال الكلبي: إن ملك الموت هو يلي ذلك, فيدفعه، إن كان مؤمنًا، إلى ملائكة الرحمة, وإن كان كافرًا إلى ملائكة العذاب .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « توفته رسلنا » ، قال: يلي قبضَها الرسل, ثم يدفعونها إلى ملك الموت .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن منصور عن إبراهيم في قوله: « توفته رسلنا » ، قال: تتوفاه الرسل, ثم يقبض منهم ملك الموت الأنفس قال الثوري: وأخبرني الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم قال: هم أعوان لملك الموت قال الثوري: وأخبرني رجل، عن مجاهد قال: جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناول من حيث شاء, وجعلت له أعوان يتوفَّون الأنفس ثم يقبضها منهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم, عن ابن عباس في قوله: « توفته رسلنا » ، قال : أعوان ملك الموت من الملائكة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم قال: الملائكة أعوان ملك الموت .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: « توفته رسلنا » ، قال: يتوفونه, ثم يدفعونه إلى ملك الموت .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه قال : سألت الربيع بن أنس عن ملك الموت, أهو وحده الذي يقبض الأرواح ، قال: هو الذي يلي أمرَ الأرواح, وله أعوان على ذلك, ألا تسمع إلى قول الله تعالى ذكره: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ؟ [ سورة الأعراف: 37 ] . وقال: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، غير أن ملك الموت هو الذي يسير كل خطوة منه من المشرق إلى المغرب. قلت: أين تكون أرواح المؤمنين؟ قال: عند السدرة في الجنة .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا محمد بن مسلم, عن إبراهيم بن ميسرة, عن مجاهد قال: ما من أهل بيت شَعَرٍ ولا مَدَرٍ إلا وملك الموت يُطيف بهم كل يوم مرتين .

وقد بينا أن معنى « التفريط » ، التضييع, فيما مضى قبل. وكذلك تأوله المتأوّلون في هذا الموضع .

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وهم لا يفرطون » ، يقول: لا يضيعون.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهم لا يفرطون » ، قال: لا يضيعون .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( 62 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم ردت الملائكة الذين توفَّوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم، إلى الله سيدهم الحق، « ألا له الحكم » ، يقول: ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه « وهو أسرعُ الحاسبين » ، يقول: وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم، أيها الناس, وأحصاها، وعرف مقاديرها ومبالغها, لأنه لا يحسب بعقد يد, ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية, و لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ سورة سبأ: 3 ] .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 63 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم، الداعين إلى عبادة أوثانهم: من الذين ينجيكم « من ظلمات البر » ، إذا ضللتم فيه فتحيَّرتم، فأظلم عليكم الهدى والمحجة ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه، فأخطأتم فيه المحجة، فأظلم عليكم فيه السبيل، فلا تهتدون له غير الله الذي إليه مفزعكم حينئذ بالدعاء « تضرعًا » ، منكم إليه واستكانة جهرًا « وخفية » ، يقول: وإخفاء للدعاء أحيانًا, وإعلانًا وإظهارًا تقولون: لئن أنجيتنا من هذه يا رب أي من هذه الظلمات التي نحن فيها « لنكونن من الشاكرين » ، يقول: لنكونن ممن يوحدك بالشكر، ويخلص لك العبادة، دون من كنا نشركه معك في عبادتك.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعيد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعًا وخفية » ، يقول: إذا أضل الرجل الطريق، دعا الله: « لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر » ، يقول: من كرْب البر والبحر.

 

القول في تأويل قوله : قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ( 64 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم سواه من الآلهة، إذا أنت استفهمتهم عمن به يستعينون عند نـزول الكرب بهم في البر والبحر: الله القادرُ على فَرَجكم عند حلول الكرب بكم, ينجيكم من عظيم النازل بكم في البر والبحر من همّ الضلال وخوف الهلاك، ومن كرب كل سوى ذلك وهمّ لا آلهتكم التي تشركون بها في عبادته, ولا أوثانكم التي تعبدونها من دونه, التي لا تقدر لكم على نفع ولا ضرّ, ثم أنتم بعد تفضيله عليكم بكشف النازل بكم من الكرب، ودفع الحالِّ بكم من جسيم الهم، تعدلون به آلهتكم وأصنامكم، فتشركونها في عبادتكم إياه. وذلك منكم جهل بواجب حقه عليكم، وكفر لأياديه عندكم، وتعرضٌ منكم لإنـزال عقوبته عاجلا بكم.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم غيره من الأصنام والأوثان، يا محمد: إن الذي ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر ومن كل كرب، ثم تعودون للإشراك به, هو القادر على أن يرسل عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم, لشرككم به، وادّعائكم معه إلهًا آخر غيره، وكفرانكم نعمه، مع إسباغه عليكم آلاءه ومِنَنه.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى « العذاب » الذي توعد الله به هؤلاء القوم أن يبعثه عليهم من فوقهم أو من تحت أرجلهم.

فقال بعضهم: أما العذاب الذي توعدهم به أن يبعثه عليه من فوقهم، فالرجم. وأما الذي توعدهم أن يبعثه عليهم من تحتهم، فالخسف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: عذابًا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، قال: الخسف.

حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن الأشجعي, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك وسعيد بن جبير, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو سلمة, عن شبل, عن ابن نجيح, عن مجاهد: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » ، قال الخسف .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم » ، فعذاب السماء « أو من تحت أرجلكم » ، فيخسف بكم الأرض .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » قال: كان ابن مسعود يصيح وهو في المجلس أو على المنبر: ألا أيها الناس، إنه نـزل بكم. إن الله يقول: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم » ، لو جاءكم عذاب من السماء لم يبق منكم أحد « أو من تحت أرجلكم » ، لو خسف بكم الأرض أهلككم، لم يبق منكم أحد أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، ألا إنه نـزل بكم أسوأ الثلاث.

وقال آخرون: عنى بالعذاب من فوقكم، أئمةَ السوء « أو من تحت أرجلكم » ، الخدم وسِفلة الناس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت خلادًا يقول: سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول: إن ابن عباس كان يقول في هذه: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » ، فأما العذاب من فوقكم، فأئمة السوء وأما العذاب من تحت أرجلكم، فخدم السوء.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم » ، يعني من أمرائكم « أو من تحت أرجلكم » ، يعني: سفلتكم .

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: عنى بالعذاب من فوقهم، الرجمَ أو الطوفان وما أشبه ذلك مما ينـزل عليهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم، الخسفَ وما أشبهه. وذلك أن المعروف في كلام العرب من معنى « فوق » و « تحت » الأرجل, هو ذلك، دون غيره. وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك وجه صحيح, غير أن الكلام إذا تُنُوزع في تأويله، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحق وأولى من غيره، ما لم تأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها.

 

القول في تأويل قوله : أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو يخلطكم « شيعًا » ، فرقًا, واحدتها « شِيعة » .

وأما قوله: « يلبسكم » فهو من قولك: « لبَسْت عليه الأمر » , إذا خلطت, « فأنا ألبِسه » . وإنما قلت إن ذلك كذلك, لأنه لا خلاف بين القرأة في ذلك بكسر « الباء » , ففي ذلك دليل بَيِّنٌ على أنه من: « لبَس يلبِس » , وذلك هو معنى الخلط. وإنما عنى بذلك: أو يخلطكم أهواء مختلفة وأحزابًا مفترقة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أو يلبسكم شيعًا » ، الأهواء المفترقة.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: يفرق بينكم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: ما كان منكم من الفتن والاختلاف.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف، والأهواء، وسفك دماء بعضهم بعضًا .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي, قال : حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: الأهواء والاختلاف.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أو يلبسكم شيعًا » ، يعني بالشيع، الأهواء المختلفة .

وأما قوله: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، فإنه يعني: بقتل بعضكم بيد بعض.

والعرب تقول للرجل ينال الرجل بسلام فيقتله به: « قد أذاق فلان فلانًا الموت » ، و « أذاقه بأسه » ، وأصل ذلك من: « ذوق الطعام » وهو يطعمه, ثم استعمل ذلك في كل ما وصل إلى الرجل من لذة وحلاوة، أو مرارة ومكروه وألم.

وقد بينت معنى « البأس » في كلام العرب فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، بالسيوف .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد, عن أبي هارون العبدي, عن عوف البكالي أنه قال في قوله: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: هي والله الرجال في أيديهم الحراب، يطعُنون في خواصركم .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب.

حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: عذاب هذه الأمة أهل الإقرار، بالسيف « أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض » وعذاب أهل التكذيب، الصيحة والزلزلة.

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.

فقال بعضهم: عني بها المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وفيهم نـزلت.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عيسى الدامغاني قال، أخبرنا ابن المبارك, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية في قوله : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ الآية ، قال: فهن أربع، وكلهن عذاب, فجاء مستقرّ اثنتين، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة, فألبسوا شيعًا، وأذيق بعضهم بأس بعض, وبقيت اثنتان, فهما لا بدّ واقعتان يعني: الخسف والمسخ.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, وأعفاكم منه « أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا » ، قال: ما كان فيكم من الفتن والاختلاف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا ، الآية. ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلى ذات يوم الصبح فأطالها, فقال له بعض أهله: يا نبي الله، لقد صلّيت صلاة ما كنت تصَليها ؟ قال: إنها صلاةُ رَغبة ورَهبة, وإني سألت ربّي فيها ثلاثًا، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوًّا من غيرهم، فيهلكهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يسلط على أمتي السنة، فأعطانيها. وسألته أن لا يلبسهم شيعًا ولا يذيق بعضهم بأس بعض, فمنعنيها. ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله.

حدثنا أحمد بن الوليد القرشي وسعيد بن الربيع الرازي قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو, سمع جابرًا يقول: لما أنـزل الله تعالى ذكره على النبي صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) ، قال: أعوذ بوجهك « أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: هاتان أيسر أو: أهون.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن جابر, قال: لما نـزلت: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) ، قال: نعوذ بك, نعوذ بك « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: هو أهون.

حدثني زياد بن عبيد الله المزني قال، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال، حدثنا أبو مالك قال، حدثني نافع بن خالد الخزاعي, عن أبيه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود، فقال: قد كانت صلاة رغبة ورهبة, فسألت الله فيها ثلاثًا، فأعطاني اثنتين, وبقي واحداة. سألت الله أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به مَن قبلكم، فأعطانيها. وسألت الله أن لا يسلِّط عليكم عدوًّا يستبيح بيضتكم، فأعطانيها. وسألته أن لا يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض, فمنعنيها قال أبو مالك: فقلت له: أبوك سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها مِن في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور عن معمر، عن أيوب, عن أبي قلابة, عن أبي الأشعث, عن أبي أسماء الرحبي, عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: إن الله زَوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربَها, وإنّ ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها, وإني أعطيت الكنـزين الأحمرَ والأبيض, وإني سألت ربّي أن لا يهلك قومي بسَنَةٍ عامة، وأن لا يلبسهم شيعًا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض, فقال: يا محمد, إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يردّ, وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلِّط عليهم عدوًّا ممن سواهم فيهلكهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، وبعضهم يقتل بعضًا، وبعضهم يسبي بعضًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف على أمتي الأئمة المضلين, فإذا وضع السيف في أمتي، لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني أيوب, عن أبي قلابة, عن أبي الأشعث, عن أبي أسماء الرحبي, عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه إلا أنه قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن الزهري قال: راقب خباب بن الأرتّ, وكان بدريًّا, النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي, حتى إذا فرغ، وكان في الصبح، قال له: يا رسول الله, لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها ؟ قال: أجل, إنها صلاة رَغَبٍ ورَهَبٍ, سألت ربي ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألته أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم، فأعطاني. وسألته أن لا يسلط علينا عدوًّا، فأعطاني. وسألته أن لا يلبسنا شيعًا، فمنعني.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري في قوله: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: راقب خبابُ بن الأرت, وكان بدريًّا, رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه إلا أنه قال: ثلاث خصلات.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: هذه أهون.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن الحسن : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: سألت ربّي أربعًا، فأعطيت ثلاثًا ومنعت واحداة: سألته أن لا يسلط على أمتي عدوًّا من غيرهم يستبيح بيضتهم, ولا يسلط عليهم جوعًا, ولا يجمعهم على ضلالة، فأعطيتهن وسألته أن لا يلبسهم شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض, فمنعتُ.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سألت ربي خصالا فأعطاني ثلاثًا ومنعني واحدة: سألته أن لا تكفر أمتي صفقة واحدة، فأعطانيها. وسألته لا يُظهر عليهم عدوًّا من غيرهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم من قبلهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم, فمنعنيها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر, عن الحسن قال: لما نـزلت هذه الآية, قوله: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال الحسن: ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يُشهده عليهم: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ, فسأل ربه أن لا يرسل عليهم عذابًا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ولا يلبس أمته شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل, فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إنك سألت ربك أربعًا, فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين: لن يأتيهم عذاب من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم، فإنهما عذابان لكل أمة اجتمعت على تكذيب نبيها وردِّ كتاب ربها، ولكنهم يلبسهم شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض, وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتاب والتصديق بالأنبياء, ولكن يعذبون بذنوبهم، وأوحي إليه: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ، يقول: من أمتك أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ من العذاب وأنت حي فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [ سورة الزخرف: 41،42 ] . فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم فراجع ربه, فقال : أيّ مصيبة أشدّ من أن أرى أمتي يعذب بعضها بعضًا! وأوحي إليه: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ، [ سورة العنكبوت: 1،3 ] ، فأعلمه أن أمته لم تخصّ دون الأمم بالفتن, وأنها ستبلى كما ابتليت الأمم. ثم أنـزل عليه: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ سورة المؤمنون: 93،94 ] ، فتعوّذ نبي الله, فأعاذه الله, لم يرَ من أمته إلا الجماعة والألفة والطاعة. ثم أنـزل عليه آية حذّر فيها أصحابه الفتنة, فأخبره أنه إنما يُخَصّ بها ناسٌ منهم دون ناس, فقال: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، [ سورة الأنفال: 25 ] ، فخصّ بها أقوامًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعده، وعصم بها أقوامًا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية قال: لما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما يكون في أمته من الفرقة والاختلاف, فشق ذلك عليه, ثم دعا فقال: اللهم أظهر عليهم أفضلهم بقية.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو الأسود قال، أخبرنا ابن لهيعة, عن خالد بن يزيد, عن أبي الزبير قال: لما نـزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من ذلك ! قال: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، قال: أعوذ بالله من ذلك قال: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: هذه أيسر ! ولو استعاذه لأعاذه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا المؤمل البصري قال، أخبرنا يعقوب بن إسماعيل بن يسار المديني قال، حدثنا زيد بن أسلم قال: لما نـزلت: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض بالسيوف! فقالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله! قال: نعم! فقال بعض الناس: لا يكون هذا أبدًا! فأنـزل الله: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ .

وقال آخرون: عنى ببعضها أهل الشرك، وببعضها أهل الإسلام .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن هارون بن موسى, عن حفص بن سليمان, عن الحسن في قوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، قال: هذا للمشركين « أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: هذا للمسلمين.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره توعَّد بهذه الآية أهلَ الشرك به من عبدة الأوثان، وإياهم خاطبَ بها, لأنها بين إخبار عنهم وخطاب لهم, وذلك أنها تتلو قوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ، ويتلوها قوله: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ . وغير جائز أن يكون المؤمنون كانوا به مكذبين ، فإذا كان غير جائز أن يكون ذلك كذلك, وكانت هذه الآية بين هاتين الآيتين, كان بيّنًا أن ذلك وعيدٌ لمن تقدّم وصف الله إياه بالشرك، وتأخر الخبر عنه بالتكذيب لا لمن لم يجر له ذكر. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فإنه قد عم وعيدُه بذلك كلَّ من سلك سبيلهم من أهل الخلاف على الله وعلى رسوله، والتكذيب بآيات الله من هذه وغيرها.

وأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « سألت ربي ثلاثًا, فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة » ، فجائز أن هذه الآية نـزلت في ذلك الوقت وعيدًا لمن ذكرتُ من المشركين، ومن كان على منهاجهم من المخالفين ربهم, فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعيذ أمته مما ابتلى به الأمم الذين استوجبوا من الله تعالى ذكره بمعصيتهم إياه هذه العقوبات، فأعاذهم بدعائه إياه ورغبته إياه، من المعاصي التي يستحقون بها من هذه الخلال الأربع من العقوبات أغلظها، ولم يُعذهم من ذلك ما يستحقون به اثنتين منها.

وأما الذين تأوّلوا أنه عني بجميع ما في هذه الآية هذه الأمة, فإني أراهم تأوّلوا أن في هذه الأمة من سيأتي من معاصي الله وركوب ما يُسخط الله، نحو الذي ركب مَن قبلهم من الأمم السالفة، من خلافه والكفر به, فيحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من المثلات والنقمات، وكذلك قال أبو العالية ومن قال بقوله: « جاء منهن اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة. وبقيت اثنتان، الخسف والمسخ » ، وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سيكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف » ، وأن قومًا من أمته سيبيتون على لهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير. وذلك إذا كان, فلا شك أنه نظير الذي في الأمم الذين عتوا على ربهم في التكذيب وجحدوا آياته. وقد روي نحو الذي روي عن أبي العالية, عن أبيّ.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان قال، أخبرنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع, عن أبي العالية, عن أبي بن كعب: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ) ، قال: أربع خِلال, وكلهن عذاب, وكلهن واقعٌ قبل يوم القيامة, فمضت اثنتان بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، ألبسوا شيعًا, وأذيق بعضهم بأس بعض. وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف والرجم.

 

القول في تأويل قوله : انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ( 65 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر، يا محمد، بعين قلبك إلى ترديدنا حججنا على هؤلاء المكذبين بربّهم الجاحدين نعمه، وتصريفناها فيهم « لعلهم يفقهون » ، يقول: ليفقهوا ذلك ويعتبروه, فيذّكروا ويزدجروا عما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله منهم، من عبادة الأوثان والأصنام، والتكذيب بكتاب الله تعالى ذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( 66 ) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 67 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكذب، يا محمد، قومك بما تقول وتخبر وتوعد من الوعيد « وهو الحق » ، يقول: والوعيدُ الذي أوعدناهم على مقامهم على شركهم: من بعث العذاب من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، أو لبسهم شيعًا, وإذاقة بعضهم بأس بعض « الحق » الذي لا شك فيه أنه واقع إن هم لم يتوبوا وينيبوا مما هم عليه مقيمون من معصية الله والشرك به، إلى طاعة الله والإيمان به « قل لست عليكم بوكيل » ، يقول: قل لهم، يا محمد، لست عليكم بحفيظ ولا رقيب, وإنما رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم « لكل نبإ مستقر » ، يقول: لكل خبر مستقر, يعني قرار يستقرّ عنده، ونهاية ينتهي إليه, فيتبين حقه وصدقه، من كذبه وباطله « وسوف تعلمون » ، يقول: وسوف تعلمون، أيها المكذبون بصحة ما أخبركم به من وعيد الله إياكم، أيها المشركون، حقيقته عند حلول عذابه بكم، فرأوا ذلك وعاينوه، فقتلهم يومئذ بأيدي أوليائه من المؤمنين.

وبنحو الذي قلنا من التأويل في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفصل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وكذب به قومك وهو الحق » ، يقول: كذبت قريش بالقرآن, وهو الحق وأما « الوكيل » ، فالحفيظ ، وأما « لكل نبإ مستقر » ، فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يَعِدهم من العذاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لكل نبإ مستقر » ، لكل نبأ حقيقة, إما في الدنيا وإما في الآخرة « وسوف تعلمون » ، ما كان في الدنيا فسوف ترونه, وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « لكل نبإ مستقر » ، يقول: حقيقة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون » ، يقول: فعل وحقيقة, ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة.

وكان الحسن يتأوّل في ذلك أنه الفتنة التي كانت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جعفر بن حيان, عن الحسن أنه قرأ: « لكل نبإ مستقر » ، قال: حبست عقوبتها، حتى [ إذا ] عمل ذنبها أرسلت عقوبتها.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 68 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت، يا محمد، المشركين الذين يخوضون في آياتنا التي أنـزلناها إليك, ووحينا الذي أوحيناه إليك, و « خوضهم فيها » ، كان استهزاءَهم بها، وسبَّهم من أنـزلها وتكلم بها، وتكذيبهم بها « فأعرض عنهم » ، يقول: فصد عنهم بوجهك, وقم عنهم، ولا تجلس معهم « حتى يخوضوا في حديث غيره » ، يقول: حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله من حديثهم بينهم « وإما ينسينك الشيطان » ، يقوله: وإن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم والإعراض عنهم في حال خوضهم في آياتنا، ثم ذكرت ذلك, فقهم عنهم، ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين خاضوا في غير الذي لهم الخوضُ فيه بما خاضوا به فيه. وذلك هو معنى « ظلمهم » في هذا الموضع.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره » ، قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها، فإن نسي فلا يقعد بعد الذكر مع القوم الظالمين.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، أخبرنا معمر, عن قتادة بنحوه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن أبي مالك وسعيد بن جبير في قوله : « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » ، قال: الذين يكذبون بآياتنا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » ، قال: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبوه واستهزءوا به, فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وأما قوله: « وإما ينسينك الشيطان » ، يقول: نَهْيَنَا فتقعد معهم, فإذا ذكرت فقم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « يخوضون في آياتنا » ، قال: يكذبون بآياتنا .

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض, عن ليث, عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات, فإنهم الذين يخوضون في آيات الله .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا » , وقوله: الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [ سورة الأنعام: 159 ] ؛ وقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [ سورة آل عمران: 105 ] ؛ وقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ سورة الشورى: 13 ] ، ونحو هذا في القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمِراء والخصومات في دين الله .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » ، قال: يستهزئون بها. قال: نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا ذكر فليقم. فذلك قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه, فإذا سمعوا استهزءوا، فنـزلت: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم » ، الآية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » ، قال: يكذبون.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عن أبي مالك قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره » ، يعني المشركين « وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » ، إن نسيت فذكرتَ فلا تجلس معهم.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 69 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن اتقى الله فخافه، فأطاعه فيما أمره به، واجتنب ما نهاه عنه, فليس عليه بترك الإعراض عن هؤلاء الخائضين في آيات الله في حال خوضهم في آيات الله، شيء من تبعة فيما بينه وبين الله, إذا لم يكن تركه الإعراضَ عنهم رضًا بما هم فيه، وكان لله بحقوقه متقيًا, ولا عليه من إثمهم بذلك حرج, ولكن ليعرضوا عنهم حينئذ ذكرى لأمر الله « لعلهم يتقون » ، يقول: ليتقوا.

ومعنى « الذكرى » ، الذكرُ. و « الذكر » و « الذكرى » بمعنًى.

وقد يجوز أن يكون « ذكرى » في موضع نصب ورفع:

فأما النصب، فعلى ما وصفت من تأويل: ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى.

وأما الرفع، فعلى تأويل: وما على الذين يتقون من حسابهم شيء بترك الإعراض, ولكن إعراضهم ذكرى لأمر الله لعلهم يتقون.

وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالقيام عن المشركين إذا خاضوا في آيات الله, لأن قيامه عنهم كان مما يكرهونه, فقال الله له: إذا خاضوا في آيات الله فقم عنهم، ليتقوا الخوضَ فيها ويتركوا ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه, فإذا سمعوا استهزءوا, فنـزلت: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، الآية، قال: فجعل إذا استهزءوا قام، فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم! فذلك قوله: « لعلهم يتقون » ، أن يخوضوا فيقوم، ونـزل: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، إن قعدوا معهم, ولكن لا تقعدوا. ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة: وَقَدْ نَـزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ، [ سورة النساء: 140 ] , فنسخ قولَه: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، الآية.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، يقول: من حساب الكفار من شيء « ولكن ذكرى » ، يقول: إذا ذكرت فقم « لعلهم يتقون » مساءتكم، إذا رأوكم لا تجالسونهم استحيوا منكم، فكفوا عنكم. ثم نسخها الله بعد, فنهاهم أن يجلسوا معهم أبدًا، قال: وَقَدْ نَـزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا ، الآية .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، إن قعدوا, ولكن لا تقعد .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد , مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عن أبي مالك: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى » ، قال: وما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك.

 

القول في تأويل قوله : وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ذرْ هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبًا ولهوًا, فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته، واللهوَ والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم, فأعرض عنهم, فإني لهم بالمرصاد, وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون، وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا، ونسيانهم المعادَ إلى الله تعالى ذكره والمصيرَ إليه بعد الممات، كالذي:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، قال: كقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ، [ سورة المدثر: 11 ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله: ( اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، [ سورة التوبة:5 ] . وكذلك قال عدد من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، ثم أنـزل في « سورة براءة » , فأمر بقتالهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال: قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، ثم أنـزل الله تعالى ذكره « براءة » , وأمر بقتالهم فقال: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، [ سورة التوبة: 5 ] .

وأما قوله: « وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت » ، فإنه يعني به: وذكّر، يا محمد، بهذا القرآن هؤلاء المولِّين عنك وعنه « أن تبسل نفس » ، بمعنى: أن لا تبسل, كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى: أن لا تضلوا وإنما معنى الكلام: وذكرهم به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق, فلا تُبْسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار ولكن حذفت « لا » ، لدلالة الكلام عليها.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « أن تبسل نفس » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: أن تُسْلَم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة قوله: « أن تبسل نفس بما كسبت » ، قال: تُسلم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: « أن تبسل نفس » ، قال: أن تُسلم .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن, مثله .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « أن تبسل » ، قال: تسلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أن تبسل نفس » ، قال: تسلم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ليث, عن مجاهد: أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا ، أسلموا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تُحْبس.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « أن تبسل نفس » ، قال: تؤخذ فتحبس .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : « أن تبسل نفس بما كسبت » ، أن تؤخذ نفس بما كسبت.

وقال آخرون: معناه: تُفضَح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت » ، يقول: تفضح.

وقال آخرون: معناه: أن تجزَى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد قال، قال الكلبي: « أن تبسل » ، أن تجزَى.

وأصل « الإبسال » التحريم, يقال منه: « أبسلت المكان » ، إذا حرّمته فلم يقرب، ومنه قوله الشاعر:

بَكَـرَتْ تَلُـومُكَ بَعْـدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى, بَسْــلٌ عَلَيْــكِ مَلامَتِـي وَعِتَـابِي

أي: حرام [ عليك ملامتي وعتابي ] . ومنه قولهم: « أسد باسل » , ويراد به: لا يقربه شيء, فكأنه قد حرَّم نفسه، ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته. ويقال: « أعط الراقي بُسْلَتَه » , يراد بذلك: أجرته, « وشراب بَسِيل » ، بمعنى متروك. وكذلك « المبسَلُ بالجريرة » , وهو المرتهن بها, قيل له: « مُبْسَل » ، لأنه محرَّم من كل شيء إلا مما رُهن فيه وأُسلم به، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي:

وَإبْسَــالِي بَنِــيَّ بِغَــيْرِ جُــرْمٍ بَعَوْنَــــاهُ وَلا بِـــدَمٍ مُـــرَاقِ

وقال الشنفرى:

هُنَــالِكَ لا أَرْجُــو حَيَـاةً تَسُـرُّنِي سَــمِيرَ اللَّيَــالِي مُبْسَـلا بِـالْجَرَائِرِ

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وذكّر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرهم ممن سلك سبيلهم من المشركين, كيلا تُبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها, وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله « ليس لها من دون الله » ، يقول: ليس لها، حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آثامها، أحدٌ ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها « ولا شفيع » ، يشفع لها, لوسيلة له عنده.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن تعدل النفس التي أبسلت بما كسبت, يعني: « وإن تعدل كل عدل » ، يعني: كل فداء.

يقال منه: « عَدَل يعدِل » ، إذا فدى, « عَدْلا » ، ومنه قول الله تعالى ذكره: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، [ سورة المائدة: 95 ] ، وهو ما عادله من غير نوعه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، قال: لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، فما يعدلها لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لتفتدي به ما قُبل منها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، قال: « وإن تعدل » ، وإن تفتد، يكون له الدنيا وما فيها يفتدي بها « لا يؤخذ منه » ، عدلا عن نفسه, لا يقبل منه.

وقد تأوّل ذلك بعض أهل العلم بالعربية بمعنى: وإن تُقسط كل قسط لا يقبل منها. وقال: إنها التوبة في الحياة.

وليس لما قال من ذلك معنى, وذلك أن كل تائب في الدنيا فإن الله تعالى ذكره يقبل توبته.

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 70 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين إن فدوا أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة كل فداء لم يؤخذ منهم, هم « الذين أبسلوا بما كسبوا » ، يقول: أسلموا لعذاب الله, فرهنوا به جزاءً بما كسبوا في الدنيا من الآثام والأوزار، « لهم شرابٌ من حميم » .

و « الحميم » هو الحارّ، في كلام العرب, وإنما هو « محموم » صرف إلى « فعيل » ، ومنه قيل للحمّام، « حمام » لإسخانه الجسم، ومنه قول مرقش:

فِــي كُــلِّ مُمْسًـى لَهَـا مِقْطَـرَةٌ فِيهَـــا كِبَــاءٌ مُعَــدٌّ وَحَــمِيمْ

يعني بذلك ماء حارًّا، ومنه قول أبي ذويب الهذلي في صفة فرس:

تَــأبَى بِدِرَّتِهَـا إذَا مَـا اسْـتُضْغِبَتْ إلا الْحَـــمِيمَ فَإنّـــهُ يَتَبَضَّـــعُ

يعني بالحميم: عرق الفرس.

وإنما جعل تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية شرابًا من حميم, لأن الحارّ من الماء لا يروي من عطش. فأخبر أنهم إذا عطشوا في جهنم لم يغاثوا بماء يرويهم, ولكن بما يزيدون به عطشًا على ما بهم من العطش « وعذاب أليم » ، يقول: ولهم أيضًا مع الشراب الحميم من الله العذابُ الأليم والهوان المقيم « بما كانوا يكفرون » ، يقول: بما كان من كفرهم في الدنيا بالله، وإنكارهم توحيده، وعبادتهم معه آلهة دونه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا » ، قال يقال: أسلموا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أولئك الذين أبسلوا » ، قال: فُضحوا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا » ، قال: أخذوا بما كسبوا.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا

قال أبو جعفر: وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان. يقول له تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأنداد، والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعو من دون الله حجرًا أو خشبًا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا, فنخصه بالعبادة دون الله, وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت, إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر؟ فلا شك أنكم تعلمون أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضره، أحق وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضره!

« ونرد على أعقابنا » ، يقول: ونرد إلى أدبارنا، فنرجع القهقري خلفنا، لم نظفر بحاجتنا.

وقد بينا معنى: « الرد على العقب » , وأن العرب تقول لكل طالب حاجة لم يظفر بها: « رد على عقبيه » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما يراد به في هذا الموضع: ونرد من الإسلام إلى الكفر « بعد إذ هدانا الله، فوفقنا له, فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان، يهوي في الأرض حيران. »

وقوله: « استهوته » ، « استفعلته » , من قول القائل: « هوى فلان إلى كذا يهوي إليه » , ومن قول الله تعالى ذكره: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، [ سورة إبراهيم: 37 ] ، بمعنى: تنـزع إليهم وتريدهم.

وأما « حيران » ، فإنه « فعلان » من قول القائل: « قد حار فلان في الطريق، فهو يَحَار فيه حَيرة وحَيَرَانًا وَحيرُورة » , وذلك إذ ضل فلم يهتد للمحجَّة.

« له أصحاب يدعونه إلى الهدى » , يقول: لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض، أصحابٌ على المحجة واستقامة السبيل, يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه, يقولون له : ائتنا.

وترك إجراء « حيران » , لأنه « فعلان » , وكل اسم كان على « فعلان » مما أنثاه « فعلى » فإنه لا يجري في كلام العرب في معرفة ولا نكرة.

قال أبو جعفر: وهذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لمن كفَر بالله بعد إيمانه، فاتبع الشياطين، من أهل الشرك بالله وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه، المقيمون على الدين الحق، يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون، والصواب الذي هم به متمسكون, وهو له مفارق وعنه زائل, يقولون له: « ائتنا فكن معنا على استقامة وهدى » ! وهو يأبى ذلك, ويتبع دواعي الشيطان، ويعبد الآلهة والأوثان.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل, وخالف في ذلك جماعة.

ذكر من قال ذلك مثل ما قلنا:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا » ، قال: قال المشركون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا, واتركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم. فقال الله تعالى ذكره: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، هذه الآلهة « ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله » , فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق, فضلّ الطريق, فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض, وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم, يقولون: « ائتنا، فإنا على الطريق » , فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد, ومحمد الذي يدعو إلى الطريق, والطريق هو الإسلام.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا » ، قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، وللدعاة الذين يدعونَ إلى الله, كمثل رجل ضل عن الطريق تائهًا ضالا إذ ناداه مناد: « يا فلان بن فلان، هلمّ إلى الطريق » ، وله أصحاب يدعونه: « يا فلان، هلم إلى الطريق » ! فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة, وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق. وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان. يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله, فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والندامة. وقوله: « كالذي استهوته الشياطين في الأرض » ، وهم « الغيلان » يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جده, فيتبعها، فيرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في الهلكة، وربما أكلته أو تلقيه في مضلّة من الأرض يهلك فيها عطشًا. فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تُعبد من دون الله عز وجل.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « استهوته الشياطين في الأرض » ، قال: أضلته في الأرض حيران.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، قال: الأوثان .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « استهوته الشياطين في الأرض حيران » ، قال: رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق, فذلك مثل من يضلّ بعد إذ هدي.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، حدثنا رجل, عن مجاهد قال، « حيران » ، هذا مثل ضربه الله للكافر, يقول: الكافر حيران، يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، حتى بلغ لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، علمها الله محمدًا وأصحابه، يخاصمون بها أهلَ الضلالة.

وقال آخرون في تأويل ذلك، بما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى » ، فهو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله, وهو رجل أطاعَ الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وحار عن الحقّ وضل عنه, وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه هدًى. يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس: إن الهدى هدى الله, والضلالة ما تدعو إليه الجنّ.

فكأنّ ابن عباس على هذه الرواية يرى أن أصحاب هذا الحيران الذين يدعونه إنما يدعونه إلى الضلال، ويزعمون أنّ ذلك هدى, وأنّ الله أكذبهم بقوله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ، لا ما يدعوه إليه أصحابه.

وهذا تأويل له وجه، لو لم يكن الله سمى الذي دعا الحيرانَ إليه أصحابه « هدى » , وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدعاة له إلى ما دعوه إليه: أنهم هم الذين سموه, ولكن الله سماه « هدى » , وأخبر عن أصحاب الحيران أنهم يدعونه إليه. وغير جائز أن يسمي الله « الضلال » هدى، لأن ذلك كذب, وغير جائز وصف الله بالكذب، لأن ذلك وصفه بما ليس من صفته. وإنما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصواب، لو كان ذلك خبرًا من الله عن الداعي الحيران أنهم قالوا له: « تعال إلى الهدى » ، فأما وهو قائل: « يدعونه إلى الهدى » , فغير جائز أن يكون ذلك، وهم كانوا يدعونه إلى الضلال.

وأما قوله: « ائتنا » ، فإن معناه: يقولون: ائتنا، هلم إلينا فحذف « القول » ، لدلالة الكلام عليه.

وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: ( يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) .

حدثنا بذلك ابن وكيع قال، حدثنا غندر, عن شعبة, عن أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله: ( يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: في قراءة ابن مسعود: ( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) ، قال: « الهدى » الطريق, أنه بين.

وإذا قرئ ذلك كذلك, كان « البين » من صفة « الهدى » , ويكون نصب « البين » على القطع من « الهدى » , كأنه قيل: يدعونه إلى الهدى البين, ثم نصب « البين » لما حذفت « الألف واللام » , وصار نكرة من صفة المعرفة.

وهذه القراءة التي ذكرناها عن ابن مسعود تؤيد قول من قال: « الهدى » في هذا الموضع، هو الهدى على الحقيقة.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 71 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان، القائلين لأصحابك: « اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، فإنا على هدى » : ليس الأمر كما زعمتم « إن هدى الله هو الهدى » ، يقول: إن طريق الله الذي بينه لنا وأوضحه، وسبيلنا الذي أمرنا بلزومه، ودينه الذي شرعه لنا فبينه, هو الهدى والاستقامة التي لا شك فيها, لا عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع, فلا نترك الحق ونتبع الباطل « وأمرنا لنسلم لرب العالمين » ، يقول: وأمرَنا ربنا وربّ كل شيء تعالى وجهه, لنسلم له، لنخضع له بالذلة والطاعة والعبودية, فنخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والآلهة.

وقد بينا معنى « الإسلام » بشواهده فيما مضى من كتابنا، بما أغنى عن إعادته.

وقيل: « وأمرنا لنسلم » ، بمعنى: وأمرنا كي نسلم, وأن نسلم لرب العالمين لأن العرب تضع « كي » و « اللام » التي بمعنى « كي » ، مكان « أن » و « أن » مكانها .

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 72 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأمرنا أنْ أقيموا الصلاة.

وإنما قيل: « وأن أقيموا الصلاة » ، فعطف ب « أن » على « اللام » من لِنُسْلِمَ ، لأن قوله: لِنُسْلِمَ معناه: أن نسلم, فردّ قوله: « وأن أقيموا » على معنى: لِنُسْلِمَ , إذ كانت « اللام » التي في قوله: لِنُسْلِمَ , لامًا لا تصحب إلا المستقبل من الأفعال, وكانت « أن » من الحروف التي تدل على الاستقبال دلالة « اللام » التي في لِنُسْلِمَ , فعطف بها عليها، لاتفاق معنيهما فيما ذكرت.

ف « أن » في موضع نصب بالردّ على اللام.

وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: إما أن يكون ذلك، « أمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة » , يقول: أمرنا كي نسلم, كما قال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ سورة يونس: 104 ] ، أي: إنما أمرت بذلك. ثم قال: « وأن أقيموا الصلاة واتقوه » ، أي: أمرنا أن أقيموا الصلاة أو يكون أوصل الفعل باللام, والمعنى: أمرت أن أكون, كما أوصل الفعل باللام في قوله: هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ، [ سورة الأعراف: 154 ] .

فتأويل الكلام: وأمرنا بإقامة الصلاة, وذلك أداؤها بحدودها التي فرضت علينا « واتقوه » ، يقول: واتقوا رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له, فخافوه واحذروا سَخطه، بأداء الصلاة المفروضة عليكم، والإذعان له بالطاعة، وإخلاص العبادة له « وهو الذي إليه تحشرون » ، يقول: وربكم رب العالمين، هو الذي إليه تحشرون فتجمعون يوم القيامة, فيجازي كلَّ عامل منكم بعمله, وتوفي كل نفس ما كسبت.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 73 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد, الداعيك إلى عبادة الأوثان: « أمرنا لنسلم لرب العالمين، الذي خلق السماوات والأرض بالحق, لا من لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر » .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « بالحق » .

فقال بعضهم: معنى ذلك، وهو الذي خلق السماوات والأرض حقًّا وصوابًا, لا باطلا وخطأ, كما قال تعالى ذكره: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا [ سورة ص: 27 ] . قالوا: وأدخلت فيه « الباء » و « الألف واللام » , كما تفعل العرب في نظائر ذلك فتقول: « فلان يقول بالحق » , بمعنى: أنه يقول الحق. قالوا: ولا شيء في « قوله بالحق » غير إصابته الصواب فيه لا أنّ « الحق » معنى غير « القول » , وإنما هو صفةٌ للقول، إذا كان بها القول، كان القائل موصوفًا بالقول بالحق، وبقول الحق. قالوا: فكذلك خلق السماوات والأرض، حكمة من حكم الله, فالله موصوف بالحكمة في خلقهما وخلق ما سواهما من سائر خلقه لا أنّ ذلك حقٌّ سوى خَلْقِهما خَلَقَهما به.

وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السماوات والأرض بكلامه وقوله لهما: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ، [ سورة فصلت: 11 ] . قالوا: فالحق، في هذا الموضع معنيّ به: كلامه. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقوله: « ويوم يقول كن فيكون قوله الحق » ، « الحق » هو قوله وكلامه. قالوا: والله خلق الأشياء بكلامه وقيله، فما خلق به الأشياء فغير الأشياء المخلوقة. قالوا: فإذْ كان ذلك كذلك, وجب أن يكون كلام الله الذي خلق به الخلق غيرَ مخلوق.

وأما قوله: « ويوم يقول كن فيكون » ، فإن أهل العربية اختلفوا في العامل في « يوم يقول » ، وفي معنى ذلك.

فقال بعض نحويي البصرة: « اليوم » مضاف إلى « يقول كن فيكون » . قال: وهو نصب، وليس له خبر ظاهر, والله أعلم, وهو على ما فسرت لك كأنه يعني بذلك أن نصبه على: واذكر يوم يقول كن فيكون. قال: وكذلك: « يوم ينفخ في الصور » ، قال: وقال بعضهم: يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة.

وقال بعضهم: « يقول كن فيكون » للصور خاصة فمعنى الكلام على تأويلهم: يوم يقول للصور كن فيكون، قوله الحق يوم ينفخ فيه عالم الغيب والشهادة فيكون « القول » حينئذ مرفوعًا ب « الحق » و « الحق » ب « القول » ، وقوله: « يوم يقول كن فيكون » ، و « يوم ينفخ في الصور » ، صلة « الحق » .

وقال آخرون: بل قوله: « كن فيكون » ، معنيٌّ به كل ما كان الله مُعِيده في الآخرة بعد إفنائه، ومنشئه بعد إعدامه فالكلام على مذهب هؤلاء، متناهٍ عند قوله: « كن فيكون » ، وقوله: « قوله الحق » ، خبر مبتدأ وتأويله: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق, ويوم يقول للأشياء كن فيكون خلقهما بالحق بعد فنائهما. ثم ابتدأ الخبر عن قوله ووعده خلقَه أنه معيدهما بعد فنائهما عن أنه حق فقال: قوله هذا، الحقّ الذي لا شك فيه. وأخبر أن له الملك يوم ينفخ في الصور ف يوم ينفخ في الصور « ، يكون على هذا التأويل من صلة » الملك « . »

وقد يجوز على هذا التأويل أن يكون قوله: « يوم ينفخ في الصور » من صلة « الحق » .

وقال آخرون: بل معنى الكلام: ويوم يقول لما فني: « كن » ، فيكون قوله الحق, فجعل « القول » مرفوعًا بقوله « ويوم يقول كن فيكون » ، وجعل قوله: « كن فيكون » ، للقول محلا وقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، من صلة « الحق » كأنه وجه تأويل ذلك إلى: ويومئذ قوله الحق يوم ينفخ في الصور. وإن جعل على هذا التأويل « يوم ينفخ في الصور » بيانًا عن اليوم الأول, كان وجهًا صحيحًا. ولو جعل قوله: « قوله الحق » ، مرفوعًا بقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، وقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، محلا وقوله: « ويوم يقول كن فيكون » من صلته، كان جائزًا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنه المنفرد بخلق السماوات والأرض دون كل ما سواه, معرِّفًا من أشرك به من خلقه جهلَه في عبادة الأوثان والأصنام، وخطأ ما هم عليه مقيمون من عبادة ما لا يضر ولا ينفع، ولا يقدر على اجتلاب نفع إلى نفسه، ولا دفع ضر عنها ومحتجًّا عليهم في إنكارهم البعثَ بعد الممات والثوابَ والعقاب، بقدرته على ابتداع ذلك ابتداءً, وأن الذي ابتدع ذلك غير متعذر عليه إفناؤه ثم إعادته بعد إفنائه, فقال: « وهو الذي خلق » ، أيها العادلون بربهم من لا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شيء « السماوات والأرض بالحق » , حجة على خلقه, ليعرفوا بها صانعها، وليستدلُّوا بها على عظيم قدرته وسلطانه, فيخلصوا له العبادة « ويوم يقول كن فيكون » ، يقول: ويوم يقول حين تبدل الأرض غير الأرض والسماوات كذلك: « كن فيكون » , كما شاء تعالى ذكره, فتكون الأرض غير الأرض ويكون [ الكلام ] عند قوله: « كن فيكون » متناهيًا.

وإذا كان كذلك معناه، وجب أن يكون في الكلام محذوفٌ يدلّ عليه الظاهر, ويكون معنى الكلام: ويوم يقول كذلك: « كن فيكون » تبدل [ السماوات والأرض ] غير السماوات والأرض. ويدلّ على ذلك قوله: « وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق » ، ثم ابتدأ الخبر عن القول فقال: « قوله الحق » ، بمعنى وعدُه هذا الذي وَعدَ تعالى ذكره، من تبديله السماوات والأرض غير الأرض والسماوات, الحقُّ الذي لا شك فيه « وله الملك يوم ينفخ في الصور » ، فيكون قوله: « يوم ينفخ في الصور » ، من صلة « الملك » ويكون معنى الكلام: ولله الملك يومئذ، لأن النفخة الثانية في الصور حال تبديل الله السماوات والأرض غيرهما.

وجائز أن يكون « القول » أعنى: « قوله الحق » ، مرفوعًا بقوله: « ويوم يقول كن فيكون » , ويكون قوله: « كن فيكون » محلا للقول مرافعًا، فيكون تأويل الكلام: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق, ويوم يبدلها غير السماوات والأرض، فيقول لذلك: « كن فيكون » ، « قوله الحق » .

وأما قوله: « وله الملك يوم ينفخ في الصور » ، فإنه خُصّ بالخبر عن ملكه يومئذ, وإن كان الملك له خالصًا في كل وقت في الدنيا والآخرة، لأنه عنى تعالى ذكره أنه لا منازع له فيه يومئذ ولا مدّعي له, وأنه المنفرد به دون كل من كان ينازعه فيه في الدنيا من الجبابرة، فأذعن جميعهم يومئذ له به, وعلموا أنهم كانوا من دعواهم في الدنيا في باطل.

واختلف في معنى « الصور » في هذا الموضع.

فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان: إحداهما لفناء من كان حيًّا على الأرض, والثانية لنشر كل مَيْتٍ. واعتلوا لقولهم ذلك بقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ سورة الزمر : 68 ] ، وبالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذ سئل عن الصور: هو قرن يُنفخ فيه.

وقال آخرون: « الصور » في هذا الموضع جمع « صورة » ، ينفخ فيها روحها فتحيا, كقولهم: « سور » لسور المدينة, وهو جمع « سورة » , كما قال جرير:

سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعَ

والعرب تقول: « نفخ في الصور » و « نفخ الصور » ، ومن قولهم: « نفخ الصور »

قول الشاعر:

لَـوْلا ابْـنُ جَـعْدَةَ لَـمْ تُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُمْ وَلا خُرَاسَـانَ حَـتَّى يُنْفَـخَ الصُّـورُ

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال: « إن إسرافيلَ قد التقم الصور وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر فينفخ » ، وأنه قال: « الصور قرن ينفخ فيه » .

وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: « يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة » ، يعني: أن عالم الغيب والشهادة، هو الذي ينفخ في الصور.

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، يعني: أنّ عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور .

فكأن ابن عباس تأوّل في ذلك أن قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، اسم الفاعل الذي لم يسمَّ في قوله: « يوم ينفخ في الصور » ، وأن معنى الكلام: يوم ينفخ الله في الصور، عالم الغيب والشهادة. كما تقول العرب: « أُكلَ طعامك، عبدُ الله » , فتظهر اسم الآكل بعد أن قد جرى الخبر بما لم يسم آكله. وذلك وإن كان وجهًا غير مدفوع, فإن أحسن من ذلك أن يكون قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، مرفوعًا على أنه نعت ل « الذي » ، في قوله: « وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق » .

وروي عنه أيضًا أنه كان يقول: « الصور » في هذا الموضع، النفخة الأولى.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة » ، يعني بالصور: النفخة الأولى, ألم تسمع أنه يقول: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى يعني الثانية فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ سورة الزمر: 68 ] .

ويعني بقوله: « عالم الغيب والشهادة » ، عالم ما تعاينون: أيها الناس, فتشاهدونه, وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسونه ولا تبصرونه « وهو الحكيم » ، في تدبيره وتصريفه خلقه من حال الوجود إلى العدم, ثم من حال العدم والفناء إلى الوجود, ثم في مجازاتهم بما يجازيهم به من ثواب أو عقاب « الخبير » ، بكل ما يعملونه ويكسبونه من حسن وسيئ, حافظ ذلك عليهم ليحازيهم على كل ذلك. يقول تعالى ذكره: فاحذروا، أيها العادلون بربكم، عقابَه, فإنه عليم بكل ما تأتون وتذرون, وهو لكم من وراء الجزاء على ما تعملون.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد لحجاجك الذي تحاجّ به قومك، وخصومتك إياهم في آلهتهم، وما تراجعهم فيها, مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون، وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين، وحقيقة ما أنت عليهم به محتج حِجَاج إبراهيم خليلي قومَه, ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان, وانقطاعه إلى الله والرضا به وليًّا وناصرًا دون الأصنام، فاتخذه إمامًا واقتد به, واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالا إذ قال لأبيه مفارقًا لدينه، وعائبًا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه: يا آزر .

ثم اختلف أهل العلم في المعنيّ ب « آزر » , وما هو، اسم هو أم صفة؟ وإن كان اسمًا, فمن المسمى به؟ فقال بعضهم: هو اسم أبيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: اسم أبيه « آزر » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: « آزر » ، أبو إبراهيم. وكان، فيما ذكر لنا والله أعلم، رجلا من أهل كُوثَى, من قرية بالسواد, سواد الكوفة .

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر قال: هو « آزر » , وهو « تارح » , مثل « إسرائيل » و « يعقوب » .

وقال آخرون: إنه ليس أبا إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: ليس « آزر » ، أبا إبراهيم.

حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا الثوري قال، أخبرني رجل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: « آزر » لم يكن بأبيه، إنما هو صنم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « آزر » اسم، صنم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: اسم أبيه، ويقال: لا بل اسمه « تارح » , واسم الصنم « آزر » . يقول: أتتخذ آزرَ أصنامًا آلهة.

وقال آخرون: هو سبٌّ وعيب بكلامهم, ومعناه: معوَجٌّ . كأنه تأوّل أنه عابه بزَيْغه واعوجاجه عن الحق.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) بفتح « آزر » على اتباعه « الأب » في الخفض, ولكنه لما كان اسمًا أعجميًّا فتحوه، إذ لم يجروه، وإن كان في موضع خفض.

وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك: ( آزَرُ ) بالرفع على النداء, بمعنى: يا آزر.

فأما الذي ذكر عن السديّ من حكايته أن « آزر » اسم صنم, وإنما نصبَه بمعنى: أتتخذ آزر أصنامًا آلهة فقولٌ من الصواب من جهة العربية بعيدٌ. وذلك أن العرب لا تنصب اسمًا بفعلٍ بعد حرف الاستفهام, لا تقول: « أخاك أكلمت » ؟ وهي تريد: أكلمت أخاك.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي, قراءةُ من قرأ بفتح « الراء » من ( آزَرَ ) ، على اتباعه إعراب « الأب » , وأنه في موضع خفض ففتح، إذ لم يكن جاريًا، لأنه اسم عجمي. وإنما اخترتُ قراءة ذلك كذلك، لإجماع الحجة من القرأة عليه.

وإذْ كان ذلك هو الصواب من القراءة، وكان غير جائز أن يكون منصوبًا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام, صحَّ لك فتحه من أحد وجهين:

إما أن يكون اسمًا لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله, فيكون في موضع خفض ردًّا على « الأب » , ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لمّا كان اسمًا أعجميًّا ترك إجراؤه ففتح، كما تفعل العرب في أسماء العجم.

أو يكون نعتًا له, فيكون أيضًا خفضًا بمعنى تكرير اللام عليه, ولكنه لما خرج مخرج « أحمر » و « أسود » ترك إجراؤه، وفعل به كما يفعل بأشكاله. فيكون تأويل الكلام حينئذ: وإذ قال إبراهيم لأبيه الزائغ: أتتخذ أصنامًا آلهة.

وإذ لم يكن له وِجهة في الصواب إلا أحد هذين الوجهين, فأولى القولين بالصواب منهما عندي قولُ من قال: « هو اسم أبيه » ، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه أبوه، وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم، دون القول الآخر الذي زعم قائلُه أنه نعتٌ.

فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى « تارح » , فكيف يكون « آزر » اسمًا له، والمعروف به من الاسم « تارح » ؟

قيل له: غير محال أن يكون له اسمان, كما لكثير من الناس في دهرنا هذا, وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم . وجائز أن يكون لقبًا يلقّب به.

 

القول في تأويل قوله : أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 74 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لأبيه آزر أنه قال: « أتتخذ أصنامًا آلهة » ، تعبدها وتتخذها ربًّا دون الله الذي خلقك فسوَّاك ورزقك ؟

و « الأصنام » : جمع « صنم » , و « الصنم » التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان, وهو « الوثن » . وقد يقال للصورة المصوّرة على صورة الإنسان في الحائط وغيره: « صنم » و « وثن » .

« إني أراك وقومَك في ضلال مبين » ، يقول: « إني أراك » ، يا آزر، « وقومَك » الذين يعبدون معك الأصنام ويتخذونها آلهة « في ضلال » ، يقول: في زوال عن محجّة الحق, وعدول عن سبيل الصواب « مبين » ، يقول: يتبين لمن أبصَره أنه جوْرٌ عن قصد السبيل، وزوالٌ عن محجة الطريق القويم. يعني بذلك أنه قد ضلّ هو وهم عن توحيد الله وعبادته، الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم, دون غيره من الآلهة والأوثان.

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( 75 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك » ، وكما أريناه البصيرة في دينه، والحقّ في خلافه ما كانوا عليه من الضلال, نريه ملكوت السماوات والأرض يعني ملكه.

وزيدت فيه « التاء » كما زيدت في « الجبروت » من « الجبر » وكما قيل: « رَهَبوتٌ خيرٌ من رَحَمُوت » , بمعنى: رهبة خير من رحمة. وحكي عن العرب سماعًا: « له مَلَكوت اليمنِ والعراق » ، بمعنى: له ملك ذلك.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: نريه خلقَ السماوات والأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أي: خلق السماوات والأرض .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أي: خلق السماوات والأرض « وليكون من الموقنين » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس : « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، يعني ب « ملكوت السماوات والأرض » ، خلق السماوات والأرض.

وقال آخرون: معنى « الملكوت » الملك، بنحو التأويل الذي تأوّلناه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عمر بن أبي زائدة قال: سمعت عكرمة, وسأله رجل عن قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: هو الملك, غير أنه بكلام النبط: « ملكوتَا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي زائدة, عن عكرمة قال: هي بالنبطية: « ملكوتَا » .

وقال آخرون: معنى ذلك: آيات السماوات والأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: آيات السماوات والأرض.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: آيات .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: تفرجت لإبراهيم السماوات السبعُ حتى العرش, فنظر فيهنّ ، وتفرَّجت له الأرضون السبع, فنظر فيهنّ.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين » ، قال: أقيم على صخرة وفتحت له السماوات, فنظر إلى ملك الله فيها، حتى نظر إلى مكانه في الجنة. وفتحت له الأرضون حتى نظَر إلى أسفل الأرض, فذلك قوله: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [ سورة العنكبوت : 27 ] ، يقول: آتيناه مكانه في الجنّة، ويقال: أَجْرَهُ الثناء الحسن.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: فرجت له السماوات فنظر إلى ما فيهنّ، حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع فنظر ما فيهنّ.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سالم, عن سعيد بن جبير: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: كشف له عن أدِيم السماواتِ والأرض، حتى نظر إليهن على صخرة, والصخرةُ، على حوت, والحوت على خاتم ربّ العِزّة لا إله إلا الله.

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية, عن عاصم, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض, رأى عبدًا على فاحشة, فدعا عليه، فهلك. ثم رأى آخر على فاحشة, فدعا عليه فهلك. ثم رأى آخر على فاحشة, فدعا عليه فهلك. فقال: أنـزلوا عبدِي لا يُهْلِك عبادِي !

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن طلحة بن عمرو, عن عطاء قال: لما رفع الله إبراهيم في الملكوت في السماوات, أشرفَ فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه، فهلك. ثم رُفع فأشرف، فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه، فهلك. ثم رفع فأشرف، فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه, فنودي: على رِسْلِك يا إبراهيم، فإنك عبد مستجابٌ لك، وإني من عبدي على ثلاث: إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه, وإما أن أخرج منه ذرية طيبة, وإما أن يتمادى فيما هو فيه, فأنا من ورائه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب, عن عوف, عن أسامة: أن إبراهيم خليل الرّحمن حدَّث نفسه أنه أرحمُ الخلق, وأن الله رفعه حتى أشرفَ على أهل الأرض, فأبصر أعمالهم. فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال: اللهم دمِّر عليهم! فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك, اهبطْ، فلعلهم أن يتوبوا إليّ ويُراجِعوا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك، ما أخبر تعالى أنه أراه من النُّجوم والقمر والشمس.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: الشمس والقمر والنجوم .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: الشمس والقمر.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، يعني به: الشمس والقمر والنجوم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: خُبِّئ إبراهيم صلى الله عليه وسلم من جبار من الجبابرة, فجُعِل له رزقه في أصابعه, فإذا مصّ أصبعًا من أصابعه وَجَد فيها رزقًا. فلما خرج، أراه الله ملكوت السماوات والأرض. فكان ملكوت السماوات: الشمس والقمر والنجوم, وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار.

حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ذكر لنا أن نبيّ الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فُرَّ به من جبَّار مُتْرَف, فجعل في سَرَبٍ, وجعل رزقه في أطرافه, فجعل لا يمصُّ إصبعًا من أصابعه إلا وجد فيها رزقًا. فلما خرج من ذلك السَّرَب، أراه الله ملكوت السماوات, فأراه شمسًا وقمرًا ونجومًا وسحابًا وخلقًا عظيمًا، وأراه ملكوت الأرض, فأراه جبالا وبحورًا وأنهارًا وشجرًا ومن كلّ الدواب وخلقًا عظيمًا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أنه أراه ملك السماوات والأرض, وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما, وجلَّى له بواطنَ الأمور وظواهرَها، لما ذكرنا قبل من معنى « الملكوت » ، في كلام العرب، فيما مضى قبل.

وأما قوله: « وليكون من الموقنين » ، فإنه يعني أنه أراه ملكوت السماوات والأرض، ليكون ممن يقرّ بتوحيد الله, ويعلم حقيقة ما هداه له وبصّره إياه، من معرفة وحدانيته، وما عليه قومه من الضلالة، من عبادتهم الأصنام، واتخاذهم إياها آلهة دون الله تعالى.

وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك, ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وليكون من الموقنين » ، أنه جلَّى له الأمر سرَّه وعلانيتَه, فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق. فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب, قال الله: إنك لا تستطيع هذا! فردَّه الله كما كان قبل ذلك.

فتأويل ذلك على هذا التأويل: أريناه ملكوت السماوات والأرض ليكون ممن يوقن علم كل شيء حسًّا لا خبرًا.

حدثني العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، حدثنا ابن جابر قال، وحدثنا الأوزاعيُّ أيضًا قال: حدثني خالد بن اللجلاج قال: سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرميّ يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ, فقال له قائل: ما رأيتك أسفرَ وجهًا منك الغداة! قال: ومالي، وقد تبدّى لي ربّي في أحسن صورة, فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى، يا محمد؟ قلت: أنت أعلم [ يا رب ] ! فوضع يده بين كتفي فوجدت بردَها بين ثدييّ، فعلمت ما في السماوات والأرض. ثم تلا هذه الآية: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين » .

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( 76 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما واراه الليل وغيّبه.

يقال منه: « جنَّ عليه الليل » , و « جنَّه الليل » , و « أجنه » , و « أجنّ عليه » . وإذا ألقيت « على » ، كان الكلام بالألف أفصح منه بغير « الألف » , « أجنه الليل » ، أفصح من « أجن عليه » و « جنّ عليه الليل » ، أفصح من « جنَّه » , وكل ذلك مقبول مسموع من العرب. « جنّه الليل » ، في أسد « وأجنه وجنه » في تميم. والمصدر من: « جن عليه » ، « جنًّا وجُنُونًا وجَنَانًا » , ومن « أجنّ » « إجنانًا » . ويقال: « أتى فلان في جِنّ الليل » . و « الجن » من ذلك لأنهم استجنُّوا عن أعين بني آدم فلا يرون. وكل ما توارى عن أبصار الناس، فإن العرب تقول فيه: « قد جَنّ » ، ومنه قول الهذلي:

وَمَـــاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْـــلَ الكَــرَى وَقَــدْ جَنَّــهُ السَّــدَفُ الأَدْهَــمْ

وقال عبيد:

وَخَـرْقٍ تَصِيـحُ البُومُ فِيهِ مَعَ الصَّدَى مَخُـوفٍ إذَا مَـا جَنَّـهُ اللَّيْـلُ مَرْهُوبِ

ومنه: « أجننت الميت » ، إذا واريته في اللحد, و « جننته » ، وهو نظير « جنون الليل » ، في معنى غطيته. ومنه قيل للترس « مِجَنّ » لأنه يُجنّ من استجنَّ به فيغطّيه ويواريه .

وقوله: « رأى كوكبًا » ، يقول: أبصر كوكبًا حين طلع « قال هذا ربي » ، فروي عن ابن عباس في ذلك, ما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ، يعني به الشمس والقمر والنجوم « فلما جنّ عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربي » ، فعبده حتى غاب, فلما غاب قال: لا أحب الآفلين فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ، فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فعبدها حتى غابت، فلما غابت قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة : « فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ » ، علم أن ربّه دائم لا يزول. فقرأ حتى بلغ: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ، رأى خلقًا هو أكبرَ من الخلقين الأوّلين وأنور.

وكان سبب قيل إبراهيم ذلك, ما:-

حدثني به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق فيما ذكر لنا، والله أعلم أن آزر كان رجلا من أهل كوثى، من قرية بالسوادِ، سواد الكوفة, وكان إذ ذاك ملك المشرق النمرود، فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم [ عليه السلام، خليل الرحمن، حجة على قومه ] ، ورسولا إلى عباده, ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبيّ إلا هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد, أتى أصحابُ النجوم نمرودَ فقالوا له: تَعَلَّمْ، أنّا نجد في عِلْمنا أن غلامًا يولد في قريتك هذه يقال له « إبراهيم » , يفارق دينكم، ويكسر أوثانكم، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا . فلما دخلت السنة التي وصف أصحابُ النجوم لنمرود, بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده إلا ما كان من أمّ إبراهيم امرأة آزر, فإنه لم يعلم بحبَلها, وذلك أنها كانت امرأة حَدَثة، فيما يذكر، لم تعرف الحبَل في بطنها، ولِمَا أرادَ الله أن يبلغ بولدها، يريدُ أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة، حذرًا على ملكه. فجعلَ لا تلد امرأة غلامًا في ذلك الشهر من تلك السنة، إلا أمر به فذبح. فلما وجدت أم إبراهيم الطَّلقَ خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبًا منها, فولدت فيها إبراهيم, وأصلحت من شأنه ما يُصْنع بالمولود, ثم سَدّت عليه المغارة, ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة فتنظر ما فعل, فتجده حيًّا يمصّ إبهامه, يزعمون، والله أعلم، أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصّه. وكان آزر، فيما يزعمون, سأل أمّ إبراهيم عن حمْلها ما فعل، فقالت: ولدت غلامًا فمات! فصدّقها, فسكت عنها. وكان اليوم، فيما يذكرون، على إبراهيم في الشَّباب كالشهر، والشهر كالسنة. فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرًا حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر! فأخرجته عِشاء فنظر، وتفكر في خلق السماوات والأرض, وقال: « إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربّي, ما لي إله غيره » ! ثم نظر في السماء فرأى كوكبًا، قال: « هذا ربي » ، ثم اتّبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب, فلما أفل قال: « لا أحب الآفلين » ، ثم طلع القمر فرآه بازغًا، قال: هَذَا رَبِّي ، ثم اتّبعه ببصره حتى غاب, فلما أفل قال: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ! فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس, أعظَمَ الشمسَ, ورأى شيئًا هو أعظم نورًا من كل شيء رآه قبل ذلك, فقال: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ! فلما أفلت قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربَّه، وبرئ من دين قومه, إلا أنه لم يبادئهم بذلك. وأخبر أنه ابنه, وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه, وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه, فسرَّ بذلك آزر وفرح فرحًا شديدًا. وكان آزر يصنع أصنام قومِه التي يعبدونها, ثم يعطيها إبراهيم يبيعها, فيذهب بها إبراهيم، فيما يذكرون, فيقول : « من يشتري ما يضرُّه ولا ينفعه » ، فلا يشتريها منه أحد. فإذا بارت عليه, ذهب بها إلى نهر فصوَّبَ فيه رؤوسها, وقال: « اشربي » ، استهزاء بقومه وما هم عليه من الضلالة، حتى فشا عيبُه إياها واستهزاؤُه بها في قومه وأهل قريته, من غير أن يكون ذلك بلغ نمرودَ الملك.

قال أبو جعفر: وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس وعمن روي عنه، من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر: « هذا ربي » ، وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبيٌّ ابتعثه بالرسالة، أتى عليه وقتٌ من الأوقات وهو بالغٌ إلا وهو لله موحدٌ، وبه عارف، ومن كل ما يعبد من دونه برئ. قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر، لم يجز أن يختصه بالرسالة, لأنه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله, وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة، فيحابيه باختصاصه بالكرامة. قالوا: وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه, فأثابه لاستحقاقه الثوابَ بما أثابه من الكرامة. وزعموا أن خبرَ الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس: « هذا ربي » , لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربّه، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه, وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام, إذْ كان الكوكبُ والقمرُ والشمسُ أضوأ وأحسنَ وأبهجَ من الأصنام, ولم تكن مع ذلك معبودة, وكانت آفلةً زائلة غير دائمة, والأصنام التي [ هي ] دونها في الحسن وأصغرَ منها في الجسم, أحقُّ أن لا تكون معبودة ولا آلهة. قالوا: وإنما قال ذلك لهم، معارضةً, كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضًا له في قولٍ باطلٍ قال به بباطل من القول، على وجه مطالبته إياه بالفُرْقان بين القولين الفاسدين عنده، اللذين يصحِّح خصمه أحدَهما ويدعي فسادَ الآخر.

وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه. وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان.

وقال آخرون منهم: إنما معنى الكلام: أهذا ربي ؟ على وجه الإنكار والتوبيخ، أي: ليس هذا ربي. وقالوا: قد تفعل العرب مثل ذلك, فتحذف « الألف » التي تدلّ على معنى الاستفهام. وزعموا أن من ذلك قول الشاعر:

رَفَـوْنِي وَقَـالُوا: يَـا خُوَيْلِدُ, لا تُرَعْ ! فَقُلْـتُ, وأَنْكَـرْتُ الوُجُـوهَ: هُـمُ هُمُ?

يعني: أهم هم؟ قالوا: ومن ذلك قول أوس:

لَعَمْـرُكَ مَـا أَدْرِي, وَإنْ كُـنْتُ دَارِيًا, شُـعَيْثَ بـنَ سَـهْمٍ أم شُعَيْثَ بْنَ مِنْقَرِ

بمعنى: أشعيث بن سهم؟ فحذف « الألف » ، ونظائر ذلك. وأما تذكير « هذا » في قوله: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ، فإنما هو على معنى: هذا الشيء الطالع ربِّي.

قال أبو جعفر: وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ، الدليلُ على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأنّ الصوابَ من القول في ذلك، الإقرارُ بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه، والإعراض عما عداه.

وأما قوله: « فلما أفل » ، فإن معناه: فلما غاب وذهب، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، قال ابن إسحاق: « الأفول » ، الذهاب.

يقال منه: « أفل النجم يأفُلُ ويأفِلُ أفولا وأفْلا » ، إذا غاب، ومنه قول ذي الرمة:

مَصَــابِيحُ لَيْسَـتْ بِـالَّلوَاتِي تَقُودُهَـا نُجُــومٌ, وَلا بــالآفِلاتِ الــدَّوَالِكِ

ويقال : « أين أفلت عنا » بمعنى: أين غبت عنا ؟

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( 77 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما طلع القمر فرآه إبراهيم طالعًا، وهو « بُزُوغه » .

يقال منه: « بزغت الشمس تَبْزُغُ بزُوغًا » ، إذا طلعت, وكذلك القمر.

« قال هذا ربي فلما أفل » ، يقول: فلما غاب « قال » ، إبراهيم، « لئن لم يهدني ربي » ، ويوفقني لإصابة الحق في توحيده « لأكونن من القوم الضالين » ، أيْ: من القوم الذين أخطؤوا الحق في ذلك, فلم يصيبوا الهدى, وعبدوا غير الله.

وقد بينا معنى « الضلال » ، في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 78 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله « فلما رأى الشمس بازغة » ، فلما رأى إبراهيم الشمس طالعةً, قال: هذا الطالعُ ربّي « هذا أكبر » ، يعني: هذا أكبر من الكوكب والقمر فحذف ذلك لدلالة الكلام عليه « فلما أفلت » ، يقول: فلما غابت, قال إبراهيم لقومه « يا قوم إنّي بريء مما تشركون » ، أي: من عبادة الآلهة والأصنام ودعائه إلهًا مع الله تعالى ذكره.

 

القول في تأويل قوله : إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 79 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن خليله إبراهيم عليه السلام: أنه لما تبيّن له الحق وعرَفه, شهد شهادةَ الحقّ, وأظهر خلاف قومِه أهلِ الباطل وأهلِ الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم, ولم يستوحش من قِيل الحقِّ والثبات عليه, مع خلاف جميع قومه لقوله، وإنكارهم إياه عليه, وقال لهم: « يا قوم إنّي بريء مما تشركون » مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم وأصنامكم, إني وجهت وجهي في عبادتي إلى الذي خلق السماوات والأرض, الدائم الذي يبقى ولا يفنى، ويُحْيي ويميت لا إلى الذي يفنى ولا يبقى، ويزول ولا يدوم، ولا يضر ولا ينفع.

ثم أخبرهم تعالى ذكره: أن توجيهه وجهه لعبادته، بإخلاص العبادة له، والاستقامة في ذلك لربه على ما يحبُّ من التوحيد, لا على الوجه الذي يوجَّه له وَجْهه من ليس بحنيف, ولكنه به مشرك, إذ كان توجيه الوجه على غير التحنُّف غير نافع موجِّهه، بل ضارّه ومهلكه « وما أنا من المشركين » ، ولست منكم ، أي : لست ممن يدين دينكم، ويتّبع ملّتكم أيُّها المشركون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:

13465م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول قوم إبراهيم لإبراهيم: تركت عبادة هذه؟ فقال: « إني وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض » ، فقالوا: ما جئت بشيء! ونحن نعبده ونتوجّهه! فقال : لا حنيفًا!! قال: مخلصًا, لا أشركه كما تُشْركون.

 

القول في تأويل قوله : وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ( 80 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الأصنام، وكان جدالهم إياه قولُهم: أن آلهتهم التي يعبدونها خير من إلهه. قال إبراهيم: « أتحاجوني في الله » ، يقول: أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة « وقد هداني » ، يقول: وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته, وبصّرني طريق الحقّ حتى أيقنتُ أن لا شيء يستحق أن يعبد سواه « ولا أخاف ما تشركون به » ، يقول: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئًا ينالني به في نفسي من سوء ومكروه. وذلك أنهم قالوا له: « إنا نخاف أن تمسَّك آلهتنا بسوء من برص أو خبل, لذكرك إياها بسوء » ! فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الآلهة أن تنالَنِي بضر ولا مكروه, لأنها لا تنفع ولا تضر « إلا أن يشاء ربي شيئًا » ، يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السماوات والأرض, فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاءٍ، أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك، نالني به, لأنه القادر على ذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن جريج يقول:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني » ، قال: دعا قومُه مع الله آلهةً, وخوّفوه بآلهتهم أن يصيبَه منها خَبَل, فقال إبراهيم: « أتحاجوني في الله وقد هداني » ، قال: قد عرفت ربّي, لا أخاف ما تشركون به.

« وسع ربي كل شيء علمًا » ، يقول: وعلم ربي كلَّ شيء، فلا يخفى عليه شيء, لأنه خالق كل شيء, وليس كالآلهة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تفهم شيئًا, وإنما هي خشبة منحوتةٌ، وصورة ممثلة « أفلا تتذكرون » ، يقول: أفلا تعتبرون، أيها الجهلة، فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون، من عبادتكم صورةً مصوّرة وخشبة منحوتة, لا تقدر على ضر ولا على نفع، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله وترككم عبادةَ من خلقكم وخلق كلّ شيء, وبيده الخير، وله القدرة على كل شيء، والعالم لكل شيء .

 

القول في تأويل قوله : وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 81 )

قال أبو جعفر: وهذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه من آلهتهم أن تمسَّه، لذكره إياها بسوء في نفسه بمكروه, فقال لهم: وكيف أخاف وأرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربَّكم فعبدتموه من دونه، وهو لا يضر ولا ينفع ؟ ولو كانت تنفع أو تضر، لدفعت عن أنفسها كسرِى إياها وضربي لها بالفأس! وأنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم، وهو القادر على نفعكم وضركم في إشراككم في عبادتكم إياه « ما لم ينـزل به عليكم سلطانًا » ، يعني: ما لم يعطكم على إشراككم إياه في عبادته حُجّة, ولم يضع لكم عليه برهانًا, ولم يجعل لكم به عذرًا « فأي الفريقين أحقّ بالأمن » ، يقول: أنا أحق بالأمن من عاقبة عبادتي ربّي مخلصًا له العبادة، حنيفًا له ديني، بريئًا من عبادة الأوثان والأصنام, أم أنتم الذين تعبدون من دون الله أصنامًا لم يجعل الله لكم بعبادتكم إياها برهانًا ولا حجة « إن كنتم تعلمون » ، يقول: إن كنتم تعلمون صدق ما أقول، وحقيقة ما أحتجُّ به عليكم, فقولوا وأخبروني: أيُّ الفريقين أحق بالأمن؟

وبنحو الذي قلنا في ذلك, كان محمد بن إسحاق يقول فيما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق في قوله: « وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله » ، يقول : كيف أخاف وثَنًا تعبدون من دون الله لا يضرُّ ولا ينفع, ولا تخافون أنتم الذي يضر وينفع, وقد جعلتم معه شركاء لا تضر ولا تنفع ؟ « فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أي: بالأمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة، الذي يَعْبد الذي بيده الضرّ والنفع، أم الذي يعبد ما لا يضرّ ولا ينفع؟ يضرب لهم الأمثال, ويصرِّف لهم العبر, ليعلموا أنَّ الله هو أحق أن يخاف ويعبد مما يعبُدون من دونه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: أفلج الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين خاصمهم, فقال: « وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به عليكم سلطانًا فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ؟ ثم قال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قول إبراهيم حين سألهم: « أيُّ الفريقين أحق بالأمن » ، هي حجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره، قال إبراهيم حين سألهم: « فأي الفريقين أحق بالأمن » ؟ قال: وهي حجة إبراهيم عليه السلام .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: « فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أمَنْ يعبد ربًّا واحدًا, أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ يقول قومه: الذين آمنوا برب واحد.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أمن خاف غير الله ولم يخفه، أم من خاف الله ولم يخف غيره؟ فقال الله تعالى ذكره: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ، الآية.

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( 82 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي أخبر تعالى ذكره عنه أنه قال هذا القول أعني: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، الآية.

فقال بعضهم: هذا فصلُ القضاء من الله بين إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم، وبين من حاجّه من قومه من أهل الشرك بالله, إذ قال لهم إبراهيم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ فقال الله تعالى ذكره، فاصلا بينه وبينهم: الذين صدَّقوا الله وأخلصُوا له العبادة, ولم يخلطوا عبادتهم إياه وتصديقهم له بظلم يعني: بشرك ولم يشركوا في عبادته شيئًا, ثم جعلوا عبادتهم لله خالصًا، أحقّ بالأمن من عقابه مكروهَ عبادته ربَّه، من الذين يشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأصنامَ, فإنهم الخائفون من عقابه مكروه عبادتهم أمَّا في عاجل الدنيا فإنهم وجِلون من حلول سخَط الله بهم, وأما في الآخرة، فإنهم الموقنون بأليم عذابِ الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، يقول الله تعالى ذكره: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: الذين أخلصوا كإخلاص إبراهيم صلى الله عليه وسلم لعبادة الله وتوحيده « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: بشرك « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، الأمن من العذاب، والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة. يقول الله تعالى ذكره: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، قال فقال الله وقضى بينهم: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. قال: « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فأما الذنوبُ فليس يبري منها أحدٌ.

وقال آخرون: هذا جوابٌ من قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم لإبراهيم، حين قال لهم: « أيُّ الفريقين أحق بالأمن » ؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحّدوه أحق بالأمن، إذا لم يلبسوا إيمانهم بظلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، أمن يعبد ربًّا واحدًا أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ يقول قومه: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، بعبادة الأوثان, وهي حجة إبراهيم « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: هذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن أولى الفريقين بالأمن, وفصل قضاءٍ منه بين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبين قومه. وذلك أن ذلك لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الأوثان ويشركونها في عبادة الله, لكانوا قد أقروا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد, ولكنه كما ذكرت من تأويله بَدِيًّا.

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله تعالى بقوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » .

فقال بعضهم: بشرك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترونَ إلى قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، [ سورة لقمان : 13 ] ؟

قال أبو كريب قال « ابن إدريس، حدثنيه أوّلا أبي » ، عن أبان بن تغلب, عن الأعمش, ثم سمعتُه قيل له: مِنَ الأعمش؟ قال: نعم!

حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثني عمي يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شقَّ ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله، ما منّا أحدٌ إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس بذلك, ألا تسمعون إلى قول لقمان لابنه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ »

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنُّون, وإنما هو ما قال لقمان لابنه: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية , عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسُوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على الناس, فقالوا: يا رسول الله, وأيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال: « إنه ليس كما تعنون, ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ إنما هو الشرك » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة في قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل, عن منصور, عن إبراهيم في قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس بذلك, ألم تسمعوا قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وابن إدريس, عن الشيباني, عن أبي بكر بن أبي موسى, عن الأسود بن هلال, عن أبي بكر: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن يونس بن أبي إسحاق, عن أبي إسحاق، عن أبي بكر: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن سعيد بن عبيد الطائي, عن أبي الأشعر العبدي, عن أبيه: أن زيد بن صوحان سأل سلمان فقال: يا أبا عبد الله، آيةٌ من كتاب الله قد بلغت منِّي كل مبلغ: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ! فقال سلمان: هو الشرك بالله تعالى ذكره. فقال زيد: ما يسرُّني بها أنّي لم أسمعها منك، وأنّ لي مثل كل شيء أمسيتُ أملكه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سعيد بن عبيد, عن أبي الأشعر, عن أبيه, عن سلمان قال: بشرك.

حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا نسير بن ذعلوق, عن كردوس, عن حذيفة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن أبي إسحاق الكوفي, عن رجل, عن عيسى, عن حذيفة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عارم أبو النعمان قال، حدثنا حماد بن زيد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير وغيره: أن ابن عباس كان يقول: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، يقول: بكفر.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه , عن ابن عباس: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، يقول: لم يلبسوا إيمانهم بالشرك. وقال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . [ سورة لقمان: 13 ]

حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثني أبي قال، حدثنا جرير بن حازم, عن علي بن زيد, عن المسيّب: أن عمر بن الخطاب قرأ : « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فلما قرأها فزع, فأتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر، قرأتُ آية من كتاب الله، مَنْ يَسْلم؟ فقال: ما هي؟ فقرأها عليه فأيُّنا لا يظلِمُ نفسه؟ فقال: غفر الله لك! أما سمعت الله تعالى ذكره يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ إنما هو: ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن حماد بن سلمة, عن علي بن زيد بن جدعان, عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس: أن عمر دخل منـزله فقرأ في المصحف، فمرّ بهذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فأتى أبيًّا فأحبره, فقال: يا أمير المؤمنين، إنما هو الشرك.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران، عن [ ابن مهران ] : أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه, فدخل ذات يوم فقرأ, فأتى على هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فانفتَل وأخذ رداءه, ثم أتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر فتلا هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » وقد ترى أنا نظلِم، ونفعل ونفعل! فقال: يا أمير المؤمنين, إن هذا ليس بذاك, يقول الله تعالى ذكره: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، إنما ذلك الشرك.

حدثنا هناد قال، حدثنا بن فضيل, عن مطرف, عن أبي عثمان عمرو بن سالم قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فقال عمر: قد أفلح من لم يلبس إيمانه بظلم! فقال أبيّ: يا أمير المؤمنين، ذاك الشرك!

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أسباط, عن محمد بن مطرف, عن ابن سالم قال: قرأ عمر بن الخطاب، فذكر نحوه.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن علي, عن زائدة, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: بشرك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد, عن أبيه, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بعبادة الأوثان.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الأعمش: أن ابن مسعود قال: لما نـزلت: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، كبُر ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله, ما منا أحدٌ إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما سمعتم قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: عبادة الأوثان.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن مسعر, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن، قال: بشرك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق : « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم، وذلك: فعلُ ما نهى الله عن فعله، أو ترك ما أمر الله بفعله، وقالوا: الآية على العموم , لأن الله لم يخصَّ به معنى من معاني الظلم.

قالوا: فإن قال لنا قائل: أفلا أمْن في الآخرة، إلا لمن لم يعص الله في صغيرة ولا كبيرة , وإلا لمن لقى الله ولا ذنبَ له؟

قلنا: إن الله عنى بهذه الآية خاصًّا من خلقه دون الجميع منهم، والذي عنى بها وأراده بها، خليلَه إبراهيم صلى الله عليه وسلم, فأما غيره، فإنه إذا لقي الله لا يشرك به شيئًا فهو في مشيئته إذا كان قد أتى بعض معاصيه التي لا تبلغ أن تكون كفرًا, فإن شاء لم يؤمنه من عذابه, وإن شاء تفضل عليه فعفا عنه.

قالوا: وذلك قول جماعة من السلف، وإن كانوا مختلفين في المعنيِّ بالآية.

فقال بعضهم: عُني بها إبراهيم.

وقال بعضهم: عني بها المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* ذكر من قال: عنى بهذه الآية إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن, عن قيس بن الربيع, عن زياد بن علاقة, عن زياد بن حرملة, عن علي قال: هذه الآية لإبراهيم صلى الله عليه وسلم خاصة, ليس لهذه الأمة منها شيء.

* ذكر من قال: عني بها المهاجرون خاصة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن, عن قيس بن الربيع, عن سماك, عن عكرمة: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: هي لمن هاجر إلى المدينة.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصحة في ذلك, ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو الخبر الذي رواه ابن مسعود عنه أنه قال: الظلم الذي ذكره الله تعالى ذكره في هذا الموضع، هو الشرك.

وأما قوله: « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فإنه يعني: هؤلاء الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك « لهم الأمن » يوم القيامة من عذاب الله « وهم مهتدون » ، يقول: وهم المصيبون سبيل الرشاد، والسالكون طريق النجاة.

 

القول في تأويل قوله : وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وتلك حجتنا » ، قولَ إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: « أي الفريقين أحق بالأمن » , أمن يعبد ربًّا واحدًا مخلصًا له الدين والعبادة، أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم: « بل من يعبد ربًّا واحدًا أحق بالأمن » ، وقضاؤهم له على أنفسهم, فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم، واستعلاء حجة إبراهيم عليهم. فهي الحجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه، كالذي:-

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري, عن رجل, عن مجاهد: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه » ، قال: هي « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا, عن ابن جريج, عن مجاهد قال : قال إبراهيم حين سأل: « أي الفريقين أحق بالأمن » ، قال: هي حجة إبراهيم وقوله: « آتيناها إبراهيم على قومه » ، يقول: لقناها إبراهيم وبَصَّرناه إياها وعرفّناه « على قومه نرفع درجات من نشاء » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والبصرة: « نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ » ، بإضافة « الدرجات » إلى « من » , بمعنى: نرفع الدرجات لمن نشاء.

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ بتنوين « الدرجات » , بمعنى: نرفع من نشاء درجات.

و « الدرجات » جمع « درجة » ، وهي المرتبة. وأصل ذلك مراقي السلم ودرَجه, ثم تستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: هما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة، متقارب معناهما. وذلك أن من رفعت درجته، فقد رفع في الدرج ومن رفع في الدرج، فقد رفعت درجته. فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.

فمعنى الكلام إذًا: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه » ، فرفعنا بها درجته عليهم، وشرّفناه بها عليهم في الدنيا والآخرة. فأما في الدنيا، فآتيناه فيها أجره وأما في الآخرة، فهو من الصالحين « نرفع درجات من نشاء » ، أي بما فعل من ذلك وغيره.

وأما قوله: « إن ربك حكيم عليم » ، فإنه يعني: إن ربك، يا محمد، « حكيم » ، في سياسته خلقَه، وتلقينه أنبياءه الحجج على أممهم المكذّبة لهم، الجاحدة توحيد ربهم, وفي غير ذلك من تدبيره « عليم » ، بما يؤول إليه أمر رسله والمرسل إليهم، من ثبات الأمم على تكذيبهم إياهم، وهلاكهم على ذلك، أوإنابتهم وتوبتهم منه بتوحيد الله تعالى ذكره وتصديق رسله، والرجوع إلى طاعته.

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فأتَسِ، يا محمد، في نفسك وقومك المكذبيك، والمشركين، بأبيك خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم, واصبر على ما ينوبك منهم صبرَه, فإني بالذي يؤول إليه أمرك وأمرهم عالم، وبالتدبير فيك وفيهم حكيم.

 

القول في تأويل قوله : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 84 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فجزينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على طاعته إيانا، وإخلاصه توحيد ربه, ومفارقته دين قومه المشركين بالله، بأن رفعنا درجته في عليين, وآتيناه أجره في الدنيا، ووهبنا له أولادًا خصصناهم بالنبوّة, وذرية شرفناهم منا بالكرامة، وفضلناهم على العالمين, منهم: ابنه إسحاق, وابن ابنه يعقوب « كلا هدينا » ، يقول: هدينا جميعهم لسبيل الرشاد, فوفقناهم للحق والصواب من الأديان « ونوحًا هدينا من قبل » ، يقول: وهدينا لمثل الذي هدينا إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الحق والصواب، فوفقناه له نوحًا، من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

« ومن ذريته داود » ، و « الهاء » التي في قوله: « ومن ذريته » ، من ذكر نوح. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر في سياق الآيات التي تتلو هذه الآية لوطًا فقال: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . ومعلوم أن لوطًا لم يكن من ذرية إبراهيم صلى الله عليهم أجمعين. فإذا كان ذلك كذلك, وكان معطوفًا على أسماء من سمَّينا من ذريته, كان لا شك أنه لو أريد بالذرية ذرية إبراهيم، لما دخل يونس ولوط فيهم. ولا شك أن لوطًا ليس من ذرّية إبراهيم، ولكنه من ذرية نوح, فلذلك وجب أن تكون « الهاء » في « الذرية » من ذكر نوح.

فتأويل الكلام: ونوحًا وفقنا للحق والصواب من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب, وهدينا أيضًا من ذرّية نوح، داود وسليمان.

و « داود » ، هو داود بن إيشا و « سليمان » هو ابنه: سليمان بن داود و « أيوب » ، هو أيوب بن موص بن رزاح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم و « يوسف » ، هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم و « موسى » ، هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب و « هارون » ، أخو موسى.

« وكذلك نجزي المحسنين » ، يقول تعالى ذكره: جزينا نوحًا بصبره على ما امتحن به فينا، بأن هديناه فوفقناه لإصابة الحق الذي خذلنا عنه من عصانا فخالف أمرنا ونهينا من قومه, وهدينا من ذريته من بعده من ذكر تعالى ذكره من أنبيائه لمثل الذي هديناه له. وكما جزينا هؤلاء بحسن طاعتهم إيانا وصبرهم على المحن فينا, كذلك نجزي بالإحسان كل محسن.

 

القول في تأويل قوله : وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 85 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا لمثل الذي هدينا له نوحًا من الهدى والرشاد من ذريته: زكريا بن إدُّو بن برخيَّا، ويحيى بن زكريا, وعيسى ابن مريم ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا, وإلياس .

واختلفوا في « إلياس » .

فكان ابن إسحاق يقول: هو إلياس بن يسى بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، ابن أخي موسى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.

وكان غيره يقول: هو إدريس. وممن ذكر ذلك عنه عبد الله بن مسعود.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبيدة بن ربيعة, عن عبد الله بن مسعود قال: « إدريس » ، هو « إلياس » , و « إسرائيل » ، هو « يعقوب » .

وأما أهل الأنساب فإنهم يقولون: « إدريس » ، جدّ نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، و « أخنوخ » هو « إدريس بن يرد بن مهلائيل » . وكذلك روي عن وهب بن منبه.

والذي يقول أهل الأنساب أشبه بالصواب. وذلك أنّ الله تعالى ذكره نسب « إلياس » في هذه الآية إلى « نوح » ، وجعله من ذريته، و « نوح » ابن إدريس عند أهل العلم, فمحال أن يكون جدّ أبيه منسوبًا إلى أنه من ذريته.

وقوله: « كل من الصالحين » ، يقول: من ذكرناه من هؤلاء الذين سمينا « من الصالحين » , يعني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس صلى الله عليهم.

 

القول في تأويل قوله : وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( 86 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من ذرية نوح « إسماعيل » وهو: إسماعيل بن إبراهيم « واليسع » ، هو اليسع بن أخْطُوب بن العجوز.

واختلفت القرأة في قراءة اسمه.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: ( وَالْيَسَعَ ) بلام واحدة مخففة.

وقد زعم قوم أنه « يفعل » , من قول القائل: « وسِعَ يسع » . ولا تكاد العرب تدخل « الألف واللام » على اسم يكون على هذه الصورة أعني على « يفعل » لا يقولون: « رأيت اليزيد » ولا « أتاني اليَحْيَى » ولا « مررت باليشكر » , إلا في ضرورة شعر , وذلك أيضًا إذا تُحُرِّي به المدح, كما قال بعضهم:

وَجَدْنَـا الْوَليـدَ بْـنَ الْـيَزِيدَ مُبَارَكًـا شَــدِيدًا بِأَحْنَــاءِ الْخِلافَـةِ كَاهِلُـهْ

فأدخل في « اليزيد » الألف واللام, وذلك لإدخاله إياهما في « الوليد » , فأتبعه « اليزيد » بمثل لفظه.

وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفيين: ( وَاللَّيْسَعَ ) بلامين، وبالتشديد, وقالوا: إذا قرئ كذلك، كان أشبه بأسماء العجم، وأنكروا التخفيف. وقالوا: لا نعرف في كلام العرب اسمًا على « يفعل » فيه ألف ولام.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءةُ من قرأه بلام واحدة مخففة, لإجماع أهل الأخبار على أن ذلك هو المعروف من اسمه، دون التشديد, مع أنه اسم أعجمي، فينطق به على ما هو به. وإنما يُعْلَم دخول « الألف واللام » فيما جاء من أسماء العرب على « يفعل » . وأما الاسم الذي يكون أعجميًّا، فإنما ينطق به على ما سَمَّوا به. فإن غُيِّرَ منه شيء إذا تكلمت العرب به، فإنما يغيّر بتقويم حرف منه من غير حذف ولا زيادة فيه ولا نقصان. و « الليسع » إذا شدد، لحقته زيادة لم تكن فيه قبل التشديد. وأخرى، أنه لم يحفظ عن أحد من أهل العلم علمنا أنه قال: اسمه « ليسع » . فيكون مشددًا عند دخول « الألف واللام » اللتين تدخلان للتعريف.

و « يونس » هو: يونس بن متى « ولوطًا وكلا فضلنا » ، من ذرية نوح ونوحًا, لهم بينا الحق ووفقناهم له، وفضلنا جميعهم « على العالمين » ، يعني: على عالم أزمانهم.

 

القول في تأويل قوله : وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 87 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من آباء هؤلاء الذين سماهم تعالى ذكره « ومن ذرياتهم وإخوانهم » ، آخرين سواهم، لم يسمهم، للحق والدين الخالص الذي لا شرك فيه, فوفقناهم له « واجتبيناهم » ، يقول: واخترناهم لديننا وبلاغ رسالتنا إلى من أرسلناهم إليه, كالذي اخترنا ممن سمَّينا.

يقال منه: « اجتبى فلان لنفسه كذا » ، إذا اختاره واصطفاه، « يجتبيه اجتباء » .

وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « واجتبيناهم » ، قال: أخلصناهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله .

« وهديناهم إلى صراط مستقيم » ، يقول: وسدّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ, وذلك دين الله الذي لا عِوَج فيه, وهو الإسلام الذي ارتضاه الله ربُّنا لأنبيائه, وأمر به عباده.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 88 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك هدى الله » ، هذا الهدي الذي هديت به من سميت من الأنبياء والرسل، فوفقتهم به لإصابة الدين الحقّ الذي نالوا بإصابتهم إياه رضا ربهم، وشرفَ الدنيا، وكرامة الآخرة, هو « هدى الله » , يقول: هو توفيق الله ولطفه, الذي يوفق به من يشاء، ويلطف به لمن أحب من خلقه, حتى ينيب إلى طاعة الله، وإخلاص العمل له، وإقراره بالتوحيد، ورفضِ الأوثان والأصنام « ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون » ، يقول: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم، بربهم تعالى ذكره, فعبدوا معه غيره « لحبط عنهم » ، يقول: لبطل فذهبَ عنهم أجرُ أعمالهم التي كانوا يعملون, لأن الله لا يقبل مع الشرك به عملا .

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك » ، هؤلاء الذين سميناهم من أنبيائه ورسله، نوحًا وذريته الذين هداهم لدين الإسلام، واختارهم لرسالته إلى خلقه, هم « الذين آتيناهم الكتاب » ، يعني بذلك: صحفَ إبراهيم وموسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى صلوات الله عليهم أجمعين « والحكم » ، يعني: الفهم بالكتاب، ومعرفة ما فيه من الأحكام. وروي عن مجاهد في ذلك ما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبان قال، حدثنا مالك بن شداد, عن مجاهد: « والحكم والنبوة » ، قال: « الحكم » ، هو اللبُّ.

وعنى بذلك مجاهد، إن شاء الله، ما قلت، لأن « اللب » هو « العقل » , فكأنه أراد: أن الله آتاهم العقل بالكتاب, وهو بمعنى ما قلنا أنه الفهم به.

وقد بينا معنى « النبوة » و « الحكم » ، فيما مضى بشواهدهما, فأغنى ذلك عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ( 89 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن يكفر: يا محمد، بآيات كتابي الذي أنـزلته إليك فيجحد هؤلاء المشركون العادلون بربهم, كالذي:-

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يقول: إن يكفروا بالقرآن.

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب « هؤلاء » .

فقال بعضهم: عُني بهم كفار قريش وعنى بقوله: « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، الأنصار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال, عن قتادة في قول الله تعالى ذكره: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: أهل مكة « فقد وكلنا بها » ، أهل المدينة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان, عن جويبر, عن الضحاك، « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال : الأنصار.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء, عن جويبر, عن الضحاك: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: إن يكفر بها أهل مكة « فقد وكلنا بها » ، أهل المدينة الأنصار « ليسوا بها بكافرين » .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يقول: إن تكفر بها قريش « فقد وكلنا بها » ، الأنصار.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، أهل مكة « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، أهلَ المدينة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال: كان أهل المدينة قد تبوءوا الدار والإيمان قبل أن يقدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أنـزل الله عليهم الآيات، جحد بها أهل مكة. فقال الله تعالى ذكره: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » . قال عطية: ولم أسمع هذا من ابن عباس, ولكن سمعته من غيره.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني أهل مكة. يقول: إن يكفروا بالقرآن « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني أهلَ المدينة والأنصار.

وقال آخرون: معنى ذلك: فإن يكفر بها أهل مكة, فقد وكلنا بها الملائكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عوف, عن أبي رجاء: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال: هم الملائكة .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي وعبد الوهاب, عن عوف, عن أبي رجاء, مثله .

وقال آخرون: عنى بقوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني قريشًا وبقوله: « فقد وكلنا بها قومًا » ، الأنبياء الذين سماهم في الآيات التي مضت قبلَ هذه الآية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني أهل مكة « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: يعني قوم محمد. ثم قال: « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني: النبيين الذين قص قبل هذه الآية قصصهم. ثم قال: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: عنى بقوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، كفار قريش « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر, فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم.

فتأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: فإن كفر قومك من قريش، يا محمد، بآياتنا, وكذبوا وجحدوا حقيقتها, فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رُسلَنا وأنبياءنا من قبلك، الذين لا يجحدون حقيقتها، ولا يكذبون بها, ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها.

وقد قال بعضهم: معنى قوله: « فقد وكّلنا بها قومًا » ، رزقناها قومًا.

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « أولئك » ، هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين, هم الذين هداهم الله لدينه الحق, وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه, فوفقهم جل ثناؤه لذلك « فبهداهم اقتده » ، يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم « اقتده » ، يا محمد، أي: فاعمل، وخذ به واسلكه, فإنه عمل لله فيه رضًا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى.

وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ، أنهم الأنبياء المسمون في الآيات المتقدمة. وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك.

وأما على تأويل من تأول ذلك: أن القوم الذين وكّلوا بها هم أهل المدينة أو: أنهم هم الملائكة فإنهم جعلوا قوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ، اعتراضًا بين الكلامين, ثم ردّوا قوله: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » ، على قوله: « أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إلى قوله: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » ، يا محمد .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أولئك الذين هدى الله » ، يا محمد, « فبهداهم اقتده » ، ولا تقتد بهؤلاء.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » .

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: ثم قال في الأنبياء الذين سماهم في هذه الآية: « فبهداهم اقتده » .

ومعنى: « الاقتداء » في كلام العرب، بالرجل: اتباع أثره، والأخذ بهديه. يقال: « فلان يقدو فلانًا » ، إذا نحا نحوه، واتبع أثره, « قِدَة، وقُدوة وقِدوة وقِدْيَة » .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( 90 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكّرهم بآياتي، أن تبسَل نفس بما كسبت، من مشركي قومك يا محمد: « لا أسألكم » ، على تذكيري إياكم، والهدى الذي أدعوكم إليه، والقرآن الذي جئتكم به, عوضًا أعتاضه منكم عليه، وأجرًا آخذه منكم, وما ذلك مني إلا تذكير لكم، ولكل من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل، بَأسَ الله أن يَحُلّ بكم، وسَخَطه أن ينـزل بكم على شرككم به وكفركم وإنذارٌ لجميعكم بين يدي عذاب شديد, لتذكروا وتنـزجروا.

 

لقول في تأويل قوله : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « وما قدروا الله حق قدره » ، وما أجلُّوا الله حق إجلاله, ولا عظموه حق تعظيمه « إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، يقول: حين قالوا: لم ينـزل الله على آدميٍّ كتابًا ولا وحيًا.

واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: « إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، وفي تأويل ذلك.

فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلا من اليهود.

ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل.

فقال بعضهم: كان اسمه: مالك بن الصيف.

وقال بعضهم: كان اسمه فنحاص.

واختلفوا أيضًا في السبب الذي من أجله قال ذلك.

* ذكر من قال: كان قائل ذلك: مالك بن الصيف.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنـزل التوراة على موسى, أما تجد في التوراة أن الله يُبْغِض الحَبْر السمين؟ وكان حبرًا سمينًا, فغضب فقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا موسى! فقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء ! فأنـزل الله: « وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى » ، الآية .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قال: نـزلت في مالك بن الصيف، كان من قريظة، من أحبار يهود « قل » يا محمد مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، الآية .

* ذكر من قال: نـزلت في فنحاص اليهوديّ.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قال: قال فنحاص اليهوديّ: ما أنـزل الله على محمد من شيء!

وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناسٌ من يهودَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ, فقالوا: يا أبا القاسم, ألا تأتينا بكتاب من السماء، كما جاء به موسى ألواحًا يحملها من عند الله؟ فأنـزل الله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَـزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ، الآية [ سورة النساء : 153 ] . فجثا رجل من يهود فقال: ما أنـزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئًا! فأنـزل الله: « وما قدروا الله حق قدره » . قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله « إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا » ، فحلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبْوته, وجعل يقول: « ولا على أحَدٍ » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، إلى قوله: فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ، هم اليهود والنصارى, قوم آتاهم الله علمًا فلم يقتدوا به،

ولم يأخذوا به، ولم يعملوا به, فذمهم الله في عملهم ذلك. ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إن من أكثر ما أنا مخاصَمٌ به غدًا أن يقال: يا أبا الدرداء، قد علمت, فماذا عملت فيما علمت ؟

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، يعني من بني إسرائيل، قالت اليهود: يا محمد، أنـزل الله عليك كتابًا؟ قال: نعم! قالوا: والله ما أنـزل الله من السماء كتابًا! قال: فأنـزل الله: « قل » يا محمد مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، إلى قوله : وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: الله أنـزله .

وقال آخرون: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا: « ما أنـزل الله على بشر من شيء » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قالها مشركو قريش. قال: وقوله: ( قُلْ مَنْ أَنـزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلناسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) ، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا. قال: وقوله: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: هذه للمسلمين.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، قال: هم الكفار، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم, فمن آمنَ أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حق قدره.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما قدروا الله حق قدره » ، يقول: مشركو قريش .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عني بقوله « وما قدروا الله حق قدره » ، مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا فأن يكون ذلك أيضًا خبرًا عنهم، أشبهُ من أن يكون خبرًا عن اليهود ولما يجر لهم ذكرٌ يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنـزل على بشر شيئًا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود, بل المعروف من دين اليهود: الإقرار بصُحُف إبراهيم وموسى، وزبور داود. وإذا لم يأت بما روي من الخبر، بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبرٌ صحيح متصل السند ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماعٌ وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرًا عن المشركين من عبدة الأوثان وكان قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، موصولا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل.

ولكني أظن أن الذين تأوّلوا ذلك خبرًا عن اليهود, وجدوا قوله: « قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » ، فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة, فقرءوه على وجه الخطاب لهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، فجعلوا ابتداء الآية خبرًا عنهم, إذ كانت خاتمتها خطابًا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنـزيل, لما وصفت قبل من أن قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل, فالأولى أن يكون ذلك خبرًا عنهم .

والأصوب من القراءة في قوله: ( يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) ، أن يكون بالياء لا بالتاء, على معنى: أنّ اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا, ويكون الخطاب بقوله : قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ ، لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك, وكذلك كان يقرأ.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف: ( يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لمشركي قومك القائلين لك: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قل: « من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا » ، يعني: جلاءً وضياء من ظلمة الضلالة « وهدى للناس » ، يقول: بيانًا للناس, يبين لهم به الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم « تجعلونه قراطيس تبدونها » .

فمن قرأ ذلك: ( تَجْعَلُونَهُ ) ، جعله خطابًا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك.

ومن قرأه بالياء: ( يَجْعَلُونَهُ ) ، فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس, وجرى الكلام في « يبدونها » بذكر « القراطيس » , والمراد منه المكتوب في القراطيس, يراد: يبدون كثيرًا مما يكتبون في القراطيس فيظهارونه للناس، ويخفون كثيرًا مما يثبتونه في القراطيس فيسرُّونه ويكتمونه الناس.

ومما كانوا يكتمونه إياهم، ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، كالذي:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، اليهود.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: « قل » يا محمد « من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها » ، يعني يهود، لما أظهروا من التوراة « ويخفون كثيرًا » ، مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنـزل عليه قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول: « يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا.

 

القول في تأويل قوله : وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( 91 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلمكم الله جل ثناؤه بالكتاب الذي أنـزله إليكم، ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم، ومن أنباء من بعدكم، وما هو كائن في معادكم يوم القيامة « ولا آباؤكم » ، يقول: ولم يعلمه آباؤكم، أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم، كالذي:-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد: « وعلمتم » ، معشرَ العرب « ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول في قوله: « وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » ، قال: هذه للمسلمين .

وأما قوله: « قل الله » ، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجيبَ استفهامَه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله: « قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، بقيل الله، كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، [ سورة الأنعام : 63 ] . فأمره باستفهام المشركين عن ذلك, كما أمره باستفهامهم إذ قالوا: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، عمن أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس. ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [ سورة الأنعام : 64 ] ، كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله: الله أنـزله على موسى، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، قال: الله أنـزله.

ولو قيل: معناه: « قل: هو الله » ، على وجه الأمر من الله له بالخبر عن ذلك لا على وجه الجواب، إذ لم يكن قوله: قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم, فيكون قوله: « قل الله » ، جوابًا لهم عن مسألتهم, وإنما هو أمرٌ من الله لمحمد بمسألة القوم: مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ ؟ فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله كان جائزًا، من أجل أنه استفهام, ولا يكون للاستفهام جوابٌ، وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا.

وأما قوله: « ثم ذرهم في خوضهم يلعبون » ، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم ذَرْ هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام، بعد احتجاجك عليهم في قيلهم: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، بقولك: مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، وإجابتك ذلك بأن الذي أنـزله: الله الذي أنـزل عليك كتابه « في خوضهم » ، يعني: فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته « يلعبون » ، يقول: يستهزئون ويسخرون.

وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهدُّد لهم: يقول الله جل ثناؤه: ثم دعهم لاعبين، يا محمد. فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد، وأذيقهم بأسي, وأحلّ بهم إن تمادوا في غَيِّهم سَخَطي.

 

القول في تأويل قوله : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا القرآن، يا محمد « كتاب » .

وهو اسم من أسماء القرآن، قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبلُ بما أغنى عن إعادته، ومعناه مكتوب, فوضع « الكتاب » مكان « المكتوب » .

« أنـزلناه » ، يقول: أوحيناه إليك « مبارك » ، وهو « مفاعل » من « البركة » « مصدّق الذي بين يديه » ، يقول: صدّق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه قبلك, لم يخالفها [ دلالة ومعنى ] نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ , يقول: هو الذي أنـزل إليك، يا محمد، هذا الكتاب مباركًا، مصدقًا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله. ولكنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عنه, إذ كان قد تقدم [ من ] الخبر عن ذلك ما يدل على أنه [ له ] مواصل, فقال: « وهذا كتاب أنـزلناه إليك مبارك » , ومعناه: وكذلك أنـزلت إليك كتابي هذا مباركًا, كالذي أنـزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورًا.

وأما قوله: « ولتنذر أمَّ القرى ومن حولها » ، فإنه يقول: أنـزلنا إليك، يا محمد، هذا الكتاب مصدِّقًا ما قبله من الكتب, ولتنذِر به عذابَ الله وبأسَه مَنْ في أم القرى، وهي مكة « ومن حولها » ، شرقًا وغربًا، من العادلين بربّهم غيره من الآلهة والأنداد, والجاحدين برسله، وغيرهم من أصناف الكفار.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، يعنى ب « أم القرى » ، مكة « ومن حولها » ، من القرى إلى المشرق والمغرب.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، و « أم القرى » ، مكة « ومن حولها » ، الأرض كلها.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ولتنذر أم القرى » ، قال: هي مكة وبه عن معمر, عن قتادة قال: بلغني أن الأرض دُحِيَتْ من مكة.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، كنا نُحَدّث أن أم القرى، مكة وكنا نحدَّث أن منها دُحيت الأرض.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، أما « أم القرى » فهي مكة، وإنما سميت « أم القرى » , لأنها أول بيت وضع بها.

وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة « أم القرى » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 92 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعادِ في الآخرة إلى الله، ويصدِّق بالثواب والعقاب, فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنـزلناه إليك، يا محمد، ويصدق به، ويقرّ بأن الله أنـزله, ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمرَه الله بإقامتها، لأنه منذرُ من بلغه وعيدَ الله على الكفر به وعلى معاصيه, وإنما يجحد به وبما فيه ويكذِّب، أهل التكذيب بالمعاد، والجحود لقيام الساعة, لأنه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابًا, ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابًا.

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا » ، ومن أخطأ قولا وأجهل فعلا « ممن افترى على الله كذبًا » , يعني: ممن اختلق على الله كذبًا, فادعى عليه أنه بعثه نبيًّا وأرسله نذيرًا, وهو في دعواه مبطل، وفي قيله كاذب.

وهذا تسفيهٌ من الله لمشركي العرب، وتجهيلٌ منه لهم، في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحنفيِّ مسيلمة، لنبي الله صلى الله عليه وسلم، بدعوى أحدهما النبوّة، ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفْيٌ منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاقَ الكذب عليه ودعوى الباطل.

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.

فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، قال: نـزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح, أخي بني عامر بن لؤي, كان كتب للنبي صلى الله عليه وسلم, وكان فيما يملي « عَزِيزٌ حَكِيمٌ » , فيكتب « غَفُورٌ رَحِيمٌ » , فيغيره, ثم يقرأ عليه « كذا وكذا » ، لما حوَّل, فيقول: « نعم، سواءٌ » . فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينـزل عليه « عَزِيزٌ حَكِيمٌ » فأحوِّله، ثم أقرأ ما كتبت, فيقول: « نعم سواء » ! ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة, إذ نـزل النبي صلى الله عليه وسلم بمرّ.

وقال بعضهم: بل نـزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء » إلى قوله: تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ . قال: نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أسلم, وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم, فكان إذا أملى عليه: « سميعًا عليمًا » , كتب هو: « عليمًا حكيمًا » ، وإذا قال: « عليمًا حكيمًا » كتب: « سميعًا عليمًا » ، فشكّ وكفر, وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ, وإن كان الله ينـزله فقد أنـزلت مثل ما أنـزل الله ! قال محمد: « سميعًا عليمًا » فقلت أنا: « عليمًا حكيمًا » ! فلحق بالمشركين, ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار. فأخذوهم فعُذِّبوا حتى كفروا، وجُدِعت أذن عمار يومئذ. فانطلق عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما لقي، والذي أعطاهم من الكفر, فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاه, فأنـزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [ سورة النحل :106 ] ، فالذي أكره: عمار وأصحابه والذي شرح بالكفر صدرًا، فهو ابن أبي سرح.

وقال آخرون: بل القائل: « أوحي إلي ولم يوح إليه شيء » ، مسيلمة الكذاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، ذكر لنا أن هذه الآية نـزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب, فكبرا عليّ وأهمّاني, فأوحى إليّ: أن انفخهما, فنفختهما فطارا, فأوَّلتهما في منامي الكذَّابين اللذين أنا بينهما، كذّاب اليمامةِ مُسيلمة, وكذّاب صنعاء العنسي. وكان يقال له: « الأسود » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: « أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، قال: نـزلت في مسيلمة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة وزاد فيه: وأخبرني الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « بينا أنا نائم رأيتُ في يديّ سوارين من ذهب, فكبر ذلك عليّ, فأوحي إلي أن انفخهما, فنفخهما فطارا, فأوّلت ذلك كذاب اليمامة وكذاب صنعاء العنسي. »

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله قال: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: « إني قد قلت مثل ما قال محمد » , وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا كذبًا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذابين، ادّعيا على الله كذبًا. أنه بعثهما نبيين, وقال كل واحد منهما إنّ الله أوحى إليه، وهو كاذب في قيله. فإذ كان ذلك كذلك, فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره: « أوحى الله إلي » , وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئًا. فأما التنـزيل، فإنه جائز أن يكون نـزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نـزل بسبب جميعهم وجائز أن يكون عني به جميعُ المشركين من العرب إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم يغيّروه. فعيّرهم الله بذلك، وتوعّدهم بالعقوبة على تركهم نكيرَ ذلك، ومع تركهم نكيرَه هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون, ولنبوّته جاحدون, ولآيات كتاب الله وتنـزيله دافعون, فقال لهم جل ثناؤه: « ومن أظلم ممن ادّعى عليّ النبوّة كاذبًا » ، وقال: « أوحي إلي » ، ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، فينقض قولَه بقوله, ويكذب بالذي تحققه, وينفي ما يثبته. وذلك إذا تدبره العاقلُ الأريب علم أن فاعله من عقله عديم .

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، ما:-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، قال: زعم أنه لو شاء قال مثله يعني الشعر .

فكأنّ ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوّله، يوجِّه معنى قول قائل: « سأنـزل مثل ما أنـزل الله » , إلي: سأنـزل مثل ما قال الله من الشعر. وكذلك تأوّله السدي. وقد ذكرنا الرواية عنه قبل فيما مضى.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو ترى، يا محمد، حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين العادلين بربهم الآلهة والأنداد, والقائلين: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ , والمفترين على الله كذبًا، الزاعمين أنّ الله أوحى إليه ولم يوحَ إليه شيء, والقائلين: سَأُنْـزِلُ مِثْلَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ ، فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت, ونـزل بهم أمر الله, وحان فناء آجالهم, والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم, كما قال جل ثناؤه: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [ سورة محمد : 27 ، 28 ] . يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم.

و « الغمرات » جمع « غمرة » , و « غمرة كل شيء » ، كثرته ومعظمه, وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها, ومنه قول الشاعر:

وَهَــلْ يُنْجِــي مِـنَ الْغَمَـرَاتِ إلا بُرَاكَـــاءُ القِتَـــالِ أوِ الفِــرَارُ

وروي عن ابن عباس في ذلك, ما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت » ، قال: سكرات الموت.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « في غمرات الموت » ، يعني سكرات الموت.

وأما « بسط الملائكة أيديها » ، فإنه مدُّها.

ثم اختلف أهل التأويل في سبب بسطها أيديها عند ذلك.

فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم » ، قال: هذا عند الموت، « والبسط » ، الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي, قال حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم » ، يقول: « الملائكة باسطو أيديهم » ، يضربون وجوههم وأدبارهم والظالمون في غمرات الموت, وملك الموت يتوفّاهم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والملائكة باسطو أيديهم » ، يضربونهم .

وقال آخرون: بل بسطها أيديها بالعذاب.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « والملائكة باسطو أيديهم » ، قال : بالعذاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح: « والملائكة باسطو أيديهم » ، بالعذاب.

وكان بعض نحويي الكوفيين يتأوّل ذلك بمعنى: باسطو أيديهم بإخراج أنفسهم.

فإن قال قائل: ما وجه قوله: « أخرجوا أنفسكم » ، ونفوس بني آدم إنما يخرجها من أبدان أهلها رب العالمين؟ فكيف خوطب هؤلاء الكفار, وأمروا في حال الموت بإخراج أنفسهم؟ فإن كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون بنو آدم هم يقبضون أنفس أجسامهم!

قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي [ إليه ] ذهبت وإنما ذلك أمرٌ من الله على ألسن رُسله الذين يقبضون أرواحَ هؤلاء القوم من أجسامهم, بأداء ما أسكنها ربها من الأرواح إليه، وتسليمها إلى رسله الذين يتوفَّونها.

 

القول في تأويل قوله : الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( 93 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما تقولُ رسل الله التي تقبض أرواحَ هؤلاء الكفار لها, يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، إلى سخط الله ولعنته, فإنكم اليوم تُثابون على كفركم بالله, وقيلكم عليه الباطل, وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوحَ إليكم شيئًا, وإنكاركم أن يكون الله أنـزل على بشر شيئًا, واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله، والانقياد لطاعته « عذابَ الهون » ، وهو عذاب جهنم الذي يُهينُهم فيذلّهم, حتى يعرفوا صَغَار أنفسهم وذِلَّتَها، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « عذاب الهون » ، فالذي يهينهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « اليوم تجزون عذاب الهون » ، قال: عذاب الهون، في الآخرة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .

والعرب إذا أرادت ب « الْهُونِ » معنى « الهوان » ، ضمت « الهاء » , وإذا أرادت به الرفق والدَّعَة وخفة المؤونة، فتحت « الهاء » , فقالوا: هو « قليل هَوْن المؤونة » ، ومنه قول الله: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [ سورة الفرقان : 63 ] ، يعني: بالرفق والسكينة والوقار، ومنه قول جندل بن المثنَّى الطُّهويّ:

وَنَقْــضَ أَيْــامٍ نَقَضْــنَ أَسْــرَهُ هَوْنًــا وَأَلْقَــى كُـلُّ شَـيْخٍ فَخـرَهُ

ومنه قول الآخر:

هَوْنَكُمَــا لا يَـرُدُّ الدَّهْـرُ مـا فَاتَـا لا تَهْلِكَـا أَسَـفًا فِـي إِثْـرِ مَـنْ مَاتَا

يريد: أرْوِدا. وقد حكي فتح « الهاء » في ذلك بمعنى « الهوان » ، واستشهدوا على ذلك ببيت عامر بن جُوَين:

يُهِيـنُ النفُــوسَ, وَهَــوْنُ النُّفُــو سِ عِنْـدَ الكَرِيهَـــةِ أَغْلَى لَهَــا

والمعروف من كلامهم، ضمُّ « الهاء » منه، إذا كان بمعنى الهوان والذل, كما قال ذو الإصبع العدواني:

اذْهَــبْ إلَيْـكَ فَمَـا أُمِّـي بِرَاعِيَـةٍ تَرْعَى الْمَخَاضَ وَلا أُغْضِي عَلَى الهُونِ

يعني: على الهوان وإذا كان بمعنى الرفق، ففتْحُها.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والأنداد, يخبر عبادَه أنه يقول لهم عند ورودهم عليه: « لقد جئتمونا فرادى » .

ويعني بقوله: « فرادى » ، وُحدانًا لا مال معهم، ولا إناث، ولا رقيق، ولا شيء مما كان الله خوّلهم في الدنيا « كما خلقناكم أوّل مرة » ، عُرَاة غُلْفًا غُرْلا حُفاة، كما ولدتهم أمهاتهم, وكما خلقهم جل ثناؤه في بطون أمهاتهم, لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهَوْن به في الدنيا.

و « فرادى » ، جمع, يقال لواحدها: « فَرِد » , كما قال نابغة بني ذبيان:

مِـنْ وَحْـشِ وَجْـرَةَ مَوْشـيٍّ أَكَارِعُهُ طَـاوِي المَصِـيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ

و « فَرَدٌ » و « فريد » , كما يقال: « وَحَد » و « وَحِد » و « وحيد » في واحد « الأوحاد » . وقد يجمع « الفَرَد » « الفُرَاد » كما يجمع « الوَحَد » ، « الوُحَاد » , ومنه قول الشاعر:

تَـرَى النَّعَـرَاتِ الـزُّرْقَ فَـوْقَ لَبَانِه فُـرَادَى وَمَثْنًـى أَصْعَقَتْهَـا صَوَاهِلُـهْ

وكان يونس الجرْميّ، فيما ذكر عنه، يقول: « فُراد » جمع « فَرْد » , كما قيل: « تُؤْم » و « تُؤَام » للجميع. ومنه: « الفُرَادى » ، و « الرُّدَافى » و « القُرَانى » . يقال: « رجل فرد » و « امرأة فرد » , إذا لم يكن لها أخٌ. « وقد فَرد الرجلُ فهو يفرُد فرودًا » , يراد به تفرَّد, « فهو فارد » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، [ قال ابن زيد قال ] ، أخبرني عمرو: أن ابن أبي هلال حدثه: أنه سمع القرظيّ يقول: قرأت عائشةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الله: « ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة » ، فقالت: واسوأتاه, إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ , لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال, شغل بعضهم عن بعض.

وأما قوله: « وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم » ، فإنه يقول: خلفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها، خلفكم في الدنيا فلم تحملوه معكم.

وهذا تعيير من الله جل ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم.

وكل ما ملكته غيرك وأعطيته: « فقد خوّلته » , يقال منه: « خال الرجل يَخَال أشدّ الخِيال » بكسر الخاء « وهو خائل » , ومنه قول أبي النجم:

أَعْطَــى فَلَــمْ يَبْخَـلْ وَلَـمْ يُبَخَّـلِ كَـومَ الـذُّرَى مِـنْ خَـوَلِ المُخَــوِّلِ

وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بيت زهير:

هُنَـالِكَ إِنْ يُسْـتَخْوَلُوا الْمَـالَ يُخـوِلُوا وَإن يُسْـأَلُوا يُعطُـوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يُغْلُوا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وتركتم ما خوّلناكم » ، من المال والخدم « وراء ظهوركم » ، في الدنيا.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة.

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في النضر بن الحارث، لقيله: إنّ اللات والعزى يشفعان لهُ عند الله يوم القيامة.

وقيل: إن ذلك كان قول كافة عَبَدة الأوثان.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: « وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء » ، فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدُون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنّ هذه الآلهة شركاءُ لله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: « سوف تشفع لي اللات والعزَّى » ! فنـزلت هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، إلى قوله: « شركاء » .

 

القول في تأويل قوله : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 94 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد: « لقد تقطع بينكم » ، يعني تواصلَهم الذي كان بينهم في الدنيا, ذهب ذلك اليوم, فلا تواصل بينهم ولا توادّ ولا تناصر, وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون، فاضمحلّ ذلك كله في الآخرة, فلا أحدَ منهم ينصر صاحبه، ولا يواصله.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لقد تقطع بينكم » ، « البين » ، تواصلهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لقد تقطع بينكم » ، قال: تواصلهم في الدنيا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « لقد تقطع بينكم » ، قال: وصلكم.

وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لقد تقطع بينكم » ، قال: ما كان بينكم من الوصل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس: « لقد تقطع بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون » ، يعني الأرحام والمنازل.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « لقد تقطع بينكم » ، يقول: تقطع ما بينكم.

حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش: « لقد تقطع بينكم » ، التواصل في الدنيا.

واختلفت القرأة في [ قراءة ] قوله: « بينكم » .

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة نصبًا، بمعنى: لقد تقطع ما بينكم.

وقرأ ذلك عامة قرأة مكة والعراقَيْن: ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ ) ، رفعًا, بمعنى: لقد تقطع وصلُكم.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.

وذلك أن العرب قد تنصب « بين » في موضع الاسم. ذكر سماعًا منها: « أتاني نحَوك، ودونَك، وسواءَك » , نصبًا في موضع الرفع. وقد ذكر عنها سماعًا الرفع في « بين » ، إذا كان الفعل لها، وجعلت اسمًا، وينشد بيت مهلهل:

كَــأَنَّ رِمــاحَهُم أَشْــطَانُ بِــئْرٍ بَعِيـــدٍ بَيْــنُ جَالَيْهَــا جَــرُورِ

برفع « بين » ، إذ كانت اسمًا، غير أن الأغلب عليهم في كلامهم النصبُ فيها في حال كونها صفة، وفي حال كونها اسمًا.

وأما قوله: « وضل عنكم ما كنتم تزعمون » ، فإنه يقول: وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم, وأنه لكم شفيع عند ربكم, فلا يشفع لكم اليوم.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى

قال أبو جعفر: وهذا تنبيهٌ من الله جل ثناؤه هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان على موضع حجّته عليهم, وتعريفٌ منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياه. يقول تعالى ذكره: إن الذي له العبادة، أيها الناس، دون كل ما تعبدون من الآلهة والأوثان, هو الله الذي فَلق الحبَّ يعني: شق الحبَّ من كل ما ينبت من النبات, فأخرج منه الزرع « والنوى » ، من كل ما يغرس مما له نَواة, فأخرج منه الشجر.

و « الحبّ » جمع « الحبة » , و « النوى » جمع « النواة » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إن الله فالق الحب والنوى » ، أما « فالق الحب والنوى » : ففالق الحب عن السنبلة, وفالق النواة عن النخلة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فالق الحب والنوى » ، قال: يفلق الحب والنوى عن النبات.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « فالق الحب والنوى » ، قال: الله فالق ذلك, فلقه فأنبت منه ما أنبت. فلق النواة فأخرج منها نَبَات نخلة, وفلق الحبة فأخرج نبات الذي خلق.

وقال آخرون: معنى « فالق » ، خالق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: خالق الحب والنوى.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك, مثله .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: خالق الحب والنوى.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه فلق الشقّ الذي في الحبّة والنواة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « فالق الحب والنوى » ، قال: الشقان اللذان فيهما.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد, عن حصين, عن أبي مالك في قول الله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: الشق الذي يكون في النواة وفي الحنطة .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: « فالق الحب والنوى » ، قال: الشقان اللذان فيهما.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فالق الحب والنوى » ، يقول: خالق الحب والنوى, يعني كلّ حبة .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، ما قدّمنا القول به. وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك بإخباره عن إخراجه الحي من الميت والميت من الحي, فكان معلومًا بذلك أنه إنَّما عنى بإخباره عن نفسه أنّه فالق الحب عن النبات، والنوى عن الغُرُوس والأشجار, كما هو مخرج الحي من الميت، والميّت من الحي.

وأما القول الذي حكي عن الضحاك في معنى « فالق » ، أنه خالق, فقولٌ إن لم يكن أراد به أنّه خالق منه النبات والغُروس بفلقه إياه لا أعرف له وجهًا, لأنه لا يعرف في كلام العرب: « فلق الله الشيء » ، بمعنى: خلق .

 

القول في تأويل قوله : يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 95 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يخرج السنبل الحيّ من الحبّ الميت, ومخرج الحبِّ الميت من السنبل الحيّ, والشجرِ الحيّ من النوى الميت, والنوى الميِّت من الشجر الحيّ.

والشجر ما دام قائمًا على أصوله لم يجفّ، والنبات على ساقه لم ييبَس, فإن العرب تسميه « حَيًّا » , فإذا يبس وجفّ أو قطع من أصله، سمّوه « ميتًا » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « يخرج الحي من الميت » ، فيخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة, ويخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية, ويخرج النخلة الحية من النواة الميتة, ويخرج النواة الميتة من النخلة الحية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: « يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي » ، قال: النخلة من النواة، والنواة من النخلة, والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ) ، قال: يخرج النطفة الميتة من الحي, ثم يخرج من النطفة بشرًا حيًّا.

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا التأويل الذي اخترنا في ذلك, لأنه عَقِيب قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، على أن قوله: « يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي » ، وإن كان خبرًا من الله عن إخراجه من الحبّ السنبل ومن السنبل الحب, فإنه داخل في عمومه ما رُوي عن ابن عباس في تأويل ذلك. وكل ميّت أخرجه الله من جسمٍ حَيٍّ, وكل حيّ أخرجه الله من جسمٍ ميتٍ.

وأما قوله: « ذلكم الله » ، فإنه يقول: فاعل ذلك كلِّه اللهُ جل جلاله « فأنى تؤفكون » ، يقول: فأيّ وجوه الصدّ عن الحقّ، أيها الجاهلون، تصدّون عن الصواب وتصرفون, أفلا تتدبرون فتعلمون أنّه لا ينبغي أن يُجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى, فأخرج لكم من يابس الحب والنوى زروعًا وحُروثًا وثمارًا تتغذون ببعضه وتفكّهون ببعضه, شريكٌ في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ولا يسمع ولا يبصر؟

 

القول في تأويل قوله : فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « فالق الإصباح » ، شاقٌّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده.

و « الإصباح » مصدر من قول القائل: « أصبحنا إصباحًا » .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال عامة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: « فالق الإصباح » ، قال: إضاءة الصبح.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي, نجيح, عن مجاهد: « فالق الإصباح » ، قال: إضاءة الفجر.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فالق الإصباح » ، قال: فالق الصُّبح.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « فالق الإصباح » ، يعني بالإصباح، ضوءَ الشمس بالنهار, وضوءَ القمر بالليل.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: « فالق الإصباح » ، قال: فالق الصبح.

حدثنا به ابن حميد مرة بهذا الإسناد, عن مجاهد فقال في قوله: « فالق الإصباح » ، قال إضاءة الصبح.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « فالق الإصباح » ، قال: فلق الإصباح عن الليل.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فالق الإصباح » ، يقول: خالق النور, نور النهار.

وقال آخرون: معنى ذلك: خالق الليل والنهار .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: ( فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا ) ، يقول: خلق الليل والنهار.

وذكر عن الحسن البصري أنّه كان يقرأ: ( فَالِقُ الأصْبَاحِ ) ، بفتح الألف، كأنه تأول ذلك بمعنى جمع « صبح » , كأنه أراد صبح كل يوم, فجعله « أصباحًا » , ولم يبلغنا عن أحد سواه أنه قرأ كذلك. والقراءة التي لا نستجيز تعدِّيها، بكسر الألف: ( فالِقُ الإصْبَاح ) ، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحة ذلك ورفضِ خلافه.

وأما قوله: « وجاعِلُ الليل سكنًا » ، فإن القرأة اختلفت في قراءته.

فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض البصريين: ( وَجَاعِلُ اللَّيْلِ ) بالألف على لفظ الاسم، ورفعه عطفًا على « فالق » , وخفض « الليل » بإضافة « جاعل » إليه, ونصب « الشمس والقمر » ، عطفًا على موضع « الليل » ، لأن « الليل » وان كان مخفوضًا في اللفظ، فإنه في موضع النصب, لأنه مفعول « جاعل » . وحسن عطف ذلك على معنى « الليل » لا على لفظه, لدخول قوله: « سكنًا » بينه وبين « الليل » ، قال الشاعر:

قُعُـوداً لَـدَى الأبْـوَابِ طُـلابَ حاجَةٍ عَـوَانٍ مِـنَ الْحَاجَـاتِ أَوْ حَاجَةً بِكْرًا

فنصب « الحاجة » الثانية، عطفًا بها على معنى « الحاجة » الأولى, لا على لفظها، لأن معناها النصب، وإن كانت في اللفظ خفضًا. وقد يجيء مثل هذا أيضًا معطوفًا بالثاني على معنى الذي قبله لا على لفظه, وإن لم يكن بينهما حائل, كما قال بعضهم:

بَيْنَـــا نَحْـــنُ نَنْظُــرْهُ أَتَانَــا مُعلِّـــقَ شِـــكْوَةٍ وَزِنــادَ رَاعِ

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ ) ، على « فَعَلَ » ، بمعنى الفعل الماضي، ونصب « الليل » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار, متفقتا المعنى، غير مختلفتيه, فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في الإعراب والمعنى.

وأخبر جل ثناؤه أنه جعل الليل سكنًا, لأنه يسكن فيه كل متحرك بالنهار، ويهدأ فيه, فيستقر في مسكنه ومأواه.

 

القول في تأويل قوله : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك:

فقال بعضهم: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « والشمس والقمر حسبانًا » ، يعني: عدد الأيام والشهور والسنين .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: يجريان إلى أجلٍ جُعل لهما.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والشمس والقمر حسبانًا » ، يقول: بحساب.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: الشمس والقمر في حساب, فإذا خَلَتْ أيامهما فذاك آخرُ الدهر، وأول الفزع الأكبر « ذلك تقدير العزيز العليم » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: يدوران في حساب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال هو مثل قوله: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ سورة الأنبياء: 33 ] ، ومثل قوله: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [ سورة الرحمن: 5 ] .

وقال آخرون: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر ضياء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والشمس والقمر حسبانًا » ، أي ضياء.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب، تأويل من تأوَّله: وجعل الشمس والقمرَ يجريان بحساب وعددٍ لبلوغ أمرهما ونهاية آجالهما, ويدوران لمصالح الخلق التي جُعِلا لها.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية, لأن الله تعالى ذكره ذكَر قبلَه أياديه عند خلقه، وعظم سلطانه, بفلقه الإصباح لهم، وإخراج النبات والغِراس من الحب والنوى, وعقّب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البر والبحر. فكان وصفه إجراءه الشمس والقمرَ لمنافعهم، أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما، لأنه قد وصف ذلك قبلُ بقوله: « فالق الإصباح » ، فلا معنى لتكريره مرة أخرى في آية واحدة لغير معنى.

و « الحسبان » في كلام العرب جمع « حِساب » , كما « الشُّهبان » جمع شهاب. وقد قيل إن « الحسبان » ، في هذا الموضع مصدر من قول القائل: « حَسَبْتُ الحساب أحسُبُه حِسابًا وحُسْبانًا » . وحكي عن العرب: « على الله حُسْبان فلان وحِسْبته » ، أي: حسابه.

وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء, ذهب إلى شيء يروى عن ابن عباس في قوله: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [ سورة الكهف: 40 ] . قال: نارًا, فوجه تأويل قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، إلى ذلك التأويل. وليس هذا من ذلك المعنى في شيء.

وأما « الحِسبان » بكسر « الحاء » ، فإنه جمع « الحِسبانة » ، وهي الوسادة الصغيرة, وليست من الأوَّليين أيضًا في شيء. يقال: « حَسَّبته » ، أجلستُه عليها.

ونصب قوله: « حسبانًا » بقوله: « وجعل » .

وكان بعض البصريين يقول: معناه: « والشمس والقمرَ حسبانًا » ، أي: بحساب, فحذف « الباء » ، كما حذفها من قوله: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [ سورة الأنعام: 117 ] ، أي: أعلم بمن يضل عن سبيله.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 96 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله, وهو فلقه الإصباح، وجعله الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا, تقدير الذي عزّ سلطانه, فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام، من الامتناع منه « العليم » ، بمصالح خلقه وتدبيرهم لا تقديرُ الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله، ولا تضر ولا تنفع, وإن أريدت بسوء لم تقدر على الامتناع منه ممن أرادها. يقول جل ثناؤه: وأخلصوا، أيها الجهلة، عبادتَكم لفاعل هذه الأشياء, ولا تشركوا في عبادته شيئًا غيره.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 97 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي جعل لكم، أيها الناس، النجوم أدلةً في البر والبحر إذا ضللتم الطريق, أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا تستدلّون بها على المحجَّة, فتهتدون بها إلى الطريق والمحجة، فتسلكونه وتنجون بها من ظلمات ذلك, كما قال جل ثناؤه: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [ سورة النحل: 16 ] ، أي: من ضلال الطريق في البرّ والبحر وعنى بالظلمات، ظلمة الليل, وظلمة الخطأ والضلال, وظلمة الأرض أو الماء.

وقوله: « قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون » ، يقول: قد ميَّزنا الأدلة، وفرَّقنا الحجج فيكم وبيّناها، أيها الناس، ليتدبّرها أولو العلم بالله منكم، ويفهمها أولو الحجا منكم, فينيبوا من جهلهم الذي هم مقيمون عليه, وينـزجروا عن خطأ فعلهم الذي هم عليه ثابتون, ولا يتمادوا عنادًا لله مع علمهم بأن ما هم عليه مقيمون خطأ في غَيِّهم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر » ، قال: يضلّ الرجل وهو في الظلمة والجور عن الطريق.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( 98 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإلهكم، أيها العادلون بالله غيره « الذي أنشأكم » ، يعني: الذي ابتدأ خلقكم من غير شيء، فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئًا « من نفس واحدة » ، يعني: من آدم كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « من نفس واحدة » ، قال: آدم عليه السلام.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة » ، من آدم عليه السلام.

وأما قوله: « فمستقر ومستودع » ، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.

فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة, فمنكم مستقِرٌّ في الرحم، ومنكم مستودع في القبر حتى يبعثه الله لنَشْر القيامة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم, عن عبد الله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، [ سورة هود: 6 ] . قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الأرحام وَمُسْتَوْدَعَهَا ، حيث تموت.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم, عن إسماعيل, عن إبراهيم, عن عبد الله أنه قال: « المستودع » حيث تموت, و « المستقر » ، ما في الرحم .

حدثت عن عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله بن مسعود قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، المكان الذي تموت فيه.

حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا محمد بن فضيل وعلي بن هاشم, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الأرحام وَمُسْتَوْدَعَهَا ، في الأرض، حيث تموت فيها.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مقسم قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الصلب حيث تأويل إليه وَمُسْتَوْدَعَهَا ، حيث تموت.

وقال آخرون: « المستودع » ، ما كان في أصلاب الآباء و « المستقر » ، ما كان في بطون النساء، وبطون الأرض، أو على ظهورها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: مستودعون، ما كانوا في أصلاب الرجال. فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض أو في بطنها, فقد استقرّوا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن علية, عن كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير: « فمستقر ومستودع » ، قال: المستودعون ما كانوا في أصلاب الرجال. فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض، فقد استقروا.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، [ سورة هود : 6 ] . قال: « المستودع » في الصلب و « المستقر » ، ما كان على وجه الأرض أو في الأرض.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمستقر في الأرض على ظهورها، ومستودع عند الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن المغيرة, عن أبي الجبر بن تميم بن حذلم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « المستقر » الأرض, « والمستودع » ، عند الرحمن.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الأرض, و « المستودع » ، عند ربك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم قال، قال عبد الله: مُسْتَقَرَّهَا ، في الدنيا, وَمُسْتَوْدَعَهَا ، في الآخرة يعني « فمستقر ومستودع » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير قال: « المستودع » ، في الصلب, و « المستقر » ، في الآخرة وعلى وجه الأرض.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمستقر في الرحم، ومستودع في الصلب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص, عن أبي الحارث, عن عكرمة, عن ابن عباس في قول الله: « فمستقر ومستودع » ، قال: مستقر في الرحم, ومستودع في صلب، لم يخلق سَيُخلق.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن يحيى الجابر, عن عكرمة: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، الذي قد استقر في الرحم, و « المستودع » ، الذي قد استودع في الصلب.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي الجبر تميم, عن سعيد بن جبير, قال ابن عباس: سل! فقلت: « فمستقرّ ومستودع » ؟ قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » الرحم, و « المستودع » ، ما كان عند رب العالمين مما هو خالقه ولم يخلق.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [ سورة هود: 6 ] ، قال: « المستقر » ، ما كان في الرحم مما هو حيٌّ، ومما قد مات و « المستودع » ، ما في الصلب.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس, وذلك قبل أن يَخْرُج وجهي أتزوّجت يا ابن جبير؟ قال: قلت لا وما أريد ذاك يومي هذا! قال فقال: أما إنه مع ذلك سيخرج ما كان في صلبك من المستودَعين.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس: تزوجت؟ قلت: لا ! قال: فضرب ظهري وقال: ما كان من مستودَع في ظهرك سيخرج.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، في الأرحام, و « المستودع » ، في الصلب، لم يخلق وهو خالقه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في أصلاب الرجال والدوابّ.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: « المستقر » ، ما استقرّ في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي الجبر بن تميم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, بنحوه.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة بن حميد, عن عمار الدهني, عن رجل, عن كريب قال: دعاني ابن عباس فقال: اكتب: « بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله بن عباس، إلى فلان حَبْر تَيْماء، سلامٌ عليك, فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو, أما بعد قال، فقلت: تبدؤه تقول: السلام عليك؟ فقال: إن الله هو السلام ثم قال: اكتب » سلامٌ عليك, أما بعد، فحدثني عن: « مستقر ومستودع » . قال: ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي, فأعطيته إياه. فلما نظر إليه قال: مرحبًا بكتاب خليلي من المسلمين ! فذهب بي إلى بيته, ففتح أسفاطًا له كبيرة, فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها. قال قلت: ما شأنك؟ قال: هذه أشياء كتبها اليهود! حتى أخرج سفر موسى عليه السلام، قال: فنظر إليه مرتين فقال: « المستقر » ، الرحم، قال: ثم قرأ: وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ [ سورة الحج: 5 ] ، وقرأ: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ ، [ سورة البقرة :36 ] ، [ سورة الأعراف:24 ] . قال: مستقرُّه فوق الأرض, ومستقرُّه في الرحم, ومستقره تحت الأرض حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار.

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، ما استقر في أرحام النساء, و « المستودع » ، ما استودع في أصلاب الرجال.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، في أصلاب الرجال.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا روح بن عبادة, عن ابن جريج, عن عطاء وعن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، في الأصلاب.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثناعيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمستقر » ، ما استقر في أرحام النساء « ومستودع » ، ما كان في أصلاب الرجال .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه .

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: « المستقر » ، ما استقر في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الرحم, « والمستودع » ، الصلب .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا معاذ بن معاذ, عن ابن عون قال: أتينا إبراهيم عند المساء فأخبرونا أنه قد مات، فقلنا: هل سأله أحدٌ عن شيء؟ قالوا: عبد الرحمن بن الأسود، عن « المستقر » و « المستودع » ، فقال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: أتينا إبراهيم وقد مات، قال: فحدثني بعضهم: أنّ عبد الرحمن بن الأسود سأله قبل أن يموت عن « المستقر » و « المستودع » , فقال: « المستقر » ، في الرحم, « والمستودع » ، في الصلب.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون: أتينا منـزل إبراهيم, فسألنا عنه فقالوا: قد توفي. وسأله عبد الرحمن بن الأسود, فذكر نحوه.

حدثني به يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون: أنه بلغه: أنّ عبد الرحمن بن الأسود سأل إبراهيم عن ذلك, فذكر نحوه.

حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة, عن العلاء بن هارون قال: انتهيت إلى منـزل إبراهيم حين قبض, فقلت لهم: هل سأله أحد عن شيء؟ قالوا: سأله عبد الرحمن بن الأسود عن « مستقر ومستودع » , فقال: أما « المستقر » ، فما استقر في أرحام النساء, و « المستودع » ، ما في أصلاب الرجال.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد في « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، الصلب.

حدثني يونس قال، حدثني سفيان, عن رجل حدَّثه، عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: ألا تنكح؟ ثم قال: أما إني أقول لك هذا، وإني لأعلم أن الله مخرجٌ من صلبك ما كان فيه مستودَع.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن ابن عباس: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الرحم, و « مستودع » ، في الصلب.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الرحم, و « مستودع » ، في الصلب.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك: « فمستقر ومستودع » ، أما « مستقر » ، فما استقر في الرحم وأما « مستودع » ، فما استودع في الصلب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الأرحام, « ومستودع » ، في الأصلاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير وأبي حمزة, عن إبراهيم قالا « مستقر ومستودع » , « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب.

وقال آخرون: « المستقر » ، في القبر, « والمستودع » ، في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقول: « مستقر » ، في القبر, « ومستودع » في الدنيا، وأوشك أن يلحق بصاحبه.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه عمّ بقوله: « فمستقر ومستودع » ، كلَّ خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة، مستقرًّا ومستودعًا, ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أنّ من بني آدم مستقرًّا في الرحم، ومستودعًا في الصلب, ومنهم من هو مستقر على ظهر الأرض أو بطنها، ومستودع في أصلاب الرجال, ومنهم مستقر في القبر، مستودع على ظهر الأرض. فكلٌّ « مستقر » أو « مستودع » بمعنى من هذه المعاني، فداخل في عموم قوله: « فمستقر ومستودع » ومراد به، إلا أن يأتي خبرٌ يجب التسليم له بأنه معنيٌّ به معنى دون معنى، وخاص دون عام.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « فمستقر ومستودع » .

فقرأت ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: ( فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) ، بمعنى: فمنهم من استقرّه الله في مقرِّه، فهو مستقَرٌّ ومنهم من استودعه الله فيما استودعه فيه، فهو مستودَع فيه.

وقرأ ذلك بعض أهل المدينة وبعض أهل البصرة: ( فَمُسْتَقِرٌّ ) ، بكسر « القاف » بمعنى: فمنهم من استقرّ في مقرّه، فهو مستقِرّ به.

وأولى القراءتين بالصواب عندي، وإن كان لكليهما عندي وجه صحيح: ( فَمُسْتَقَرٌّ ) ، بمعنى: استقرّه الله في مستقَرِّه, ليأتلف المعنى فيه وفي « المستودَع » ، في أن كل واحد منهما لم يسمَّ فاعله, وفي إضافة الخبر بذلك إلى الله في أنه المستقِرُّ هذا، والمستودِع هذا. وذلك أن الجميع مجمعون على قراءة قوله: « ومستودَع » بفتح « الدال » على وجه ما لم يسمَّ فاعله, فإجراء الأوّل أعني قوله: « فمستقر » عليه، أشبه من عُدُوله عنه.

وأما قوله: « قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون » ، يقول تعالى: قد بيّنا الحجج، وميزنا الأدلة والأعلام وأحكمناها « لقوم يفقهون » ، مواقعَ الحجج ومواضع العبر، ويفهمون الآيات والذكر, فإنهم إذا اعتبروا بما نبّهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر، وخلقي ما خلقت منها من عجائب الألوان والصور, علموا أنّ ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شريك فيشركوه في عبادتهم إياه، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون » ، يقول: قد بينا الآيات لقوم يفقهون.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي له العبادة خالصة لا شريك فيها لشيء سواه, هو الإله الذي أنـزل من السماء ماء « فأخرجنا به نبات كل شيء » ، فأخرجنا بالماء الذي أنـزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحش وأرزاق بني آدم وأقواتهم، ما يتغذون به ويأكلونه فينبتُون عليه وينمون. وإنما معنى قوله: « فأخرجنا به نبات كل شيء » ، فأخرجنا به ما ينبت به كل شيء وينمو عليه ويصلحُ.

ولو قيل: معناه: فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات، فيكون « كل شيء » ، هو أصناف النبات كان مذهبًا، وإن كان الوجه الصحيح هو القولَ الأول.

وقوله: « فأخرجنا منه خضرًا » ، يقول: « فأخرجنا منه » ، يعني: من الماء الذي أنـزلناه من السماء « خَضِرًا » ، رطبًا من الزرع.

« والخضر » ، هو « الأخضر » , كقول العرب: « أرِنيهَا نَمِرة، أُرِكْها مَطِرَة » . يقال: « خَضِرَت الأرض خَضَرًا. وخَضَارة » . و « الخضر » رطب البقول, ويقال: « نخلة خضيرة » ، إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج. و « قد اختُضِر الرجل » و « اغْتُضِر » ، إذا مات شابًّا مُصَحَّحًا. ويقال: « هو لك خَضِرًا مَضِرًا » ، أي هنيئًا مريئًا.

قوله: « نخرج منه حبًّا متراكبًا » ، يقول: نخرج من الخضر حبًّا يعني: ما في السنبل, سنبل الحنطة والشعير والأرز, وما أشبه ذلك من السنابل التي حبُّها يركب بعضه بعضًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « منه خضرًا نخرج منه حبًّا متراكبًا » ، فهذا السنبل.

 

القول في تأويل قوله : وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن النخل من طلعها قنوانه دانية، ولذلك رفعت « القِنوان » .

و « القنوان » جمع « قِنْو » , كما « الصنوان » جمع « صِنْو » , وهو العِذْق, يقال للواحد هو « قِنْو » ، و « قُنْو » و « قَنَا » ، يثنى « قِنوانِ » , ويجمع « قنوانٌ » و « قُنوانٌ » . قالوا في جمع قليله: « ثلاثة أقْناء » . و « القِنوان » من لغة الحجاز, و « القُنْوان » ، من لغة قيس، وقال امرؤ القيس:

فَـــأَثَّتْ أَعَالِيــهِ, وَآدَتْ أُصُولُــهُ وَمَـالَ بِقِنْـوانٍ مِـنَ البُسْـرِ أَحْـمَرَا

و « قِنْيان » ، جميعًا، وقال آخر:

لَهَـا ذَنَـبٌ كَـالْقِنْوِ قَـدْ مَـذِلَتْ بِـهِ وَأَسْــحَمَ لِلتَّخْطَــارِ بَعْـدَ التَّشَـذُّرِ

وتميم تقول: « قُنْيان » بالياء.

ويعني بقوله: « دانية » ، قريبة متهدّلة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « قنوان دانية » ، يعني ب « القنوان الدانية » ، قصار النخل، لاصقة عُذُوقها بالأرض.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « من طلعها قنوان دانية » ، قال: عذوق متهدلة .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « قنوان دانية » ، يقول: متهدلة.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء في قوله: « قنوان دانية » ، قال: قريبة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب: « قنوان دانية » ، قال: قريبة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومن النخل من طلعها قنوان دانية » ، قال: الدانية، لتهدُّل العُذوق من الطلع.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « ومن النخل من طلعها قنوان دانية » ، يعني النخل القصارَ الملتزقة بالأرض, و « القنوان » طلعه.

 

القول في تأويل قوله : وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأخرجنا أيضًا جنات من أعناب يعني: بساتينَ من أعناب.

واختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأه عامة القرأة: ( وَجَنَّاتٍ ) نصبًا, غير أن « التاء » كسرت، لأنها « تاء » جمع المؤنث, وهي تخفض في موضع النصب.

وقد:-

حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام, عن الكسائي قال، أخبرنا حمزة, عن الأعمش أنه قرأ: ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ ) .

بالرفع، فرفع « جنات » على إتباعها « القنوان » في الإعراب, وإن لم تكن من جنسها، كما قال الشاعر:

وَرَأَيْــتِ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا

قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز أن يقرأ ذلك إلا بها، النصبُ: ( وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ) ، لإجماع الحجة من القرأة على تصويبها والقراءة بها، ورفضهم ما عداها, وبُعْدِ معنى ذلك من الصواب إذ قرئ رفعًا.

وقوله: « والزيتون والرمان » ، عطف ب « الزيتون » على « الجنات » ، بمعنى: وأخرجنا الزيتونَ والرمان مشتبهًا وغير متشابه.

وكان قتادة يقول في معنى « مشتبهًا وغير متشابه » ، ما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه » ، قال: مشتبهًا ورقه, مختلفًا ثمرُه .

وجائز أن يكون مرادًا به: مشتبهًا في الخلق، مختلفًا في الطعم.

قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: وشجر الزيتون والرمان, فاكتفى من ذكر « الشجر » بذكر ثمره, كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ، [ سورة يوسف: 82 ] ، فاكتفى بذكر « القرية » من ذكر « أهلها » , لمعرفة المخاطبين بذلك بمعناه.

 

القول في تأويل قوله : انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: ( انْظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ ) ، بفتح « الثاء » و « الميم » .

وقرأه بعض قرأة أهل مكة وعامة قرأة الكوفيين: ( إلَى ثُمُرِهِ ) ، بضم « الثاء » و « الميم » .

فكأنّ من فتح « الثاء » و « الميم » من ذلك، وجَّه معنى الكلام: انطروا إلى ثمر هذه الأشجار التي سمينا من النخل والأعناب والزيتون والرمان إذا أثمرَ وأن « الثمر » جمع « ثمرة » , كما « القصب » ، جمع « قصبة » , و « الخشب » جمع « خشبة » .

وكأنّ من ضم « الثاء » و « الميم » , وجَّه ذلك إلى أنه جمع « ثِمَار » , كما « الحُمُر » جمع « حمار » , و « الجُرُب » جمع « جراب » ، وقد:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد, عن ابن إدريس, عن الأعمش, عن يحيى بن وثاب: أنه كان يقرأ: ( إلَى ثُمُرِهِ ) ، يقول: هو أصناف المال.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا محمد بن عبيد الله, عن قيس بن سعد, عن مجاهد قال: « الثُّمُر » ، هو المال و « الثمر » ، ثَمَر النخل.

وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب, قراءة من قرأ: ( انْظُرُوا إلَى ثُمُرِهِ ) بضم « الثاء » و « الميم » , لأن الله جل ثناؤه وصفَ أصنافًا من المال كما قال يحيى بن وثاب، وكذلك حبّ الزرع المتراكب, وقنوان النخل الدانية, والجنات من الأعناب والزيتون والرمان, فكان ذلك أنواعًا من الثمر, فجمعت « الثمرة » « ثمرًا » ، ثم جمع « الثمر » « ثمارًا » , ثم جمع ذلك فقيل: ( انْظُرُوا إلَى ثُمُرِهِ ) , فكان ذلك جمع « الثمار » و « الثمار » جمع « الثمر » و « إثماره » ، عقدُ الثمر.

وأما قوله: « وَينْعه » ، فإنه نُضجه وبلوغُه حين يبلغ.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول في « يَنْعه » إذا فتحت ياؤه، هو جمع « يانع » , كما « التَّجْر » جمع « تاجر » , و « الصحب » جمع « صاحب » .

وكان بعض أهل الكوفة ينكر ذلك، ويرى أنه مصدر من قولهم: « ينع الثمر فهو يَيْنع يَنْعًا » ، ويحكى في مصدره عن العرب لغات ثلاثًا: « يَنْع » , و « يُنْع » , و « يَنَع » , وكذلك في « النَّضْج » « النُّضج » و « النَّضَج » .

وأما في قراءة من قرأ ذلك: ( وَيَانِعِهِ ) ، فإنه يعني به: وناضجه، وبالغه.

وقد يجوز في مصدره « يُنُوعًا » , ومسموع من العرب: « أينعت الثمرة تُونِع إيناعًا » ، ومن لغة الذين قالوا: « ينع » , قول الشاعر:

فِـــي قِبَــابٍ عِنْــدَ دَسْــكَرَةٍ حَوْلَهَـــا الزَّيْتُــونُ قَــدْ يَنَعَــا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وينعه » ، يعني: إذا نضج.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه » ، قال: « ينعه » ، نضجه.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه » ، أي نضجه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وينعه » ، قال: نضجه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وينعه » ، يقول: ونضجه.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وينعه » ، قال: يعني نضجه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « وينعه » ، قال: نضجه.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 99 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره إن في إنـزال الله من السماء الماءَ الذي أخرج به نباتَ كل شيء, والخضِرَ الذي أخرج منه الحبَّ المتراكب, وسائر ما عدَّد في هذه الآية من صنوف خلقه « لآيات » ، يقول: في ذلكم، أيها الناس، إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره, وعند ينعه وانتهائه, فرأيتم اختلاف أحواله وتصرفه في زيادته ونموّه, علمتم أن له مدبِّرًا ليس كمثله شيء, ولا تصلح العبادة إلا له دون الآلهة والأنداد, وكان فيه حجج وبرهان وبيان « لقوم يؤمنون » ، يقول: لقوم يصدقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء.

وخصّ بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون, لأنهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها, دون من قد طَبعَ الله على قلبه، فلا يعرف حقًّا من باطل، ولا يتبين هدًى من ضلالة.

 

القول في تأويل قوله : وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الآلهةَ والأندادَ لله شركاء، الجن، كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [ سورة الصافات: 158 ] .

وفي الجن وجهان من النصب.

أحدهما: أن يكون تفسيرًا للشركاء. .

والآخر: أن يكون معنى الكلام: وجعلوا لله الجن شركاء، وهو خالقهم .

واختلفوا في قراءة قوله: « وخلقهم » .

فقرأته قراء الأمصار: ( وَخَلَقَهُمْ ) ، على معنى أن الله خلقهم، منفردًا بخلقه إياهم . .

وذكر عن يحيى بن يعمر ما:-

حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون, عن واصل مولى أبي عيينة, عن يحيى بن عقيل, عن يحيى بن يعمر: أنه قال: « شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ » .

بجزم « اللام » بمعنى أنهم قالوا: إنّ الجنّ شركاء لله في خلقه إيّانا .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: ( وَخَلَقَهُمْ ) ، لإجماع الحجة من القرأة عليها .

وأما قوله: ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) ، فإنه يعني بقوله: ( خرقوا ) اختلقوا.

يقال: « اختلق فلان على فلان كذبًا » و « اخترقه » ، إذا افتعله وافتراه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وجعلوا لله شركاء الجن والله خلقهم « وخرقوا له بنين وبنات » ، يعني أنهم تخرَّصوا .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: جعلوا له بنين وبنات بغير علم .

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: كذبوا .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وجعلوا لله شركاء الجن » كذبوا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ، عما يكذبون . أما العرب فجعلوا له البنات، ولهم ما يشتهون من الغلمان وأما اليهود فجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرُون .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » قال: خرصوا له بنين وبنات .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، يقول: قطعوا له بنين وبنات. قالت العرب: الملائكة بنات الله وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزير ابنا الله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: « خرقوا » ، كذبوا، لم يكن لله بنون ولا بنات قالت النصارى: المسيح ابن الله وقال المشركون: الملائكة بنات الله فكلٌّ خرقوا الكذب، « وخرقوا » ، اخترقوا .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « وجعلوا لله شركاء الجن » ، قال: قول: الزنادقة « وخرقوا له » ، قال ابن جريج، قال مجاهد: « خرقوا » ، كذبوا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جويبر, عن الضحاك: « وخرقوا له بنين وبنات » ، قال: وصفوا له .

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث, عن أبي عمرو: « وخرقوا له بنين وبنات » ، قال: تفسيرها: وكذبوا .

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وجعلوا لله الجنَّ شركاءَ في عبادتهم إياه, وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير « وخرقوا له بنين وبنات » ، يقول: وتخرَّصوا لله كذبًا, فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون, ولكن جهلا بالله وبعظمته، وأنه لا ينبعي لمن كان إلهًا أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة, ولا أن يشركه في خلقه شريك .

 

القول في تأويل قوله : سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( 100 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: تنـزه الله، وعلا فارتفع عن الذي يصفه به هؤلاء الجهلة من خلقه، في ادّعائهم له شركاء من الجن، واختراقهم له بنين وبنات، وذلك لا ينبغي أن يكون من صفته، لأن ذلك من صفة خلقه الذين يكون منهم الجماع الذي يحدث عنه الأولاد, والذين تضطرّهم لضعفهم الشهواتُ إلى اتخاذ الصاحبة لقضاء اللذات, وليس الله تعالى ذكره بالعاجز فيضطره شيء إلى شيء, و لا بالضعيف المحتاج فتدعوه حاجته إلى النساء إلى اتخاذ صاحبة لقضاء لذة .

وقوله: « تعالى » ، « تفاعل » من « العلوّ » ، والارتفاع .

وروي عن قتادة في تأويل قوله: « عما يصفون » ، أنه: يكذبون .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « سبحانه وتعالى عما يصفون » ، عما يكذبون .

وأحسب أن قتادة عنى بتأويله ذلك كذلك, أنهم يكذبون في وصفهم الله بما كانوا يصفونه به، من ادعائهم له بنين وبنات لا أنه وجه تأويل « الوصف » إلى الكذب .

 

القول في تأويل قوله : بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل هؤلاء الكفرة به له الجنَّ شركاءَ، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم « بديع السماوات والأرض » ، يعني: مبتدعها ومحدثها وموجدها بعد أن لم تكن ، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « بديع السماوات والأرض » ، قال: هو الذي ابتدع خلقهما جل جلاله، فخلقهما ولم يكونا شيئًا قبله .

« أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة » ، والولد إنما يكون من الذكر والأنثى, ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة، فيكون له ولد. وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء . يقول: فإذا كان لا شيء إلا اللهُ خلقه, فأنّى يكون لله ولد، ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد ؟

 

القول في تأويل قوله : وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 101 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله خلق كل شيء، ولا خالق سواه. وكلُّ ما تدَّعون أيها العادلون بالله الأوثان من دونه، خلقُه وعبيده, مِلكًا، كان الذي تدعونه ربًّا وتزعمون أنه له ولد، أو جنيًّا أو إنسيًّا « وهو بكل شيء عليم » ، يقول: والله الذي خلق كل شيء, لا يخفى عليه ما خلق ولا شيء منه, ولا يعزب عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء, عالم بعددكم وأعمالكم، وأعمال من دعوتموه ربًّا أو لله ولدًا, وهو محصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي كلا بعمله .

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 102 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذي خلق كل شيء وهو بكل شيء عليم, هو الله ربكم، أيها العادلون بالله الآلهة والأوثان, والجاعلون له الجن شركاء, وآلهتكم التي لا تملك نفعًا ولا ضرًا، ولا تفعل خيرًا ولا شرًا « لا إله إلا هو » .

وهذا تكذيبٌ من الله جل ثناؤه للذين زعموا أن الجن شركاء الله. يقول جل ثناؤه لهم: أيها الجاهلون، إنه لا شيء له الألوهية والعبادة، إلا الذي خلق كل شيء, وهو بكل شيء عليم, فإنه لا ينبغي أن تكون عبادتكم وعبادةُ جميع من في السماوات والأرض إلا له خالصة بغير شريك تشركونه فيها, فإنه خالق كل شيء وبارئه وصانعه, وحق على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة « فاعبدوه » ، يقول: فذلُّوا له بالطاعة والعبادة والخدمة, واخضعوا له بذلك .

« وهو على كل شيء وكيل » ، يقول: والله على كل ما خلق من شيء رقيبٌ وحفيظ، يقوم بأرزاق جميعه وأقواته وسياسته وتدبيره وتصريفه بقدرته .

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( 103 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » .

فقال بعضهم: معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » ، يقول: لا يحيط بصر أحدٍ بالملك .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » ، وهو أعظم من أن تدركه الأبصار .

حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عرفجة, عن عطية العوفي في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ سورة القيامة: 22- 23 ] ، قال: هم ينظرون إلى الله, لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم, فذلك قوله: « لا تدركه الأبصار » ، الآية .

قال أبو جعفر: واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله قال: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ ، [ يونس: 90 ] قالوا: فوصف الله تعالى ذكره الغرق بأنه أدرك فرعون, ولا شك أن الغرق غير موصوف بأنه رآه, ولا هو مما يجوز وصفه بأنه يرى شيئًا . قالوا: فمعنى قوله: « لا تدركه الأبصار » بمعنى: لا تراه، بعيد. لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه, كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم لموسى حين قرُب منهم أصحاب فرعون: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، [ سورة الشعراء: 61 ] ، لأن الله قد كان وعد نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أنهم لا يُدْرَكون، لقوله: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ، [ 61، طه: 77 ] .

قالوا: فإن كان الشيء قد يرى الشيء ولا يدركه، ويدركه ولا يراه, فكان معلومًا بذلك أن قوله: « لا تدركه الأبصار » ، من معنى: لا تراه الأبصار، بمعزل وأن معنى ذلك: لا تحيط به الأبصار، لأن الإحاطة به غير جائزة .

قالوا: فالمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم بأبصارهم، ولا تدركه أبصارهم, بمعنى: أنها لا تحيط به، إذ كان غير جائز أن يوصف الله بأن شيئًا يحيط به .

قالوا: ونظير جواز وصفه بأنه يُرَى ولا يُدْرَك، جوازُ وصفه بأنه يعلم ولا يحاط بعلمه, وكما قال جل ثناؤه: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ [ سورة البقرة: 255 ] . قالوا: فنفى جل ثناؤه عن خلقه أن يكونوا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . قالوا: ومعنى « العلم » في هذا الموضع، المعلوم. قالوا: فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلا بما شاء، نَفْيٌ عن أن يعلموه . قالوا: فإذا لم يكن في نفي الإحاطة بالشيء علمًا نَفْيٌ للعلم به, كان كذلك، لم يكن في نفي إدراك الله عن البصر، نفيُ رؤيته له . قالوا: وكما جاز أن يعلم الخلق أشياءَ ولا يحيطون بها علمًا, كذلك جائزٌ أن يروا ربَّهم بأبصارهم ولا يدركوه بأبصارهم, إذ كان معنى « الرؤية » غير معنى « الإدراك » , ومعنى « الإدراك » غير معنى « الرؤية » , وأن معنى « الإدراك » ، إنما هو الإحاطة, كما قال ابن عباس في الخبر الذي ذكرناه قبل .

قالوا: فإن قال لنا قائل: وما أنكرتم أن يكون معنى قوله: « لا تدركه الأبصار » ، لا تراه الأبصار؟

قلنا له: أنكرنا ذلك, لأن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أن وجوهًا في القيامة إليه ناظرة, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أمته أنهم سيرون ربهم يوم القيامة، كما يُرَى القمر ليلة البدر، وكما ترونَ الشمس ليسَ دونها سحاب . قالوا: فإذ كان الله قد أخبر في كتابه بما أخبر، وحققتْ أخبارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا عنه من قيله صلى الله عليه وسلم: إن تأويل قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ سورة القيامة: 22- 23 ] ، أنه نظر أبصار العيون لله جل جلاله, وكان كتاب الله يصدق بعضه بعضًا, وكان مع ذلك غير جائز أن يكون أحدُ هذين الخبرين ناسخًا للآخر, إذ كان غير جائز في الأخبار لما قد بينا في كتابنا: « كتاب لطيف البيان، عن أصول الأحكام » ، وغيره علم، أن معنى قوله: « لا تدركه الأبصار » ، غير معنى قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ، فإن أهل الجنة ينظرون بأبصارهم يوم القيامة إلى الله، ولا يدركونه بها, تصديقًا لله في كلا الخبرين، وتسليمًا لما جاء به تنـزيله على ما جاء به في السورتين .

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تراه الأبصار، وهو يرى الأبصار .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال, حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط , عن السدي: « لا تدركه الأبصار » ، لا يراه شيء, وهو يرى الخلائق .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن عامر, عن مسروق, عن عائشة قالت: من حدَّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه فقد كذب! « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » ، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، [ سورة الشورى: 51 ] ، ولكن قد رأى جبريل في صورته مرتين .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن عامر, عن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله, لقد قَفَّ شعري مما قلت ! ثم قرأت: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى وابن علية, عن داود, عن الشعبي, عن مسروق, عن عائشة بنحوه .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن أحدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله! قال الله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » .

فقال قائلو هذه المقالة: معنى « الإدراك » في هذا الموضع، الرؤية وأنكروا أن يكون الله يُرَى بالأبصار في الدنيا والآخرة وتأوّلوا قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ، بمعنى انتظارها رحمة الله وثوابَه .

قال أبو جعفر: وتأول بعضهم في الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح القول برؤية أهل الجنة ربَّهم يوم القيامة تأويلات، وأنكر بعضهم مجيئها, ودافعوا أن يكون ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم, وردُّوا القول فيه إلى عقولهم, فزعموا أن عقولهم تُحِيل جواز الرؤية على الله عز وجل بالأبصار، وأتوا في ذلك بضرُوب من التمويهات, وأكثروا القول فيه من جهة الاستخراجات .

وكان من أجلّ ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل، أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئًا إلا ما باينها دون ما لاصقها, فإنها لا ترى ما لاصقها . قالوا: فما كان للأبصار مباينًا مما عاينته, فإن بينه وبينها فضاءً وفرجةً . قالوا: فإن كانت الأبصار ترى ربها يوم القيامة على نحو ما ترى الأشخاص اليوم, فقد وجب أن يكون الصانع محدودًا . قالوا: ومن وصفه بذلك, فقد وصفه بصفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان .

قالوا: وأخرى, أن من شأن الأبصار أن تدرك الألوان، كما من شأن الأسماع أن تدرك الأصوات, ومن شأن المتنسِّم أن يدرك الأعراف . قالوا: فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزًا أن يُقْضَى للسمع بغير إدراك الأصوات، وللمتنسِّم إلا بإدراك الأعراف, فسد أن يكون جائزًا القضاءُ للبصر إلا بإدراك الألوان . قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفًا بأنه ذو لون, صح أنه غير جائز أن يكون موصوفًا بأنه مرئيٌّ .

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا, وأما في الآخرة فإنها تدركه . وقال أهل هذه المقالة: « الإدراك » ، في هذا الموضع، الرؤية .

واعتلّ أهل هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: « الإدراك » ، وإن كان قد يكون في بعض الأحوال بغير معنى الرؤية, فإن الرؤية من أحد معانيه. وذلك أنه غير جائز أن يلحق بصرُه شيئًا فيراه، وهو لما أبصره وعاينه غير مدرك، وإن لم يحط بأجزائه كلها رؤية . قالوا: فرؤية ما عاينه الرائي إدراك له، دون ما لم يره . قالوا: وقد أخبر الله أن وجوهًا يوم القيامة إليه ناظرة. قالوا، فمحالٌ أن تكون إليه ناظرة وهي له غير مدركة رؤيةً . قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون في أخبار الله تضادٌّ وتعارض, وجب وصحّ أن قوله: « لا تدركه الأبصار » ، على الخصوص لا على العموم, وأن معناه: لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة, إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ .

وقال آخرون من أهل هذه المقالة: الآية على الخصوص, إلا أنه جائز أن يكون معنى الآية: لا تدركه أبصارُ الظالمين في الدنيا والآخرة, وتدركه أبصار المؤمنين وأولياء الله . قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار بالنهاية والإحاطة، وأما بالرؤية فَبَلَى . قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار في الدنيا وتدركه في الآخرة وجائز أن يكون معناها: لا تدركه أبصارُ من يراه بالمعنى الذي يدرك به القديم أبصارَ خلقه فيكون الذي نفى عن خلقه من إدراك أبصارهم إياه, هو الذي أثبته لنفسه, إذ كانت أبصارهم ضعيفة لا تنفذ إلا فيما قوَّاها جل ثناؤه على النفوذ فيه, وكانت كلها متجلية لبصره لا يخفى عليه منها شيء . قالوا: ولا شك في خصوص قوله: « لا تدركه الأبصار » ، وأن أولياء الله سيرونه يوم القيامة بأبصارهم, غير أنا لا ندري أيَّ معاني الخصوص الأربعة أريد بالآية . واعتلُّوا لتصحيح القول بأن الله يرى في الآخرة، بنحو علل الذين ذكرنا قبل .

وقال آخرون: الآية على العموم, ولن يدرك الله بصرُ أحد في الدنيا والآخرة; ولكن الله يُحدث لأوليائه يوم القيامة حاسّة سادسة سوى حواسِّهم الخمس، فيرونه بها .

واعتلوا لقولهم هذا بأنّ الله تعالى ذكره نفى عن الأبصار أن تدركه، من غير أن يدلّ فيها أو بآية غيرها على خصوصها . قالوا: وكذلك أخبرَ في آية أخرى أن وجوهًا إليه يوم القيامة ناظرة . قالوا: فأخبار الله لا تتنافى ولا تتعارض, وكلا الخبرين صحيح معناه على ما جاء به التنـزيل . واعتلُّوا أيضًا من جهة العقل بأن قالوا: إن كان جائزًا أن نراه في الآخرة بأبصارنا هذه و إن زيد في قواها، وجب أن نراه في الدنيا وإن ضعفت, لأن كل حاسة خلقت لإدراك معنًى من المعاني، فهي وإن ضعفت كل الضعف، فقد تدرك مع ضعفها ما خلقت لإدراكه وإن ضعف إدراكها إياه، ما لم تُعْدم . قالوا: فلو كان في البصر أن يُدرك صانعه في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات ويراه, وجب أن يكون يدركه في الدنيا ويراه فيها و إن ضعف إدراكه إياه . قالوا: فلما كان ذلك غير موجود من أبصارنا في الدنيا, كان غير جائز أن تكون في الآخرة إلا بهيئتها في الدنيا في أنها لا تدرك إلا ما كان من شأنها إدراكه في الدنيا . قالوا: فلما كان ذلك كذلك, وكان الله تعالى ذكره قد أخبر أنّ وجوهًا في الآخرة تراه, علم أنها تراه بغير حاسة البصر, إذ كان غير جائز أن يكون خبرُه إلا حقًّا .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر » « وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب » ، فالمؤمنون يرونه, والكافرون عنه يومئذ محجوبون، كما قال جل ثناؤه: كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [ سورة المطففين: 15 ] .

فأما ما اعتلَّ به منكرُو رؤية الله يوم القيامة بالأبصار, لما كانت لا ترى إلا ما باينها, وكان بينها وبينه فضاءٌ وفرجة, وكان ذلك عندهم غير جائز أن تكون رؤية الله بالأبصار كذلك، لأن في ذلك إثبات حدٍّ له ونهايةٍ, فبطل عندهم لذلك جواز الرؤية عليه فإنه يقال لهم: هل علمتم موصوفًا بالتدبير سوى صانعكم، إلا مماسًّا لكم أو مباينًا؟

فإن زعموا أنهم يعلمون ذلك، كُلِّفوا تبيينه, ولا سبيل إلى ذلك .

وإن قالوا: لا نعلم ذلك.

قيل لهم: أو ليس قد علمتموه لا مماسًّا لكم ولا مباينًا, وهو موصوف بالتدبير والفعل, ولم يجب عندكم إذْ كنتم لم تعلموا موصوفًا بالتدبير والفعل غيره إلا مماسًّا لكم أو مباينًا، أن يكون مستحيلا العلم به، وهو موصوف بالتدبير والفعل, لا مماس ولا مباين؟

فإن قالوا: ذلك كذلك.

قيل لهم: فما تنكرون أن تكون الأبصار كذلك لا ترى إلا ما باينها وكانت بينه وبينها فرجة، قد تراه وهو غير مباين لها ولا فرجة بينها وبينه ولا فضاء, كما لا تعلم القلوب موصوفًا بالتدبير إلا مماسًّا لها أو مباينًا، وقد علمتْه عندكم لا كذلك؟ وهل بينكم وبين من أنكر أن يكون موصوفًا بالتدبير والفعل معلومًا، لا مماسًّا للعالم به أو مباينًا وأجاز أن يكون موصوفًا برؤية الأبصار، لا مماسًّا لها ولا مباينًا، فرق؟

ثم يسألون الفرقَ بين ذلك, فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله .

وكذلك يسألون فيما اعتلوا به في ذلك: أن من شأن الأبصار إدراك الألوان, كما أن من شأن الأسماع إدراك الأصوات, ومن شأن المتنسِّم درَك الأعراف, فمن الوجه الذي فسد أن يُقضى للسمع بغير درك الأصوات، فسد أن يُقضى للأبصار لغير درك الألوان .

فيقال لهم: ألستم لم تعلموا فيما شاهدتم وعاينتم، موصوفًا بالتدبير والفعل إلا ذا لونٍ, وقد علمتموه موصوفًا بالتدبير لا ذا لونٍ؟

فإن قالوا: « نعم » لا يجدون من الإقرار بذلك بدًّا، إلا أن يكذبوا فيزعموا أنهم قد رأوا وعاينوا موصوفًا بالتدبير والفعل غير ذي لون, فيكلفون بيان ذلك, ولا سبيل إليه.

فيقال لهم: فإذ كان ذلك كذلك، فما أنكرتم أن تكون الأبصار فيما شاهدتم وعاينتم لم تجدوها تدرك إلا الألوان, كما لم تجدوا أنفسكم تعلم موصوفًا بالتدبير إلا ذا لون، وقد وجدتموها علمته موصوفًا بالتدبير غير ذي لون. ثم يسألون الفرق بين ذلك, فلن يقولوا في أحدهما شيئًا إلا ألزموا في الآخر مثله .

ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس، كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها, إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصدَ الكشف عن تمويهاتهم, بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان . ولكنا ذكرنا القدرَ الذي ذكرنا, ليعلم الناظرُ في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبَّس عليهم الشيطان، مما يسهل على أهل الحق البيانُ عن فساده, وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنـزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة, فهم في الظلمات يخبطون, وفي العمياء يتردّدون, نعوذ بالله من الحيرة والضلالة.

وأما قوله: « وهو اللطيف الخبير » ، فإنه يقول: والله تعالى ذكره المتيسر له من إدراك الأبصار, والمتأتِّي له من الإحاطة بها رؤيةُ ما يعسر على الأبصار من إدراكها إياه وإحاطتها به ويتعذر عليها « الخبير » ، يقول: العليم بخلقه وأبصارهم، والسبب الذي له تعذر عليها إدراكه، فلطف بقدرته فهيأ أبصار خلقه هيئة لا تدركه, وخبرَ بعلمه كيف تدبيرها وشؤونها وما هو أصلح بخلقه، كالذي:

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية في قوله: « اللطيف الخبير » ، قال: « اللطيف » باستخراجها « الخبير » ، بمكانها .

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( 104 )

قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الذين نبَّههم بهذه الآيات من قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى إلى قوله: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ على حججه عليهم, وعلى سائر خلقه معهم, العادلين به الأوثان والأنداد, والمكذبين بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم من عند الله قل لهم يا محمد: « قد جاءكم » ، أيها العادلون بالله، والمكذبون رسوله « بصائر من ربكم » ، أي: ما تبصرون به الهدى من الضلال، والإيمان من الكفر .

وهي جمع « بصيرة » , ومنه قول الشاعر:

حَــمَلُوا بَصَـائِرَهُمْ عَـلَى أَكْتَـافِهِمْ وَبَصِــيرَتِي يَعْـدُو بِهَـا عَتَـدٌ وَأَى

يعني بالبصيرة: الحجة البينة الظاهرة ، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « قد جاءكم بصائر من ربكم » قال: « البصائر » الهدى، بصائر في قلوبهم لدينهم, وليست ببصائر الرؤوس . وقرأ: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ سورة الحج: 46 ] وقال: إنما الدين بصره وسمعه في هذا القلب .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « قد جاءكم بصائر من ربكم » ، أي بينة .

وقوله: « فمن أبصر فلنفسه » يقول: فمن تبين حجج الله وعرَفها وأقرَّ بها، وآمن بما دلّته عليه من توحيد الله وتصديق رسوله وما جاء به, فإنما أصاب حظ نفسه، ولنفسه عمل, وإياها بَغَى الخير « ومن عمي فعليها » ، يقول: ومن لم يستدلّ بها، ولم يصدق بما دلَّته عليه من الإيمان بالله ورسوله وتنـزيله, ولكنه عمي عن دلالتها التي تدل عليها, يقول: فنفسَه ضر، وإليها أساء لا إلى غيرها .

وأما قوله: « وما أنا عليكم بحفيظ » ، يقول: وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم, وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم, والله الحفيظ عليكم، الذي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 105 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما صرفت لكم، أيها الناس، الآيات والحجج في هذه السورة، وبينتها, فعرفتكموها، في توحيدي وتصديق رسولي وكتابي ووقَّفتكم عليها, فكذلك أبيِّن لكم آياتي وحججي في كل ما جهلتموه فلم تعرفوه من أمري ونهيي ، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وكذلك نصرف الآيات » ، لهؤلاء العادلين بربهم, كما صرفتها في هذه السورة, ولئلا يقولوا: درسْتَ .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قَرَأة أهل المدينة والكوفة: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، يعني: قرأت، أنت، يا محمد، بغير « ألف » .

وقرأ ذلك جماعة من المتقدمين، منهم ابن عباس، على اختلاف عنه فيه, وغيرُه وجماعة من التابعين, وهو قراءة بعض قَرَأة أهل البصرة: « وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ » ، بألف, بمعنى: قارأت وتعلمت من أهل الكتاب .

وروى عن قتادة: أنه كان يقرؤه: « دُرِسَتْ » ، بمعنى: قرئت وتليت .

وعن الحسن أنه كان يقرؤه: « دَرَسَتْ » ، بمعنى: انمحت .

قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأه: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، بتأويل: قرأتَ وتعلمت; لأن المشركين كذلك كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله عن قيلهم ذلك بقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [ سورة النحل: 103 ] . فهذا خبرٌ من الله ينبئ عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما يتعلم محمد ما يأتيكم به من غيره . فإذ كان ذلك كذلك, فقراءة: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، يا محمد, بمعنى: تعلمت من أهل الكتاب, أشبهُ بالحق، وأولى بالصواب من قراءة من قرأه: « دارسْتَ » ، بمعنى: قارأتهم وخاصمتهم, وغير ذلك من القراءات .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، على قدر اختلاف القرأة في قراءته .

* ذكر من قرأ ذلك: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، من المتقدمين, وتأويله بمعنى: تعلمت وقرأت .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح قال، حدثنا علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وليقولوا درست ) ، قالوا: قرأت وتعلمت. تقول ذلك قريش .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد: ( وليقولوا درست ) قال: قرأت وتعلمت .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل وافقه, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس: ( وليقولوا درست ) ، قال: قرأت وتعلمت .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وليقولوا درست ) ، يقول: قرأت الكتب .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنى عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( درست ) ، يقول: تعلمت وقرأت .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن التميمي, قال: قلت لابن عباس: أرأيت قوله: ( درست ) ؟ قال: قرأت وتعلمت .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس, مثله .

* ذكر من قرأ ذلك ( دَارَسْتَ ) ، وتأوله بمعنى: جادلت، من المتقدمين .

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث, عن حميد, عن مجاهد, عن ابن عباس: « دارست » ، يقول: قارأت .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أيوب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أنه كان يقرؤها: « وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ » ، أحسبه قال: قارأت أهل الكتاب .

حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت وتعلمت .

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق قال، سمعت التميمي يقول: سألت ابن عباس عن قوله: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت وتعلَّمت .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية, عن أبي المعلى, عن سعيد بن جبير قال، كان ابن عباس يقرؤها: « دَارَسْتَ » .

حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو المعلى قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: كان ابن عباس يقرأ: « دَارَسْتَ » ، بالألف, بجزم السين، ونصب التاء .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار قال، أخبرني عمرو بن كيسان: أن ابن عباس كان يقرأ: « دَارَسْتَ » ، تلوت, خاصمت, جادلت .

حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن كيسان, قال ابن عباس في: « دارست » ، قال: تلوت, خاصمت, جادلت .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في هذه الآية: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير أنه قرأ: « دَارَسْتَ » ، بالألف أيضًا، منتصبة التاء, وقال: قارأت .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير أنه قرأ: « دَارَسْتَ » ، أي: ناسخت .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « دارست » ، قال: فاقهت، قرأت على يهود، وقرءوا عليك .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت, قرأت على يهود، وقرءوا عليك .

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « دارست » ، يعني، أهلَ الكتاب .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « دارست » ، قال: قرأت على يهود, وقرءوا عليك .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « وليقولوا دارست » ، قال: قالوا دارستَ أهل الكتاب, وقرأت الكتب وتعلَّمتها .

* ذكر من قرأ ذلك: « دُرِسَتْ » بمعنى: تُليت، وقُرِئت, على وجه ما لم يسمَّ فاعله.

حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا الحسين المعلم وسعيد, عن قتادة: « وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دُرِسَتْ » ، أي: قرئت وتعلمت .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال قتادة: « دُرِست » ، قرئت وفي حرف ابن مسعود: « دَرَسَ » .

ذكر من قال ذلك: « دَرَسَتْ » بمعنى: انمحت وتقادمت، أي هذا الذي تتلوه علينا قد مرَّ بنا قديمًا، وتطاولت مدته.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقرأ: « وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ » ، أي: انمحت .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال: في قراءة ابن مسعود: « دَرَسَتْ » ، بغير ألف, بنصب السين، ووقف التاء .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار قال، سمعت ابن الزبير يقول: إن صبيانًا ههنا يقرؤون: « دَارَسْتَ » وإنما هي « دَرَسَتْ » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمرقال: قال الحسن: « وليقولوا دَرَسَتْ » : يقول: تقادمت وانمحت .

وقرأ ذلك آخرون: « دَرَسَ » , من « درس الشيء » ، تلاه .

حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي قال، حدثنا أبو عبيدة قال، حدثنا حجاج, عن هارون قال: هي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود: « وَلِيَقُولُوا دَرَسَ » ، قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم، قرَأ .

وإنما جاز أن يقال مرة: « دَرَسْتَ » , ومرة « دَرَسَ » , فيخاطب مرة، ويخبر مرة, من أجل القول .

قال أبو جعفر: وقد بينا أولى هذه القراءات في ذلك الصواب عندنا, والدلالة على صحة ما اخترنا منها .

وأما تأويل قوله: « ولنبينه لقوم يعلمون » ، يقول تعالى ذكره: كما صرفنا الآيات والعبر والحجج في هذه السورة لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأنداد, كذلك نصرف لهم الآيات في غيرها, كيلا يقولوا لرسولنا الذي أرسلناه إليهم: « إنما تعلمت ما تأتينا به تتلوه علينا من أهل الكتاب » , فينـزجروا عن تكذيبهم إياه، وتقوُّلهم عليه الإفك والزور, ولنبين بتصريفنا الآيات الحقَّ، لقوم يعلمون الحق إذا تبيَّن لهم فيتبعوه ويقبلوه, وليسوا كمن إذا بُيِّن لهم عَمُوا عنه فلم يعقلوه، وازدادوا من الفهم به بعدًا .

 

القول في تأويل قوله تعالى : اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( 106 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اتبع، يا محمد، ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك, فاعمل به, وانـزجر عما زجرك عنه فيه, ودع ما يدعوك إليه مشركو قومك من عبادة الأوثان والأصنام, فإنه لا إله إلا هو. يقول: لا معبود يستحق عليك إخلاص العبادة له إلا الله الذي هو فالق الحب والنوى، وفالق الإصباح، وجاعلُ الليل سكنًا، والشمسَ والقمر حسبانًا ( وأعرض عن المشركين ) , يقول: ودع عنك جدالهم وخصومتهم . ثم نسخ ذلك جل ثناؤه بقوله في براءة: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، الآية [ سورة التوبة: 5 ] . كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أما قوله: ( وأعرض عن المشركين ) ونحوه، مما أمر الله المؤمنين بالعفو عن المشركين, فإنه نسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( 107 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أعرض عن هؤلاء المشركين بالله, ودع عنك جدالهم وخصومتهم ومسابَّتهم ( ولو شاء الله ما أشركوا ) ، يقول: لو أراد ربُّك هدايتهم واستنقاذهم من ضلالتهم، للطف لهم بتوفيقه إياهم فلم يشركوا به شيئًا، ولآمنوا بك فاتبعوك وصدَّقوا ما جئتهم به من الحق من عند ربك ( وما جعلناك عليهم حفيظًا ) ، يقولُ جل ثناؤه: وإنما بعثتك إليهم رسولا مبلِّغًا, ولم نبعثك حافظًا عليهم ما هم عاملوه، تحصي ذلك عليهم, فإن ذلك إلينا دونك ( وما أنت عليهم بوكيل ) ، يقول: ولست عليهم بقيِّم تقوم بأرزاقهم وأقواتهم ولا بحفظهم، فما لم يُجْعل إليك حفظه من أمرهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولو شاء الله ما أشركوا ) ، يقول سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: ولا تسبُّوا الذين يدعو المشركون من دون الله من الآلهة والأنداد, فيسبَّ المشركون اللهَ جهلا منهم بربهم، واعتداءً بغير علم ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) ، قال: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبِّ آلهتنا، أو لنهجوَنَّ ربك ! فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوًا بغير علم .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) ، كان المسلمون يسبون أوثان الكفار, فيردّون ذلك عليهم, فنهاهم الله أن يستسِبُّوا لربهم, فإنهم قومٌ جهلة لا علم لهم بالله .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) ، قال: لما حضر أبا طالب الموتُ, قالت قريش: انطلقوا بنا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه, فإنا نستحي أن نقتله بعد موته, فتقول العرب: « كان يمنعه فلما مات قتلوه » ! فانطلق أبو سفيان, وأبو جهل, والنضر بن الحارث, وأمية وأبيّ ابنا خلف, وعقبة بن أبي معيط, وعمرو بن العاص, والأسود بن البختري, وبعثوا رجلا منهم يقال له: « المطلب » , قالوا: استأذن على أبي طالب ! فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخولَ عليك ! فأذن لهم, فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب, أنت كبيرنا وسيدنا, وإنّ محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا, فنحبّ أن تدعوه فتنهاهُ عن ذكر آلهتنا, ولندَعْه وإلهه ! فدعاه, فجاء نبي الله صلى الله عليه وسلم, فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك ! قال له أبو طالب: قد أنصفك قومك, فاقبل منهم ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب, ودانت لكم بها العجم، وأدَّت لكم الخراج؟ » قال أبو جهل: نعم وأبيك، لنعطينكها وعشرَ أمثالها, فما هي؟ قال: قولوا: « لا إله إلا الله » ! فأبوا واشمأزُّوا . قال أبو طالب: يا ابن أخي، قل غيرها, فإن قومك قد فزعوا منها ! قال: يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوني بالشمس فيضعوها في يديّ, ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يديّ ما قلت غيرها! إرادةَ أن يُؤْيسهم ، فغضبوا وقالوا: لتكفّنَّ عن شتمك آلهتنا, أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك . فذلك قوله ( فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله عدوًا بغير علم, فأنـزل الله: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) قال: إذا سببت إلهه سبَّ إلهك, فلا تسبوا آلهتهم .

قال أبو جعفر: وأجمعت الحجة من قرأة الأمصار على قراءة ذلك: ( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ، بفتح العين، وتسكين الدال, وتخفيف الواو من قوله: ( عدوًا ) ، على أنه مصدر من قول القائل: « عدا فلان على فلان » ، إذا ظلمه واعتدى عليه, « يعدو عَدْوًا وعُدُوًّا وعُدْوانًا » . و « الاعتداء » ، إنما هو: « افتعال » ، من ذلك .

روى عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: « عُدُوًّا » مشددة الواو .

حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون, عن عثمان بن سعد: ( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عُدُوًّا ) ، مضمومة العين، مثقّلة .

وقد ذكر عن بعض البصريين أنه قرأ ذلك: « فَيَسُبُّوا الَله عَدُوًّا » ، يوجِّه تأويله إلى أنهم جماعة, كما قال جل ثناؤه: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، [ سورة الشعراء: 77 ] , وكما قال: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ، [ سورة الممتحنة: 1 ] ويجعل نصب « العدوّ » حينئذ على الحال من ذكر « المشركين » في قوله: ( فيسبوا ) ، فيكون تأويل الكلام: ولا تسبوا أيها المؤمنون الذين يدعو المشركون من دون الله, فيسب المشركون الله، أعداءَ الله، بغير علم . وإذا كان التأويل هكذا، كان « العدوّ » ، من صفة « المشركين » ونعتهم, كأنه قيل: فيسب المشركون أعداء الله، بغير علم ولكن « العدوّ » لما خرج مخرج النكرة وهو نعت للمعرفة، نصب على الحال .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك، قراءةُ من قرأ بفتح العين وتخفيف الواو، لإجماع الحجة من القرأة على قراءة ذلك كذلك, وغير جائز خلافُها فيما جاءت به مجمعة عليه .

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 108 )

يقول تعالى ذكره: كما زيّنا لهؤلاء العادلين بربهم الأوثَانَ والأصنام، عبادةَ الأوثان وطاعةَ الشيطان بخذلاننا إيّاهم عن طاعة الرحمن, كذلك زيَّنا لكل جماعةٍ اجتمعت على عملٍ من الأعمال من طاعة الله ومعصيته، عملَهم الذي هم عليه مجتمعون, ثم مرجعهم بعد ذلك ومصيرهم إلى ربهم « فينبئهم بما كانوا يعملون » . يقول: فيُوقفهم ويخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملون بها في الدنيا, ثم يجازيهم بها، إن كان خيرًا فخيرًا، وإن كان شرًّا فشرًّا, أو يعفو بفضله، ما لم يكن شركًا أو كفرًا .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ( 109 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحلف بالله هؤلاء العادلون بالله جَهْد حَلِفهم, وذلك أوكدُ ما قدروا عليه من الأيمان وأصعبُها وأشدُّها ( لئن جاءتهم آية ) ، يقول: قالوا: نقسم بالله لئن جاءتنا آية تصدِّق ما تقول، يا محمد، مثلُ الذي جاء مَنْ قبلنا من الأمم ( ليؤمنن بها ) ، يقول: قالوا: لنصدقن بمجيئها بك, وأنك لله رسولٌ مرسل, وأنّ ما جئتنا به حقُّ من عند الله .

وقيل: « ليؤمنن بها » , فأخرج الخبر عن « الآية » ، والمعنى لمجيء الآية .

يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قل إنما الآيات عند الله ) ، وهو القادر على إتيانكم بها دون كل أحد من خلقه ( وما يشعركم ) ، يقول: وما يدريكم ( أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) ؟

وذكر أن الذين سألوه الآية من قومه، هم الذين آيس الله نبيَّه من إيمانهم من مشركي قومه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) ، إلى قوله: يَجْهَلُونَ ، سألت قريش محمدًا أن يأتيهم بآية, واستحلفهم: ليؤمننّ بها .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح: ( لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) ، ثم ذكر مثله .

حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي قال: كلّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا, فقالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصًا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا, وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى, وتخبرنا أن ثَمُود كانت لهم ناقة، فأتنا بشيء من الآيات حتى نصدقك ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيَّ شيء تحبُّون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعَلُ لنا الصَّفَا ذهبًا. فقال لهم: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله، لئن فعلت لنتبعنّك أجمعين ! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو, فجاءه جبريل عليه السلام فقال له: لك ما شئت، إن شئتَ أصبح ذهبًا, ولئن أرسل آيةً فلم يصدقوا عند ذلك لنعذبنَّهم, وإن شئت فأنْدِحْهُم حتى يتوب تائبهم . فقال: بل يتوب تائبهم . فأنـزل الله تعالى: ( وأقسموا بالله ) إلى قوله: يَجْهَلُونَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله: ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) .

فقال بعضهم: خوطب بقوله: ( وما يشعركم ) المشركون المقسمون بالله، لئن جاءتهم آية ليؤمنن وانتهى الخبر عند قوله: ( وما يشعركم ) ، ثم استُؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافًا مبتدأ .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وما يشعركم ) ، قال: ما يدريكم . قال: ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وما يشعركم ) ، وما يدريكم « أنها إذا جاءت » ، قال: أوجب عليهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون .

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، سمعت عبد الله بن زيد يقول: إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ , ثم يستأنف فيقول: إنها إذا جاءت لا يؤمنون .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ » ، وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت. ثم استقبل يخبر عنهم فقال: إذا جاءت لا يؤمنون .

وعلى هذا التأويل قراءةُ من قرأ ذلك بكسر ألف: « إنَّها » ، على أن قوله: « إِنَّهَا إِذَا جَاءَتَ لا يُؤْمِنُون » ، خبر مبتدأ منقطعٌ عن الأول.

وممن قرأ ذلك كذلك، بعضُ قرأة المكيين والبصريين .

وقال آخرون منهم: بل ذلك خطابٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قالوا: وذلك أنّ الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآيةٍ, المؤمنون به . قالوا: وإنما كان سببَ مسألتهم إيّاه ذلك، أن المشركين حَلَفوا أنّ الآية إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا رسول الله ربك ذلك ! فسأل, فأنـزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك: « قُلْ » للمؤمنين بك يا محمد « إنما الآيات عند الله وما يشعركم » ، أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله، أنهم لا يؤمنون به ففتحوا « الألف » من « أنّ » .

ومن قرأ ذلك كذلك، عامة قرأة أهل المدينة والكوفة, وقالوا: أدخلت « لا » في قوله: ( لا يؤمنون ) صلة, كما أدخلت في قوله: مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ ، [ سورة الأعراف: 12 ] ، وفي قوله: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، [ سورة الأنبياء: 95 ] ، وإنما المعنى: وحرام عليهم أن يرجعوا وما منعك أن تسجُد .

وقد تأوَّل قوم قرؤوا، ذلك بفتح « الألف » من ( أنها ) بمعنى: لعلها. وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبيّ بن كعب .

وقد ذكر عن العرب سماعًا منها: « اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئًا » , بمعنى: لعلك تشتري.

وقد قيل: إن قول عدي بن زيد العِبَاديّ:

أَعَــاذِلَ, مَــا يُـدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِـي إلَـى سَاعَةٍ فِي الْيَومِ أَوْ فِي ضُحَى الغَدِ

بمعنى: لعل منيَّتي; وقد أنشدوا في بيت دريد بن الصمة:

ذَرِينِـي أُطَـوِّفْ فِـي البِـلادِ لأَنَّنِـي أَرَى مَــا تَـرَيْنَ أَوْ بَخِـيلا مُخَـلَّدَا

بمعنى: لعلني . والذي أنشدني أصحابُنا عن الفراء: « لعلَّني أَرَى ما ترَيْن » . وقد أنشد أيضًا بيتُ توبة بن الحميِّر:

لَعَلَّـك يَـا تَيْسًـا نـزا فـيِ مَرِيـرَةٍ مُعَــذِّبُ لَيْـلَى أَنْ تَـرَانِي أَزُورُهَـا

« لهَنَّك يا تيسًا » , بمعنى: « لأنّك » التي في معنى « لعلك » ، وأنشد بيت أبي النجم العجليّ:

قُلْــتُ لِشَــيْبَانَ ادْنُ مِــنْ لِقَائِـهِ أَنَّــا نُغَــدِّي القَـوْمَ مِـنْ شِـوَائِهِ

بمعنى: لعلنا نغدِّي القوم .

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية, قولُ من قال: ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله أعنى قوله: ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) وأن قوله: « أنها » ، بمعنى: لعلَّها .

وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لاستفاضة القراءة في قرأة الأمصار بالياء من قوله: ( لا يؤمنون ) .

ولو كان قوله: ( وما يشعركم ) خطابًا للمشركين, لكانت القراءة في قوله: ( لا يؤمنون ) ، بالتاء, وذلك، وإن كان قد قرأه بعض قرأة المكيين كذلك, فقراءةٌ خارجة عما عليه قرأة الأمصار, وكفى بخلاف جميعهم لها دليلا على ذهابها وشذوذها .

وإنما معنى الكلام: وما يدريكم، أيها المؤمنون، لعل الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون، فيعاجلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك، ولا يؤخَّروا به .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: لو أنَّا جئناهم بآية كما سألوا، ما آمنوا، كما لم يؤمنوا بما قبلَها أول مرة, لأن الله حال بينهم وبين ذلك :

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) الآية, قال: لما جحد المشركون ما أنـزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء، ورُدَّتْ عن كل أمر .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) ، قال: نمنعهم من ذلك، كما فعلنا بهم أول مرة . وقرأ: ( كما لم يؤمنوا به أول مرة ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) ، قال: نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون, كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة .

وقال آخرون: معنى ذلك: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لو رُدُّوا من الآخرة إلى الدنيا فلا يؤمنون، كما فعلنا بهم ذلك, فلم يؤمنوا في الدنيا . قالوا: وذلك نظير قوله وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ، [ سورة الأنعام: 28 ] .

* ذكر من قال قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه ما العبادُ قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه. قال: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ : أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، [ سورة الزمر: 56- 58 ] ، يقول: من المهتدين . فأخبر الله سبحانه أنهم لو رُدُّوا [ إلى الدنيا، لما استقاموا ] على الهدى، و [ قال ] : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ , وقال: « ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة » ، قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى, كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا .

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه، أخبر عن هؤلاء الذين أقسموا بالله جهدَ أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها: أنَّه يقلب أفئدتهم وأبصارهم ويصرِّفها كيف شاء, وأنّ ذلك بيده يقيمه إذا شاء، ويزيغه إذا أراد وأنّ قوله: ( كما لم يؤمنوا به أول مرة ) ، دليل على محذوف من الكلام وأنّ قوله: « كما » تشبيه ما بعده بشيء قبله .

وإذْ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون معنى الكلام: ونقلب أفئدتَهم، فنـزيغها عن الإيمان, وأبصارَهم عن رؤية الحق ومعرفة موضع الحجة, وإن جاءتهم الآية التي سألوها، فلا يؤمنوا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، كما لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبلَ مجيئها مرَّة قبل ذلك .

وإذا كان ذلك تأويله، كانت « الهاء » من قوله: ( كما لم يؤمنوا به ) ، كناية ذكر « التقليب » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 110 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونذر هؤلاء المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها عند مجيئها في تمرُّدهم على الله واعتدائهم في حدوده, يتردَّدون، لا يهتدون لحق، ولا يبصرون صوابًا, قد غلب عليهم الخِذْلان، واستحوذ عليهم الشيطانُ .