الجزء الثامن

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ( 111 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد, آيسْ من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأصنام ، القائلين لك: « لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك » , فإننا لو نـزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانًا، وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حُجَّةً لك، ودلالة على نبوّتك, وأخبروهم أنك محقٌّ فيما تقول, وأن ما جئتهم به حقٌّ من عند الله, وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهُم لك قبلا ما آمنوا ولا صدّقوك ولا اتبعوك إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم ( ولكن أكثرهم يجهلون ) ، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك, يحسبون أن الإيمان إليهم، والكفرَ بأيديهم, متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا كفروا . وليس ذلك كذلك, ذلك بيدي, لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته, ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته .

وقيل: إن ذلك نـزل في المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله, من مشركي قريش .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: نـزلت في المستهزئين الذين سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم الآية, فقال: قُلْ ، يا محمد، إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ، ونـزل فيهم: ( ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) .

وقال آخرون: إنما قيل: ( ما كانوا ليؤمنوا ) ، يراد به أهل الشقاء, وقيل: ( إلا أن يشاء الله ) ، فاستثنى ذلك من قوله: ( ليؤمنوا ) ، يراد به أهل الإيمان والسعادة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن ابن عباس قوله: ( ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا ) ، وهم أهل الشقاء ثم قال: ( إلا أن يشاء الله ) ، وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس, لأن الله جل ثناؤه عمَّ بقوله: ( ما كانوا ليؤمنوا ) ، القوم الذين تقدّم ذكرهم في قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا .

وقد يجوز أن يكون الذين سألوا الآية كانوا هم المستهزئين الذين قال ابن جريج إنهم عُنوا بهذه الآية، ولكن لا دلالة في ظاهر التنـزيل على ذلك، ولا خبر تقوم به حجة بأن ذلك كذلك . والخبر من الله خارجٌ مخرجَ العموم, فالقول بأنَّ ذلك عنى به أهل الشقاء منهم أولى، لما وصفنا .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) .

فقرأته قرأة أهل المدينة: « قِبَلا » ، بكسر « القاف » وفتح « الباء » , بمعنى: معاينةً من قول القائل: « لقيته قِبَلا » ، أي معاينة ومُجاهرةً .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين: ( وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ) ، بضم « القاف » ، « والباء » .

وإذا قرئ كذلك، كان له من التأويل ثلاثة أوجه:

أحدها أن يكون « القبل » جمع « قبيل » ، كالرُّغُف التي هي جمع « رغيف » , و « القُضُب » التي هي جمع « قضيب » , ويكون « القبل » ، الضمناء والكفلاء وإذا كان ذلك معناه, كان تأويل الكلام: وحشرنا عليهم كل شيء كُفَلاء يكفلون لهم بأن الذي نعدهم على إيمانهم بالله إن آمنوا، أو نوعدهم على كفرهم بالله إن هلكوا على كفرهم, ما آمنوا إلا أن يشاء الله .

والوجه الآخر: أن يكون « القبل » بمعنى المقابلة والمواجهة, من قول القائل: « أتيتُك قُبُلا لا دُبُرًا » , إذا أتاه من قبل وجهه .

والوجه الثالث: أن يكون معناه: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلةً قبيلةً, صنفًا صنفًا, وجماعة جماعةً ، فيكون « القبل » حينئذ جمع « قبيل » ، الذي هو ج مع « قبيلة » , فيكون « القبل » جمع الجمع .

وبكل ذلك قد قالت جماعة من أهل التأويل .

* ذكر من قال: معنى ذلك: معاينةً .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، يقول: معاينة .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، حتى يعاينوا ذلك معاينة ( ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) .

* ذكر من قال: معنى ذلك: قبيلة قبيلة، صنفًا صنفًا .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: من قرأ: ( قُبُلا ) ، معناه: قبيلا قبيلا .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ( قُبُلا ) ، أفواجًا, قبيلا قبيلا .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أحمد بن يونس, عن أبي خيثمة قال، حدثنا أبان بن تغلب قال، حدثني طلحة أن مجاهدًا قرأ في « الأنعام » : ( كل شيء قُبُلا ) ، قال: قبائل, قبيلا وقبيلا وقبيلا .

* ذكر من قال: معناه: مقابلةً .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، يقول: لو استقبلهم ذلك كله, لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، قال: حشروا إليهم جميعًا, فقابلوهم وواجهوهم .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: قرأ عيسى: ( قُبُلا ) ومعناه: عيانًا .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا, قراءةُ من قرأ: ( وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ) ، بضم « القاف » و « الباء » ، لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجهَ التي بينّا من المعاني, وأن معنى « القِبَل » داخلٌ فيه, وغير داخل في القبل معاني « القِبَل » .

وأما قوله: ( وحشرنا عليهم ) ، فإن معناه: وجمعنا عليهم, وسقنا إليهم .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مسلِّيَه بذلك عما لقي من كفرة قومه في ذات الله, وحاثًّا له على الصبر على ما نال فيه: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا ) ، يقول: وكما ابتليناك، يا محمد، بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء شياطينَ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليصدُّوهم بمجادلتهم إياك بذلك عن اتباعك والإيمان بك وبما جئتهم به من عند ربّك، كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسّل, بأن جعلنا لهم أعداءً من قومهم يؤذُونهم بالجدال والخصومات. يقول: فهذا الذي امتحنتك به، لم تخصص به من بينهم وحدك, بل قد عممتهم بذلك معك لأبتليهم وأختبرهم، مع قدرتي على منع من آذاهم من إيذائهم, فلم أفعل ذلك إلا لأعرف أولي العزم منهم من غيرهم. يقول: فاصبر أنتَ كما صبر أولو العزم من الرسل .

وأما « شياطين الإنس والجن » ، فإنهم مَرَدتهم ، وقد بينا الفعل الذي منه بُنِي هذا الاسم، بما أغنى عن إعادته .

ونصب « العدو » و « الشياطين » بقوله: ( جعلنا ) .

وأما قوله: ( يُوحِي بعضُهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ) ، فإنه يعني أنّه يلقي الملقي منهم القولَ، الذي زيّنه وحسَّنه بالباطل إلى صاحبه, ليغترّ به من سمعه، فيضلّ عن سبيل الله .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( شياطين الإنس والجن ) .

فقال بعضهم: معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس, وشياطين الجن التي مع الجنّ، وليس للإنس شياطين .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه ) ، أما « شياطين الإنس » ، فالشياطين التي تضلّ الإنس « وشياطين الجن » ، الذين يضلون الجنّ، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما: « إني أضللت صاحبي بكذا وكذا, وأضللت أنت صاحبك بكذا وكذا » , فيعلم بعضُهم بعضًا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة: ( شياطين الإنس والجن ) ، قال: ليس في الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس, وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن السدي في قوله: ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ) ، قال: للإنسان شيطان, وللجنّي شيطان, فيلقَى شيطان الإنس شيطان الجن, فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا .

قال أبو جعفر: جعل عكرمة والسدي في تأويلهما هذا الذي ذكرت عنهما، عدوّ الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا ) ، أولادَ إبليس، دون أولاد آدم، ودون الجن وجعل الموصوفين بأن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول غرورًا, ولدَ إبليس, وأن مَنْ مع ابن آدم من ولد إبليس يوحي إلى مَنْ مع الجن من ولده زخرفَ القول غرورًا .

وليس لهذا التأويل وجه مفهوم, لأن الله جعل إبليس وولده أعداءَ ابن آدم, فكل ولده لكل ولده عدوّ. وقد خصّ الله في هذه الآية الخبر عن الأنبياء أنه جعل لهم من الشياطين أعداءً. فلو كان معنيًّا بذلك الشياطين الذين ذكرهم السدي, الذين هم ولد إبليس, لم يكن لخصوص الأنبياء بالخبرِ عنهم أنه جعل لهم الشياطين أعداءً، وجهٌ . وقد جعل من ذلك لأعدى أعدائه، مثل الذي جعل لهم. ولكن ذلك كالذي قلنا، من أنه معنيٌّ به أنه جعل مردة الإنس والجن لكل نبي عدوًّا يوحي بعضهم إلى بعض من القول ما يؤذيهم به .

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن حميد بن هلال قال، حدثني رجل من أهل دمشق, عن عوف بن مالك, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر, هل تعوَّذت بالله من شر شياطين الإنس والجنّ؟ قال: قلت: يا رسول الله, هل للإنس من شياطين؟ قال: نعم!

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة, عن ابن عائذ, عن أبي ذر, أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس, قال فقال: يا أبا ذر, هل صلَّيت؟ قال قلت: لا يا رسول الله. قال: قم فاركع ركعتين. قال: ثم جئت فجلستُ إليه فقال: يا أبا ذر، هل تعوَّذت بالله من شرِّ شياطين الإنس والجن؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم, شرٌّ من شياطين الجن!

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: بلغني أن أبا ذر قام يومًا يُصلّي, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر، من شياطين الإنس والجن. فقال: يا رسول الله، أوَ إنّ من الإنس شياطين؟ قال: نعم!

وقال آخرون في ذلك بنحو الذي قلنا: من أن ذلك إخبارٌ من الله أنّ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( شياطين الإنس والجن ) ، قال: من الجن شياطين, ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض قال قتادة: بلغني أن أبا ذر كان يومًا يصلّي, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن. فقال: يا نبي الله, أوَ إن من الإنس شياطين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم!

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجن ) ، الآية, ذكر لنا أنّ أبا ذر قام ذات يوم يصلي, فقال له نبي الله: تعوّذ بالله من شياطين الجن والإنس. فقال: يا نبي الله، أوَ للإنس شياطين كشياطين الجن؟ قال: « نعم, أوَ كذَبْتُ عليه؟ »

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوَّا شياطين الإنس والجن ) ، فقال: كفار الجنّ شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفارِ الإنس، زخرفَ القول غرورًا .

وأما قوله: ( زُخرف القول غرورًا ) ، فإنه المزيَّن بالباطل، كما وصفت قبل. يقال منه: « زخرف كلامه وشهادته » ، إذا حسَّن ذلك بالباطل ووشّاه ، كما:-

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة قوله: ( زخرف القول غرورًا ) قال: تزيين الباطل بالألسنة .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « الزخرف » , فزخرفوه، زيَّنوه .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( زخرف القول غرورًا ) ، قال: تزيين الباطل بالألسنة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( زخرف القول غرورًا ) ، يقول: حسَّن بعضهم لبعضٍ القول ليتّبعوهم في فتنتهم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( زخرف القول غرورًا ) قال: « الزخرف » ، المزيَّن, حيث زيَّن لهم هذا الغرور, كما زيَّن إبليس لآدم ما جاءه به وقاسمه إنه له لمن الناصحين . وقرأ: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ، [ سورة فصلت: 25 ] . قال: ذلك الزخرف .

وأما « الغرور » ، فإنه ما غرّ الإنسان فخدعه فصدَّه عن الصواب إلى الخطأ وعن الحق إلى الباطل وهو مصدر من قول القائل: « غررت فلانًا بكذا وكذا, فأنا أغرُّه غرورًا وغرًّا . كالذي:- »

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( غرورًا ) قال: يغرّون به الناسَ والجنّ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 112 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شئت، يا محمد، أن يؤمن الذين كانوا لأنبيائي أعداءً من شياطين الإنس والجن فلا ينالهم مكرهم ويأمنوا غوائلهم وأذاهم, فعلتُ ذلك، ولكني لم أشأ ذلك، لأبتلي بعضهم ببعض، فيستحق كل فريق منهم ما سبق له في الكتاب السابق ( فذرهم ) ، يقول: فدعهم يعني الشياطين الذين يجادلونك بالباطل من مشركي قومك ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجن ( وما يفترون ) ، يعني: وما يختلقون من إفك وزور.

يقول له صلى الله عليه وسلم: اصبر عليهم، فإني من وراء عقابهم على افترائهم على الله، واختلاقهم عليه الكذبَ والزور .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ( ولتصغى إليه ) ، يقول جل ثناؤه: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيَّن من القول بالباطل, ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، يقول: ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة .

وهو من « صغَوْت تَصْغَى وتصغُو » والتنـزيل جاء بـ « تصغَى » « صَغْوًا، وصُغُوًّا » ، وبعض العرب يقول: « صغيت » ، بالياء، حكي عن بعض بني أسد: « صَغيت إلى حديثه, فأنا أصغَى صُغِيًّا » بالياء, وذلك إذا ملت. يقال: « صَغْوِي معك » ، إذا كان هواك معه وميلك, مثل قولهم: « ضِلَعِي معك » . ويقال: « أصغيت الإناء » إذا أملته ليجتمع ما فيه، ومنه قول الشاعر:

تَـرَى السَّـفِيهَ بِـهِ عَـنْ كُـلِّ مُحْكَمَةٍ زَيْـغٌ, وفيـهِ إلَـى التَّشْـبِيهِ إصْغَـاءُ

ويقال للقمر إذا مال للغيوب: « صغا » و « أصغى » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن على بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( ولتصغى إليه أفئدة ) ، يقول: تزيغ إليه أفئدة .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، قال: لتميل .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، يقول: تميل إليه قلوبُ الكفار، ويحبونه، ويرضون به .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، قال: « ولتصغى » ، وليهووا ذلك وليرضوه. قال: يقول الرجل للمرأة: « صَغَيْت إليها » ، هويتها .

 

القول في تأويل قوله : وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ( 113 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وليكتسبوا من الأعمال ما هم مكتسبون .

حكي عن العرب سماعًا منها: « خرج يقترف لأهله » , بمعنى يكسب لهم. ومنه قيل: « قارف فلان هذا الأمر » ، إذا واقعه وعمله .

وكان بعضهم يقول: هو التهمة والادعاء. يقال للرجل: « أنت قَرَفْتَنِي » ، أي اتهمتني. ويقال: « بئسما اقترفتَ لنفسك » ، وقال رؤبة:

أَعْيَــا اقْـتِرَافُ الكَـذِبِ المَقْـرُوفِ تَقْــوَى التَّقِــي وعِفَّــةَ العَفِيـفِ

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( وليقترفوا ) ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) ، وليكتسبوا ما هم مكتسبون .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) ، قال: ليعملوا ما هم عاملون .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) ، قال: ليعملوا ما هم عاملون .

 

القول في تأويل قوله : أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام, القائلين لك: « كفَّ عن آلهتنا، ونكف عن إلهك » : إن الله قد حكم عليّ بذكر آلهتكم بما يكون صدًّا عن عبادتها ( أفغير الله أبتغي حكمًا ) ، أي: قل: فليس لي أن أتعدَّى حكمه وأتجاوزه, لأنه لا حَكَم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه ( وهو الذي أنـزل إليكم الكتاب مفصلا ) يعني القرآن « مفصَّلا » , يعني: مبينًا فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم .

وقد بينا معنى: « التفصيل » ، فيما مضى قبل .

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 114 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن أنكر هؤلاء العادلون بالله الأوثان من قومك توحيدَ الله, وأشركوا معه الأندادَ, وجحدوا ما أنـزلته إليك, وأنكروا أن يكون حقًا وكذَّبوا به فالذين آتيناهم الكتاب ، وهو التوراة والإنجيل ، من بني إسرائيل ( يعلمون أنه منـزل من ربّك ) ، يعني: القرآن وما فيه ( بالحق ) يقول: فصلا بين أهل الحق والباطل, يدلُّ على صدق الصادق في علم الله, وكذبِ الكاذب المفتري عليه ( فلا تكونن من الممترين ) ، يقول: فلا تكونن، يا محمد، من الشاكين في حقيقة الأنباء التي جاءتك من الله في هذا الكتاب، وغيرِ ذلك مما تضمنه، لأن الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنَّه منـزل من ربك بالحق .

وقد بيَّنا فيما مضى ما وجه قوله: ( فلا تكونن من الممترين ) ، بما أغنى عن إعادته، مع الرواية المروية فيه ، وقد:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ( فلا تكونن من الممترين ) ، يقول: لا تكونن في شك مما قصَصنا عليك .

 

القول في تأويل قوله : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 115 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكملت « كلمة ربك » , يعني القرآن .

سماه « كلمة » ، كما تقول العرب للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر: « هذه كلمة فلان » . .

( صدقًا وعدلا ) ، يقول: كملت كلمة ربك من الصدق والعدل.

و « الصدق » و « العدل » نصبا على التفسير للكلمة, كما يقال: « عندي عشرون درهما » .

( لا مبدِّل لكلماته ) ، يقول: لا مغيِّر لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقع فيه ، وذلك نظير قوله جل ثناؤه يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ، [ سورة الفتح:15 ] . فكانت إرادتهم تبديل كلام الله، مسألتهم نبيَّ الله أن يتركهم يحضرون الحرب معه, وقولهم له ولمن معه من المؤمنين: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ، بعد الخبر الذي كان الله أخبرهم تعالى ذكره في كتابه بقوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا الآية، [ سورة التوبة: 83 ] , فحاولوا تبديل كلام الله وخبره بأنهم لن يخرجوا مع نبي الله في غَزاةٍ, ولن يقاتلوا معه عدوًّا بقولهم لهم: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ، فقال الله جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « يريدون أن يبدلوا » بمسألتهم إياهم ذلك كلامَ الله وخبره: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ . فكذلك معنى قوله: ( لا مبدِّل لكلماته ) ، إنما هو: لا مغيِّر لما أخبرَ عنه من خبر أنه كائن، فيبطل مجيئه وكونه ووُقُوعه على ما أخبرَ جل ثناؤه، لأنه لا يزيد المفترون في كتب الله ولا ينقصون منها. وذلك أن اليهود والنصارى لا شك أنهم أهلُ كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه, وقد أخبر جل ثناؤه أنهم يحرِّفون غيرَ الذي أخبر أنَّه لا مبدِّل له .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلا لا مبدل لكلماته ) ، يقول: صدقًا وعدلا فيما حكَم .

وأما قوله: ( وهو السميع العليم ) ، فإن معناه: والله « السميع » ، لما يقول هؤلاء العادلون بالله, المقسمون بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها, وغير ذلك من كلام خلقه « العليم » ، بما تؤول إليه أيمانهم من برٍّ وصدق وكذب وحِنْثٍ، وغير ذلك من أمور عباده .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 116 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تطع هؤلاء العادلين بالله الأنداد، يا محمد، فيما دعوك إليه من أكل ما ذبحوا لآلهتهم, وأهلُّوا به لغير ربهم، وأشكالَهم من أهل الزيغ والضلال, فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن دين الله، ومحجة الحق والصواب، فيصدُّوك عن ذلك .

وإنما قال الله لنبيه: ( وإن تطع أكثر من في الأرض ) ، من بني آدم, لأنهم كانوا حينئذ كفارًا ضلالا فقال له جل ثناؤه: لا تطعهم فيما دعوك إليه, فإنك إن تطعهم ضللت ضلالهم، وكنتَ مثلهم، لأنهم لا يدعونك إلى الهدى وقد أخطئوه . ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الذين نَهَى نبيه عن طاعتهم فيما دعوه إليه في أنفسهم, فقال: ( إن يتبعون إلا الظن ) ، فأخبر جل ثناؤه أنهم من أمرهم على ظن عند أنفسهم, وحسبان على صحة عزمٍ عليه، وإن كان خطأ في الحقيقة ( وإن هم إلا يخرصون ) ، يقول: ما هم إلا متخرِّصون، يظنون ويوقعون حَزْرًا، لا يقينَ علمٍ.

يقال منه: « خرَصَ يخرُصُ خَرْصًا وخروصًا » ،

أي كذب، و « تخرّص بظن » ، و « تخرّص بكذب » , و « خرصتُ النخل أخرُصه » , و « خَرِصَتْ إبلك » ، أصابها البردُ والجوع .

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 117 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن ربك الذي نهاك أن تطيع هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ, لئلا يُضِلوك عن سبيله, هو أعلم منك ومن جميع خلقه أيُّ خلقه يَضلّ عن سبيله بزخرف القول الذي يوحِي الشياطين بعضُهم إلى بعض, فيصدُّوا عن طاعته واتباع ما أمر به ( وهو أعلم بالمهتدين ) ، يقول: وهو أعلم أيضًا منك ومنهم بمن كان على استقامة وسدادٍ, لا يخفى عليه منهم أحد . يقول: واتبع، يا محمد، ما أمرتك به, وانته عما نهيتك عنه من طاعة مَنْ نهيتك عن طاعته, فإني أعلم بالهادي والمضلِّ من خلقي، منك .

واختلف أهل العربية في موضع: « مَن » في قوله: ( إن ربك هو أعلم من يضل ) .

فقال بعض نحويي البصرة: موضعه خفض بنيّة « الباء » . قال: ومعنى الكلام: إن ربك هو أعلم بمن يضِلُّ .

وقال بعض نحويي الكوفة: موضعه رفع, لأنه بمعنى « أيّ » ، والرافع له « يضلّ » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنه رفع بـ « يضل » ، وهو في معنى « أيّ » . وغير معلوم في كلام العرب اسم مخفوض بغير خافض، فيكون هذا له نظيرا.

وقد زعم بعضهم أن قوله: ( أعلم ) ، في هذا الموضع بمعنى « يعلم » , واستشهد لقيله ببيت حاتم الطائي:

فَحَــالَفَتْ طَيّـئٌ مِـنْ دُونِنَـا حِلِفًـا وَاللــهُ أَعْلَـمُ مـا كُنَّـا لَهُـمْ خُـذْلا

وبقول الخنساء:

القَــــوْمُ أَعْلَـــمُ أَنَّ جَفْنَتَـــهُ تَعْــدُو غَــدَاةَ الــرِّيحِ أَوْ تَسـري

وهذا الذي قاله قائل هذا التأويل، وإن كان جائزًا في كلام العرب, فليس قولُ الله تعالى ذكره: ( إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ) ، منه. وذلك أنه عطف عليه بقوله: ( وهو أعلم بالمهتدين ) ، فأبان بدخول « الباء » في « المهتدين » أن « أعلم » ليس بمعنى « يعلم » , لأن ذلك إذ كان بمعنى « يفعل » ، لم يوصل بالباء, كما لا يقال: « هو يعلم بزيد » , بمعنى: يعلم زيدًا .

 

القول في تأويل قوله : فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( 118 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين به وبآياته: « فكلوا » ، أيها المؤمنون، مما ذكّيتم من ذبائحكم وذبحتموه الذبح الذي بينت لكم أنه تحلّ به الذبيحة لكم, وذلك ما ذبحه المؤمنون بي من أهل دينكم دين الحق, أو ذبحه مَنْ دان بتوحيدي من أهل الكتاب, دون ما ذبحه أهل الأوثان ومَنْ لا كتاب له من المجوس ( إن كنتم بآياته مؤمنين ) ، يقول: إن كنتم بحجج الله التي أتتكم وأعلامه، بإحلال ما أحللت لكم، وتحريم ما حرمت عليكم من المطاعم والمآكل، مصدّقين, ودَعوا عنكم زخرف ما توحيه الشياطين بعضها إلى بعض من زخرف القول لكم، وتلبيس دينكم عليكم غرورًا .

وكان عطاء يقول في ذلك ما:-

حدثنا به محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله: ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ) ، قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح. وكل شيء يدلّ على ذكره يأمر به .

 

القول في تأويل قوله : وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم بكلام العرب في تأويل قوله: ( وما لكم أن لا تأكلوا ) .

فقال بعض نحويي البصريين: معنى ذلك: وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا. قال: وذلك نظير قوله: وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ ، [ سورة البقرة: 246 ] . يقول: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟ قال: ولو كانت « لا » ، زائدة لا يقع الفعل. ولو كانت في معنى: « وما لنا وكذا » , لكانت: وما لنا وأن لا نقاتل .

وقال غيره: إنما دخلت « لا » للمنع, لأن تأويل « ما لك » , و « ما منعك » واحد. « ما منعك لا تفعل ذلك » , و « ما لك لا تفعل » ، واحد. فلذلك دخلت « لا » . قال: وهذا الموضع تكون فيه « لا » ، وتكون فيه « أنْ » ، مثل قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [ سورة النساء: 176 ] ، و « أن لا تضلوا » ، يمنعكم من الضلال بالبيان .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: معنى قوله: ( وما لكم ) ، في هذا الموضع: وأيُّ شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ وذلك أنّ الله تعالى ذكره تقدّم إلى المؤمنين بتحليل ما ذكر اسم الله عليه، وإباحة أكل ما ذبح بدينه أو دين من كان يدين ببعض شرائع كتبه المعروفة, وتحريم ما أهلّ به لغيره، من الحيوان وزجرهم عن الإصغاء لما يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من زخرف القول في الميتة والمنخنقة والمتردية, وسائر ما حرم الله من المطاعم . ثم قال: وما يمنعكم من أكل ما ذبح بديني الذي ارتضيته, وقد فصّلت لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون, وبينته لكم بقولي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ، إلى قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ، [ سورة المائدة: 3 ] ، فلا لبس عليكم في حرام ذلك من حلاله, فتتمنعوا من أكل حلاله حذرًا من مواقعة حرامه .

فإذ كان ذلك معناه، فلا وجه لقول متأوِّلي ذلك: « وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا » ، لأن ذلك إنما يقال كذلك، لمن كان كفَّ عن أكله رجاء ثواب بالكفّ عن أكله, وذلك يكون ممن آمن بالكفّ فكف اتّباعًا لأمر الله وتسليمًا لحكمه. ولا نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة كفَّ عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك, واعتقادًا منه أن الله حرَّمه عليه . فبيّنٌ بذلك، إذ كان الأمر كما وصفنا، أن أولى التأويلين في ذلك بالصواب ما قلنا .

وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى قوله: « فصَّل » , و « فَصَّلْنَا » و « فُصِّل » بيَّن, أو بُيِّن, بما يغني عن إعادته في هذا الموضع كما:-

حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) ، يقول: قد بين لكم ما حرم عليكم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, مثله .

واختلفت القرأة في قول الله جل ثناؤه: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) .

فقرأه بعضهم بفتح أول الحرفين من « فَصَّلَ » و « حَرَّم » ، أي: فصّل ما حرّمه من مطاعمكم, فبيَّنه لكم .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( وَقَدْ فَصَّلَ ) بفتح فاء « فصل » وتشديد صاده, « مَا حُرِّمَ » ، بضم حائه وتشديد رائه, بمعنى: وقد فصل الله لكم المحرَّم عليكم من مطاعمكم .

وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: « وَقَدْ فُصِّلَ لَكَمْ » ، بضم فائه وتشديد صاده، « مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ » ، بضم حائه وتشديد رائه, على وجه ما لم يسمَّ فاعله في الحرفين كليهما .

وروي عن عطية العوفي أنه كان يقرأ ذلك: « وَقَدْ فَصَلَ » ، بتخفيف الصاد وفتح الفاء, بمعنى: وقد أتاكم حكم الله فيما حَرَّم عليكم .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن كل هذه القراءات الثلاث التي ذكرناها، سوى القراءة التي ذكرنا عن عطية، قراءات معروفات مستفيضةٌ القراءةُ بها في قرأة الأمصار, وهن متّفقات المعاني غير مختلفات, فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ .

وأما قوله: ( إلا ما اضطررتم إليه ) ، فإنه يعني تعالى ذكره: أن ما أضطررنا إليه من المطاعم المحرّمة التي بيَّن تحريمها لنا في غير حال الضرورة، لنا حلال ما كنا إليه مضطرين, حتى تزول الضرورة . كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إلا ما اضطررتم إليه ) ، من الميتة .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( 119 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن كثيرًا من الناس [ الذين ] يجادلونكم في أكل ما حرم الله عليكم، أيها المؤمنون بالله، من الميتة، ليُضلون أتباعهم بأهوائهم من غير علم منهم بصحة ما يقولون, ولا برهان عندهم بما فيه يجادلون, إلا ركوبًا منهم لأهوائهم, واتباعًا منهم لدواعي نفوسهم, اعتداءً وخلافًا لأمر الله ونهيه, وطاعة للشياطين ( إن ربك هو أعلم بالمعتدين ) ، يقول: إن ربك، يا محمد، الذي أحلَّ لك ما أحلَّ وحرَّم عليك ما حرم, هو أعلم بمن اعتدى حدوده فتجاوزها إلى خلافها, وهو لهم بالمرصاد .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( ليضلون ) .

فقرأته عامة أهل الكوفة: ( لَيُضِلُّونَ ) ، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم .

وقرأ ذلك بعض البصريين والحجازيين: « لَيَضِلُّونَ » ، بمعنى: أنهم هم الذين يضلون عن الحق فيجورون عنه .

قال أبو جعفر: وأَولى القراءتين بالصواب في ذلك, قراءةُ من قرأ: ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ ) ، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبرَ نبيه صلى الله عليه وسلم عن إضلالهم من تبعهم، ونهاه عن طاعتهم واتباعهم إلى ما يدعونه إليه, فقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، ثم أخبر أصحابه عنهم بمثل الذي أخبره عنهم, ونهاهم من قبول قولهم عن مثل الذي نهاه عنه, فقال لهم: وإن كثيرًا منهم ليضلونكم بأهوائهم بغير علم نظيرَ الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .

 

القول في تأويل قوله : وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ودعوا، أيها الناس، علانية الإثم، وذلك ظاهره وسرّه، وذلك باطنه، . كذلك:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، أي: قليله وكثيره، وسرّه وعلانيته .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: سره وعلانيته .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس في قوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، يقول: سره وعلانيته وقوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، [ سورة الأعراف: 33 ] ، قال: سره وعلانيته .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه، أن يعمل به سرًّا أو علانية, وذلك ظاهره وباطنه .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، معصية الله في السر والعلانية .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: هو ما ينوي مما هو عامل .

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بالظاهر من الإثم والباطن منه، في هذا الموضع.

فقال بعضهم: « الظاهر منه » ، ما حرم جل ثناؤه بقوله: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ، [ سورة النساء: 22 ] ، وقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ الآية, و « الباطن منه » ، الزنى .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير في قوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: الظاهر منه: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ والأمهات والبنات والأخوات « والباطن » . الزنى .

وقال آخرون: « الظاهر » ، أولات الرايات من الزواني ، والباطن: ذوات الأخدان .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) أما « ظاهره » ، فالزواني في الحوانيت ، وأما « باطنه » ، فالصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرًّا .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، [ سورة الأنعام: 151 ] . كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى, ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا, فحرّم الله السر منه والعلانية « ما ظهر منها » ، يعني العلانية « وما بطن » ، يعني: السر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي مكين وأبيه, عن خصيف, عن مجاهد: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قال: « ما ظهر منها » ، الجمع بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده « وما بطن » ، الزنى .

وقال آخرون: « الظاهر » ، التعرّي والتجرد من الثياب، وما يستر العورة في الطواف « والباطن » ، الزنى .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قال: ظاهره العُرْيَة التي كانوا يعملون بها حين يطوفون بالبيت ، وباطنه: الزنى .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره تقدم إلى خلقه بترك ظاهر الإثم وباطنه، وذلك سره وعلانيته. و « الإثم » كل ما عُصِي الله به من محارمه, وقد يدخل في ذلك سرُّ الزنى وعلانيته, ومعاهرة أهل الرايات وأولات الأخدان منهن, ونكاحُ حلائل الآباء والأمهات والبنات, والطواف بالبيت عريانًا, وكل معصية لله ظهرت أو بطنت . وإذ كان ذلك كذلك, وكان جميعُ ذلك « إثمًا » , وكان الله عمّ بقوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، جميع ما ظهر من الإثم وجميع ما بطن لم يكن لأحد أن يخصّ من ذلك شيئًا دون شيء، إلا بحجة للعذر قاطعة .

غير أنه لو جاز أن يوجَّه ذلك إلى الخصوص بغير برهان, كان توجيهه إلى أنه عنى بظاهر الإثم وباطنه في هذا الموضع، ما حرم الله من المطاعم والمآكل من الميتة والدم, وما بيَّن الله تحريمه في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إلى آخر الآية, أولى, إذ كان ابتداء الآيات قبلها بذكر تحريم ذلك جرى، وهذه في سياقها. ولكنه غير مستنكر أن يكون عنى بها ذلك, وأدخل فيها الأمر باجتناب كل ما جانسه من معاصي الله, فخرج الأمر عامًا بالنهي عن كل ما ظهر أو بطن من الإثم .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ( 120 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يعملون بما نَهاهم الله عنه، ويركبون معاصيَ الله ويأتون ما حرَّم الله ( سيجزون ) ، يقول: سيثيبهم الله يوم القيامة بما كانوا في الدنيا يعملون من معاصيه .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( 121 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، لا تأكلوا، أيها المؤمنون، مما مات فلم تذبحوه أنتم، أو يذبحه موحِّدٌ يدين لله بشرائع شَرَعها له في كتاب منـزل، فإنه حرام عليكم ولا ما أهلَّ به لغير الله مما ذبَحه المشركون لأوثانهم, فإن أكل ذلك « فسق » , يعني: معصية كفر .

فكنى بقوله: « وإنه » ، عن « الأكل » , وإنما ذكر الفعل, كما قال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا ، [ سورة آل عمران: 173 ] يراد به، فزاد قولُهم ذلك إيمانًا, فكنى عن « القول » , وإنما جرى ذكره بفعلٍ .

( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) .

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، فقال بعضهم: عنى بذلك شياطين فارسَ ومن على دينهم من المجوس ( إلى أوليائهم ) ، من مردة مشركي قريش, يوحون إليهم زخرف القول، بجدالِ نبي الله وأصحابه في أكل الميتة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري قال، حدثنا موسى بن عبد العزيز القنباريّ قال، حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة: لما نـزلت هذه الآية، بتحريم الميتة، قال: أوحت فارس إلى أوليائها من قريشٍ أنْ خاصموا محمدًا وكانت أولياءهم في الجاهلية وقولوا له: أوَ ما ذبحتَ فهو حلال, وما ذَبح الله قال ابن عباس: بِشمْشَارٍ من ذهب فهو حرام ! ! فأنـزل الله هذه الآية: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، قال: الشياطين: فارس, وأولياؤهم قريش .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار, عن عكرمة: « إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم وكاتبتهم فارس, وكتبت فارسُ إلى مشركي قريش إن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله, فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه للميتة وأمّا ما ذبحوا هم يأكلون » ! وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد عليه السلام, فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء, فنـزلت: ( وإنه لفسقٌ وإن الشياطين ليوحون ) الآية, ونـزلت: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا . [ سورة الأنعام: 112 ]

وقال آخرون: إنما عنى بالشياطين الذين يغرُون بني آدم: أنهم أوحوا إلى أوليائهم من قريش .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سماك, عن عكرمة قال: كان مما أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس: كيف تعبدون شيئًا لا تأكلون مما قَتَل, وتأكلون أنتم ما قتلتم؟ فرُوِي الحديث حتى بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم, فنـزلت: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، قال: إبليسُ الذي يوحي إلى مشركي قريش قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قال: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس: « يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم » قال ابن جريج, عن عبد الله بن كثير قال: سمعت أنَّ الشياطين يوحون إلى أهل الشرك، يأمرونهم أن يقولوا: ما الذي يموتُ، وما الذي تذبحون إلا سواء ! يأمرونهم أن يخاصِمُوا بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم ( وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون ) ، قال: قولُ المشركين أمّا ما ذبح الله، للميتة، فلا تأكلون, وأمّا ما ذبحتم بأيديكم فحلال !

حدثنا محمد بن عمار الرازي قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال، حدثنا شريك, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس: إن المشركين قالوا للمسلمين: ما قتل ربّكم فلا تأكلون, وما قتلتم أنتم تأكلونه ! فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما حرم الله الميتة، أمر الشيطان أولياءَه فقال لهم: ما قتل الله لكم، خيرٌ مما تذبحون أنتم بسكاكينكم! فقال الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس قال: جادل المشركون المسلمين فقالوا: ما بال ما قتلَ الله لا تأكلونه، وما قتلتم أنتم أكلتموه! وأنتم تتبعون أمر الله ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) ، إلى آخر الآية .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه, وما ذبحتم أنتم فكلوه ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة: أن ناسًا من المشركين دخلُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت، من قَتَلها؟ فقال: اللهُ قتلها . قالوا: فتزعم أن ما قتلتَ أنت وأصحابُك حلالٌ, وما قتله الله حرام! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحضرمي: أن ناسًا من المشركين قالوا: أما ما قتل الصقر والكلب فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه !

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ، قال: قالوا: يا محمد, أمّا ما قتلتم وذبحتم فتأكلونه, وأمّا ما قتل ربُّكم فتحرِّمونه ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه, إنكم إذًا لمشركون .

حدثنا المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك قال: قال المشركون: ما قتلتم فتأكلونه, وما قتل ربكم لا تأكلونه ! فنـزلت: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، قول المشركين: أما ما ذبح الله للميتة فلا تأكلون منه, وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال !

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ، قال: جادلهم المشركون في الذبيحة فقالوا: أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه ! يعنون « الميتة » ، فكانت هذه مجادلتهم إياهم .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) الآية, يعني عدوّ الله إبليس, أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة فقال لهم: خاصموا أصحاب محمد في الميتة فقولوا: « أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون, وأما ما قتل الله فلا تأكلون, وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمرَ الله » ! فأنـزل الله على نبيه: ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وإنا والله ما نعلمه كان شرك قط إلا بإحدى ثلاث: أن يدعو مع الله إلهًا آخر, أو يسجد لغير الله, أو يسمي الذبائح لغير الله .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله, وما ذبح الله فلا تأكلونه, وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟ فقال الله: لئن أطعتموهم فأكلتم الميتة، إنكم لمشركون .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ، قال: كانوا يقولون: ما ذكر الله عليه وما ذبحتم فكلوا ! فنـزلت: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) إلى قوله: ( ليجادلوكم ) ، قال يقول: يوحي الشياطين إلى أوليائهم: تأكلون ما قتلتم, ولا تأكلون مما قتل الله! فقال: إن الذي قتلتم يذكر اسم الله عليه, وإن الذي مات لم يذكر اسم الله عليه .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ، هذا في شأن الذبيحة. قال: قال المشركون للمسلمين: تزعمون أن الله حرم عليكم الميتة, وأحل لكم ما تذبحون أنتم بأيديكم, وحرم عليكم ما ذبح هو لكم ؟ وكيف هذا وأنتم تعبدونه! فأنـزل الله هذه الآية: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، إلى قوله: ( لمشركون ) .

وقال آخرون: كان الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قومًا من اليهود .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وكيع قالا حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال ابن عبد الأعلى: خاصمت اليهودُ النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن وكيع: جاءت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل ما قتلنا, ولا نأكل ما قتل الله ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك, كما أخبر الله عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ، [ سورة الأنعام: 112 ] . بل ذلك الأغلب من تأويله عندي, لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس, كما جعل لأنبيائه من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيَّنَ من الأقوال الباطلة, ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرمَ الله من الميتة عليهم .

واختلف أهل التأويل في الذي عنى الله جل ثناؤه بنهيه عن أكله مما لم يذكر اسم الله عليه.

فقال بعضهم: هو ذبائح كانت العرب تذبحها لآلهتها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؟ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح . قلت لعطاء: فما قوله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ؟ قال: ينهى عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان، كانت تذبحها العرب وقريش .

وقال آخرون: هي الميتة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، قال: الميتة .

وقال آخرون: بل عنى بذلك كلَّ ذبيحة لم يذكر اسمُ الله عليها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جَهِير بن يزيد قال: سُئِل الحسن, سأله رجل قال له: أُتِيتُ بطيرِ كَرًى, فمنه ما ذبح فذكر اسم الله عليه, ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه، واختلط الطير؟ فقال الحسن: كُلْه، كله ! قال: وسألت محمد بن سيرين فقال: قال الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن أيوب وهشام, عن محمد بن سيرين, عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين, ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبد الله بن يزيد قال: كنت أجلس إليه في حلقة, فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم, فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون . قال: فجاءه رجل فسأله, فقال: رجل ذبح فنسي أن يسمِّي؟ فتلا هذه الآية: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، حتى فرغ منها .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عنى بذلك ما ذُبح للأصنام والآلهة, وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته .

وأما من قال: « عنى بذلك: ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله » , فقول بعيد من الصواب، لشذوذه وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله, وكفى بذلك شاهدًا على فساده . وقد بينا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى: « لطيف القول في أحكام شرائع الدين » ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

وأما قوله « ( وإنه لفسق ) ، فإنه يعني: وإنّ أكْل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة، وما أهل به لغير الله، لفسق » .

واختلف أهل التأويل في معنى: « الفسق » ، في هذا الموضع.

فقال بعضهم: معناه: المعصية .

فتأويل الكلام على هذا: وإنّ أكلَ ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وإنه لفسق ) ، قال: « الفسق » ، المعصية .

وقال آخرون: معنى ذلك: الكفر .

وأما قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلي أوليائهم ) ، فقد ذكرنا اختلاف المختلفين في المعنيّ بقوله: ( وإن الشياطين ليوحون ) ، والصوابَ من القول فيه وأما إيحاؤهم إلى أوليائهم, فهو إشارتهم إلى ما أشاروا لهم إليه: إما بقول, وإما برسالة, وإما بكتاب .

وقد بينا معنى: « الوحي » فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقد:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عكرمة, عن أبي زُمَيل قال: كنت قاعدًا عند ابن عباس, فجاءه رجل من أصحابه, فقال: يا ابن عباس, زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة! يعني المختار بن أبي عبيد فقال ابن عباس: صدق ! فنفرت فقلت: يقول ابن عباس « صدق » ! فقال ابن عباس: هما وحيان، وحي الله, ووحي الشيطان، فوحي الله إلى محمد, ووحي الشياطين إلى أوليائهم . ثم قرأ: ( وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) .

وأما الأولياء: فهم النصراء والظهراء، في هذا الموضع .

ويعني بقوله: ( ليجادلوكم ) ، ليخاصموكم, بالمعنى الذي قد ذكرت قبل .

وأما قوله: ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، فإنه يعني: وإن أطعتموهم في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم; كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وإن أطعتموهم ) ، يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن أطعتموهم ) ، فأكلتم الميتة .

وأما قوله: ( إنكم لمشركون ) ، يعني: إنكم إذًا مثلهم, إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالا. فإذا أنتم أكلتموها كذلك، فقد صرتم مثلهم مشركين .

قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عُنيت به. وعلى هذا قول عامة أهل العلم .

وروي عن الحسن البصري وعكرمة, ما:-

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ . ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) ، فنسخ واستثنى من ذلك فقال: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [ سورة المائدة: 5 ] .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا, أن هذه الآية محكمة فيما أنـزلت، لم ينسخ منها شيء, وأن طعام أهل الكتاب حلال، وذبائحهم ذكيّة . وذلك مما حرم الله على المؤمنين أكله بقوله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، بمعزل. لأن الله إنما حرم علينا بهذه الآية الميْتة، وما أهلّ به للطواغيت, وذبائحُ أهل الكتاب ذكية سمُّوا عليها أو لم يسمُّوا، لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله، يدينون بأحكامها, يذبحون الذبائح بأديانهم، كما يذبح المسلم بدينه, سمى الله على ذبيحته أو لم يسمِّه, إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل, أو بعبادة شيء سوى الله, فيحرم حينئذ أكل ذبيحته، سمى الله عليها أو لم يسم .

 

القول في تأويل قوله : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا

قال أبو جعفر: وهذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدل على نهيه المؤمنين برسوله يومئذ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة، بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به, وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرًا, فهداه جلّ ثناؤه لرشده، ووفقه للإيمان. فقال لهم: أطاعة من كان ميتًا, يقول: من كان كافرًا ؟ فجعله جل ثناؤه لانصرافه عن طاعته، وجهله بتوحيده وشرائع دينه، وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته, بمنـزلة « الميت » الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه نازلة ( فأحييناه ) ، يقول: فهديناه للإسلام, فأنعشناه, فصار يعرف مضارّ نفسه ومنافعها, ويعمل في خلاصها من سَخَط الله وعقابه في معاده. فجعل إبصاره الحق تعالى ذكره بعد عَمَاه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك، حياة وضياء يستضيء به فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس ( كمن مثله في الظلمات ) ، لا يدري كيف يتوجه، وأي طريق يأخذ، لشدة ظلمة الليل وإضلاله الطريق. فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشدًا ولا يعرف حقًّا, يعني في ظلمات الكفر . يقول: أفَطَاعة هذا الذي هديناه للحق وبصَّرناه الرشاد، كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردّد، لا يعرف المخرج منها، في دعاء هذا إلى تحريم ما حرم الله، وتحليل ما أحل، وتحليل هذا ما حرم الله، وتحريمه ما أحلّ؟

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في رجلين بأعيانهما معروفين: أحدهما مؤمن, والآخر كافر .

ثم اختلف أهل التأويل فيهما.

فقال بعضهم: أما الذي كان مَيْتًا فأحياه الله، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا سليمان بن أبي هوذة, عن شعيب السراج, عن أبي سنان عن الضحاك في قوله: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( كمن مثله في الظلمات ) ، قال: أبو جهل بن هشام .

وقال آخرون: بل الميت الذي أحياه الله، عمار بن ياسر رحمة الله عليه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن بشر بن تيم, عن رجل, عن عكرمة: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، قال: نـزلت في عمار بن ياسر .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن بشر, عن تيم, عن عكرمة: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، عمار بن ياسر ( كمن مثلة في الظلمات ) ، أبو جهل بن هشام .

وبنحو الذي قلنا في الآية قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) قال: ضالا فهديناه ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) قال: هدى ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ، قال: في الضلالة أبدًا .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، هديناه ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ) في الضلالة أبدًا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، قال: ضالا فهديناه .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، يعني: من كان كافرًا فهديناه ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، يعني بالنور، القرآنَ، من صدَّق به وعمل به ( كمن مثله في الظلمات ) ، يعني: بالظلمات، الكفرَ والضلالة .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، يقول: الهدى « يمشي به في الناس » , يقول: فهو الكافر يهديه الله للإسلام. يقول: كان مشركًا فهديناه ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، هذا المؤمن معه من الله نور وبيِّنة يعمل بها ويأخذ، وإليها ينتهي, كتابَ الله ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ، وهذا مثل الكافر في الضلالة، متحير فيها متسكع, لا يجد مخرجًا ولا منفذًا .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، يقول: من كان كافرًا فجعلناه مسلمًا، وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس، وهو الإسلام, يقول: هذا كمن هو في الظلمات, يعني: الشرك .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، قال: الإسلام الذي هداه الله إليه ( كمن مثله في الظلمات ) ، ليس من أهل الإسلام . وقرأ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، [ سورة البقرة: 257 ] . قال: والنور يستضيء به ما في بيته ويبصره, وكذلك الذي آتاه الله هذا النور، يستضيء به في دينه ويعمل به في نوره، كما يستضيء صاحب هذا السراج . قال: ( كمن مثله في الظلمات ) ، لا يدري ما يأتي ولا ما يقع عليه .

 

القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 122 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما خذلت هذا الكافر الذي يجادلكم أيها المؤمنون بالله ورسوله، في أكل ما حرّمت عليكم من المطاعم عن الحق, فزينت له سوءَ عمله فرآه حسنًا، ليستحق به ما أعددت له من أليم العقاب, كذلك زيَّنت لغيره ممن كان على مثل ما هو عليه من الكفر بالله وآياته، ما كانوا يعملون من معاصي الله, ليستوجبوا بذلك من فعلهم، ما لهم عند ربهم من النَّكال .

قال أبو جعفر: وفي هذا أوضح البيان على تكذيب الله الزاعمين أن الله فوَّض الأمور إلى خلقه في أعمالهم، فلا صنع له في أفعالهم, وأنه قد سوَّى بين جميعهم في الأسباب التي بها يصلون إلى الطاعة والمعصية. لأن ذلك لو كان كما قالوا, لكان قد زَيَّن لأنبيائه وأوليائه من الضلالة والكفر، نظيرَ ما زيَّن من ذلك لأعدائه وأهل الكفر به ، وزيّن لأهل الكفر به من الإيمان به، نظيرَ الذي زيّن منه لأنبيائه وأوليائه . وفي إخباره جل ثناؤه أنه زين لكل عامل منهم عمله، ما ينبئ عن تزيين الكفر والفسوق والعصيان, وخصّ أعداءه وأهل الكفر، بتزيين الكفر لهم والفسوق والعصيان, وكرّه إليهم الإيمان به والطاعة .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 123 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون, كذلك جعلنا بكل قرية عظماءَها مجرميها يعني أهل الشرك بالله والمعصية له ( ليمكروا فيها ) ، بغرور من القول أو بباطل من الفعل، بدين الله وأنبيائه ( وما يمكرون ) : أي ما يحيق مكرهم ذلك, إلا بأنفسهم , لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله « وهم لا يشعرون » , يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه, فهم في غيِّهم وعتوِّهم على الله يتمادَوْن .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أكابر مجرميها ) ، قال: عظماءها .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أكابر مجرميها ) ، قال: عظماءها .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: نـزلت في المستهزئين قال ابن جريج، عن عمرو, عن عطاء, عن عكرمة: ( أكابر مجرميها ) ، إلى قوله: بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ، بدين الله، وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين .

والأكابر: جمع « أكبر » , كما « الأفاضل » جمع « أفضل » . ولو قيل: هو جمع « كبير » , فجمع « أكابر » , لأنه قد يقال: « أكبر » , كما قيل: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ، [ سورة الكهف: 103 ] ، واحدهم « الخاسر » ، لكان صوابًا . وحكي عن العرب سماعًا « الأكابرة » و « الأصاغرة » , و « الأكابر » ، و « الأصاغر » ، بغير الهاء، على نية النعت, كما يقال: « هو أفضل منك » . وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على « أفعل » ، إذا أخرجوها إلى الأسماء, مثل جمعهم « الأحمر » و « الأسود » ، « الأحامر » و « الأحامرة » , و « الأساود » و « الأساودة » ، ومنه قول الشاعر:

إنَّ الأحَـــامِرَة الثَّلاثَــةَ أَهْلَكَــتْ مَــالِي, وكُـنْتُ بِهِـنّ قِدْمًـا مُولَعًـا

الخَــمْرُ واللَّحْــمُ السِّــمِينُ إدَامُـهُ والزَّعْفَــرَانُ, فَلَــنْ أرُوحَ مُبَقَّعَــا

وأما « المكر » ، فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر، ليورِّطه الماكر به مكروهًا من الأمر .

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرم الله عليهم، ليصدّوا عن سبيل الله ( آية ) ، يعني: حجة من الله على صحة ما جاءهم به محمد من عند الله وحقيقته قالوا لنبي الله وأصحابه: ( لن نؤمن ) ، يقول: يقولون: لن نصدق بما دعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان به, وبما جاء به من تحريم ما ذكر أنّ الله حرّمه علينا ( حتى نؤتى ) ، يعنون: حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى موسى من فلق البحر, وعيسى من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص . يقول تعالى ذكره: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، يعني بذلك جل ثناؤه: أن آيات الأنبياء والرسل لن يُعطاها من البشر إلا رسول مرسل, وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها . يقول جل ثناؤه: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي، ومن هو لها أهل, فليس لكم أيها المشركون أن تتخيَّروا ذلك عليّ أنتم, لأن تخيُّر الرسول إلى المرسِلِ دون المرسَل إليه, والله أعلم إذا أرسل رسالةً بموضع رسالاته .

 

القول في تأويل قوله : سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ( 124 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, معلِّمَه ما هو صانع بهؤلاء المتمردين عليه: « سيصيب » ، يا محمد، الذين اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره ( صغار ) ، يعني: ذلة وهوان ، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله ) ، قال: « الصغار » ، الذلة .

وهو مصدر من قول القائل: « صَغِرَ يصغَرُ صَغارًا وصَغَرًا » , وهو أشدّ الذلّ .

وأما قوله: ( صغار عند الله ) ، فإن معناه: سيصيبهم صغارٌ من عند الله, كقول القائل: « سيأتيني رزقي عند الله » , بمعنى: من عند الله, يراد بذلك: سيأتيني الذي لي عند الله . وغير جائز لمن قال: « سيصيبهم صغار عند الله » ، أن يقول: « جئت عند عبد الله » ، بمعنى: جئت من عند عبد الله, لأن معنى « سيصيبهم صغارٌ عند الله » ، سيصيبهم الذي عند الله من الذل، بتكذيبهم رسوله. فليس ذلك بنظير: « جئت من عند عبد الله » . .

وقوله: ( وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) ، يقول: يصيب هؤلاء المكذبين بالله ورسوله، المستحلين ما حرَّم الله عليهم من الميتة، مع الصغار عذابٌ شديد، بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل، والزخرف من القول، غرورًا لأهل دين الله وطاعته .

 

القول في تأويل قوله : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ

قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره: فمن يرد الله أن يهديه للإيمان به وبرسوله وما جاء به من عند ربه، فيوفقه له ( يشرح صدره للإسلام ) ، يقول: فسح صدره لذلك وهوَّنه عليه، وسهَّله له، بلطفه ومعونته, حتى يستنير الإسلام في قلبه, فيضيء له، ويتسع له صدره بالقبول ، كالذي جاء الأثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي:-

حدثنا سوّار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي يحدث, عن عبد الله بن مرة, عن أبي جعفر قال: لما نـزلت هذه الآية: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قالوا: كيف يشرح الصدر؟ قال: إذا نـزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح . قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: نعم, الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الفوت.

حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة, عن أبي جعفر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرًا, وأحسنهم لما بعده استعدادًا . قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قالوا: كيف يشرح صدره، يا رسول الله؟ قال: نور يُقذف فيه، فينشرح له وينفسح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: « الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت » .

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن عمرو بن مرة, عن رجل يكنى « أبا جعفر » ، كان يسكن المدائن قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قال: نور يقذف في القلب فينشرح وينفسخ . قالوا: يا رسول الله, هل له من أمارة يعرف بها؟ ثم ذكر باقي الحديث مثله .

حدثني هلال بن العلاء قال، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني قال: حدثنا محمد بن سلمة, عن أبي عبد الرحيم, عن زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نـزلت هذه الآية: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قال: إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح . قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود, والتنحِّي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت.

حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن خالد بن أبي كريمة, عن عبد الله بن المسور قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل النور القلبَ انفسح وانشرح. قالوا: يا رسول الله, وهل لذلك من علامة تعرف؟ قال: نعم, الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل نـزول الموت.

حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي, عن يونس, عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة, عن عبد الله بن مسعود, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قالوا: يا رسول الله, وكيف يُشرح صدره؟ قال: يدخل فيه النور فينفسح . قالوا: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: التجافي عن دار الغرور, والإنالة إلى دار الخلود, والاستعداد للموت قبل أن ينـزل الموت .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، أما « يشرح صدره للإسلام » ، فيوسع صدره للإسلام .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، بـ « لا إله إلا الله » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءة: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، بـ « لا إله إلا الله » يجعل لها في صدره متَّسعًا .

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أراد الله إضلاله عن سبيل الهدى، يَشغله بكفره وصدِّه عن سبيله, ويجعل صدره بخذلانه وغلبة الكفر عليه ، حرجًا .

و « الحرج » ، أشد الضيق, وهو الذي لا ينفذه، من شدة ضيقه, وهو ههنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة، ولا يدخله نور الإيمان، لريْن الشرك عليه . وأصله من « الحرج » , و « الحرج » جمع « حَرَجة » ، وهي الشجرة الملتف بها الأشجار, لا يدخل بينها وبينها شيء لشدة التفافها بها ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا عبد الله بن عمار رجل من أهل اليمن عن أبي الصلت الثقفي: أن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه قرأ هذه الآية: ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ) بنصب الراء . قال: وقرأ بعض مَنْ عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ضَيِّقًا حَرِجًا » . قال صفوان: فقال عمر: ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيًا, وليكن مُدْلجيًّا. قال: فأتوه به. فقال له عمر: يا فتى، ما الحرجة؟ قال: « الحرجة » فينا، الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشيَّة ولا شيء . قال: فقال عمر: كذلك قلبُ المنافق لا يصل إليه شيء من الخير .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، يقول: من أراد الله أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل الإسلام عليه ضيقًا، والإسلام واسع. وذلك حين يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، [ سورة الحج:78 ] ، يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال: بعضهم معناه: شاكًّا .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا حميد, عن مجاهد: ( ضيقًا حرجًا ) قال: شاكًّا .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ضيقًا حرجًا ) أما « حرجًا » ، فشاكًّا .

وقال آخرون: معناه: ملتبسًا .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، قال: ضيقًا ملتبسًا .

حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن الحسن, عن قتادة أنه كان يقرأ: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) ، يقول: ملتبسًا .

وقال آخرون: معناه: أنه من شدة الضيق لا يصل إليه الإيمان .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن حبيب بن أبي عمرة, عن سعيد بن جبير: ( يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، قال: لا يجد مسلكًا إلا صُعُدًا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عطاء الخراساني: ( ضيقًا حرجًا ) ، قال: ليس للخير فيه منفَذٌ .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عطاء الخراساني، مثله .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قوله: ( ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، بلا إله إلا الله، لا يجد لها في صدره مَسَاغًا .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءةً في قوله: ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا ) ، بلا إله إلا الله, حتى لا تستطيع أن تدخله .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأه بعضهم: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) بفتح الحاء والراء من ( حرجًا ) , وهي قراءة عامة المكيين والعراقيين, بمعنى جمع « حرجة » ، على ما وصفت .

وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة: « ضَيِّقًا حَرِجًا » ، بفتح الحاء وكسر الراء .

ثم اختلف الذين قرأوا ذلك في معناه.

فقال بعضهم: هو بمعنى: « الحَرَج » . وقالوا: « الحرَج » بفتح الحاء والراء, و « الحرِج » بفتح الحاء وكسر الراء، بمعنى واحد, وهما لغتان مشهورتان, مثل: « الدَّنَف » و « الدَّنِف » , و « الوَحَد » و « الوَحِد » , و « الفَرَد » و « الفَرِد » .

وقال آخرون منهم: بل هو بمعنى الإثم، من قولهم: « فلان آثِمٌ حَرِجٌ » ، وذكر عن العرب سماعًا منها: « حَرِجٌ عليك ظُلمي » , بمعنى: ضِيقٌ وإثْم.

قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان مستفيضتان بمعنى واحد, وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ، لاتفاق معنييهما. وذلك كما ذكرنا من الروايات عن العرب في « الوحَد » و « الفَرَد » بفتح الحاء من « الوحد » والراء من « الفرد » ، وكسرهما، بمعنى واحدٍ .

وأما « الضيِّق » , فإن عامة القرأة على فتح ضاده وتشديد يائه, خلا بعض المكيين فإنه قرأه: « ضَيْقًا » ، بفتح الضاد وتسكين الياء، وتخفيفه .

وقد يتجه لتسكينه ذلك وجهان:

أحدهما أن يكون سكنه وهو ينوي معنى التحريك والتشديد, كما قيل: « هَيْنٌ لَيْنٌ » , بمعنى: هيِّنٌ ليِّنٌ .

والآخر: أن يكون سكنه بنية المصدر، من قولهم: « ضاق هذا الأمر يضيق ضَيْقًا » , كما قال رؤبة:

قَــدْ عَلِمْنَــا عِنْــدَ كُـلِّ مَـأْزِقِ ضَيْــقٍ بِوَجْــهِ الأمْـرِ أَوْ مُضَيِّـقِ

ومنه قول الله: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ، [ سورة النحل: 127 ] . وقال رؤبة أيضًا * وَشَفَّها اللَّوحُ بِمَأْزُولٍ ضَيَقْ *

بمعنى: ضيّق . وحكي عن الكسائي أنه كان يقول: « الضيِّقُ » ، بالكسر: في المعاش والموضع, وفي الأمر « الضَّيْق » .

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية أبينُ البيان لمن وُفّق لفهمهما، عن أن السبب الذي به يُوصل إلى الإيمان والطاعة، غير السبب الذي به يُوصل إلى الكفر والمعصية, وأن كلا السببين من عند الله. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن نفسه أنه يشرح صدرَ من أراد هدايته للإسلام, ويجعل صدر من أراد إضلاله ضيِّقًا عن الإسلام حَرَجًا كأنَّما يصعد في السماء . ومعلومٌ أن شرح الصدر للإيمان خِلافُ تضييقه له, وأنه لو كان يوصل بتضييق الصدر عن الإيمان إليه، لم يكن بين تضييقه عنه وبين شرحه له فرق, ولكان من ضُيِّق صدره عن الإيمان، قد شُرِح صدره له، ومن شرح صدره له، فقد ضُيِّق عنه, إذ كان مَوْصولا بكل واحد منهما أعني من التضييق والشرح إلى ما يُوصَل به إلى الآخر . ولو كان ذلك كذلك, وجب أن يكون الله قد كان شرح صدرَ أبي جهل للإيمان به، وضيَّق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. وهذا القول من أعظم الكفر بالله . وفي فساد ذلك أن يكون كذلك، الدليلُ الواضح على أن السَّبب الذي به آمن المؤمنون بالله ورسله، وأطاعه المطيعون, غير السبب الذي كفر به الكافرون بالله وعصاه العاصون, وأن كِلا السببين من عند الله وبيده, لأنه أخبر جل ثناؤه أنه هو الذي يشرح صدرَ هذا المؤمن به للإيمان إذا أراد هدايته, ويضيِّق صدر هذا الكافر عنه إذا أراد إضلالَه .

 

القول في تأويل قوله : كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ

قال أبو جعفر: وهذا مثل من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه, مثل امتناعه من الصُّعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وسعه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عطاء الخراساني: ( كأنما يصعد في السماء ) ، يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عطاء الخراساني, مثله .

وبه قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءةً: « يجعل صدره ضيقًا حرجًا » ، بلا إله إلا الله, حتى لا تستطيع أن تدخله, « كأنما يصعد في السماء » ، من شدّة ذلك عليه .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, مثله .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كأنما يصعد في السماء ) ، من ضيق صدره .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والعراق: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ ) ، بمعنى: « يتصعَّد » , فأدغموا التاء في الصاد, فلذلك شدَّدوا الصاد .

وقرأ ذلك بعض الكوفيين: « يَصَّاعَدُ » ، بمعنى: « يتصاعد » , فأدغم التاء في الصاد، وجعلها صادًا مشدَّدة .

وقرأ ذلك بعض قرأة المكيين: « كَأَنَّمَا يَصْعَدُ » ، من « صَعِد يصعَد » .

وكل هذه القراءات متقاربات المعانى، وبأيِّها قرأ القارئ فهو مصيب, غير أني أختار القراءة في ذلك بقراءة من قرأه: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ ) ، بتشديد الصاد بغير ألف, بمعنى: « يتصعد » , لكثرة القرأة بها, ولقيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: « مَا تَصَعَّدَني شَيْء مَا تَصَعَّدَتْنِي خُطْبَةُ النّكاح » .

 

القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 125 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما يجعل الله صدر مَنْ أراد إضلاله ضيقًا حرجًا, كأنما يصعد في السماء من ضيقه عن الإيمان فيجزيه بذلك, كذلك يسلّط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبَى الإيمان بالله ورسوله, فيغويه ويصدّه عن سبيل الحق .

وقد اختلف أهل التأويل في معنى « الرجس » .

فقال بعضهم: هو كل ما لا خير فيه .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « الرجس » ، ما لا خير فيه .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد: ( يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ، قال: ما لا خير فيه .

وقال آخرون: « الرجس » ، العذاب .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ، قال: الرجس عذابُ الله .

وقال آخرون: « الرجس » ، الشيطان .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( الرجس ) ، قال: الشيطان .

وكان بعض أهل المعرفة بلغات العرب من الكوفيين يقول: « الرِّجْس » ، « والنِّجْس » لغتان . ويحكى عن العرب أنها تقول: « ما كان رِجْسًا, ولقد رَجُس رَجَاسة » و « نَجُس نَجَاسة » .

وكان بعض نحويي البصريين يقول: « الرجس » و « الرِّجز » ، سواء, وهما العذاب .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن عباس, ومَنْ قال إن « الرجس » و « النجس » واحد, للخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا دخل الخَلاء: « اللهُمّ إنّي أعوذ بك من الرجْس النِّجْس الخبيث المُخْبِثِ الشيطان الرَّجيم » .

حدثني بذلك عبد الرحمن بن البختري الطائي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن إسماعيل بن مسلم, عن الحسن وقتادة, عن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد بيَّن هذا الخبر أن « الرِّجْس » هو « النِّجْس » ، القذر الذي لا خير فيه, وأنه من صفة الشيطان .

 

القول في تأويل قوله : وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( 126 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي بيّنا لك، يا محمد، في هذه السورة وغيرها من سور القرآن هو صراطُ ربك, يقول: طريق ربّك، ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينًا، وجعله مستقيمًا لا اعوجاج فيه. فاثبُتْ عليه، وحرِّم ما حرمته عليك، وأحلل ما أحللته لك, فقد بيّنا الآيات والحجج على حقيقة ذلك وصحته « لقوم يذكرون » , يقول: لمن يتذكر ما احتجَّ الله به عليه من الآيات والعبر فيعتبر بها . وخص بها « الذين يتذكرون » , لأنهم هم أهل التمييز والفهم، وأولو الحجى والفضل وقيل: « يذَّكرون » ......................

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وهذا صراط ربك مستقيمًا ) ، يعني به الإسلام .

 

القول في تأويل قوله : لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 127 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « لهم » ، للقوم الذين يذكرون آيات الله فيعتبرون بها، ويوقنون بدلالتها على ما دلت عليه من توحيد الله ومن نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك, فيصدِّقون بما وصلوا بها إلى علمه من ذاك .

وأما « دار السلام » , فهي دار الله التي أعدَّها لأوليائه في الآخرة، جزاءً لهم على ما أبلوا في الدنيا في ذات الله، وهي جنته . و « السلام » ، اسم من أسماء الله تعالى, كما قال السدي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لهم دار السلام عند ربهم ) ، الله هو السلام, والدار الجنة .

وأما قوله: ( وهو وليُّهم ) ، فإنه يقول: والله ناصر هؤلاء القوم الذين يذكرون آيات الله ( بما كانوا يعملون ) ، يعني: جزاءً بما كانوا يعملون من طاعة الله, ويتبعون رضوانه .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( ويوم يحشرهم جميعًا ) ، ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ وغيرَهم من المشركين، مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يُوحون إليهم زخرف القول غرورًا ليجادلوا به المؤمنين, فيجمعهم جميعًا في موقف القيامة يقول للجن: ( يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) ، وحذف « يقول للجن » من الكلام، اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه .

وعنى بقوله: ( قد استكثرتم من الإنس ) ، استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) ، يعني: أضللتم منهم كثيرًا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) ، قال: قد أضللتم كثيرًا من الإنس .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( قد استكثرتم من الإنس ) ، قال: كثُر من أغويتم .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الحسن: ( قد استكثرتم من الإنس ) ، يقول: أضللتم كثيرًا من الإنس .

 

القول في تأويل قوله : وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيجيب أولياءُ الجن من الإنس فيقولون: « ربنا استمتع بعضنا ببعض » في الدنيا . فأما استمتاع الإنس بالجن, فكان كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( ربنا استمتع بعضنا ببعض ) ، قال: كان الرجل في الجاهلية ينـزل الأرض فيقول: « أعوذ بكبير هذا الوادي » ، فذلك استمتاعهم, فاعتذروا يوم القيامة .

وأما استمتاع الجن بالإنس, فإنه كان، فيما ذكر, ما ينال الجنَّ من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم, فيقولون: « قد سدنا الجِنّ والحِنّ »

 

القول في تأويل قوله : وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالوا: بلغنا الوقتَ الذي وقَّتَّ لموتنا . وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أنهم قالوا: استمتع بعضنا ببعض أيّام حياتنا إلى حال موتنا . كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: ( وبلغنا أجلنا الذي أجَّلتَ لنا ) ، فالموت .

 

القول في تأويل قوله : قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 128 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عمّا هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان، ولقُرَنائهم من الجن, فأخرج الخبر عما هو كائنٌ، مُخْرَج الخبر عما كان، لتقدُّم الكلام قبلَه بمعناه والمراد منه, فقال: قال الله لأولياء الجن من الإنس الذين قد تقدَّم خبرُه عنهم: ( النار مثواكم ) ، يعني نار جهنم « مثواكم » ، الذي تثوون فيه، أي تقيمون فيه .

و « المثوى » هو « المَفْعَل » من قولهم: « ثَوَى فلان بمكان كذا » , إذا أقام فيه .

( خالدين فيها ) ، يقول: لابثين فيها ( إلا ما شاء الله ) ، يعني إلا ما شاء الله من قَدْر مُدَّة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم, فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار ( إن ربك حكيم ) ، في تدبيره في خلقه, وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال، وغير ذلك من أفعاله ( عليم ) ، بعواقب تدبيره إياهم, وما إليه صائرةُ أمرهم من خير وشر .

وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء: أنّ الله جعل أمرَ هؤلاء القوم في مبلغ عَذَابه إيّاهم إلى مشيئته .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ) ، قال: إن هذه الآية: آيةٌ لا ينبغي لأحدٍ أن يحكم على الله في خلقه، أن لا ينـزلهم جنَّةً ولا نارًا .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 129 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ( نُوَلّي ) .

فقال بعضهم: معناه: نحمل بعضهم لبعض وليًّا، على الكفر بالله .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا يونس قال، حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون ) ، وإنما يولي الله بين الناس بأعمالهم ، فالمؤمن وليُّ المؤمن أين كان وحيث كان, والكافر وليُّ الكافر أينما كان وحيثما كان . ليس الإيمان بالتَمنِّي ولا بالتحَلِّي .

وقال آخرون: معناه: نُتْبع بعضهم بعضًا في النار من « الموالاة » , وهو المتابعة بين الشيء والشيء, من قول القائل: « واليت بين كذا وكذا » ، إذا تابعت بينهما .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا ) ، في النار، يتبع بعضهم بعضًا .

وقال آخرون: معنى ذلك، نسلط بعض الظلمة على بعض .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا ) ، قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس . وقرأ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، [ سورة الزخرف: 36 ] . قال: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: معناه: وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعضٍ أولياء . لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول المشركين, فقال جل ثناؤه: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ , وأخبر جل ثناؤه: أنّ بعضهم أولياء بعض, ثم عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضًا بتوليته إياهم, فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض يستمتع بعضهم ببعض, كذلك نجعل بعضَهم أولياء بعض في كل الأمور « بما كانوا يكسبون » ، من معاصي الله ويعملونه .

 

القول في تأويل قوله : يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن, يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذ: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ) ، يقول: يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي، وتعريفي لكم أدلّتي على توحيدي, وتصديق أنبيائي, والعمل بأمري، والانتهاء إلى حدودي ( وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) ، يقول: يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا، وعقابي على معصيتكم إيّاي, فتنتهوا عن معاصيَّ .

وهذا من الله جل ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي. ومعناه: قد أتاكم رسلٌ منكم ينبِّهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيدَ الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين, فلم تقبلوا ذلك، ولم تتذكروا ولم تعتبروا .

واختلف أهل التأويل في « الجن » , هل أرسل منهم إليهم، أم لا؟

فقال بعضهم: قد أرسل إليهم رسل، كما أرسل إلى الإنس منهم رسلٌ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سئل الضحاك عن الجن، هل كان فيهم نبيّ قبل أن يُبْعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألم تسمع إلى قول الله: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي ) ، يعني بذلك: رسلا من الإنس ورسلا من الجن؟ فقالوا: بلَى!

وقال آخرون: لم يرسل منهم إليهم رسولٌ, ولم يكن له من الجنّ قطٌّ رسول مرسل, وإنما الرسل من الإنس خاصَّة ، فأما من الجن فالنُّذُر . قالوا: وإنما قال الله: ( ألم يأتكم رسل منكم ) ، والرسل من أحد الفريقين, كما قال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، [ سورة الرحمن: 19 ] ، ثم قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ، [ سورة الرحمن: 22 ] ، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح دون العذب منهما، وإنما معنى ذلك: يخرج من بعضهما، أو من أحدهما . قال: وذلك كقول القائل لجماعة أدؤُرٍ: « إن في هذه الدُّور لشرًّا » , وإن كان الشر في واحدة منهن, فيخرج الخبر عن جميعهن، والمراد به الخبر عن بعضهن, وكما يقال: « أكلت خبزًا ولبنًا » ، إذا اختلطا، ولو قيل: « أكلت لبنًا » , كان الكلام خطأً, لأن اللبن يشرب ولا يؤكل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) ، قال: جمعهم كما جمع قوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ، [ سورة فاطر: 12 ] ، ولا يخرج من الأنهار حلية قال ابن جريج ، قال ابن عباس: هم الجن لقُوا قومهم, وهم رسل إلى قومهم .

فعلى قول ابن عباس هذا, أنّ من الجنّ رسلا للإنس إلى قومهم فتأويل الآية على هذا التأويل الذي تأوَّله ابن عباس: ألم يأتكم، أيها الجن والإنس، رسل منكم، فأما رسل الإنس فرسل من الله إليهم، وأما رسل الجن فرسُل رُسُل الله من بني آدم, وهم الذين إذا سَمِعوا القرآنَ وَلّوا إلى قومهم منذرين .

وأما الذين قالوا بقول الضحاك, فإنهم قالوا: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ من الجن رسلا أرسلوا إليهم, كما أخبر أن من الإنس رسلا أرسلوا إليهم . قالوا: ولو جاز أن يكون خبرُه عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس, جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رُسُل الجنّ . قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدلُّ على أن الخبرين جميعًا بمعنى الخبر عنهم أنهم رُسُل الله, لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره .

 

القول في تأويل قوله : قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 130 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن قول مشركي الجن والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ، أنهم يقولونه ................ ( شهدنا على أنفسنا ) ، بأن رسلك قد أتتنا بآياتك, وأنذرتنا لقاء يومنا هذا, فكذبناها وجحدنا رسالتها, ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها .

قال الله خبرًا مبتدأ: وغَرَّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام، وأولياءَهم من الجن ( الحياة الدنيا ) ، يعني: زينة الحياة الدنيا، وطلبُ الرياسة فيها والمنافسة عليها, أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله, فاستكبروا وكانوا قومًا عالين . فاكتفى بذكر « الحياة الدنيا » من ذكر المعاني التي غرَّتهم وخدَعتهم فيها, إذ كان في ذكرها مكتفًى عن ذكر غيرها، لدلالة الكلام على ما تُرك ذكره يقول الله تعالى ذكره: ( وشهدوا على أنفسهم ) ، يعني: هؤلاء العادلين به يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله, لتتم حجَّة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليمَ عذابه .

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( 131 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، أي: إنما أرسلنا الرسل، يا محمد، إلى من وصفتُ أمرَه, وأعلمتك خبره من مشركي الإنس والجن، يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم إليَّ, من أجل أن ربَّك لم يكن مهلك القرى بظلم .

وقد يتَّجه من التأويل في قوله: « بظلم » ، وجهان:

أحدهما: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، أي: بشرك مَنْ أشرك, وكفر مَنْ كفر من أهلها, كما قال لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، [ سورة لقمان: 13 ] ( وأهلها غافلون ) ، يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلا تنبههم على حجج الله عليهم, وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه, ولم يكن بالذي يأخذهم غَفْلة فيقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ .

والآخر: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، يقول: لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرُّسل والآيات والعبر, فيظلمهم بذلك, والله غير ظلامٍ لعبيده .

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي، القولُ الأول: أن يكون معناه: أن لم يكن ليهلكهم بشركهم، دون إرسال الرسل إليهم، والإعذار بينه وبينهم. وذلك أن قوله: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، عقيب قوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ، فكان في ذلك الدليل الواضحُ على أن نصَّ قوله: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، إنما هو: إنما فعلنا ذلك من أجل أنَّا لا نهلك القرى بغير تذكيرٍ وتنبيه .

وأما قوله: ( ذلك ) ، فإنه يجوز أن يكون نصبًا, بمعنى: فعلنا ذلك ويجوز أن يكون رفعًا، بمعنى الابتداء, كأنه قال: ذلك كذلك .

وأما « أنْ » ، فإنها في موضع نصب، بمعنى: فعلنا ذلك من أجل أنْ لم يكن ربك مهلك القرى فإذا حذف ما كان يخفضها، تعلق بها الفعل فنصب .

 

القول في تأويل قوله : وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 132 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته، منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها, ويثيبه بها, إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا ( وما ربك بغافل عما يعملون ) ، يقول جل ثناؤه: وكل ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربِّك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه .

 

القول في تأويل قوله : وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ( 133 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « وربك » ، يا محمد، الذي أمر عباده بما أمرهم به، ونهاهم عما نهاهم عنه، وأثابهم على الطاعة، وعاقبهم على المعصية « الغني » ، عن عباده الذين أمرهم بما أمر، ونهاهم عما نهى, وعن أعمالهم وعبادتهم إياه, وهم المحتاجون إليه, لأنه بيده حياتهم ومماتهم، وأرزاقهم وأقواتهم، ونفعهم وضرهم. يقول عز ذكره: فلم أخلقهم، يا محمد، ولم آمرهم بما أمرتهم به، وأنههم عما نهيتهم عنه, لحاجةٍ لي إليهم، ولا إلى أعمالهم, ولكن لأتفضَّل عليهم برحمتي، وأثيبهم على إحسانهم إن أحسنوا, فإني ذو الرَّأفة والرحمة .

وأما قوله: ( إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) ، فإنه يقول: إن يشأ ربُّك، يا محمد، الذي خلق خلقه لغير حاجة منه إليهم وإلى طاعتهم إياه ( يذهبكم ) ، يقول: يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم ( ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) ، يقول: ويأت بخلق غيركم وأمم سواكم، يخلفونكم في الأرض « من بعدكم » , يعني: من بعد فنائكم وهلاككم ( كما أنشأكم من ذريَّة قوم آخرين ) ، كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلَكم .

ومعنى « مِنْ » في هذا الموضع التعقيب, كما يقال في الكلام: « أعطيتك من دينارك ثوبًا » , بمعنى: مكانَ الدينار ثوبًا, لا أن الثوب من الدينار بعضٌ, كذلك الذين خوطبوا بقوله: ( كما أنشأكم ) ، لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين, ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنَّهم أنشئوا مكان خَلْقٍ خَلَف قوم آخرين قد هلكوا قبلهم .

و « الذرية » « الفُعْليّة » ، من قول القائل: « ذرأ الله الخلق » , بمعنى خلقهم، « فهو يذرؤهم » , ثم ترك الهمزة فقيل: « ذرا الله » , ثم أخرج « الفُعْليّة » بغير همز، على مثال « العُبِّيَّة » .

وقد روي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ: « مِنْ ذُرِّيئَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ » على مثال « فُعِّيلة » .

وعن آخر أنه كان يقرأ: « وَمِنْ ذِرِّيَّةِ » ، على مثال « عِلِّيَّة » .

قال أبو جعفر: والقراءة التي عليها القرأة في الأمصار: ( ذُرِّيَّةِ ) ، بضم الذال، وتشديد الياء، على مثال « عُبِّية » .

وقد بينا اشتقاق ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته ههنا .

وأصل « الإنشاء » ، الإحداث. يقال: « قد أنشأ فلان يحدِّث القوم » , بمعنى ابتدأ وأخذ فيه .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 134 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين به: أيها العادلون بالله الأوثانَ والأصنامَ, إن الذي يُوعدكم به ربكم من عقابه على إصراركم على كفركم، واقعٌ بكم ( وما أنتم بمعجزين ) , يقول: لن تعجزوا ربّكم هربًا منه في الأرض فتفوتوه, لأنكم حيث كنتم في قبضته, وهو عليكم وعلى عقوبتكم بمعصيتكم إيّاه قادر. يقول: فاحذرُوه وأنيبوا إلى طاعته، قبل نـزول البلاء بكم .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لقومك من قريش الذين يجعلون مع الله إلها آخر: ( اعملوا على مكانتكم ) ، يقول: اعملوا على حِيالكم وناحيتكم . كما:-

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( يا قوم اعملوا على مكانتكم ) ، يعني: على ناحيتكم .

يقال منه: « هو يعمل على مكانته، ومَكِينته » .

وقرأ ذلك بعض الكوفيين: « عَلَى مَكَانَاتِكُمْ » ، على جمع « المكانة » .

قال أبو جعفر: والذي عليه قرأة الأمصار: ( عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) ، على التوحيد .

( إني عامل ) ، يقول جل ثناؤه، لنبيه: قل لهم: اعملوا ما أنتم عاملون, فإني عامل ما أنا عامله مما أمرني به ربي ( فسوف تعلمون ) ، يقول: فسوف تعلمون عند نـزول نقمة الله بكم, أيُّنا كان المحقّ في عمله، والمصيب سبيلَ الرشاد, أنا أم أنتم.

وقوله تعالى ذكره لنبيه: قل لقومك: ( يا قوم اعملوا على مكانتكم ) ، أمرٌ منه له بوعيدهم وتهدّدهم, لا إطلاقٌ لهم في عمل ما أرادُوا من معاصي الله .

 

القول في تأويل قوله : مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 135 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( من تكون له عاقبة الدار ) ، فسوف تعلمون، أيها الكفرة بالله، عند معاينتكم العذابَ, مَن الذي تكون له عاقبة الدار منا ومنكم. يقول: من الذي تُعْقبه دنياه ما هو خير له منها أو شر منها، بما قدَّم فيها من صالح أعماله أو سَيّئها .

ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه فقال: ( إنه لا يفلح الظالمون ) ، يقول: إنه لا ينجح ولا يفوز بحاجته عند الله مَنْ عمل بخلاف ما أمره الله به من العمل في الدنيا وذلك معنى: « ظلم الظالم » ، في هذا الموضع .

وفي « من » التي في قوله: ( من تكون ) ، له وجهان من الإعراب:

الرفع على الابتداء.

والنصبُ بقوله: ( تعلمون ) ، ولإعمال « العلم » فيه.

والرفع فيه أجود, لأن معناه: فسوف تعلمون أيُّنا له عاقبة الدار؟ فالابتداء في « من » ، أصحُّ وأفصح من إعمال « العلم » فيه .

 

القول في تأويل قوله : وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 136 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الأوثانَ والأصنام لربهم ( مما ذرأ ) خالقهم, يعني: مما خلق من الحرث والأنعام.

يقال منه: « ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذَرْءًا، وذَرْوًا » ، إذا خَلَقهم .

« نصيبًا » ، يعني قسمًا وجزءًا .

ثم اختلف أهل التأويل في صفة النصيب الذي جعلوا لله، والذي جعلوه لشركائهم من الأوثان والشيطان.

فقال بعضهم: كان ذلك جزءًا من حُروثهم وأنعامهم يُفْرِزُونه لهذا، وجزءًا آخر لهذا .

ذكر من قال ذلك:

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن عكرمة عن ابن عباس ( فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ) ، الآية, قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حُزَمًا، جعلوا منها لله سَهْمًا، وسهمًا لآلهتهم. وكان إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردُّوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم. وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، أقرُّوه ولم يردُّوه. فذلك قوله: ( سَاءَ ما يحكمون ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ) ، قال: جعلوا لله من ثمراتهم وما لهم نصيبًا، وللشيطان والأوثان نصيبًا. فإن سقط من ثمرة ما جَعَلوا لله في نصيب الشيطان تركوه ، وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله التقَطُوه وحفظُوه وردُّوه إلى نصيب الشيطان ، وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدُّوه. فهذا ما جعلوا من الحروث وسِقْي الماء . وأما ما جعلوا للشيطان من الأنعام فهو قول الله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ، [ سورة المائدة: 103 ] .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم ) ، الآية, وذلك أن أعداءَ الله كانوا إذا احترثُوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة, جعلوا لله منها جزءًا وللوَثَن جزءًا, فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. فإن سقط منه شيء فيما سُمِّي لله ردُّوه إلى ما جعلوا للوثن. وإن سبقهم الماء إلى الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئًا جعلوه لله. جعلوا ذلك للوثن, وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله. فاختلط بالذي جعلوا للوثن, قالوا: « هذا فقير » ! ولم يردوه إلى ما جعلوا لله . وإن سبقهم الماء الذي جعلوا لله فسقى ما سُمِّي للوثن، تركوه للوثن . وكانوا يحرِّمون من أنعامهم البَحيرة والسائبة والوصيلةَ والحام, فيجعلونه للأوثان, ويزعمون أنهم يحرّمونه لله. فقال الله في ذلك: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، الآية .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، قال: يسمون لله جزءًا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم جزءًا ، فما ذهبت به الريح مما سمّوا لله إلى جزء أوثانهم تركوه, وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردُّوه، وقالوا: « الله عن هذا غنيّ » ! و « الأنعام » السائبة والبحيرة التي سمُّوا .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، الآية, عمَدَ ناس من أهل الضلالة فجزَّءوا من حروثهم ومواشيهم جزءًا لله وجزءًا لشركائهم . وكانوا إذا خالط شيء مما جزّءوا لله فيما جزءوا لشركائهم خلَّوه. فإذا خالط شيء مما جزءوا لشركائهم فيما جزءوا لله ردّوه على شركائهم . وكانوا إذا أصابتهم السَّنةُ استعانوا بما جزءوا لله، وأقرُّوا ما جزءوا لشركائهم ، قال الله: ( ساء ما يحكمون ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، قال: كانوا يجزئون من أموالهم شيئًا, فيقولون: « هذا لله, وهذا للأصنام » ، التي يعبدون . فإذا ذهب بعيرٌ مما جعلوا لشركائهم، فخالط ما جعلوا لله ردُّوه. وإن ذهب مما جعلوه لله فخالط شيئًا مما جعلوه لشركائهم تركوه . وإن أصابتهم سنة, أكلوا ما جعلوا لله، وتركوا ما جعلوا لشركائهم, فقال الله: ( ساء ما يحكمون ) .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) إلى ( يحكمون ) ، قال: كانوا يقسمون من أموالهم قِسْمًا فيجعلونه لله, ويزرعون زَرْعًا فيجعلونه لله, ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك. فما خرج للآلهة أنفقوه عليها, وما خرج لله تصدقوا به . فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم، وكثر الذي لله قالوا: « ليس بُدٌّ لآلهتنا من نفقة » ، وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم. وإذا أجدب الذي لله، وكثر الذي لآلهتهم, قالوا: « لو شاء أزكى الذي له » ! فلا يردُّون عليه شيئًا مما للآلهة . قال الله: لو كانوا صادقين فيما قسموا، لبئس إذًا ما حكموا: أن يأخذوا مني ولا يعطوني . فذلك حين يقول: ( ساء ما يحكمون ) .

وقال آخرون: « النصيب » الذي كانوا يجعلونه لله فكان يصل منه إلى شركائهم: أنهم كانوا لا يأكلون ما ذبحوا لله حتى يسمّوا الآلهة, وكانوا ما ذبحوه للآلهة يأكلونه ولا يسمون الله عليه .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) حتى بلغ: ( وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ) ، قال: كل شيء جعلوه لله من ذِبْح يذبحونه، لا يأكلونه أبدًا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم يذكروا اسمَ الله معه ، وقرأ الآية حتى بلغ: ( ساء ما يحكمون ) .

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية ما قال ابن عباس ومَنْ قال بمثل قوله في ذلك, لأن الله جل ثناؤه أخبر أنهم جعلوا لله من حرثهم وأنعامهم قسمًا مقدرُا, فقالوا: « هذا لله » وجعلوا مثله لشركائهم, وهم أوثانهم، بإجماع من أهل التأويل عليه, فقالوا: « هذا لشركائنا » وإن نصيب شركائهم لا يصل منه إلى الله, بمعنى: لا يصل إلى نصيب الله, وما كان لله وصَل إلى نصيب شركائهم . فلو كان وصول ذلك بالتسمية وترك التسمية, كان أعيان ما أخبر الله عنه أنه لم يصل، جائزًا أن تكون قد وصلت, وما أخبر عنه أنه قد وصل، لم يصل. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر الكلام، لأن الذبيحتين تُذبح إحداهما لله، والأخرى للآلهة, جائز أن تكون لحومهما قد اختلطت، وخلطوها إذ كان المكروه عندهم تسمية الله على ما كان مذبوحًا للآلهة، دون اختلاط الأعيان واتصال بعضها ببعض .

وأما قوله : ( ساء ما يحكمون ) ، فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم . يقول جل ثناؤه: وقد أساؤوا في حكمهم، إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم، ولم يعطوني من نصيب شركائهم . وإنما عنى بذلك تعالى ذكره الخبرَ عن جهلهم وضلالتهم، وذهابهم عن سبيل الحق، بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى، ما لا يضرهم ولا ينفعهم, حتى فضّلوه في أقسامهم عند أنفسهم بالقَسْم عليه .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 137 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما زيَّن شركاء هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام لهم ما زينوا لهم, من تصييرهم لربهم من أموالهم قَسْما بزعمهم, وتركهم ما وَصل من القَسْم الذي جعلوه لله إلى قسم شركائهم في قسمهم, وردِّهم ما وَصَل من القسم الذي جعلوه لشركائهم إلى قسم نصيب الله، إلى قسم شركائهم ( كذلك زين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم ) ، من الشياطين, فحسنوا لهم وأد البنات ( ليردوهم ) ، يقول: ليهلكوهم ( وليلبسوا عليهم دينهم ) ، فعلوا ذلك بهم، ليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس, فيضلوا ويهلكوا، بفعلهم ما حرم الله عليهم ولو شاء الله أن لا يفعلوا ما كانوا يفعلون من قتلهم لم يفعلوه, بأن كان يهديهم للحق، ويوفقهم للسداد, فكانوا لا يقتلونهم, ولكن الله خذلهم عن الرشاد فقتلوا أولادهم، وأطاعوا الشياطين التي أغوتهم .

يقول الله لنبيه، متوعدًا لهم على عظيم فريتهم على ربهم فيما كانوا يقولون في الأنصباء التي يقسِمونها: « هذا لله وهذا لشركائنا » ، وفي قتلهم أولادهم « ذرهم » ، يا محمد، « وما يفترون » ، وما يتقوّلون عليَّ من الكذب والزور, فإني لهم بالمرصاد, ومن ورائهم العذاب والعقاب .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ) ، زينوا لهم, من قَتْل أولادهم .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( قتل أولادهم شركاؤهم ) ، شياطينهم، يأمرونهم أن يَئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم ) الآية, قال: شركاؤهم زينوا لهم ذلك ( ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ) ، قال: شياطينهم التي عبدوها, زينوا لهم قتلَ أولادهم .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ) ، أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات . وأمَّا ( ليردوهم ) ، فيهلكوهم . وأما ( ليلبسوا عليهم دينهم ) ، فيخلطوا عليهم دينهم .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته قرأة الحجاز والعراق: ( وَكَذَلِكَ زَيَّن ) ، بفتح الزاي من « زين » ، ( لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ ) ، بنصب « القتل » , ( شُرَكَاؤُهُمْ ) ، بالرفع بمعنى أن شركاء هؤلاء المشركين، الذين زينوا لهم قتلَ أولادهم فيرفعون « الشركاء » بفعلهم, وينصبون « القتل » ، لأنه مفعول به .

وقرأ ذلك بعض قرأة أهل الشام: « وَكَذَلِكَ زُيِّنَ » بضم الزاي « لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ » بالرفع « أَوْلادَهُمْ » بالنصب « شُرَكَائِهِمْ » بالخفض بمعنى: وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ شركائهم أولادَهم ، ففرّقوا بين الخافض والمخفوض بما عمل فيه من الاسم. وذلك في كلام العرب قبيح غير فصيح . وقد روي عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيِّد قراءة من قرأ بما ذكرت من قرأة أهل الشام, رأيتُ رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه, وذلك قول قائلهم:

فَزَجَجْتُــــــهُ مُتَمَكِّنًــــــا زَجَّ القَلُـــوصَ أَبـــي مَــزَادَهْ

قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها: ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ) ، بفتح الزاي من « زين » ، ونصب « القتل » بوقوع « زين » عليه، وخفض « أولادهم » بإضافة « القتل » إليهم, ورفع « الشركاء » بفعلهم، لأنهم هم الذين زينوا للمشركين قتلَ أولادهم، على ما ذكرتُ من التأويل .

وإنما قلت: « لا أستجيز القراءة بغيرها » ، لإجماع الحجة من القرأة عليه, وأن تأويل أهل التأويل بذلك ورد, ففي ذلك أوضح البيان على فساد ما خالفها من القراءة .

ولولا أن تأويل جميع أهل التأويل بذلك ورد، ثم قرأ قارئ: « وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ » ، بضم الزاي من « زين » ، ورفع « القتل » ، وخفض « الأولاد » و « الشركاء » , على أن « الشركاء » مخفوضون بالردّ على « الأولاد » ، بأنّ « الأولاد » شركاء آبائهم في النسب والميراث كان جائزًا .

ولو قرأه كذلك قارئ, غير أنه رفع « الشركاء » وخفض « الأولاد » ، كما يقال: « ضُرِبَ عبدُ الله أخوك » , فيظهر الفاعل، بعد أن جرى الخبر بما لم يسمَّ فاعله كان ذلك صحيحًا في العربية جائزًا .

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء الجهلة من المشركين أنهم كانوا يحرمون ويحللون من قِبَل أنفسهم، من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك .

يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم من المشركين، جهلا منهم, لأنعام لهم وحرث: هذه أنعامٌ وهذا حرث حجر يعني بـ « الأنعام » و « الحرث » ما كانوا جعلوه لله ولآلهتهم، التي قد مضى ذكرها في الآية قبل هذه .

وقيل: إن « الأنعام » ، السائبة والوصيلة والبحيرة التي سمَّوا .

حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الأنعام » ، السائبة والبحيرة التي سمُّوا .

و « الحِجْر » في كلام العرب، الحرام. يقال: « حَجَرت على فلان كذا » ، أي حرَّمت عليه, ومنه قول الله: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ، [ سورة الفرقان: 22 ] ، ومنه قول المتلمس:

حَـنَّتْ إلَـى النَّخْلَةِ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا: حِجْــرٌ حَــرَامٌ, أَلا ثَـمَّ الدَّهَـارِيسُ

وقول رؤبة، [ العجاج ] :

* وَجَارَةُ البَيْتِ لَهَا حُجْرِيُّ *

يعني المحرّمَ ، ومنه قول الآخر:

فَبِــتُّ مُرْتَفِقًــا, والعَيْـنُ سَـاهِرَةٌ كَـأَنَّ نَـوْمِي عَـلَيَّ اللَّيْـلَ مَحْجُـورُ

أي حرام. يقال : « حِجْر » و « حُجْر » , بكسر الحاء وضمها .

وبضمها كان يقرأ، فيما ذُكر، الحسنُ وقتادة .

حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي [ قال، حدثني عمي ] قال، حدثني أبي, عن الحسين, عن قتادة أنه: كان يقرؤها: « وَحَرْثٌ حُجْرٌ » ، يقول: حرام, مضمومة الحاء .

وأما القرأة من الحجاز والعراق والشام، فعلى كسرها. وهي القراءة التي لا أستجيز خلافها، لإجماع الحجة من القرأة عليها, وأنها اللغة الجُودَى من لغات العرب .

وروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: « وَحَرْثٌ حِرْجٌ » ، بالراء قبل الجيم .

حدثني بذلك الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن ابن عباس: أنه كان يقرؤها كذلك .

وهي لغة ثالثة، معناها ومعنى « الحجر » واحد. وهذا كما قالوا: « جذب » و « جبذ » , و « ناء » و « نأى » .

ففي « الحجر » ، إذًا، لغات ثلاث: « حجر » بكسر الحاء، والجيم قبل الراء « وحُجر » بضم الحاء، والجيم قبل الراء و « حِرْج » ، بكسر الحاء، والراء قبل الجيم .

وبنحو الذي قلنا في تأويل الحجر قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث, عن حميد, عن مجاهد وأبي عمرو: ( وحرث حجر ) ، يقول: حرام .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وحرث حجر ) ، فالحجر . ما حرّموا من الوصيلة, وتحريم ما حرموا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وحرث حجر ) ، قال: حرام .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( هذه أنعام وحرث حجر ) الآية, تحريمٌ كان عليهم من الشياطين في أموالهم، وتغليظ وتشديد. وكان ذلك من الشياطين، ولم يكن من الله .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: ( وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ) ، فيقولون: حرام، أن نطعم إلا من شئنا .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( هذه أنعام وحرث حجر ) ، نحتجرها على مَنْ نريد وعمن نريد, لا يطعمها إلا مَنْ نشاء، بزعمهم. قال: إنما احتجروا ذلك لآلهتهم, وقالوا: لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ) ، قالوا: نحتجرها عن النساء, ونجعلها للرجال .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أنعام وحرث حجر ) ، أما « حجر » , يقول: محرَّم . وذلك أنهم كانوا يصنعون في الجاهلية أشياء لم يأمر الله بها, كانوا يحرّمون من أنعامهم أشياء لا يأكلونها, ويعزلون من حرثهم شيئًا معلومًا لآلهتهم, ويقولون: لا يحل لنا ما سمّينا لآلهتنا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( أنعام وحرث حجر ) ، ما جعلوه لله ولشركائهم .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 138 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّم هؤلاء الجهلة من المشركين ظهورَ بعض أنعامهم, فلا يركبون ظهورها, وهم ينتفعون برِسْلِها ونِتَاجها وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب . وحرموا من أنعامهم أنعامًا أخر، فلا يحجُّون عليها، ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحالٍ، ولا إن حلبوها، ولا إن حمَلوا عليها .

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم قال: قال لي أبو وائل : أتدري ما « أنعام لا يذكرون اسم الله عليها » ؟ قال: قلت: لا! قال: أنعام لا يحجون عليها .

حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال، حدثنا شاذان قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم قال: قال لي أبو وائل: أتدري ما قوله: ( حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) ؟ قال: قلت: لا! قال: هي البحيرة، كانوا لا يحجون عليها .

حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال، حدثنا محمد بن سعيد الشهيد قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم, عن أبي وائل: ( وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) ، قال: لا يحجون عليها .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي أما: ( أنعام حرمت ظهورها ) ، فهي البحيرة والسائبة والحام وأما « الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها » , قال: إذا أولدوها, ولا إن نحروها .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) ، قال: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها، لا إن ركبوها, ولا إن حلبوا, ولا إن حملوا, ولا إن منحوا, ولا إن عملوا شيئًا .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأنعام حرمت ظهورها ) ، قال: لا يركبها أحد ( وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) .

وأما قوله: ( افتراء على الله ) , فإنه يقول: فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا, وقالوا ما قالوا من ذلك, كذبًا على الله, وتخرّصًا الباطلَ عليه; لأنهم أضافوا ما كانوا يحرّمون من ذلك، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه، إلى أنّ الله هو الذي حرّمه, فنفى الله ذلك عن نفسه, وأكذبهم, وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدّعون .

ثم قال عز ذكره: ( سيجزيهم ) ، يقول: سيثيبهم ربُّهم بما كانوا يفترونَ على الله الكذبَ ثوابَهم, ويجزيهم بذلك جزاءهم .

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: ( ما في بطون هذه الأنعام ) .

فقال بعضهم: عنى بذلك اللَّبن .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن أبي الهذيل, عن ابن عباس: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) ، قال: اللبن .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن ابن أبي الهذيل, عن ابن عباس، مثله .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) ، ألبان البحائر كانت للذكور دون النساء, وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) ، قال: ما في بطون البحائر، يعني ألبانها, كانوا يجعلونه للرجال، دون النساء .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عيسى بن يونس, عن زكريا, عن عامر قال: « البحيرة » لا يأكل من لبنها إلا الرجال, وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,قوله: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) الآية, فهو اللبن، كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركب لم تذبح. وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء . فنهى الله عن ذلك .

وقال آخرون: بل عنى بذلك ما في بطون البحائر والسوائب من الأجنة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) ، فهذه الأنعام، ما ولد منها من حيّ فهو خالص للرجال دون النساء. وأما ما ولد من ميت، فيأكله الرجال والنساء .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) ، السائبة والبحيرة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الكفرة أنهم قالوا في أنعام بأعيانها: « ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا دون إناثنا » ، واللبن ما في بطونها, وكذلك أجنتها. ولم يخصُص الله بالخبر عنهم أنهم قالوا: بعضُ ذلك حرام عليهن دون بعض .

وإذ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يقال إنهم قالوا: ما في بطون تلك الأنعام من لبن وجنين حِلٌّ لذكورهم خالصة دون إناثهم, وإنهم كانوا يؤثرون بذلك رجالهم, إلا أن يكون الذي في بطونها من الأجنة ميتًا، فيشترك حينئذ في أكله الرجال والنساء .

واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أنثت « الخالصة » .

فقال بعض نحويي البصرة وبعض الكوفيين: أنثت لتحقيق « الخلوص » , كأنه لما حقق لهم الخلوص أشبه الكثرة, فجرى مجرى « راوية » و « نسابة » .

وقال بعض نحويي الكوفة: أنثت لتأنيث « الأنعام » , لأن « ما في بطونها » ، مثلها, فأنثت لتأنيثها . ومن ذكّره فلتذكير « ما » . قال: وهي في قراءة عبد الله: « خَالِصٌ » . قال: وقد تكون الخالصة في تأنيثها مصدرًا, كما تقول: « العافية » و « العاقبة » , وهو مثل قوله: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ [ سورة ص: 46 ] .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: أريد بذلك المبالغة في خلوص ما في بطون الأنعام التي كانوا حرَّموا ما في بطونها على أزواجهم, لذكورهم دون إناثهم, كما فعل ذلك « بالراوية » و « النسابة » و « العلامة » , إذا أريد بها المبالغة في وصف من كان ذلك من صفته, كما يقال: « فلان خالصة فلان، وخُلصانه » .

وأما قوله: ( ومحرم على أزواجنا ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ بـ « الأزواج » .

فقال بعضهم: عنى بها النساء .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ومحرم على أزواجنا ) ، قال: النساء .

وقال آخرون: بل عنى بالأزواج البنات .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ومحرم على أزواجنا ) ، قال: « الأزواج » ، البنات . وقالوا: ليس للبنات منه شيء .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام يعني أنعامهم : « هذا محرم على أزواجنا » ، و « الأزواج » ، إنما هي نساؤهم في كلامهم, وهن لا شك بنات من هن أولاده, وحلائل من هن أزواجه .

وفي قول الله عز وجل: ( ومحرم على أزواجنا ) ، الدليلُ الواضح على أن تأنيث « الخالصة » ، كان لما وصفت من المبالغة في وصف ما في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور, لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل: و « محرمة على أزواجنا » , ولكن لما كان التأنيث في « الخالصة » لما ذكرت, ثم لم يقصد في « المحرم » ما قصد في « الخالصة » من المبالغة, رجع فيها إلى تذكير « ما » , واستعمال ما هو أولى به من صفته .

وأما قوله: ( وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) ، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأه يزيد بن القعقاع، وطلحة بن مصرِّف، في آخرين: « وَإنْ تَكُنْ مَيْتَةٌ » بالتاء في « تكن » ، ورفع « ميتة » , غير أن يزيد كان يشدّد الياء من « مَيِّتَةٌ » ويخففها طلحة .

حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا عيسى, عن طلحة بن مصرف .

وحدثنا أحمد بن يوسف, عن القاسم, وإسماعيل بن جعفر, عن يزيد .

وقرأ ذلك بعض قَرَأة المدينة والكوفة والبصرة: ( وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً ) ، بالياء، و « ميتة » ، بالنصب، وتخفيف الياء .

وكأنّ من قرأ: ( وإن يكن ) ، بالياء ( ميتة ) بالنصب, أراد: وإن يكن ما في بطون تلك الأنعام فذكر « يكن » لتذكير « ما » ونصب « الميتة » ، لأنه خبر « يكن » .

وأما من قرأه : « وإن تكن ميتة » ، فإنه إن شاء الله أراد: وإن تكن ما في بطونها ميتة, فأنث « تكن » لتأنيث « ميتة » .

وقوله: ( فهم فيه شركاء ) ، فإنه يعني أن الرجال وأزواجهم شركاء في أكله، لا يحرمونه على أحد منهم, كما ذكرنا عمن ذكرنا ذلك عنه قبل من أهل التأويل .

وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) ، قال: تأكل النساء مع الرجال, إن كان الذي يخرج من بطونها ميتة، فهم فيه شركاء, وقالوا: إن شئنا جعلنا للبنات فيه نصيبًا، وإن شئنا لم نجعل .

قال أبو جعفر: وظاهر التلاوة بخلاف ما تأوَّله ابن زيد, لأن ظاهرها يدل على أنهم قالوا: « إن يكن ما في بطونها ميتة, فنحن فيه شركاء » بغير شرط مشيئة . وقد زعم ابن زيد أنهم جعلوا ذلك إلى مشيئتهم .

 

القول في تأويل قوله : سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 139 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « سيجزي » ، أي: سيثيب ويكافئ هؤلاء المفترين عليه الكذب في تحريمهم ما لم يحرّمه الله, وتحليلهم ما لم يحلله الله, وإضافتهم كذبهم في ذلك إلى الله وقوله: ( وصفهم ) ، يعني بـ « وصفهم » ، الكذبَ على الله, وذلك كما قال جلَّ ثناؤه في موضع آخر من كتابه: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ، [ سورة النحل: 62 ] .

و « الوصف » و « الصفة » في كلام العرب واحد, وهما مصدران مثل « الوزن » و « الزنة » .

وبنحو الذي قلنا في معنى « الوصف » قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( سيجزيهم وصفهم ) ، قال: قولهم الكذب في ذلك .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: ( سيجزيهم وصفهم ) قال: كذبهم .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( سيجزيهم وصفهم ) ، أي كذبهم .

وأما قوله: ( إنه حكيم عليم ) ، فإنه يقول جل ثناؤه: إن الله في مجازاتهم على وصفهم الكذب وقيلهم الباطل عليه « حكيم » ، في سائر تدبيره في خلقه « عليم » ، بما يصلحهم، وبغير ذلك من أمورهم .

 

القول في تأويل قوله : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 140 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد هلك هؤلاء المفترون على ربهم الكذبَ, العادلون به الأوثانَ والأصنام, الذين زين لهم شركاؤهم قتل أولادهم, وتحريم [ ما أنعمت به ] عليهم من أموالهم, فقتلوا طاعة لها أولادهم, وحرّموا ما أحل الله لهم وجعله لهم رزقًا من أنعامهم « سفها » ، منهم. يقول: فعلوا ما فعلوا من ذلكَ جهالة منهم بما لهم وعليهم, ونقصَ عقول, وضعفَ أحلام منهم, وقلة فهم بعاجل ضرّه وآجل مكروهه، من عظيم عقاب الله عليه لهم ( افتراء على الله ) ، يقول: تكذّبًا على الله وتخرصًا عليه الباطل ( قد ضلوا ) ، يقول: قد تركوا محجة الحق في فعلهم ذلك, وزالوا عن سواء السبيل ( وما كانوا مهتدين ) ، يقول: ولم يكن فاعلو ذلك على هدًى واستقامة في أفعالهم التي كانوا يفعلون قبل ذلك, ولا كانوا مهتدين للصواب فيها، ولا موفقين له .

ونـزلت هذه الآية في الذين ذكر الله خبرهم في هذه الآيات من قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا الذين كانوا يبحرون البحائر, ويسيِّبون السوائب, ويئدون البنات ، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عكرمة، قوله: ( الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم ) ، قال: نـزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومُضَر, كان الرجل يشترط على امرأته أن تستحيي جارية وتئد أخرى. فإذا كانت الجارية التي تَئِد، غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: « أنت علي كظهر أمِّي إن رجعت إليك ولم تئديها » ، فتخُدُّ لها في الأرض خدًّا, وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها, ثم يتداولنها, حتى إذا أبصرته راجعًا دستها في حفرتها, ثم سوّت عليها التراب .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ثم ذكر ما صنعوا في أولادهم وأموالهم فقال: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم وحرموا ما رزقهم الله ) .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم ) ، فقال: هذا صنيع أهل الجاهلية. كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السِّباء والفاقة، ويغذو كلبه وقوله: ( وحرموا ما رزقهم الله ) ، الآية, وهم أهل الجاهلية. جعلوا بحيرةً وسائبة ووصيلةً وحاميًا, تحكمًا من الشياطين في أموالهم .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، إذا سرَّك أن تعلم جهل العرب, فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام قوله: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم ) ، الآية .

وكان أبو رزين يتأوّل قوله: ( قد ضلوا ) ، أنه معنيٌّ به: قد ضلوا قبل هؤلاء الأفعال من قتل الأولاد، وتحريم الرزق الذي رزقهم الله بأمور غير ذلك .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبى رزين في قوله: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم ) ، إلى قوله: ( قد ضلوا ) ، قال: قد ضلوا قبل ذلك .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ

قال أبو جعفر: وهذا إعلام من الله تعالى ذكره ما أنعم به عليهم من فضله, وتنبيهٌ منه لهم على موضع إحسانه, وتعريفٌ منه لهم ما أحلَّ وحرَّم وقسم في أموالهم من الحقوق لمن قسم له فيها حقًّا .

يقول تعالى ذكره: وربكم، أيها الناس ( أنشأ ) ، أي أحدث وابتدع خلقًا, لا الآلهة والأصنام ( جنات ) ، يعني: بساتين ( معروشات ) ، وهي ما عَرَش الناس من الكروم ( وغير معروشات ) ، غير مرفوعات مبنيَّات, لا ينبته الناس ولا يرفعونه, ولكن الله يرفعه وينبته وينمِّيه ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( معروشات ) ، يقول: مسموكات .

وبه عن ابن عباس: ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ) ، فـ « المعروشات » ، ما عرش الناس « وغير معروشات » ، ما خرج في البر والجبال من الثمرات .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « جنات » ، فالبساتين وأما « المعروشات » ، فما عرش كهيئة الكَرْم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات ) ، قال: ما يُعرَش من الكروم ( وغير معروشات ) ، قال: ما لا يعرش من الكرم .

 

القول في تأويل قوله : وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وأنشأ النخل والزرع مختلفا أكله يعني بـ « الأكل » ، الثمر. يقول: وخلق النخل والزرع مختلفًا ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر والحب « والزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه » ، في الطعم, منه الحلو، والحامض، والمزّ، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( متشابهًا وغير متشابه ) ، قال: « متشابهًا » ، في المنظر « وغير متشابه » ، في الطعم .

وأما قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) ، فإنه يقول: كلوا من رطبه ما كان رطبًا ثمره ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب في قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) ، قال: من رطبه وعنبه .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن الزبرقان قال، حدثنا موسى بن عبيدة في قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) ، قال: من رطبه وعنبه .

 

القول في تأويل قوله : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: هذا أمر من الله بإيتاء الصدقة المفروضة من الثمر والحبِّ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس, عن الحسن, في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة .

حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا يزيد بن درهم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة المفروضة .

حدثنا عمرو قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا الحجاج بن أرطاة, عن الحكم, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد, عن حجاج, عن محمد بن عبيد الله, عن عبد الله بن شداد, عن ابن عباس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر ونصف العشر .

حدثنا عمرو بن علي وابن وكيع وابن بشار قالوا، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إبراهيم بن نافع المكي, عن ابن عباس, عن أبيه, في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة .

حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو هلال, عن حيان الأعرج, عن جابر بن زيد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا يونس, عن الحسن في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هي الصدقة قال: ثم سئل عنها مرة أخرى فقال: هي الصدقة من الحبّ والثمار .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الله, عن عمرو بن سليمان وغيره, عن سعيد بن المسيب أنه قال: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الصدقة المفروضة .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هي الصدقة من الحب والثمار .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، يعني بحقه، زكاته المفروضة, يوم يُكال أو يُعلم كيله .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده, وهو أن يعلم ما كيله وحقّه, فيخرج من كل عشرة واحدًا, وما يَلْقُط الناس من سنبله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، و « حقه يوم حصاده » ، الصدقة المفروضة ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سَنَّ فيما سقت السماء أو العين السائحة, أو سقاه الطل و « الطل » ، الندى أو كان بَعْلا العشرَ كاملا. وإن سقي برشاء: نصفَ العشر قال قتادة: وهذا فيما يكال من الثمرة. وكان هذا إذا بلغت الثمرة خمسةُ أوسقٍ, وذلك ثلثمئة صاع, فقد حق فيها الزكاة. وكانوا يستحبون أن يعطوا مما لا يكال من الثمرة على قدر ذلك .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة وطاوس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قالا هو الزكاة .

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن الحجاج, عن سالم المكي, عن محمد بن الحنفية قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يوم كيله, يعطي العشر أو نصف العشر .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم المكي, عن محمد ابن الحنفية قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر, ونصف العشر .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, وعن قتادة: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قالا الزكاة .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية الضرير, عن الحجاج, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر ونصف العشر .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شريك, عن الحكم بن عتيبة, عن ابن عباس, مثله .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال،سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، يعني: يوم كيله، ما كان من برّ أو تمر أو زبيب . و « حقه » ، زكاته .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كُلْ منه, وإذا حصدته فآت حقه ، و « حقه » ، عشوره .

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن يونس بن عبيد, عن الحسن أنه قال في هذه الآية: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة إذا كِلْتَه .

حدثنا عمرو قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة .

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سألت ابن زيد بن أسلم عن قول الله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، فقلت له: هو العشور؟ قال: نعم! فقلت له: عن أبيك؟ قال: عن أبي وغيره .

وقال آخرون: بل ذلك حقٌّ أوجبه الله في أموال أهل الأموال, غيرُ الصدقة المفروضة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا محمد بن جعفر, عن أبيه: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: شيئًا سوى الحق الواجب قال: وكان في كتابه: « عن علي بن الحسين » .

حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا عبد الملك, عن عطاء في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: القبضة من الطعام .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج, عن عطاء: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: من النخل والعنب والحب كله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت ما حصدتُ من الفواكه؟ قال: ومنها أيضًا تؤتي . وقال: من كل شيء حصدتَ تؤتي منه حقه يوم حصاده, من نخل أو عنب أو حب أو فواكه أو خضر أو قصب, من كل شيء من ذلك . قلت لعطاء: أواجب على الناس ذلك كله؟ قال: نعم! ثم تلا ( وآتوا حقه يوم حصاده ) . قال: قلت لعطاء: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ،هل في ذلك شيء مُؤَقّت معلوم؟ قال: لا .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن عبد الملك, عن عطاء في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يعطي من حُضورِ يومئذ ما تيسر, وليس بالزكاة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عيسى بن يونس, عن عبد الملك, عن عطاء: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: ليس بالزكاة, ولكن يطعم من حضره ساعتئذٍ حَصِيده .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن العلاء بن المسيب, عن حماد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كانوا يعطون رُطبًا .

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه, وإذا أنقيته وأخذت في كيله حَثَوْت لهم منه. وإذا علمتَ كيله عزلتَ زكاته. وإذا أخذت في جَدَاد النخل طَرَحت لهم من الثفاريق. وإذا أخذت في كيله حثَوْت لهم منه. وإذا علمت كيله عزلت زكاته .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: سوى الفريضة .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يلقي إلى السؤَّال عند الحصاد من السنبل, فإذا طِينَ أو طُيِّن، الشك من أبي جعفر ألقى إليهم . فإذا حمله فأراد أن يجعله كُدْسًا ألقى إليهم. وإذا داس أطعمَ منه, وإذا فرغ وعلم كم كيله، عزل زكاته . وقال: في النخل عند الجَدَاد يطعم من الثمرة والشماريخ. فإذا كان عند كيله أطعم من التمر. فإذا فرغ عزل زكاته .

حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: إذا حصد الزرع ألقى من السنبل, وإذا جَدَّ النخل ألقى من الشماريخ. فإذا كاله زكّاه .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: عند الحصاد, وعند الدِّياس, وعند الصِّرام، يقبض لهم منه, فإذا كاله عزل زكاته .

وبه، عن سفيان, عن مجاهد مثله إلا أنه قال: سوى الزكاة .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: شيء سوى الزكاة، في الحصاد والجَدَاد, إذا حَصَدوا وإذا حَزَرُوا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, في قول الله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: واجب، حين يصرم .

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن منصور, عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: إذا حصد أطعم, وإذا أدخله البَيْدَر, وإذا داسه أطعم منه .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن أشعث, عن ابن عمر, قال: يطعم المعترَّ، سوى ما يعطي من العشر ونصف العشر .

وبه، عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد قال: قبضة عند الحصاد, وقبضة عند الجَدَاد .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص, عن أشعث, عن ابن سيرين, قال: كانوا يعطون مَنْ اعترَّ بهم الشيءَ .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قال: الضِّغث .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قال: يعطي مثل الضِّغث .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا حماد, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: مثل هذا من الضغث ووضع يحيى إصبعه الإبهام على المفصل الثاني من السَّبّابة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قال: نحو الضِّغث .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر وعن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قالا يعطي ضغثًا .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصم قال، كان النخل إذا صُرِم يجيء الرجل بالعِذْق من نخله، فيعلِّقه في جانب المسجد, فيجيء المسكين فيضربُه بعصاه, فإذا تناثر أكلَ منه . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حَسن أو حسين, فتناول تمرةً, فانتزعها من فيه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصَّدقة, ولا أهلُ بيته . فذلك قوله: ( وآتوا حقَّه يوم حصاده ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان, عن جعفر بن برقان, عن ميمون بن مهران, ويزيد بن الأصم قالا كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعِذْق فيضعونه في المسجد, ثم يجيء السائل فيضربه بعصاه, فيسقط منه, وهو قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) .

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن جعفر, عن يزيد وميمون، في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قالا كان الرجل إذا جدَّ النخلَ يجيء بالعِذْق فيعلقه في جانب المسجد, فيأتيه المسكين فيضربه بعصاه, فيأكل ما يتناثر منه .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: لَقَطُ السُّنبل .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عبد الكريم الجزري, عن مجاهد قال: كانوا يعلقون العذق في المسجد عند الصِّرام, فيأكل منه الضعيف .

وبه، عن معمر قال, قال مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، يطعم الشيءَ عند صِرَامه .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الضغث، وما يقع من السنبل .

وبه، عن سالم, عن سعيد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العلَف .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شريك, عن سالم, عن سعيد في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كان هذا قبل الزكاة، للمساكين, القبضةُ والضِّغث لعلف دابته .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا محمد بن رفاعة, عن محمد بن كعب في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: ما قلّ منه أو كثر .

حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: عند الزرع يعطي القبضَ, وعند الصِّرام يعطي القبض, ويتركهم فيتتبعون آثار الصِّرام .

وقال آخرون: كان هذا شيئًا أمر الله به المؤمنين قبل أن تفرض عليهم الصدقة المؤقتة. ثم نسخته الصدقة المعلومة, فلا فرض في مال كائنًا ما كان زرعًا كان أو غرسًا, إلا الصدقة التي فرضها الله فيه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن حجاج, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس قال: نسخها العُشْر ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص, عن الحجاج, عن الحكم, عن ابن عباس قال: نسخها العُشْر ونصف العشر .

وبه، عن حجاج, عن سالم, عن ابن الحنفية قال: نسخها العُشْر, ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هذا قبل الزكاة, فلما نـزلت الزكاة نسختها, فكانوا يعطون الضِّغْث .

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كانوا يفعلون ذلك، حتى سُنَّ العُشر ونصف العشر. فلما سُنّ العشر ونصف العشر، تُرك .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هي منسوخة, نسختها العُشر ونصف العشر .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان, عن المغيرة, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: نسختها العشر ونصف العشر .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم قال: نسختها العشر ونصف العشر .

وبه، عن سفيان, عن يونس, عن الحسن قال: نسختها الزكاة .

وبه، عن سفيان, عن السدى قال: نسختها الزكاة: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم, في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هذه السورة مكية، نسختها العشر ونصف العشر. قلت: عمّن؟ قال: عن العلماء .

وبه، عن سفيان, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم قال: نسختها العشر ونصف العشر .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، فكانوا إذا مرّ بهم أحدٌ يوم الحصاد أو الجدَادِ، أطعموه منه, فنسخها الله عنهم بالزكاة, وكان فيما أنبتتِ الأرضُ، العشرُ ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى, عن يونس, عن الحسن قال: كانوا يَرْضَخون لقرَابتهم من المشركين .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: نسخه العشر ونصف العشر. كانوا يعطون إذا حصَدوا وإذا ذَرَّوا, فنسختها العشر ونصف العشر.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: كان ذلك فرضًا فرضه الله على المؤمنين في طعامِهم وثمارهم التي تُخْرجها زروعهم وغرُوسهم, ثم نسخه الله بالصدقة المفروضة, والوظيفة المعلومةِ من العشر ونصف العشر. وذلك أن الجميع مجمعون لا خلاف بينهم: أنّ صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدِّياس والتنقية والتذرية, وأن صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الإجزاز.

فإذا كان ذلك كذلك, وكان قوله جل ثناؤه: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، ينبئ عن أنه أمرٌ من الله جل ثناؤه بإيتاء حقه يوم حصاده, وكان يوم حصاده هو يوم جَدِّه وقطعه، والحبُّ لا شك أنه في ذلك اليوم في سنبله, والتَّمر وإن كان ثمر نخل أو كَرْم غيرُ مستحكم جُفوفه ويبسه, وكانت الصدقة من الحبِّ إنما تؤخذ بعد دِياسه وتذريته وتنقيته كيلا والتمر إنما تؤخذ صدقته بعد استحكام يبسه وجفوفه كَيْلا علم أن ما يؤخذ صدقة بعد حين حَصْده، غير الذي يجب إيتاؤه المساكين يوم حَصاده .

فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك إيجابًا من الله في المال حقًّا سوى الصدقة المفروضة؟

قيل: لأنه لا يخلو أن يكون ذلك فرضًا واجبًا، أو نَفْلا.

فإن يكن فرضًا واجبًا، فقد وجب أن يكون سبيلُه سبيلَ الصدقات المفروضات التي من فرَّط في أدائها إلى أهلها كان بربِّه آثمًا، ولأمره مخالفًا. وفي قيام الحجة بأن لا فرض لله في المال بعد الزكاة يجبُ وجوبَ الزكاة سوى ما يجبُ من النفقة لمن يلزم المرءَ نفقته، ما ينبئ عن أنّ ذلك ليس كذلك .

أو يكون ذلك نَفْلا. فإن يكن ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الخيارُ في إعطاء ذلك إلى ربّ الحرث والثمر. وفي إيجاب القائلين بوجوب ذلك، ما ينبئ عن أن ذلك ليسَ كذلك .

وإذا خرجت الآية من أن يكون مرادًا بها الندب, وكان غير جائز أن يكون لها مخرجٌ في وجوب الفرض بها في هذا الوقت, علم أنها منسوخة .

ومما يؤيد ما قلنا في ذلك من القول دليلا على صحته, أنه جل ثناؤه أتبع قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ، ومعلوم أنّ من حكم الله في عباده مذ فرض في أموالهم الصدقة المفروضة المؤقتة القدرِ, أنّ القائم بأخذ ذلك ساستهم ورُعاتهم . وإذا كان ذلك كذلك, فما وجه نهي ربّ المال عن الإسراف في إيتاء ذلك, والآخذ مُجْبِرٌ, وإنما يأخذ الحق الذي فرض لله فيه؟

فإن ظن ظانّ أن ذلك إنما هو نهي من الله القيِّمَ بأخذ ذلك من الرعاة عن التعدِّي في مال رب المال، والتجاوز إلى أخذ ما لم يُبَحْ له أخذه, فإن آخر الآية وهو قوله: وَلا تُسْرِفُوا ، معطوف على أوله، وهو قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) . فإن كان المنهيَّ عن الإسراف القيِّمُ بقبض ذلك, فقد يجب أن يكون المأمورُ بإيتائه، المنهيَّ عن الإسراف فيه, وهو السلطان .

وذلك قول إن قاله قائل, كان خارجًا من قول جميع أهل التأويل، ومخالفًا المعهود من الخطاب, وكفى بذلك شاهدًا على خطئه .

فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معنى قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، وآتوا حقه يوم كيله, لا يوم قصله وقطعه, ولا يوم جداده وقطافه؟ فقد علمتَ مَنْ قال ذلك من أهل التأويل؟ وذلك ما:-

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يوم كيله .

وحدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن الحجاج, عن سالم المكي, عن محمد بن الحنفية قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يوم كيله، يعطي العشر ونصف العشر .

مع آخرين قد ذكرت الرواية فيما مضى عنهم بذلك؟

قيل: لأن يوم كيله غير يوم حصاده . ولن يخلو معنى قائلي هذا القول من أحد أمرين: إما أن يكونوا وجّهوا معنى « الحصاد » ، إلى معنى « الكيل » , فذلك ما لا يعقل في كلام العرب، لأن « الحصاد » و « الحصد » في كلامهم: الجدّ والقطع, لا الكيل أو يكونوا وجّهوا تأويل قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، إلى: وآتوا حقه بعد يوم حصاده إذا كلتموه ، فذلك خلاف ظاهر التنـزيل. وذلك أن الأمر في ظاهر التنـزيل بإيتاء الحقّ منه يوم حصاده، لا بعد يوم حصاده . ولا فرقَ بين قائلٍ: إنما عنى الله بقوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، بعد يوم حصاده وآخرَ قال: عنى بذلك قبل يوم حصاده, لأنهما جميعًا قائلان قولا دليلُ ظاهر التنـزيل بخلافه .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 141 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « الإسراف » ، الذي نهى الله عنه بهذه الآية, ومن المنهيّ عنه .

فقال بعضهم: المنهيّ عنه: ربّ النخل والزرع والثمر و « السرف » الذي نهى الله عنه في هذه الآية, مجاوزة القدر في العطِيّة إلى ما يجحف برب المال .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا عاصم, عن أبي العالية في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ) ، الآية, قال: كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة, ثم تسارفوا, فأنـزل الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان, عن عاصم الأحول, عن أبي العالية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا سوى الزكاة, ثم تبارَوْا فيه، أسرفوا, فقال الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان, عن عاصم الأحول, عن أبي العالية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا, ثم تسارفوا, فقال الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: نـزلت في ثابت بن قيس بن شماس, جَدَّ نخلا فقال: لا يأتين اليوم أحدٌ إلا أطعمته ! فأطعم، حتى أمسى وليست له ثمرة, فقال الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ( ولا تسرفوا ) ، يقول: لا تسرفوا فيما يؤتى يوم الحصاد, أم في كل شيء؟ قال: بلى ! في كل شيء، ينهى عن السرف . قال: ثم عاودته بعد حين, فقلت: ما قوله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ؟ قال: ينهى عن السرف في كل شيء . ثم تلا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ، [ سورة الفرقان: 67 ] .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا سفيان بن حسين, عن أبي بشر قال: أطاف الناس بإياس بن معاوية بالكوفة, فسألوه: ما السَّرَف؟ فقال: ما دون أمرِ الله فهو سَرَف .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تسرفوا ) ، لا تعطوا أموالكم فتغدوا فقراء .

وقال آخرون: « الإسراف » الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: منع الصدقة والحقّ الذي أمر الله ربَّ المال بإيتائه أهلَه بقوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الله, عن عمرو بن سليم وغيره, عن سعيد بن المسيب في قوله: ( ولا تسرفوا ) ، قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن الزبرقان قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ، والسرف، أن لا يعطي في حق .

وقال آخرون: إنما خوطب بهذا السلطان. نُهِى أن يأخذ من ربّ المال فوق الذي ألزم الله ماله .

ذكر من قال ذلك .

حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب, قال ابن زيد في قوله: ( ولا تسرفوا ) ، قال: قال للسلطان: « لا تسرفوا » , لا تأخذوا بغير حق ، فكانت هذه الآية بين السلطان وبين الناس يعني قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ، الآية .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: ( ولا تسرفوا ) ، عن جميع معاني « الإسراف » , ولم يخصص منها معنًى دون معنى .

وإذ كان ذلك كذلك, وكان « الإسراف » في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية, إما بتجاوز حدّه في الزيادة، وإما بتقصير عن حدّه الواجب كان معلومًا أن المفرِّق مالَه مباراةً، والباذلَهُ للناس حتى أجحفت به عطيته, مسرفٌ بتجاوزه حدَّ الله إلى ما [ ليس له ] . وكذلك المقصِّر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه, وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهلَ سُهْمَان الصدقة إذا وجبت فيه, أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها. وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه . كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون, داخلون في معنى مَنْ أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: ( ولا تسرفوا ) ، في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم إذ كان ما قبله من الكلام أمرًا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده. فإنّ الآية قد كانت تنـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاصّ من الأمور، والحكم بها على العامّ, بل عامّة آي القرآن كذلك. فكذلك قوله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

ومن الدليل على صحة ما قلنا من معنى « الإسراف » أنه على ما قلنا، قول الشاعر:

أَعْطَــوا هُنَيْــدَةَ يَحْدُوهَـا ثَمَانِيَـةٌ مَـا فِـي عَطَـائِهِمُ مَـنٌّ وَلا سَـرَفُ

يعني بـ « السرف » : الخطأ في العطيّة .

 

القول في تأويل قوله : وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا, مع ما أنشأ من الجنات المعروشات وغير المعروشات .

و « الحمولة » ، ما حمل عليه من الإبل وغيرها.

و « الفرش » ، صغار الإبل التي لم تدرك أن يُحْمَل عليها .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: « الحمولة » ، ما حمل عليه من كبار الإبل ومسانّها و « الفرش » ، صغارها التي لا يحمل عليها لصغرها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، الكبار من الإبل « وفرشًا » ، الصغار من الإبل .

. . . . وقال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن عكرمة, عن ابن عباس: « الحمولة » ، هي الكبار, و « الفرش » ، الصغار من الإبل .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد قال: « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، ما لم يحمل .

وبه عن إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد: « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، ما لم يحمل .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وفرشًا ) ، قال: صغار الإبل .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، الكبار, و « الفرش » ، الصغار .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن ابن مسعود في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، هنّ الصغار .

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص عن عبد الله: أنه قال في هذه الآية: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، ما حمل عليه من الإبل, و « الفرش » ، الصغار قال ابن المثنى, قال محمد, قال شعبة: إنما كان حدثني سفيان، عن أبي إسحاق .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه قال، قال الحسن: « الحمولة » ، من الإبل والبقر .

وقال بعضهم: « الحمولة » ، من الإبل, وما لم يكن من « الحمولة » ، فهو « الفرش » .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن الحسن: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، ما حمل عليه, و « الفرش » ، حواشيها, يعني صغارها .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، فـ « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، صغار الإبل, الفصيل وما دون ذلك مما لا يحمل .

ويقال: « الحمولة » ، من البقر والإبل و « الفرش » ، الغنم .

وقال آخرون: « الحمولة » ، ما حمل عليه من الإبل والخيل والبغال وغير ذلك, و « الفرش » ، الغنم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، فأما « الحمولة » ، فالإبل والخيل والبغال والحمير, وكل شيء يحمل عليه، وأما « الفرش » ، فالغنم .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس: « الحمولة » ، من الإبل والبقر و « فرشًا » . المعز والضأن .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، قال: أما « الحمولة » ، فالإبل والبقر . قال: وأما « الفرش » ، فالغنم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, كان غير الحسن يقول: « الحمولة » ، الإبل والبقر, و « الفرش » ، الغنم .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، أما « الحمولة » ، فالإبل . وأما « الفرش » ، فالفُصْلان والعَجَاجيل والغنم. وما حمل عليه فهو « حمولة » .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، « الحمولة » ، الإبل, و « الفرش » , الغنم .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن الحسن: ( وفرشًا ) ، قال: « الفرش » ، الغنم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( حمولة وفرشًا ) قال: « الحمولة » ، ما تركبون, و « الفرش » ، ما تأكلون وتحلبون, شاة لا تحمل, تأكلون لحمها, وتتخذون من أصوافها لحافًا وفرشًا .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن « الحمولة » ، هي ما حمل من الأنعام, لأن ذلك من صفتها إذا حملت, لا أنه اسم لها، كالإبل والخيل والبغال، فإذا كانت إنما سميت « حمولة » لأنها تحمل, فالواجب أن يكون كل ما حَمَل على ظهره من الأنعام فحمولة. وهي جمع لا واحد لها من لفظها, كالرَّكوبة، و « الجزورة » . وكذلك « الفرش » ، إنما هو صفة لما لطف فقرب من الأرض جسمه, ويقال له: « الفرش » . وأحسبها سميت بذلك تمثيلا لها في استواء أسنانها ولطفها بالفَرْش من الأرض, وهي الأرض المستوية التي يتوطَّؤُها الناس .

فأما « الحمولة » ، بضم « الحاء » ، فإنها الأحمال, وهي « الحمول » أيضًا بضم الحاء .

 

القول في تأويل قوله : كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 142 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: كلوا مما رزقكم الله، أيها المؤمنون, فأحلّ لكم ثمرات حروثكم وغروسكم، ولحوم أنعامكم, إذ حرّم بعض ذلك على أنفسهم المشركون بالله, فجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا وللشيطان مثله, فقالوا: هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) ، كما اتبعها باحرُو البحيرة، ومسيِّبو السوائب, فتحرموا على أنفسكم من طيب رزق الله الذي رزقكم ما حرموه, فتطيعوا بذلك الشيطان، وتعصوا به الرحمن ، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) ، لا تتبعوا طاعته، هي ذنوب لكم, وهي طاعة للخبيث .

إن الشيطان لكم عدو يبغي هلاككم وصدكم عن سبيل ربكم ( مبين ) ، قد أبان لكم عدواته، بمناصبته أباكم بالعداوة, حتى أخرجه من الجنة بكيده، وخدَعه حسدًا منه له، وبغيًا عليه .

 

القول في تأويل قوله : ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 143 )

قال أبو جعفر: وهذا تقريعٌ من الله جل ثناؤه العادلين به الأوثان من عبدة الأصنام، الذين بحروا البحائر، وسيَّبوا السوائب، ووصلوا الوصائل وتعليم منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به, الحجةَ عليهم في تحريمهم ما حرموا من ذلك. فقال للمؤمنين به وبرسوله: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، ومن الأنعام أنشأ حمولة وفرشًا . ثم بين جل ثناؤه « الحمولة » و « الفرش » , فقال: ( ثمانية أزواج ) .

وإنما نصب « الثمانية » , لأنها ترجمة عن « الحمولة » و « الفرش » ، وبدل منها. كأن معنى الكلام: ومن الأنعام أنشأ ثمانية أزواج فلما قدّم قبل « الثمانية » « الحمولة » و « الفرش » بيّن ذلك بعد فقال: ( ثمانية أزواج ) ، على ذلك المعنى.

( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، فذلك أربعة, لأن كل واحد من الأنثيين من الضأن زوج, فالأنثى منه زوج الذكر, والذكر منه زوج الأنثى, وكذلك ذلك من المعز ومن سائر الحيوان. فلذلك قال جل ثناؤه: ( ثمانية أزواج ) ، كما قال: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ، [ سورة الذاريات: 49 ] ، لأن الذَّكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر, فهما وإن كانا اثنين فيهما زوجان, كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ، [ سورة الأعراف: 189 ] ، وكما قال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، [ سورة الأحزاب: 37 ] ، وكما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن جويبر, عن الضحاك: ( من الضأن اثنين ) ، ذكر وأنثى, ( ومن البقر اثنين ) ، ذكر وأنثى ( ومن الإبل اثنين ) ، ذكر وأنثى .

ويقال للاثنين: « هما زوج » ، كما قال لبيد:

مِـنْ كُـلِّ مَحْـفُوفٍ يُظِـلُّ عِصِيَّـهُ زَوْجٌ عَلَيْـــهِ كِلَّـــةٌ وَقِرَامُهَــا

ثم قال لهم: كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار واللحوم, واركبوا هذه الحمولة، أيها المؤمنون, فلا تتبعوا خطوات الشيطان في تحريم ما حرم هؤلاء الجهلة بغير أمري إياهم بذلك .

قل، يا محمد، لهؤلاء الذين حرّموا ما حرموا من الحرث والأنعام اتباعًا للشيطان، من عبدة الأوثان والأصنام الذين زعموا أن الله حرم عليهم ما هم محرمون من ذلك: آلذكرين حرم ربكم، أيها الكذبة على الله، من الضأن والمعز؟ فإنهم إن ادعوا ذلك وأقرّوا به, كذبوا أنفسهم وأبانوا جهلهم. لأنهم إذا قالوا: « يحرم الذكرين من ذلك » , أوجبوا تحريم كل ذكرين من ولد الضأن والمعز, وهم يستمتعون بلحوم الذكران منها وظهورها. وفي ذلك فساد دعواهم وتكذيب قولهم ( أم الأنثيين ) ، فإنهم إن قالوا: « حرم ربنا الأنثيين » , أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم وظهورها. وفي ذلك أيضًا تكذيب لهم, ودحض دعواهم أنّ ربهم حرم ذلك عليهم, إذ كانوا يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره ( أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، يقول: أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين, يعني أرحام أنثى الضأن وأنثى المعز، فلذلك قال: « أرحام الأنثيين » ، وفي ذلك أيضًا لو أقرُّوا به فقالوا: « حرم علينا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين » , بُطولُ قولهم وبيان كذبهم, لأنهم كانوا يقرّون بإقرارهم بذلك أنّ الله حرّم عليهم ذكور الضأن والمعز وإناثها، أن يأكلوا لحومها أو يركبوا ظهورها, وقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها.

و « ما » التي في قوله: ( أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، نصب عطفًا بها على « الأنثيين » .

( نبئوني بعلم ) ، يقول: قل لهم: خبروني بعلم ذلك على صحته: أيَّ ذلك حرم ربكم عليكم، وكيف حرم؟ ( إن كنتم صادقين ) ، فيما تنحلونه ربكم من دعواكم، وتضيفونه إليه من تحريمكم .

وإنما هذا إعلامٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه أنّ كل ما قاله هؤلاء المشركون في ذلك وأضافوه إلى الله, فهو كذب على الله, وأنه لم يحرم شيئًا من ذلك, وأنهم إنما اتّبعوا في ذلك خطوات الشيطان, وخالفوا أمره .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) الآية, إن كل هذا لم أحرم منه قليلا ولا كثيرًا، ذكرًا ولا أنثى .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، قال: سلهم: ( آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، أي: لم أحرم من هذا شيئًا ( بعلم إن كنتم صادقين ) ، فذكر من الإبل والبقر نحو ذلك .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( ثمانية أزواج ) ، في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( ثمانية أزواج ) ، قال: هذا في شأن ما نهى الله عنه من البحائر والسُّيَّب قال ابن جريج يقول: من أين حرمت هذا؟ من قبل الذكرين أم من قبل الأنثيين, أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ وإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى, فمن أين جاء التحريم؟ فأجابوا هم: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن البقر اثنين ومن الإبل اثنين , يقول: أنـزلت لكم ثمانية أزواج من هذا الذي عددت، ذكر وأنثى, فالذكرين حرمت عليكم أم الأنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ يقول: أي: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، ما تشتمل إلا على ذكر أو أنثى, فما حرمت عليكم ذكرًا ولا أنثى من الثمانية. إنما ذكر هذا من أجل ما حرَّموا من الأنعام .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، قال: ما حملت الرَّحم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل آلذكرين حرم أم الأنثيين ) ، قال: هذا لقولهم: مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا . قال: وقال ابن زيد في قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، قال: « الأنعام » ، هي الإبل والبقر والضأن والمعز, هذه « الأنعام » التي قال الله: « ثمانية أزواج » . قال: وقال في قوله: هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ، نحتجرها على من نريد، وعمن نريد. وقوله: وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ، قال: لا يركبها أحد وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ، فقال: ( آلذكرين حرم أم الأنثيين ) ، أيّ هذين حرم على هؤلاء؟ أي: أن تكون لهؤلاء حِلا وعلى هؤلاء حرامًا .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، يعني: هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى؟ فهل يحرمون بعضًا ويحلون بعضًا؟ .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، فهذه أربعة أزواج وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ ، يقول: لم أحرم شيئًا من ذلك ( نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ) ، يقول: كله حلال .

و « الضأن » جمع لا واحد له من لفظه, وقد يجمع « الضأن » ، « الضَّئين والضِّئين » , مثل « الشَّعير » و « الشِّعير » , كما يجمع « العبد » على « عَبيد، وعِبيد » . وأما الواحد من ذكوره فـ « ضائن » , والأنثى « ضائنة » , وجمع « الضائنة » « ضوائن » .

وكذلك « المعز » ، جمع على غير واحد, وكذلك « المعزى » ، وأما « الماعز » , فجمعه « مواعز » .

 

القول في تأويل قوله : وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 144 )

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، نحو تأويل قوله: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، وهذه أربعة أزواج, على نحو ما بيّنا من الأزواج الأربعة قبلُ من الضأن والمعز, فذلك ثمانية أزواج، كما وصف جل ثناؤه .

وأما قوله: ( أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم ) ، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الجهلة من المشركين الذين قص قصصهم في هذه الآيات التي مضَت. يقول له عز ذكره: قل لهم، يا محمد, أيَّ هذه سألتكم عن تحريمه حرم ربكم عليكم من هذه الأزواج الثمانية؟ فإن أجابوك عن شيء مما سألتهم عنه من ذلك, فقل لهم: أخبرًا قلتم: « إن الله حرم هذا عليكم » ، أخبركم به رسول عن ربكم, أم شهدتم ربكم فرأيتموه فوصَّاكم بهذا الذي تقولون وتزوّرون على الله؟ فإن هذا الذي تقولون من إخباركم عن الله أنه حرام بما تزعمون على ما تزعمون, لا يعلم إلا بوحي من عنده مع رسول يرسله إلى خلقه, أو بسماع منه, فبأي هذين الوجهين علمتم أنّ الله حرم ذلك كذلك، برسول أرسله إليكم، فأنبئوني بعلم إن كنتم صادقين ؟ أم شهدتم ربكم فأوصَاكم بذلك، وقال لكم: « حرمت ذلك عليكم » , فسمعتم تحريمه منه، وعهدَه إليكم بذلك؟ فإنه لم يكن واحدٌ من هذين الأمرين . يقول جل ثناؤه: ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ) ، يقول: فمن أشد ظلمًا لنفسه، وأبعد عن الحق ممن تخرَّص على الله قيلَ الكذب، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم، وتحليل ما لم يحلل ( ليضل الناس بغير علم ) ، يقول: ليصدّهم عن سبيله ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ، يقول: لا يوفّق الله للرشد من افترى على الله وقال عليه الزُّور والكذب، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم، كفرًا بالله، وجحودًا لنبوة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، كالذي:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ) ، الذي تقولون.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كانوا يقولون يعني الذين كانوا يتّخذون البحائر والسوائب : إن الله أمر بهذا . فقال الله: ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم ) .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء الذين جعلوا لله ممّا ذَرأ من الحرث والأنعام نصيبًا، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله والقائلين هذه أنعام وحرث حجرٌ لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم والمحرّمين من أنعام أُخَر ظهورَها والتاركين ذكر اسم الله على أُخَر منها والمحرِّمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم، ومحلِّيه لذكورهم, المحرّمين ما رزقهم الله افتراءً على الله, وإضافةً منهم ما يحرمون من ذلك إلى أنَّ الله هو الذي حرّمه عليهم: أجاءكم من الله رسولٌ بتحريمه ذلك عليكم, فأنبئونا به, أم وصَّاكم الله بتحريمه مشاهدةً منكم له، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك، ولا يمكنكم دعواه, لأنكم إذا ادّعيتموه علم الناس كذبكم فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنـزيله، شيئًا محرَّمًا على آكل يأكله مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريمَ ما حَرّم عليكم منها بزعمكم « إلا أن يكون ميتة » ، قد ماتت بغير تذكية « أو دمًا مسفوحًا » ، وهو المُنْصَبّ أو إلا أن يكون لحم خنـزير ( فإنه رجس أو فسقًا ) ، يقول: أو إلا أن يكون فسقًا، يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحًا ذبحه ذابحٌ من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته، فذكر عليه اسم وثنه, فإن ذلك الذبح فسقٌ نهى الله عنه وحرّمه, ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك, لأنه ميتة .

وهذا إعلام من الله جل ثناؤه للمشركين الذين جادلوا نبيَّ الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادَلوهم به، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرّمه الله, وأن الذي زعموا أنّ الله حرمه حلالٌ قد أحلَّه الله, وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه في قوله: ( قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرمًا ) قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون أشياء ويحلِّون أشياء, فقال: قل لا أجد مما كنتم تحرمون وتستحلُّون إلا هذا: ( إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه في قوله: ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّمًا ) الآية, قال: كان أهل الجاهلية يستحلّون أشياء ويحرّمون أشياء, فقال الله لنبيه: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا مما كنتم تستحلون إلا هذا وكانت أشياء يحرِّمونها، فهي حرام الآن .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن طاوس, عن أبيه: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه ) ، قال: ما يؤكل . قلت: في الجاهلية؟ قال: نعم ! وكذلك كان يقول: ( إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا ) قال ابن جريج: وأخبرني إبراهيم بن أبي بكر, عن مجاهد: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا ) ، قال: مما كان في الجاهلية يأكلون, لا أجد محرمًا من ذلك على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا .

وأما قوله: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، فإن معناه: أو دمًا مُسَالا مُهَرَاقًا. يقال منه: « سفحت دمه » ، إذا أرقته, أسفحه سَفْحًا, فهو دم مسفوح كما قال طرفة بن العبد:

إِنِّــي وَجــدِّكَ مَـا هَجَـوْتُكَ وَالْ أَنْصَـــابِ يَسْـــفَحُ فَــوْقَهُنَّ دَمُ

وكما قال عَبِيد بن الأبرص:

إذَا مَـــا عَــادَهُ مِنْهَــا نِسَــاءٌ سَــفَحْنَ الـدَّمْعَ مِـنْ بَعْـدِ الـرَّنِينِ

يعني: صببن, وأسلنَ الدمع .

وفي اشتراطه جل ثناؤه في الدم عند إعلامه عبادَه تحريمه إياه، المسفوحَ منه دون غيره, الدليلُ الواضح أنَّ ما لم يكن منه مسفوحًا، فحلال غير نجس . وذلك كالذي:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة: ( أو دما مسفوحًا ) ، قال: لولا هذه الآية لتتبَّع المسلمون من العروق ما تتبعتِ اليهود .

حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة بنحوه إلا أنه قال: لاتَّبَع المسلمون .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة، بنحوه .

حدثنا أبو كريب قال، أخبرنا وكيع, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز, في القِدْر يعلوها الحمرة من الدم. قال: إنما حرم الله الدمَ المسفوحَ .

حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز قال: سألته عن الدم وما يتلطَّخ بالمذْبح من الرأس, وعن القدر يرى فيها الحُمرة؟ قال: إنما نهى الله عن الدم المسفوح .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، قال: حُرِّم الدم ما كان مسفوحًا; وأما لحم خالطه دم، فلا بأس به .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا ) ، يعني: مُهَراقًا .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, أخبرني ابن دينار, عن عكرمة: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، قال: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن يحيى بن سعيد, عن القاسم بن محمد, عن عائشة: أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا, والحمرةِ والدم يكونان على القدر بأسًا ، وقرأت هذه الآية: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه ) ... الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن يحيى بن سعيد, قال حدثني القاسم بن محمد, عن عائشة قالت, وذكرت هذه الآية: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، قلت: وإن البرمة ليرى في مائها [ من ] الصفرة .

وقد بينا معنى « الرجس » ، فيما مضى من كتابنا هذا, وأنه النجس والنتن, وما يُعْصى الله به, بشواهده, فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وكذلك القول في معنى « الفسق » وفي قوله: ( أهل لغير الله به ) ، قد مضى ذلك كله بشواهده الكافية من وفِّق لفهمه، عن تكراره وإعادته .

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( إلا أنْ يكون ميتة ) .

فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة: ( إِلا أَنْ يَكُونَ ) ، بالياء ( مَيْتَةً ) مخففة الياء منصوبة، على أن في « يكون » مجهولا و « الميتة » فعل له، فنصبت على أنها فعل « يكون » , وذكروا « يكون » ، لتذكير المضمر في « يكون » .

وقرأ ذلك بعض قرأة أهل مكة والكوفة: « إلا أَنْ تَكُونَ » ، بالتاء « مَيْتَةً » ، بتخفيف الياء من « الميتة » ونصبها وكأن معنى نصبهم « الميتة » معنى الأولين, وأنثوا « تكون » لتأنيث الميتة, كما يقال: « إنها قائمة جَارِيتُك » , و « إنه قائم جاريتك » , فيذكر المجهول مرة ويؤنث أخرى، لتأنيث الاسم الذي بعده .

وقرأ ذلك بعض المدنيين: « إلا أَنْ تَكُونَ مَيِّتَةٌ » ، بالتاء في « تكون » , وتشديد الياء من « ميتة » ورفعها فجعل « الميتة » اسم « تكون » , وأنث « تكون » لتأنيث « الميتة » , وجعل « تكون » مكتفية بالاسم دون الفعل, لأن قوله: « إلا أن تكون ميتة » استثناء, والعرب تكتفي في الاستثناء بالأسماء عن الأفعال, فيقولون: « قام الناس إلا أن يكون أخاك » , و « إلا أن يكون أخوك » , فلا تأتي لـ « يكون » ، بفعل, وتجعلها مستغنية بالاسم, كما يقال: « قام القوم إلا أخاك » و « إلا أخوك » , فلا يفتقد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء فعلا .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: ( إِلا أَنْ يَكُونَ ) بـ « الياء » ( مَيْتَةً ) ، بتخفيف الياء ونصب « الميتة » , لأن الذي في « يكون » من المكنى من ذكر المذكر وإنما هو: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ذلك ميتةً أو دمًا مسفوحًا .

فأما قراءة « ميتة » بالرفع, فإنه، وإن كان في العربية غير خطأ، فإنه في القراءة في هذا الموضع غيرُ صواب. لأن الله يقول: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، فلا خلاف بين الجميع في قراءة « الدم » بالنصب, وكذلك هو في مصاحف المسلمين, وهو عطف على « الميتة » . فإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن « الميتة » لو كانت مرفوعة، لكان « الدم » ، وقوله « أو فسقًا » ، مرفوعين, ولكنها منصوبة، فيعطف بهما عليها بالنصب .

 

القول في تأويل قوله : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 145 )

قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) ، والصواب من القول فيه عندنا فيما مضى من كتابنا هذا، في « سورة » البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع وأن معناه: فمن اضطر إلى أكلِ ما حرَّم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنـزير, أو ما أهل لغير الله به, غير باغ في أكله إيّاه تلذذًا, لا لضرورة حالة من الجوع, ولا عادٍ في أكله بتجاوزه ما حدَّه الله وأباحه له من أكله, وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك، لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه, فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك ( فإنّ الله غفور ) ، فيما فعل من ذلك, فساتر عليه بتركه عقوبته عليه, ولو شاء عاقبه عليه ( رحيم ) ، بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه, ولو شاء حرَّمه عليه ومنعه منه .

 

القول في تأويل قوله : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّمنا على اليهود « كل ذي ظفر » , وهو من البهائم والطير ما لم يكن مشقُوق الأصابع، كالإبل والنَّعام والإوز والبط .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى, وعلي بن داود قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، وهو البعير والنعامة .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: البعير والنعامة ونحو ذلك من الدوابّ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن سعيد: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع .

حدثني علي بن الحسين الأزدي قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير في قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: كل شيء متفرق الأصابع, ومنه الديك .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ( كل ذي ظفر ) ، النعامة والبعير .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, مثله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، فكان يقال: البعير والنعامة وأشباهه من الطير والحيتان .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: ( كل ذي ظفر ) ، قال: الإبل والنعام, ظفر يد البعير ورجله, والنعام أيضًا كذلك, وحرم عليهم أيضًا من الطير البط وشبهه, وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أما كل ذي ظفر » ، فالإبل والنعام .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ, عن مجاهد في قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: النعامة والبعير، شقًّا شقًّا, قال قلت: « ما شقًّا شقًّا » ؟ قال: كل ما لم تفرج قوائمه لم يأكله اليهود, البعيرُ والنعامة. والدجاج والعصافير تأكلها اليهود، لأنها قد فُرِجت .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( كل ذي ظفر ) ، قال: النعامة والبعير، شقًّا شقًّا. قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثنيه: ما « شقًّا شقًّا » ؟ قال: كل شيء لم يفرج من قوائم البهائم. قال: وما انفرج أكلته اليهود. قال: انفرجت قوائم الدجاج والعصافير, فيهود تأكلها . قال: ولم تنفرج قائمة البعير، خفّه، ولا خف النعامة، ولا قائمة الوَزِّينة, فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزِّين، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته, وكذلك لا تأكل حمار وحش .

وكان ابن زيد يقول في ذلك بما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، الإبل قطْ .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب, القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ومن قال بمثل مقالته؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه حرم على اليهود كل ذي ظفر, فغير جائز إخراج شيء من عموم هذا الخبر إلا ما أجمع أهل العلم أنه خارج منه . وإذا كان ذلك كذلك, وكان النعام وكل ما لم يكن من البهائم والطير مما له ظفر غير منفرج الأصابع داخلا في ظاهر التنـزيل, وجب أن يحكم له بأنه داخل في الخبر, إذ لم يأت بأن بعض ذلك غير داخلٍ في الآية، خبرٌ عن الله ولا عن رسوله, وكانت الأمة أكثرها مجمع على أنه فيه داخل .

 

القول في تأويل قوله : وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « الشحوم » التي أخبر الله تعالى ذكره: أنه حرمها على اليهود من البقر والغنم.

فقال بعضهم: هي شحوم الثُّروب خاصة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ) ، الثروب . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الثروب ثم أكلوا أثمانها!

وقال آخرون: بل ذلك كان كل شحم لم يكن مختلطًا بعظم ولا على عظم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( حرمنا عليهم شحومهما ) ، قال: إنما حرم عليهم الثرب, وكل شحم كان كذلك ليس في عظم .

وقال آخرون: بل ذلك شحم الثرب والكُلَى .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( حرمنا عليهم شحومهما ) ، قال: الثرب وشحم الكليتين . وكانت اليهود تقول: إنما حرَّمه إسرائيل، فنحن نحرّمه .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( حرمنا عليهم شحومهما ) ، قال: إنما حرم عليهم الثروب والكليتين هكذا هو في كتابي عن يونس, وأنا أحسب أنه: « الكُلَى » .

قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول أن يقال: إن الله أخبر أنه كان حرم على اليهود من البقر والغنم شحومهما، إلا ما استثناه منها مما حملت ظهورهما أو الحَوَايا أو ما اختلط بعظم. فكل شحم سوى ما استثناه الله في كتابه من البقر والغنم, فإنه كان محرمًا عليهم .

وبنحو ذلك من القول تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك قوله: « قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها » .

وأما قوله: ( إلا ما حملت ظهورهما ) ، فإنه يعني: إلا شحوم الجَنْب وما علق بالظهر, فإنها لم تحرَّم عليهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( إلا ما حملت ظهورهما ) ، يعني: ما علق بالظهر من الشحوم .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا « ما حملت ظهورهما » ، فالألْيات .

14108م - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن إسماعيل, عن أبي صالح قال: الألية، مما حملت ظهورهما .

 

القول في تأويل قوله : أَوِ الْحَوَايَا

قال أبو جعفر: و « الحوايا » جمع, واحدها « حاوِياء » ، و « حاوية » ، و « حَوِيَّة » ، وهي ما تحوَّى من البطن فاجتمع واستدار, وهي بنات اللبن, وهي « المباعر » , وتسمى « المرابض » , وفيها الأمعاء .

ومعنى الكلام: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما، إلا ما حملت ظهورهما، أو ما حملت الحوايا فـ « الحوايا » ، رفع، عطفًا على « الظهور » , و « ما » التي بعد « إلا » , نصبٌ على الاستثناء من « الشحوم » .

وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( أو الحوايا ) ، وهي المبعر .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الحوايا » ، المبعر والمرْبَض .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: ( أو الحوايا ) ، قال: المباعر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: ( أو الحوايا ) ، قال: المباعر .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة والمحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: المبعر .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال،سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أو الحوايا ) ، يعني: البطون غير الثروب .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أو الحوايا ) ، هو المبعر .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أو الحوايا ) ، قال: المباعر .

وقال ابن زيد في ذلك ما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أو الحوايا ) ، قال: « الحوايا » ، المرابض التي تكون فيها الأمعاء، تكون وسطها, وهي « بنات اللبن » , وهي في كلام العرب تدعى « المرابض » .

 

القول في تأويل قوله : أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن البقر والغنم حرمنا على الذين هادوا شحومهما، سوى ما حملت ظهورهما, أو ما حملت حواياهما, فإنا أحللنا ذلك لهم, وإلا ما اختلط بعظم، فهو لهم أيضًا حلال .

فردّ قوله: ( أو ما اختلط بعظم ) ، على قوله: إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا فـ « ما » التي في قوله: ( أو ما اختلط بعظم ) ، في موضع نصب عطفًا على « ما » التي في قوله: إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا .

وعنى بقوله: ( أو ما اختلط بعظم ) ، شحم الألية والجنب، وما أشبه ذلك ، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( أو ما اختلط بعظم ) ، قال: شحم الألية بالعُصْعُص, فهو حلال. وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين قد اختلط بعظم, فهو حلال .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أو ما اختلط بعظم ) ، مما كان من شحم على عظم .

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 146 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهذا الذي حرمنا على الذين هادوا من الأنعام والطير, ذوات الأظافير غير المنفرجة, ومن البقر والغنم, ما حرمنا عليهم من شحومهما، الذي ذكرنا في هذه الآية, حرمناه عليهم عقوبة منّا لهم, وثوابًا على أعمالهم السيئة، وبغيهم على ربهم ، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) ، إنما حرم ذلك عليهم عقوبة ببغيهم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ذلك جزيناهم ببغيهم ) ، فعلنا ذلك بهم ببغيهم.

وقوله: ( وإنا لصادقون ) ، يقول: وإنا لصادقون في خبرنا هذا عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من الشحوم ولحوم الأنعام والطير التي ذكرنا أنّا حرمنا عليهم, وفي غير ذلك من أخبارنا, وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرمه إسرائيل على نفسه، وأنهم إنما حرموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه .

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( 147 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كذبك، يا محمد، هؤلاء اليهود فيما أخبرناك أنا حرمنا عليهم وحللنا لهم، كما بينا في هذه الآية « فقل ربكم ذو رحمة » ، بنا، وبمن كان به مؤمنًا من عباده، وبغيرهم من خلقه « واسعة » , تسع جميع خلقه، المحسنَ والمسيء, لا يعاجل من كفر به بالعقوبة، ولا من عصاه بالنِّقمة, ولا يدع كرامة من آمن به وأطاعه، ولا يحرمه ثواب عمله, رحمة منه بكلا الفريقين، ولكن بأسه وذلك سطوته وعذابه لا يردّه إذا أحله عند غضبه على المجرمين بهم عنهم شيء و « المجرمون » هم الذين أجرَموا فاكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فإن كذبوك ) ، اليهود .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فإن كذبوك ) ، اليهود ( فقل ربكم ذو رحمة واسعة ) .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال، كانت اليهود يقولون: إنما حرّمه إسرائيل يعني: الثَّرْب وشحم الكليتين فنحن نحرمه, فذلك قوله: ( فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين ) .

 

القول في تأويل قوله : سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ( سيقول الذين أشركوا ) ، وهم العادلون بالله الأوثان والأصنام من مشركي قريش ( لو شاء الله ما أشركنا ) ، يقول: قالوا احتجازًا من الإذعان للحق بالباطل من الحجة، لما تبين لهم الحق, وعلموا باطل ما كانوا عليه مقيمين من شركهم, وتحريمهم ما كانوا يحرّمون من الحروث والأنعام, على ما قد بيَّن تعالى ذكره في الآيات الماضية قبل ذلك: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا ، وما بعد ذلك: لو أراد الله منا الإيمان به، وإفراده بالعبادة دون الأوثان والآلهة، وتحليل ما حرم من البحائر والسوائب وغير ذلك من أموالنا, ما جعلنا لله شريكًا, ولا جعل ذلك له آباؤنا من قبلنا, ولا حرمنا ما نحرمه من هذه الأشياء التي نحن على تحريمها مقيمون، لأنه قادر على أن يحول بيننا وبين ذلك, حتى لا يكون لنا إلى فعل شيء من ذلك سبيل: إما بأن يضطرنا إلى الإيمان وترك الشرك به، وإلى القول بتحليل ما حرمنا وأما بأن يلطف بنا بتوفيقه، فنصير إلى الإقرار بوحدانيته، وترك عبادة ما دونه من الأنداد والأصنام, وإلى تحليل ما حرمنا ، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأوثان والأصنام, واتخاذ الشريك له في العبادة والأنداد, وأراد ما نحرّم من الحروث والأنعام, فلم يَحُلْ بيننا وبين ما نحن عليه من ذلك .

قال الله مكذبًا لهم في قيلهم: « إن الله رضي منا ما نحن عليه من الشرك، وتحريم ما نحرّم » ورادًّا عليهم باطلَ ما احتجوا به من حجتهم في ذلك ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ، يقول: كما كذب هؤلاء المشركون، يا محمد، ما جئتهم به من الحق والبيان, كذب من قبلهم من فسقة الأمم الذين طَغَوا على ربهم ما جاءتهم به أنبياؤهم من آيات الله وواضح حججه, وردُّوا عليهم نصائحهم ( حتى ذاقوا بأسنا ) ، يقول: حتى أسخطونا فغضبنا عليهم, فأحللنا بهم بأسنا فذاقوه, فعطبوا بذوقهم إياه, فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة. يقول: وهؤلاء الآخرون مسلوك بهم سبيلهم, إن هم لم ينيبوا فيؤمنوا ويصدقوا بما جئتهم به من عند ربهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ، وقال: ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) , ثم قال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ، فإنهم قالوا: « عبادتنا الآلهة تقرّبنا إلى الله زلفى » , فأخبرهم الله أنها لا تقربهم, وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ، يقول الله سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا حرمنا من شيء ) ، قال: قول قريش يعني: إن الله حرم هذه البحيرة والسائبة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا حرمنا من شيء ) ، قولُ قريش بغير يقين: إن الله حرّم هذه البحيرة والسائبة .

فإن قال قائل: وما برهانك على أن الله تعالى إنما كذب من قيل هؤلاء المشركين قولهم: « رضي الله منا عبادة الأوثان, وارأد منا تحريم ما حرمنا من الحروث والأنعام » , دون أن يكون تكذيبه إياهم كان على قولهم: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) ، وعلى وصفهم إياه بأنه قد شاء شركهم وشرك آبائهم, وتحريمهم ما كانوا يحرمون؟

قيل له: الدلالة على ذلك قوله: ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم سلكوا في تكذيبهم نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما آتاهم به من عند الله من النهي عن عبادة شيء غير الله تعالى ذكره, وتحريم غير ما حرّم الله في كتابه وعلى لسان رسوله مسلكَ أسلافهم من الأمم الخالية المكذبة اللهَ ورسولَه . والتكذيبُ منهم إنما كان لمكذَّب, ولو كان ذلك خبرًا من الله عن كذبهم في قيلهم: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ، لقال: « كذلك كذَبَ الذين من قبلهم » ، بتخفيف « الذال » , وكان ينسبهم في قيلهم ذلك إلى الكذب على الله، لا إلى التكذيب مع علل كثيرة يطول بذكرها الكتاب, وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ( 148 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، المحرِّمين ما هم له محرِّمون من الحُروث والأنعام, القائلين: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من الشرك وتحريم ما نحرم: « هل عندكم » ، بدعواكم ما تدعون على الله من رضاه بإشراككم في عبادته ما تشركون، وتحريمكم من أموالكم ما تحرمون علمُ يقينٍ من خبر مَنْ يقطع خبره العذر, أو حجة توجب لنا اليقين، من العلم « فتخرجوه لنا » ، يقول: فتظهروا ذلك لنا وتبينوه, كما بينا لكم مواضع خطأ قولكم وفعلكم, وتناقض ذلك واستحالته في المعقول والمسموع ( إن تتبعون إلا الظن ) ، يقولُ له: قل لهم: إن تقولون ما تقولون، أيها المشركون، وتعبدون من الأوثان والأصنام ما تعبدون، وتحرمون من الحروث والأنعام ما تحرّمون، إلا ظنًّا وحسبانًا أنه حق, وأنكم على حق، وهو باطلٌ, وأنتم على باطل ( وإن أنتم إلا تخرصون ) ، يقول: « وإن أنتم » , وما أنتم في ذلك كله « إلا تخرصون » , يقول: إلا تتقوّلون الباطل على الله، ظنًّا بغير يقين علم ولا برهان واضح .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( 149 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, القائلين على ربهم الكذبَ، في تحريمهم ما حرموا من الحروث والأنعام, إن عجزوا عن إقامة الحجة عند قيلك لهم: « هل عندكم من علم بما تدعون على ربكم فتخرجوه لنا » , وعن إخراج علم ذلك لك وإظهاره, وهم لا شك عن ذلك عَجَزَة, وعن إظهاره مقصرون, لأنه باطل لا حقيقة له ( فلله ) ، الذي حرم عليكم أن تشركوا به شيئًا, وأن تتبعوا خطوات الشيطان في أموالكم من الحروث والأنعام ( الحجة البالغة ) ، دونكم أيها المشركون .

ويعني بـ « البالغة » ، أنها تبلغ مراده في ثبوتها على مَنْ احتج بها عليه من خلقه, وقَطْعِ عُذْرِه إذا انتهت إليه فيما جُعِلت حجة فيه .

( فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، يقول: فلو شاء ربكم لوفَّقكم أجمعين للإجماع على إفراده بالعبادة، والبراءة من الأنداد والآلهة، والدينونة بتحريم ما حرم الله وتحليل ما حلله الله, وترك اتباع خطوات الشيطان, وغير ذلك من طاعاته، ولكنه لم يشأ ذلك، فخالف بين خلقه فيما شاء منهم, فمنهم كافر ومنهم مؤمن .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال، لا حجة لأحد عصَى الله, ولكن لله الحجة البالغة على عباده . وقال: ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، قال: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [ سورة الأنبياء: 23 ] .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 150 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المفترين على ربهم من عبدة الأوثان, الزاعمين أنّ الله حرم عليهم ما هم محرموه من حروثهم وأنعامهم ( هلم شهداءكم ) ، يقول: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون على الله أنه حرم عليكم ما تزعمون أنه حرمه عليكم .

وأهل العالية من تهامة توحِّد « هلم » في الواحد والاثنين والجميع, وتذكر في المؤنث والمذكر, فتقول للواحد: « هلم يا فلان » ، وللاثنين والجميع كذلك, وللأنثى مثله، ومنه قول الأعشى:

وَكَـــانَ دَعَــا قَوْمَــهُ دَعْــوَةً هَلُــمَّ إلَــى أَمْــرِكُمْ قَـدْ صُـرِمْ

ينشد: « هلم » ، و « هلموا » . وأما أهل السافلة من نجد، فإنهم يوحِّدون للواحد، ويثنُّون للاثنين، ويجمعون للجميع. فيقال للواحد من الرجال: « هلم » وللواحدة من النساء: « هلمي » , وللاثنين: « هلما » , وللجماعة من الرجال: « هلموا » , وللنساء: « هَلْمُمْنَ » .

قال الله لنبيه: ( فإن شهدوا ) ، يقول: يا محمد, فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حَرَّم ما يزعمون أن الله حرمه عليهم ( فلا تشهد معهم ) ، فإنهم كذبة وشهود زور في شهادتهم بما شهدوا به من ذلك على الله . وخاطب بذلك جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم, والمراد به أصحابه والمؤمنون به ( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ) ، يقول: ولا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب بوحي الله وتنـزيله، في تحريم ما حرم، وتحليل ما أحل لهم, ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتاب ربك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ( والذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، يقول: ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة, فتكذب بما هم به مكذبون من إحياء الله خلقه بعد مماتهم، ونشره إياهم بعد فنائهم ( وهم بربهم يعدلون ) ، يقول: وهم مع تكذيبهم بالبعث بعد الممات، وجحودهم قيام الساعة، بالله يعدلون الأوثانَ والأصنامَ, فيجعلونها له عِدْلا ويتخذونها له ندًّا يعبدونها من دونه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) ، يقول: قل أروني الذين يشهدون أن الله حرم هذا مما حرمت العرب, وقالوا: أمرنا الله به . قال الله لرسوله: ( فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) ، قال: البحائر والسُّيَّب .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, الزاعمين أن الله حرم عليهم ما هم محرِّموه من حروثهم وأنعامهم, على ما ذكرت لك في تنـزيلي عليك : تعالوا، أيها القوم، أقرأ عليكم ما حرم ربكم حقًا يقينًا, لا الباطل تخرُّصًا، تخرُّصَكم على الله الكذبَ والفريةَ ظنًّا, ولكن وحيًا من الله أوحاه إليّ, وتنـزيلا أنـزله عليّ: أن لا تشركوا بالله شيئًا من خلقه، ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام، ولا تعبدوا شيئًا سواه ( وبالوالدين إحسانًا ) ، يقول: وأوصى بالوالدين إحسانًا وحذف « أوصى » و « أمر » ، لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه. وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب .

وأما « أن » في قوله: ( أن لا تشركوا به شيئًا ) ، فرفعٌ, لأن معنى الكلام: قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربكم عليكم, هو أن لا تشركوا به شيئًا .

وإذا كان ذلك معناه, كان في قوله: ( تشركوا ) ، وجهان:

الجزم بالنهي, وتوجيهه « لا » إلى معنى النهي .

والنصب، على توجيه الكلام إلى الخبر, ونصب « تشركوا » ، بـ « أن لا » ، كما يقال: « أمرتك أن لا تقوم » .

وإن شئت جعلت « أن » في موضع نصبٍ، ردًّا على « ما » وبيانًا عنها, ويكون في قوله: ( تشركوا ) ، أيضًا من وجهي الإعراب، نحو ما كان فيه منه. و « أن » في موضع رفع.

ويكون تأويل الكلام حينئذ: قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم, أتلُ أن لا تشركوا به شيئًا .

فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون قوله ( تشركوا ) نصبًا بـ « أن لا » , أم كيف يجوز توجيه قوله: « ألا تشركوا به » , على معنى الخبر, وقد عطف عليه بقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ، وما بعد ذلك من جزم النهي؟ قيل: جاز ذلك، كما قال تعالى ذكره: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ، فجعل « أن أكون » خبرًا، و « أنْ » اسمًا, ثم عطف عليه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، [ سورة الأنعام: 14 ] , وكما قال الشاعر:

حَــجَّ وَأوْصَــى بِسُـلَيْمَى الأعْبُـدَا أَنْ لا تَـــرَى وَلا تُكَـــلِّمْ أَحَــدَا

وَلا يَزَلْ شَرَابُهَا مُبَرَّدَا

فجعل قوله: « أن لا ترى » خبرًا, ثم عطف بالنهي فقال: « ولا تكلم » , « ولا يزل » .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم, فإن الله هو رازقكم وإياهم, ليس عليكم رزقهم, فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجزَ عن أرزاقهم وأقواتهم .

و « الإملاق » ، مصدر من قول القائل: « أملقت من الزاد, فأنا أملق إملاقًا » , وذلك إذا فني زاده، وذهب ماله، وأفلس .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، الإملاق الفقر, قتلوا أولادهم خشية الفقر .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، أي خشية الفاقة.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، قال: « الإملاق » ، الفقر .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( من إملاق ) ، قال: شياطينهم، يأمرونهم أن يئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك في قوله: ( من إملاق ) ، يعني: من خشية فقر .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تقربوا الظاهرَ من الأشياء المحرّمة عليكم، التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها, والباطنَ منها الذي تأتونه سرًّا في خفاء لا تجاهرون به, فإن كل ذلك حرام .

وقد قيل : إنما قيل: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن, لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنى بعضًا [ دون بعض ] .

وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع, غير أن دليل الظاهر من التنـزيل على النهي عن ظاهر كل فاحشة وباطنها, ولا خبر يقطع العذرَ، بأنه عنى به بعض دون جميع. وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن، إلا بحجة يجب التسليم لها .

* ذكر من قال ما ذكرنا من قول من قال: الآية خاصُّ المعنى:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، أما « ما ظهر منها » ، فزواني الحوانيت, وأما « ما بطن » ، فما خَفِي .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى, ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا. فحرّم الله السر منه والعلانية ( ما ظهر منها ) ، يعني: العلانية ( وما بطن ) ، يعني: السر .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأسًا في السر، ويستقبحونه في العلانية, فحرَّم الله الزنى في السرّ والعلانية .

وقال آخرون في ذلك بمثل الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، سرَّها وعلانيتها .

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, نحوه .

وقال آخرون: « ما ظهر » ، نكاح الأمهات وحلائل الآباء « وما بطن » ، الزنى .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن خصيف, عن مجاهد: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: « ما ظهر » ، جمعٌ بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده « وما بطن » ، الزنى .

وقال آخرون في ذلك بما:-

حدثني إسحاق بن زياد العطار النصري قال، حدثنا محمد بن إسحاق البلخي قال، حدثنا تميم بن شاكر الباهلي, عن عيسى بن أبي حفصة قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: « ما ظهر » ، الخمر « وما بطن » ، الزنى .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 151 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) ، يعني بالنفس التي حرم الله قتلها، نفسَ مؤمن أو مُعاهد وقوله: ( إلا بالحق ) ، يعني بما أباح قتلها به: من أن تقتل نفسًا فتقتل قَوَدًا بها, أو تزني وهي محصنة فترجم, أو ترتدَّ عن دينها الحقِّ فتقتل. فذلك « الحق » الذي أباح الله جل ثناؤه قتل النفس التي حرم على المؤمنين قتلها به ( ذلكم ) ، يعني هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربُّنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه, هي الأمور التي وصَّانا والكافرين بها أن نعمل جميعًا به ( لعلكم تعقلون ) ، يقول: وصاكم بذلك لتعقلوا ما وصاكم به ربكم .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، ولا تقربوا ماله إلا بما فيه صلاحه وتثميره ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: التجارة فيه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، فليثمر مالَه .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا فضيل بن مرزوق العنـزي, عن سليط بن بلال, عن الضحاك بن مزاحم في قوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: يبتغي له فيه, ولا يأخذ من ربحه شيئًا .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: « التي هي أحسن » ، أن يأكل بالمعروف إن افتقر, وإن استغنى فلا يأكل. قال الله: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ، [ سورة النساء: 6 ] . قال: وسئل عن الكسوة، فقال: لم يذكر الله الكسوة، إنما ذكر الأكل .

وأما قوله: ( حتى يبلغ أشده ) ، فإن « الأشُدّ » جمع « شَدٍّ » , كما « الأضُرّ » جمع « ضر » , وكما « الأشُرّ » جمع « شر » ، و « الشد » القوة, وهو استحكام قوة شبابه وسنه, كما « شَدُّ النهار » ارتفاعه وامتداده. يقال: « أتيته شدَّ النهار ومدَّ النهار » , وذلك حين امتداده وارتفاعه; وكان المفضل فيما بلغني ينشد بيت عنترة:

عَهْــدِي بِــهِ شَـدَّ النَّهَـارِ كَأَنَّمَـا خُــضِبَ اللَّبَــانُ وَرَأْسُـهُ بِـالْعِظْلِمِ

ومنه قول الآخر:

تُطِيــفُ بِــهِ شَـدَّ النَّهَـارِ ظَعِينَـةٌ طَوِيلَــةُ أَنْقَــاءِ اليَــدَيْنِ سَـحُوقُ

وكان بعض البصريين يزعم أن « الأشد » مثل « الآنُك » .

فأما أهل التأويل، فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل: « بلغ أشدّه » .

فقال بعضهم: يقال ذلك له إذا بلغ الحُلُم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، أخبرني يحيى بن أيوب, عن عمرو بن الحارث, عن ربيعة في قوله: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: الحلم .

حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, مثله قال ابن وهب: وقال لي مالك مثله .

حدثت عن الحماني قال، حدثنا هشيم, عن مجاهد, عن عامر: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: « الأشد » ، الحلم, حيث تكتب له الحسنات، وتكتب عليه السيئات .

وقال آخرون: إنما يقال ذلك له، إذا بلغ ثلاثين سنة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: أما « أشده » ، فثلاثون سنة, ثم جاء بعدها: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ . [ سورة النساء: 6 ] .

وفي الكلام محذوف، ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حذف . وذلك أن معنى الكلام: « ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده » , فإذا بلغ أشده فآنستم منه رشدًا، فادفعوا إليه ماله لأنه جل ثناؤه لم ينه أن يُقرب مال اليتيم في حال يُتمه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، ليحِلَّ لوليّه بعد بلوغه أشده أن يقربه بالتي هي أسوأ, ولكنه نهاهم أن يقرَبوه حياطةً منه له، وحفظًا عليه، ليسلموه إليه إذا بلغ أشده .

 

القول في تأويل قوله : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وأن أوفوا الكيل والميزان. يقول: لا تبخسوا الناس الكيلَ إذا كلتموهم، والوزنَ إذا وزنتموهم, ولكن أوفوهم حقوقهم. وإيفاؤهم ذلك، إعطاؤهم حقوقهم تامة « بالقسط » ، يعني بالعدل ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( بالقسط ) ، بالعدل .

وقد بينا معنى: « القسط » بشواهده فيما مضى، وكرهنا إعادته .

وأما قوله: ( لا نكلف نفسًا إلا وسعها ) ، فإنه يقول: لا نكلف نفسًا، من إيفاء الكيل والوزن، إلا ما يسعها فيحلّ لها ولا تحرَجُ فيه . وذلك أن الله جل ثناؤه، علم من عباده أن كثيرًا منهم تَضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجبُ عليها له, فأمر المعطي بإيفاء رب الحق حقَّه الذي هو له، ولم يكلِّفه الزيادة، لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر الذي له الحق، بأخذ حقه، ولم يكلفه الرضا بأقل منه, لما في النقصان عنه من ضيق نفسه. فلم يكلف نفسًا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق, فلذلك قال: ( لا نكلف نفسًا إلا وسعها ) .

وقد استقصينا بيان ذلك بشواهده في موضع غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته .

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 152 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( وإذا قلتم فاعدلوا ) ، وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم فقولوا الحق بينهم, واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم، ذا قرابة لكم, ولا تحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره, أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه ( وبعهد الله أوفوا ) ، يقول: وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك: أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم, وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وذلك هو الوفاء بعهد الله .

وأما قوله: ( ذلكم وصاكم به ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك: هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الآيتين, هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا، ووصاكم بها ربكم، وأمركم بالعمل بها لا بالبحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، وقتل الأولاد، ووأد البنات، واتباع خطوات الشيطان ( لعلكم تذكرون ) ، يقول: أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الآيتين، ووصاكم بها وعهد إليكم فيها, لتتذكروا عواقبَ أمركم، وخطأ ما أنتم عليه مقيمون, فتنـزجروا عنها، وترتدعوا وتُنيبوا إلى طاعة ربكم .

وكان ابن عباس يقول: هذه الآيات، هنَّ الآيات المحكمات .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن علي بن صالح, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن قيس, عن ابن عباس قال: هن الآيات المحكمات, قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت يحيى بن أيوب يحدّث، عن يزيد بن أبى حبيب, عن مرثد بن عبد الله, عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار قال، سمع كعب الأحبار رجلا يقرأ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، فقال: والذي نفس كعب بيده, إنّ هذا لأوَّل شيء في التوراة: « بسم الله الرحمن الرحيم » ، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن سعيد بن مسروق, عن رجل, عن الربيع بن خثيم أنه قال لرجل: هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد؟ ثم قرأ هؤلاء الآيات: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي سنان, عن عمرو بن مرة قال: قال الربيع: ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يقل: « خاتمها » فقرأ هذه الآيات: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة قال: جاء إليه نفر فقالوا: قد جالست أصحابَ محمد، فحدثنا عن الوَحي. فقرأ عليهم هذه الآيات من « الأنعام » : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، قالوا: ليس عن هذا نسألك ! قال: فما عندنا وحيٌ غيره .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم القرآن .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإذا قلتم فاعدلوا ) ، قال: قولوا الحق .

 

القول في تأويل قوله : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 153 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم، أيها الناس، في هاتين الآيتين من قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، وأمركم بالوفاء به, هو « صراطه » يعني: طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده ( مستقيمًا ) ، يعني: قويمًا لا اعوجاج به عن الحق ( فاتبعوه ) ، يقول: فاعملوا به, واجعلوه لأنفسكم منهاجًا تسلكونه، فاتبعوه ( ولا تتبعوا السبل ) ، يقول: ولا تسلكوا طريقًا سواه, ولا تركبوا منهجًا غيره, ولا تبغوا دينًا خلافه ، من اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان، وغير ذلك من الملل, فإنها بدع وضلالات ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول: فيشتّت بكم، إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طرق ولا أديان, اتباعُكم إياها « عن سبيله » , يعني: عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه, وهو الإسلام الذي وصّى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم ( ذلكم وصاكم به ) ، يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم: « أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل » ، وصاكم به « لعلكم تتقون » , يقول: لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها, وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها، فيحل بكم نقمته وعذابه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال: البدع والشبهات .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا تتبعوا السبل ) ، البدع والشبهات .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) , وقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ سورة الشورى: 13 ] ، ونحو هذا في القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم أنه إنما هلك مَنْ كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول: لا تتبعوا الضلالات .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد, عن عاصم, عن أبي وائل, عن عبد الله قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطًّا فقال: هذا سبيل الله. ثم خط عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطًا فقال: هذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليها. ثم قرأ هذه الآية: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال: « سبيله » ، الإسلام, و « صراطه » ، الإسلام . نهاهم أن يتبعوا السبل سواه ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، عن الإسلام .

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أبان: أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه, وطرفُه في الجنة, وعن يمينه جوادُّ, وعن يساره جَوَادُّ, وثمَّ رجال يدعون من مرّ بهم. فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار, ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا ) ، الآية .

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا ) .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَأَنَّ ) بفتح « الألف » من « أن » , وتشديد « النون » , ردًّا على قوله: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، بمعنى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , « وأن هذا صراطي مستقيمًا » .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: « وَإِنَّ » بكسر « الألف » من « أن » , وتشديد « النون » منها، على الابتداء وانقطاعها عن الأول, إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه، عندهم .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار وعوامّ المسلمين، صحيح معنياهما, فبأيِّ القراءتين قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ في قراءته .

وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله, كما أمر عباده الأنبياء . وإن أدخل ذلك مُدْخِلٌ فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، وما أمركم به, ففتح على ذلك « أن » ، فمصيب وإن كسرها، إذ كانت « التلاوة » قولا وإن كان بغير لفظ « القول » لبعدها من قوله: « أتل » , وهو يريد إعمال ذلك فيه، فمصيبٌ وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأول و « التلاوة » , وأن ما أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أُمِر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك, فمصيب .

وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصري: « وَأنْ » بفتح الألف من « أن » وتخفيف النون منها, بمعنى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , « وأنْ هذا صراطي » ، فخففها، إذ كانت « أن » في قوله: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، مخففة, وكانت « أن » في قوله: ( وأن هذا صراطي ) ، معطوفة عليها, فجعلها نظيرةَ ما عطفت عليه .

وذلك وإن كان مذهبًا, فلا أحب القراءة به، لشذوذها عن قراءة قرأة الأمصار، وخلاف ما هم عليه في أمصارهم .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب ) ، ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسى الكتابَ فترك ذكر « قل » , إذ كان قد تقدم في أول القصّة ما يدلّ على أنه مرادٌ فيها, وذلك قوله : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، فقصَّ ما حرم عليهم وأحلّ, ثم قال: ثم قل: « آتينا موسى » , فحذف « قل » لدلالة قوله: « قل » عليه, وأنه مراد في الكلام .

وإنما قلنا: ذلك مرادٌ في الكلام, لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا شك أنه بُعث بعد موسى بدهر طويل، وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه. ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدًا بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه. و « ثم » في كلام العرب حرف يدلّ على أن ما بعده من الكلام والخبر، بعد الذي قبلها .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، فقال بعضهم: معناه: تمامًا على المحسنين .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: على المؤمنين.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، المؤمنين والمحسنين.

وكأنّ مجاهدًا وجّه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جل ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده .

فإن قال قائل: فكيف جاز أن يقال: ( على الذي أحسن ) ، فيوحِّد « الذي » , والتأويل على الذين أحسنوا؟

قيل: إن العرب تفعل ذلك خاصة في « الذي » وفي « الألف واللام » ، إذا أرادت به الكل والجميع, كما قال جل ثناؤه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، [ سورة العصر: 2،1 ] ، وكما قالوا: « كثر الدِّرهم فيه في أيدي الناس » .

وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرأ ذلك: « تمامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا » ، وذلك من قراءته كذلك، يؤيد قول مجاهد .

وإذا كان المعنى كذلك, كان قوله: « أحسن » ، فعلا ماضيًا, فيكون نصبه لذلك .

وقد يجوز أن يكون « أحسن » في موضع خفض, غير أنه نصب إذ كان « أفعل » , و « أفعل » ، لا يجري في كلامها .

فإن قيل: فبأيِّ شيء خفض؟

قيل: ردًّا على « الذي » ، إذ لم يظهر له ما يرفعه فيكون تأويل الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي هو أحسن, ثم حذف « هو » , وجاور « أحسن » « الذي » , فعرِّب بتعريبه, إذ كان كالمعرفة من أجل أن « الألف واللام » لا يدخلانه, « والذي » مثله, كما تقول العرب: « مررت بالذي خيرٍ منك، وشرٍّ منك » , كما قال الراجز:

إِنَّ الزُّبَــيْرِيَّ الَّــذِي مِثْـلَ الحَـلَمْ مَسَّــى بِأَسْــلابِكُمُ أَهْــلَ الْعَلَــمْ

فأتبع « مثل » « الذي » ، في الإعراب . ومن قال ذلك، لم يقل: مررت « بالذي عالمٍ » , لأن « عالمًا » نكرة، « والذي » معرفة, ولا تتبع نكرة معرفة .

وقال آخرون: معنى ذلك: « تمامًا على الذي أحسن » ، موسى، فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذين أحسن ) ، فيما أعطاه الله.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: من أحسن في الدنيا، تمم الله له ذلك في الآخرة .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، يقول: من أحسن في الدنيا، تمت عليه كرامة الله في الآخرة.

وعلى هذا التأويل الذي تأوّله الربيع، يكون « أحسن » ، نصبًا, لأنه فعل ماض, و « الذي » بمعنى « ما » وكأنّ الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على ما أحسن موسى أي: آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الآخرة، تمامًا على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته .

وقال آخرون في ذلك: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: تمامًا من الله وإحسانه الذي أحسن إليهم وهداهم للإسلام, وآتاهم ذلك الكتاب تمامًا، لنعمته عليه وإحسانه .

« وأحسن » على هذا التأويل أيضًا، في موضع نصب، على أنه فعل ماض، « والذي » على هذا القول والقول الذي قاله الربيع، بمعنى: « ما » .

وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك: « تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ » رفعًا بتأويل: على الذي هو أحسن .

حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا الحجاج, عن هارون, عن أبي عمرو بن العلاء, عن يحيى بن يعمر .

قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، وإن كان لها في العربية وجه صحيح, لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قرأة الأمصار .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا لنعمنا عنده، على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا لأن ذلك أظهرُ معانيه في الكلام, وأن إيتاء موسى كتابه نعمةٌ من الله عليه ومنة عظيمة. فأخبر جل ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحُسن طاعة .

ولو كان التأويل على ما قاله ابن زيد، كان الكلام: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسنّا أو: ثم آتى الله موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن .

وفي وصفه جل ثناؤه نفسه بإيتائه الكتاب، ثم صرفه الخبر بقوله: « أحسن » , إلى غير المخبر عن نفسه بقرب ما بين الخبرين الدليلُ الواضح على أن القول غير القول الذي قاله ابن زيد .

وأما ما ذكر عن مجاهد من توجيهه « الذي » إلى معنى الجميع، فلا دليل في الكلام يدل على صحة ما قال من ذلك. بل ظاهر الكلام بالذي اخترنا من القول أشبه . وإذا تنوزع في تأويل الكلام، كان أولى معانيه به أغلبُه على الظاهر, إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليلٌ واضح على أنه معنيٌّ به غير ذلك .

وأما قوله: ( وتفصيلا لكل شيء ) ، فإنه يعني: وتبيينًا لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به .

فتأويل الكلام إذًا: ثم آتينا موسى التوراة تمامًا لنعمنا عنده وأيادينا قِبَله, تتم به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربَّه وقيامه بما كلّفه من شرائع دينه, وتبيينًا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم، كما:-

حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وتفصيلا لكل شيء ) ، فيه حلاله وحرامه .

 

القول في تأويل قوله : وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( 154 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: آتينا موسى الكتاب تمامًا وتفصيلا لكل شيء ( وهدى ) ، يعني بقوله « وهدى » ، تقويمًا لهم على الطريق المستقيم, وبيانًا لهم سُبُل الرشاد لئلا يضلوا ( ورحمة ) ، يقول: ورحمة منا بهم ورأفة, لننجيهم من الضلالة وَعمى الحيرة .

وأما قوله: ( لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) ، فإنه يعني: إيتائي موسى الكتاب تمامًا لكرامة الله موسى، على إحسان موسى, وتفصيلا لشرائع دينه, وهدًى لمن اتبعه، ورحمة لمن كان منهم ضالا لينجيه الله به من الضلالة, وليؤمن بلقاء ربه إذا سمع مواعظ الله التي وعظ بها خلقه فيه, فيرتدع عما هو عليه مقيمٌ من الكفر به, وبلقائه بعد مماته, فيطيع ربه, ويصدِّق بما جاءه به نبيه موسى صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 155 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وهذا كتاب أنـزلناه مبارك ) ، وهذا القرآن الذي أنـزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم « كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه » ، يقول: فاجعلوه إمامًا تتّبعونه وتعملون بما فيه، أيها الناس ( واتقوا ) ، يقول: واحذروا الله في أنفسكم، أن تضيعوا العمل بما فيه, وتتعدّوا حدودَه, وتستحلُّوا محارمه . كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة,قوله: ( وهذا كتاب أنـزلناه مبارك ) ، وهو القرآن الذي أنـزله الله على محمد عليه الصلاة والسلام ( فاتبعوه ) ، يقول: فاتبعوا حلاله، وحرّموا حرامه .

وقوله: ( لعلكم ترحمون ) ، يقول: لترحموا، فتنجوا من عذاب الله، وأليم عقابه .

 

القول في تأويل قوله : أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ( 156 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في العامل في « أن » التي في قوله: ( أن تقولوا ) وفي معنى هذا الكلام.

فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ، كراهيةَ أن تقولوا: « إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا » .

وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك في موضع نصب بفعل مضمر. قال: ومعنى الكلام: فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون اتقوا أن تقولوا . قال: ومثله يقول الله أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ، [ سورة الحجرات: 2 ] .

وقال آخرون منهم: هو في موضع نصب . قال: ونصبه من مكانين: أحدهما: أنـزلناه لئلا يقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا والآخر من قوله: ( اتقوا ) . قال: ولا يصلح في موضع « أن » كقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ سورة النساء: 176 ] .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نصب « أن » لتعلقها: بالإنـزال, لأن معنى الكلام: وهذا كتاب أنـزلناه مبارك لئلا تقولوا: « إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا » .

فأما الطائفتان اللتان ذكرهما الله, وأخبر أنه إنما أنـزل كتابه على نبيه محمد لئلا يقول المشركون: « لم ينـزل علينا كتاب فنتبعه, ولم نؤمر ولم نُنْه, فليس علينا حجة فيما نأتي ونَذَر, إذ لم يأت من الله كتاب ولا رسول » , وإنما الحجة على الطائفتين اللتين أنـزل عليهما الكتاب من قبلنا فإنهما اليهود والنصارى، وكذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، وهم اليهود والنصارى .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، اليهود والنصارى يُخاف أن تقوله قريش .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن مجاهد: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، قال: اليهود والنصارى. قال: أن تقول قريش .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، وهم اليهود والنصارى .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، أما الطائفتان: فاليهود والنصارى .

وأما ( وإن كنا عن دِرَاستهم لغافلين ) ، فإنه يعني: أن تقولوا: وقد كنا عن تلاوة الطائفتين الكتابَ الذي أنـزلتُ عليهم « غافلين » , لا ندري ما هي, ولا نعلم ما يقرؤون وما يقولون، وما أنـزل إليهم في كتابهم, لأنهم كانوا أهله دوننا, ولم نعن به ولم نؤمر بما فيه, ولا هو بلساننا, فيتخذوا ذلك حجة . فقطع الله بإنـزاله القرآنَ على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حجتهم تلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، يقول: وإن كنا عن تلاوتهم لغافلين .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، أي: عن قراءتهم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، قال: « الدراسة » ، القراءة والعلم. وقرأ: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ، [ سورة الأعراف: 169 ] . قال: علموا ما فيه، لم يأتوه بجهالة .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، يقول: وإن كنا عن قراءتهم لغافلين، لا نعلم ما هي .

 

القول في تأويل قوله : أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ , لئلا يقول المشركون من عبدة الأوثان من قريش: إِنَّمَا أُنْـزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا , أو: لئلا يقولوا: لو أنّا أنـزل علينا الكتاب كما أنـزل على هاتين الطائفتين من قبلنا, فأمرنا فيه ونُهِينا, وبُيِّن لنا فيه خطأ ما نحن فيه من صوابه ( لكنا أهدى منهم ) ، أي: لكنا أشدَّ استقامة على طريق الحق، واتباعًا للكتاب, وأحسن عملا بما فيه، من الطائفتين اللتين أنـزل عليهما الكتاب من قبلنا . يقول الله: ( فقد جاءكم بينة من ربكم ) ، يقول: فقد جاءكم كتابٌ بلسانكم عربيٌ مبين, حجة عليكم واضحة بيّنة من ربكم ( وهدى ) ، يقول: وبيان للحق, وفُرْقانٌ بين الصواب والخطأ ، ( ورحمة ) لمن عمل به واتّبعه، كما:-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم ) ، يقول: قد جاءكم بينة، لسانٌ عربي مبين, حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين, وحين قلتم: لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ) ، فهذا قول كفار العرب ( فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) .

 

القول في تأويل قوله : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ( 157 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فمن أخطأ فعلا وأشدّ عدوانًا منكم، أيها المشركون, المكذبون بحجج الله وأدلته وهي آياته ( وصدف عنها ) ، يقول: وأعرض عنها بعد ما أتته, فلم يؤمن بها، ولم يصدِّق بحقيقتها .

وأخرج جل ثناؤه الخبر بقوله: ( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله ) ، مخرج الخبر عن الغائب, والمعنيّ به المخاطبون به من مشركي قريش .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( وصدف عنها ) ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وصدف عنها ) ، يقول: أعرض عنها .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يصدفون عن آياتنا ) ، يعرضون عنها, و « الصدف » ، الإعراض.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وصدف عنها ) ، أعرض عنها, ( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ) ، أي: يعرضون .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وصدف عنها ) ، فصدَّ عنها.

وقوله: ( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب ) ، يقول: سيثيب الله الذين يعرضون عن آياته وحججه ولا يتدبرونها، ولا يتعرفون حقيقتها فيؤمنوا بما دلتهم عليه من توحيد الله، وحقيقة نبوة نبيه، وصدق ما جاءهم به من عند ربهم ( سوء العذاب ) ، يقول: شديد العقاب, وذلك عذاب النار التي أعدَّها الله لكفرة خلقه به ( بما كانوا يصدفون ) ، يقول: يفعل الله ذلك بهم جزاء بما كانوا يعرضون عن آياته في الدنيا، فلا يقبلون ما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « هل ينتظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام إلا أن تأتيهم الملائكة » ، بالموت فتقبض أرواحهم أو أن يأتيهم ربك، يا محمد، بين خلقه في موقف القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، يقول: أو أن يأتيهم بعضُ آيات ربك. وذلك فيما قال أهل التأويل: طلوعُ الشمس من مغربها .

* ذكر من قال من أهل التأويل ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا أن تأتيهم الملائكة ) ، يقول: عند الموت حين توفَّاهم « أو يأتي ربك » ، ذلك يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( إلا أن تأتيهم الملائكة ) ، بالموت « أو يأتي ربك » ، يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، قال: آية موجبة، طلوع الشمس من مغربها, أو ما شاء الله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة , قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، يقول: بالموت « أو يأتي ربك » ، وذلك يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، عند الموت « أو يأتي ربك » « أو يأتي بعض آيات ربك » ، يقول: طلوع الشمس من مغربها.

حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق قال، قال عبد الله في قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك » ، قال: يصبحون والشمس والقمر من هاهنا من قبل المغرب، كالبعيرين القَرينين زاد ابن حميد في حديثه: « فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قَبْل أو كسبت في إيمانها خيرًا » ، وقال: « كالبعيرين المقترنين » . .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، تقبض الأنفس بالموت « أو يأتي ربك » ، يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » .

 

القول في تأويل قوله : يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « يوم يأتي بعض آيات ربك » , لا ينفع من كان قبل ذلك مشركًا بالله، أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية .

وقيل: إن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه أن الكافر لا ينفعه إيمانه عند مجيئها: طلوعُ الشمس من مغربها .

ذكر من قال ذلك، وما ذكر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

حدثني عيسى بن عثمان الرملي قال، حدثنا يحيى بن عيسى, عن ابن أبي ليلى, عن عطية, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها » ، قال: طلوع الشمس من مغربها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي ليلى, عن عطية, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل, وجرير عن عمارة, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. قال: فإذا رآها الناس آمن من عليها, فتلك « حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري وإسحاق بن شاهين قالا أخبرنا خالد بن عبد الله الطحان, عن يونس, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومًا: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ! قال: إنها تذهب إلى مستقرِّها تحت العرش, فتخرُّ ساجدة, فلا تزال كذلك حتى يقال لها: « ارتفعي من حيث شئت » , فتصبح طالعة من مطلعها . ثم تجري إلى أن تنتهي إلى مستقرٍّ لها تحت العرش, فتخرّ ساجدة, فلا تزال كذلك حتى يقال لها: « ارتفعي من حيث شئت » ، فتصبح طالعةً من مطلعها . ثم تجري لا ينكر الناسُ منها شيئًا, حتى تنتهي فتخرّ ساجدة في مستقر لها تحت العرش, فيصبح الناسُ لا ينكرون منها شيئًا, فيقال لها: « اطلعي من مغربك » فتصبح طالعة من مغربها. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتدرون أيّ يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: ذاك يومَ « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا مؤمل بن هشام ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية, عن يونس, عن إبراهيم بن يزيد التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر, عن النبي صلى الله عليه وسلم, نحوه .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن عاصم, عن زر, عن صفوان بن عسّال قال، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من قِبَل مغرب الشمس بابًا مفتوحًا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه. فإذا طلعت الشمس من نحوه ، لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا. .

حدثنا المفضل بن إسحاق قال، حدثنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد الإياميّ, عن أبيه, عن زبيد, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال المرادي قال: ذكرت التوبة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للتوبة بابٌ بالمغرب مسيرة سبعين عامًا أو: أربعين عامًا فلا يزال كذلك حتى يأتي بعض آيات ربك. .

حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك, عن عاصم بن أبي النجود, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال أنه قال: إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرة سبعين عامًا, فإذا طلعت الشمس من مغربها, لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن عمارة بن القعقاع, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت ورآها الناس، آمن مَنْ عليها, فذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا محمد بن جعفر, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلعَ الشمس من مغربها, فيومئذ يؤمن الناس كلهم أجمعون, وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي عون, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة قال، التوبة مقبولة، ما لم تطلع الشمس من مغربها .

حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا ضمضم بن زرعة, عن شريح بن عبيد, عن مالك بن يخامر, عن معاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن عوف, وعبد الله بن عمرو بن العاص, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: لا تزل التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت طُبِع على كل قلب بما فيه, وكُفي الناسُ العمل.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة وجعفر بن عون, بنحوه .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أبي حيان التيمي, عن أبي زرعة قال، جلس ثلاثة من المسلمين إلى مروان بن الحكم بالمدينة, فسمعوه وهو يحدث عن الآيات: أن أولها خروجا الدجالُ، فانصرف القوم إلى عبد الله بن عمرو, فحدثوه بذلك, فقال: لم يقل مروان شيئًا! قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا لم أنسَه, لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أوّل الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها, أو خروج الدابة على الناس ضُحًى, أيَّتهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها قريبًا . ثم قال عبد الله بن عمرو، وكان يقرأ الكتب: أظن أولهما خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع, فيؤذن لها في الرجوع, حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها، فعلت كما كانت تفعل، أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع, فلم يردَّ عليها شيئًا, فتفعل ذلك ثلاث مرات، لا يردّ عليها بشيء. حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب, وعرفت أن لو أذن لها لم تدرك المشرق, قالت: « ما أبعدَ المشرق! ربِّ، منْ لي بالناس » ! حتى إذا صار الأفق كأنه طَوْق، استأذنت في الرجوع, فقيل لها: « اطلعي من مكانك » ، فتطلع من مغربها . ثم قرأ: « يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها » ، إلى آخر الآية .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فهد قال، حدثنا حماد, عن يحيى بن سعيد أبي حيان, عن الشعبي, أن ثلاثة نفر دخلوا على مروان بن الحكم, فذكر نحوه, عن عبد الله بن عمرو.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، سمعت عاصم بن أبي النجود، يحدث عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرة سبعين عامًا, لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن حجاج, عن عاصم, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال قال: إذا طلعت الشمس من مغربها, فيومئذ لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فهد قال، حدثنا عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش قال: غَدَوْتُ إلى صفوان بن عسال فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن باب التوبة مفتوح من قبل المغرب, عرضه مسيرة سبعين عامًا, فلا يزال مفتوحًا حتى تطلع من قبله الشمس . ثم قرأ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ، إلى: خَيْرًا .

حدثني الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث, عن جعفر بن ربيعة, عن عبد الرحمن بن هرمز: أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من المغرب. قال: فإذا طلعت الشمس من المغرب آمن الناس كلهم، وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها قُبِل منه .

حدثني المثنى قال، حدثنا فهد قال، حدثنا حماد, عن يونس بن عبيد, عن إبراهيم بن يزيد التيمي, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الشمس إذا غربت أتت تحت العرش فسجدت, فيقال لها: « اطلعي من حيث غربت » ، ثم قرأ هذه الآية: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ، إلى آخر الآية .

حدثني المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن حسين, عن الحكم, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على حمارٍ, فنظر إلى الشمس حين غربت فقال: إنها تغرب في عين حامية, تنطلق حتى تخرّ لربها ساجدة تحت العرش، حتى يأذن لها, فإذا أراد أن يطلعها من مغربها حبسها, فتقول: يا ربِّ، إن مسيري بعيد! فيقول لها: اطلعي من حيث غربت ! فذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة, عن موسى بن المسيب, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى الشمس فقال: يوشك أن تجيء حتى تقف بين يدي الله, فيقول: « ارجعي من حيث جئت » ! فعند ذلك: « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، فهو أنه لا ينفع مشركًا إيمانه عند الآيات, وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيرًا قبل ذلك . قال ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيةً من العشيّات فقال لهم: يا عباد الله, توبوا إلى الله ، فإنكم توشكون أن تروا الشمس من قِبَل المغرب, فإذا فعلت ذلك، حُبِست التوبة، وطُوِي العمل، وخُتم الإيمان. فقال الناس: هل لذلك من آية يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن آية تلكم الليلة، أن تطول كقدر ثلاث ليال, فيستيقظ الذين يخشون رَبهم، فيصلُّون له, ثم يقضون صلاتهم والليل مكانه لم ينقض, ثم يأتون مضاجعهم فينامون. حتى إذا استيقظوا والليل مكانه, فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون بين يدي أمرٍ عظيم. فإذا أصبحوا وطال عليهم طلوع الشمس ، فبينا هم ينتظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب, فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة, أنه سمعه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها, فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا كلهم أجمعون, فيومئذ « لا ينفع نفسًا إيمانها » ، الآية .

وبه قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن أبي عتيق, أنه سمع عبيد بن عمير يتلو: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال، يقول: [ كنّا ] نُحدَّث، والله أعلم، أنها الشمس تطلع من مغربها قال ابن جريج، وأخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع عبيد بن عمير يقول ذلك قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن أبي مليكة: أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن الآية التي لا ينفع نفسًا إيمانها، إذا طلعت الشمس من مغربها . قال ابن جريج: وقال مجاهد ذلك أيضًا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شعبة, عن قتادة, عن زرارة بن أوفى, عن ابن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث عن زرارة بن أوفى, عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب، عن عوف, عن ابن سيرين قال، حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان عبد الله بن مسعود يقول: ما ذكر من الآيات فقد مضَين غير أربع: طلوع الشمس من مغربها, ودابة الأرض, والدجال, وخروج يأجوج ومأجوج ، والآية التي تختم بها الأعمال: طلوع الشمس من مغربها. ألم تر أن الله قال: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، قال: فهي طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن سليمان, عن أبي الضحى, عن مسروق قال: قال عبد الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر, كأنهما بعيران مقرونان .

. . . . قال شعبة: وحدثنا قتادة, عن زرارة, عن عبد الله بن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كالبعيرين المقترنين .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور والأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق عن عبد الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كالبعيرين القرينين .

. . . وقال، حدثنا أبي, عن إسرائيل وأبيه, عن أشعث بن أبي الشعثاء, عن أبيه, عن عبد الله قال: التوبة مبسوطةٌ ما لم تطلع الشمس من مغربها .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن أمِّ عبد كان يقول: لا يزال باب التوبة مفتوحًا حتى تطلع الشمس من مغربها, فإذا رأى الناس ذلك آمنوا, وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا بشر قال، حدثنا عبد الله بن جعفر قال، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت آمن الناس كلهم, فيومئذ « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عبيد بن عمير: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

. . . وقال، حدثنا أبي, عن الحسن بن عقبة، أبي كيران, عن الضحاك: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل قال، أخبرني أشعث بن أبي الشعثاء, عن أبيه, عن ابن مسعود في قوله: ( لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) ، قال: لا تزال التوبة مبسوطة ما لم تطلع الشمس من مغربها .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر, عن القرظي: أنه كان يقول في هذه الآية: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) ، يقول: إذا جاءت الآيات لم ينفع نفسًا إيمانها. يقول: طلوع الشمس من مغربها .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري, عن عاصم بن أبي النجود, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن وهب بن جابر, عن عبد الله بن عمرو: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

وقال آخرون: بل ذلك بعض الآيات الثلاثة: الدابة, ويأجوج ومأجوج, وطلوع الشمس من مغربها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون, عن المسعودي, عن القاسم قال، قال عبد الله: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها، ما لم تخرج إحدى ثلاث: ما لم تطلع الشمس من مغربها, أو الدابة, أو فتح يأجوج ومأجوج .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا المسعودي, عن القاسم بن عبد الرحمن قال، قال عبد الله: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها، ما لم تخرج إحدى ثلاث: الدابة, وطلوع الشمس من مغربها, وخروج يأجوج ومأجوج .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن عامر, عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات، طُرِحت الأقلام, وحُبِست الحفظة, وشهدت الأجساد على الأعمال .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أبيه, عن أبي حازم, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث إذا خرجت « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » : طلوع الشمس من مغربها, والدجال, ودابة الأرض .

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا معاوية بن عبد الكريم قال: حدثنا الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بادروا بالأعمال ستًّا: طلوعَ الشمس من مغربها, والدجال، والدخَان, ودابة الأرض, وخُوَيِّصة أحدكم, وأمرَ العامة .

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول, فذكر نحوه .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك, ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ذلك حين تطلع الشمس من مغربها » .

وأما قوله: ( أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، فإنه يعني: أو عملت في تصديقها بالله خيرًا، من عمل صالح يصدِّق قِيلَه ويُحققه، من قبل طلوع الشمس من مغربها. لا ينفع كافرًا لم يكن آمن بالله قبل طلوعها كذلك، إيمانه بالله إن آمن وصدق بالله ورسله, لأنها حالة لا تمتنع نفسٌ من الإقرار بالله، لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله, فحكم إيمانهم، كحكم إيمانهم عند قيام الساعة، وتلك حال لا يمتنع الخلق من الإقرار بوحدانية الله، لمعاينتهم من أهوال ذلك اليوم ما ترتفع معه حاجتهم إلى الفكر والاستدلال والبحث والاعتبار, ولا ينفع مَنْ كان بالله وبرسله مصدِّقًا، ولفرائض الله مضيعًا، غير مكتسب بجوارحه لله طاعة، إذا هي طلعت من مغربها أعمالُه إن عمل, وكسبُه إن اكتسب, لتفريطه الذي سلف قبل طلوعها في ذلك ، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، يقول: كسبت في تصديقها خيرًا، عملا صالحًا, فهؤلاء أهل القبلة . وإن كانت مصدقة ولم تعمل قبل ذلك خيرًا، فعملت بعد أن رأت الآية، لم يقبل منها . وإن عملت قبل الآية خيرًا، ثم عملت بعد الآية خيرًا, قُبل منها .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: مَنْ أدركه بعضُ الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه، قَبِلَ الله منه العمل بعدَ نـزول الآية، كما قَبِلَ منه قبل ذلك .

 

القول في تأويل قوله : قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 158 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام: انتظروا أن تأتيكم الملائكة بالموت فتقبض أرواحكم, أو أن يأتي ربكم لفصل القضاء بيننا وبينكم في موقف القيامة, أو أن يأتيكم طلوع الشمس من مغربها, فتطوى صحف الأعمال, ولا ينفعكم إيمانكم حينئذ إن آمنتم, حتى تعلموا حينئذ المحقَّ منا من المبطل, والمسيءَ من المحسن, والصادقَ من الكاذب, وتتبينوا عند ذلك بمن يحيق عذاب الله وأليم نكاله, ومَنْ الناجي منا ومنكم ومَنْ الهالك - إنا منتظرو ذلك, ليجزل الله لنا ثوابه على طاعتنا إياه, وإخلاصنا العبادة له, وإفرادناه بالربوبية دون ما سواه, ويفصل بيننا وبينكم بالحق, وهو خير الفاصلين .

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 159 )

قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة قوله: ( فرقوا ) .

فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ما:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن دينار, أن عليًّا رضي الله عنه قرأ: « إنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير قال، قال حمزة الزيات: قرأها علي رضي الله عنه: « فَارَقُوا دِينَهُمْ » .

. . . وقال، حدثنا الحسن بن علي, عن سفيان, عن قتادة: « فَارَقُوا دِينَهُمْ » .

وكأن عليًّا ذهب بقوله: « فارقوا دينهم » ، خرجوا فارتدوا عنه، من « المفارقة » .

وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود, كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن رافع, عن زهير قال، حدثنا أبو إسحاق أن عبد الله كان يقرؤها: ( فَرَّقوا دِينَهُمْ ) .

وعلى هذه القراءة أعني قراءة عبد الله قرأة المدينة والبصرة وعامة قرأة الكوفيين . وكأنّ عبد الله تأوّل بقراءته ذلك كذلك: أن دين الله واحد, وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة, ففرّق ذلك اليهود والنصارى, فتهوّد قومٌ وتنصَّر آخرون, فجعلوه شيعًا متفرقة .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان, قد قرأت بكل واحدة منهما أئمة من القرأة, وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه . وذلك أن كل ضالّ فلدينه مفارق, وقد فرَّق الأحزابُ دينَ الله الذي ارتضاه لعباده, فتهود بعض وتنصر آخرون, وتمجس بعض. وذلك هو « التفريق » بعينه، ومصير أهله شيعًا متفرقين غير مجتمعين, فهم لدين الله الحقِّ مفارقون، وله مفرِّقون. فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فهو للحق مصيب, غير أني أختار القراءة بالذي عليه عُظْم القرأة, وذلك تشديد « الراء » من « فرقوا » .

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: ( إن الذين فرّقوا دينهم ) .

فقال بعضهم: عنى بذلك اليهود والنصارى .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وكانوا شيعًا ) ، قال: يهود .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( فرقوا دينهم ) ، قال: هم اليهود والنصارى.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، من اليهود والنصارى.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، هؤلاء اليهود والنصارى . وأما قوله: ( فارقوا دينهم ) ، فيقول: تركوا دينهم وكانوا شيعًا .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد، فتفرقوا. فلما بعث محمد أنـزل الله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، يعني اليهود والنصارى .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي, عن شيبان, عن قتادة: « فارقوا دينهم » ، قال: هم اليهود والنصارى .

وقال آخرون: عنى بذلك أهلَ البدع من هذه الأمة، الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: ( إن الذين فرقوا دينهم ) ، قال: نـزلت هذه الآية في هذه الأمة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، قال: هم أهل الصلاة .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال: كتب إليّ عباد بن كثير قال، حدثني ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، وليسوا منك, هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فارق دينه الحق وفرقه, وكانوا فرقًا فيه وأحزابًا شيعًا, وأنه ليس منهم. ولا هم منه، لأن دينه الذي بعثه الله به هو الإسلام، دين إبراهيم الحنيفية، كما قال له ربه وأمره أن يقول: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ سورة الأنعام: 161 ] .

فكان من فارق دينه الذي بعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثنيّ ويهودي ونصرانيّ ومتحنِّف مبتدع قد ابتدع في الدين ما ضلّ به عن الصراط المستقيم والدين القيم ملة إبراهيم المسلم, فهو بريء من محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد منه بريء, وهو داخل في عموم قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) .

وأما قوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.

فقال بعضهم: نـزلت هذه الآية على نبيّ الله بالأمر بترك قتال المشركين قبل وُجوب فرض قتالهم, ثم نسخها الأمر بقتالهم في « سورة براءة » , وذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . [ سورة التوبة: 5 ] .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، لم يؤمر بقتالهم, ثم نسخت, فأمر بقتالهم في « سورة براءة » .

وقال آخرون: بل نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إعلامًا من الله له أنَّ من أمته من يُحْدث بعده في دينه. وليست بمنسوخة, لأنها خبرٌ لا أمر, والنسخ إنما يكون في الأمر والنهي .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مالك بن مغول, عن علي بن الأقمر, عن أبي الأحوص, أنه تلا هذه الآية: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، ثم يقول: بريء نبيكم صلى الله عليه وسلم منهم .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن إدريس وأبو أسامة ويحيى بن آدم, عن مالك بن مغول, بنحوه .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا شجاع أبو بدر, عن عمرو بن قيس الملائي قال، قالت أم سلمة: ليتّق امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ! ثم قرأت: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) قال عمرو بن قيس: قالها مُرَّة الطيِّب، وتلا هذه الآية .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قوله: ( لست منهم في شيء ) ، إعلام من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه من مبتدعة أمته الملحدة في دينه بريء, ومن الأحزاب من مشركي قومه، ومن اليهود والنصارى . وليس في إعلامه ذلك ما يوجب أن يكون نهاه عن قتالهم, لأنه غير محال أن في الكلام: « لست من دين اليهود والنصارى في شيء فقاتلهم. فإن أمرهم إلى الله في أن يتفضل على من شاء منهم فيتوب عليه, ويهلك من أراد إهلاكه منهم كافرًا فيقبض روحه, أو يقتله بيدك على كفره, ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون عند مقدَمهم عليه » . وإذ كان غير مستحيل اجتماع الأمر بقتالهم, وقوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، ولم يكن في الآية دليلٌ واضح على أنها منسوخة، ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبرٌ كان غير جائز أن يُقْضَى عليها بأنها منسوخة، حتى تقوم حجةٌ موجبةٌ صحةَ القول بذلك، لما قد بينا من أن المنسوخ هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة، في كتابنا كتاب: « اللطيف عن أصول الأحكام » .

وأما قوله: ( إنما أمرهم إلى الله ) ، فإنه يقول: أنا الذي إليَّ أمر هؤلاء المشركين الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا, والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك, دونك ودون كل أحد. إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفُرْقتهم دينهم فأهلكهم بها, وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم ( ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) ، يقول: ثم أخبرهم في الآخرة عند ورودهم عليَّ يوم القيامة بما كانوا يفعلون، فأجازي كلا منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون, المحسنَ منهم بالإحسان، والمسيء بالإساءة . ثم أخبر جل ثناؤه ما مبلغ جزائه من جازى منهم بالإحسان أو بالإساءة فقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .

 

القول في تأويل قوله : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 160 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من وافَى ربَّه يوم القيامة في موقف الحساب، من هؤلاء الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا، بالتوبة والإيمان والإقلاع عما هو عليه مقيم من ضلالته, وذلك هو الحسنة التي ذكرها الله فقال: من جاء بها فله عشر أمثالها .

ويعني بقوله: ( فله عشر أمثالها ) ، فله عشر حسنات أمثال حسنته التي جاء بها ( ومن جاء بالسيئة ) ، يقول: ومن وافى يوم القيامة منهم بفراق الدِّين الحقّ والكفر بالله, فلا يجزى إلا ما ساءه من الجزاء, كما وافى الله به من عمله السيئ ( وهم لا يظلمون ) ، يقول: ولا يظلم الله الفريقين، لا فريق الإحسان, ولا فريق الإساءة, بأن يجازي المحسن بالإساءة والمسيء بالإحسان، ولكنه يجازي كلا الفريقين من الجزاء ما هو له, لأنه جل ثناؤه حكيمٌ لا يضع شيئًا إلا في موضعه الذي يستحق أن يضعه فيه, ولا يجازي أحدًا إلا بما يستحقّ من الجزاء .

وقد دللنا فيما مضى على أن معنى « الظلم » ، وضع الشيء في غير موضعه، بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع .

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما ذكرت، من أن معنى « الحسنة » في هذا الموضع: الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، والتصديق برسوله « والسيئة » فيه: الشرك به، والتكذيب لرسوله أفللإيمان أمثال فيجازى بها المؤمن؟ وإن كان له مثل، فكيف يجازى به, و « الإيمان » ، إنما هو عندك قول وعمل, والجزاء من الله لعباده عليه الكرامة في الآخرة, والإنعام عليه بما أعدّ لأهل كرامته من النعيم في دار الخلود, وذلك أعيان ترى وتعاين وتحسّ ويلتذّ بها, لا قول يسمع، ولا كسبُ جوارح؟

قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه, وإنما معناه: من جاء بالحسنة فوافَى الله بها له مطيعًا, فإن له من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها .

فإن قال: قلت فهل لقول « لا إله إلا الله » من الحسنات مثل؟

قيل: له مثل هو غيره, [ ولكن له مثل هو قول لا إله إلا الله ] , وذلك هو الذي وعد الله جل ثناؤه من أتاه به أن يجازيه عليه من الثواب بمثل عشرة أضعاف ما يستحقه قائله. وكذلك ذلك فيمن جاء بالسيئة التي هي الشرك, إلا أنه لا يجازى صاحبها عليها إلا ما يستحقه عليها من غير إضعافه عليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال رجل من القوم: فإنّ « لا إله إلا الله » حسنة؟ قال: نعم, أفضل الحسنات .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث, عن الأعمش والحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله: ( من جاء بالحسنة ) ، لا إله إلا الله .

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الأعمش والحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله قال: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: من جاء بلا إله إلا الله. قال: ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن الحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا معاوية بن عمرو المعنَّى، عن زائدة, عن عاصم, عن شقيق: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد وعن عثمان بن الأسود, عن مجاهد والقاسم بن أبي بزة: ( من جاء بالحسنة ) ، قالوا: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قالوا: بالشرك وبالكفر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير وابن فضيل, عن عبد الملك, عن عطاء: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي المحجل, عن إبراهيم: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن أبي المحجل, عن أبي معشر, عن إبراهيم, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي المحجل, عن إبراهيم, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن أبي المحجل, عن أبي معشر قال: كان إبراهيم يحلف بالله ما يستثني: أنّ ( من جاء بالحسنة ) ، لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، من جاء بالشرك .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء, في قوله: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) قال: بالشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو نعيم جميعًا, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي صالح: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن عثمان بن الأسود, عن القاسم بن أبي بزة: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الكفر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سلمة, عن الضحاك: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن أشعث, عن الحسن: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( من جاء بالحسنة ) ، يقول: من جاء بلا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: الأعمال ستة: مُوجِبة ومُوجِبة, ومُضْعِفة ومُضْعِفة, ومِثْل ومِثْل . فأما الموجبتان: فمن لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة, ومن لقي الله مشركًا به دخل النار. وأما المضعف والمضعف: فنفقة المؤمن في سبيل الله سبعمئة ضعف, ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها . وأما مثل ومثل: فإذا همّ العبد بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, وإذا هم بسيئة ثم عملها كتبت عليه سيئة .

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش, عن شمر بن عطية, عن شيخ من التيم, عن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، علمني عملا يقرِّبني إلى الجنة ويباعدني من النار . قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة, فإنها عشر أمثالها . قال: قلت: يا رسول الله, « لا إله إلا الله » من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات .

وقال قوم: عني بهذه الآية الأعراب، فأما المهاجرون فإن حسناتهم سبعمئة ضعف أو أكثر .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن أبي الصديق الناجي, عن أبي سعيد الخدري في قوله: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: هذه للأعراب, وللمهاجرين سبعمئة .

حدثنا محمد أبو نشيط بن هارون الحربي قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي, عن عبد الله بن عمر قال: نـزلت هذه الآية في الأعراب: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: قال رجل: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أعظم من ذلك: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ، [ سورة النساء: 40 ] وإذا قال الله لشيء: « عظيم » , فهو عظيم .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع قال: نـزلت هذه الآية: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، وهم يصومون ثلاثة أيام من الشهر، ويؤدّون عشر أموالهم. ثم نـزلت الفرائض بعد ذلك: صوم رمضان والزكاة .

فإن قال قائل: وكيف قيل « عشر أمثالها » , فأضيف « العشر » إلى « الأمثال » , وهي « الأمثال » ؟ وهل يضاف الشيء إلى نفسه؟

قيل: أضيفت إليها لأنه مرادٌ بها: فله عشر حسنات أمثالها, فـ « الأمثال » حلّت محل المفسّر, وأضيف « العشر » إليها, كما يقال: « عندي عشر نسوة » , فلأنه أريد بالأمثال مقامها، فقيل: « عشر أمثالها » , فأخرج « العشر » مخرج عدد الحسنات, و « المثل » مذكر لا مؤنث, ولكنها لما وضعت موضع الحسنات, وكان « المثل » يقع للمذكر والمؤنث, فجعلت خلفًا منها, فعل بها ما ذكرت. ومَنْ قال: « عندي عشر أمثالها » , لم يقل: « عندي عشر صالحات » , لأن « الصالحات » فعل لا يعدّ, وإنما تعدّ الأسماء. و « المثل » اسم, ولذلك جاز العدد به .

وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: « فَلَهُ عَشْرٌ » بالتنوين، « أَمْثَالُهَا » بالرفع. وذلك على وجه صحيح في العربية, غير أن القرأة في الأمصار على خلافها, فلا نستجيز خلافها فيما هي عليه مُجْمِعة .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 161 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنامَ ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، يقول: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم, هو دين الله الذي ابتعثه به, وذلك الحنيفية المسلمة, فوفقني له ( دينًا قيمًا ) ، يقول: مستقيمًا ( ملة إبراهيم ) ، يقول: دين إبراهيم ( حنيفًا ) يقول: مستقيمًا ( وما كان من المشركين ) ، يقول: وما كان من المشركين بالله, يعني إبراهيم صلوات الله عليه, لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( دينًا قيمًا ) .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض البصريين: « دِينًا قَيِّمًا » بفتح « القاف » وتشديد « الياء » ، إلحاقًا منهم ذلك بقول الله: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [ سورة التوبة: 36 / سورة يوسف: 40 / سورة الروم: 30 ] . وبقوله: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [ سورة البينة: 5 ] .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( دِينًا قِيَمًا ) بكسر « القاف » وفتح « الياء » وتخفيفها. وقالوا: « القيِّم » و « القِيَم » بمعنى واحد, وهم لغتان معناهما: الدين المستقيم .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار, متفقتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب مصيبٌ, غير أن فتح « القاف » وتشديد « الياء » أعجب إليّ, لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما .

ونصب قوله: ( دينًا ) على المصدر من معنى قوله: ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، وذلك أن المعنى: هداني ربي إلى دين قويم, فاهتديت له « دينا قيما » فالدين منصوب من المحذوف الذي هو « اهتديت » ، الذي ناب عنه قوله: ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) .

وقال بعض نحويي البصرة: إنما نصب ذلك، لأنه لما قال: ( هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، قد أخبر أنه عرف شيئًا, فقال: « دينًا قيمًا » ، كأنه قال: عرفت دينًا قيما ملّة إبراهيم .

وأما معنى الحنيف, فقد بينته في مكانه في « سورة البقرة » بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 162 ) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( 163 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, الذين يسألونك أن تتبع أهواءهم على الباطل من عبادة الآلهة والأوثان ( إن صلاتي ونسكي ) ، يقول: وذبحي ( ومحياي ) ، يقول: وحياتي ( ومماتي ) يقول: ووفاتي ( لله رب العالمين ) ، يعني: أن ذلك كله له خالصًا دون ما أشركتم به، أيها المشركون، من الأوثان ( لا شريك له ) في شيء من ذلك من خلقه, ولا لشيء منهم فيه نصيب, لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصًا ( وبذلك أمرت ) ، يقول: وبذلك أمرني ربي ( وأنا أول المسلمين ) ، يقول: وأنا أوّل من أقرَّ وأذْعن وخضع من هذه الأمة لربه بأن ذلك كذلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

* ذكر من قال: « النسك » ، في هذا الموضع، الذبح.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: ( إن صلاتي ونسكي ) ، قال: « النسك » ، الذبائح في الحج والعمرة .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( ونسكي ) ، ذبحي في الحج والعمرة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ونسكي ) ، ذبيحتي في الحج والعمرة .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن إسماعيل, وليس بابن أبي خالد, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: ذبحي .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن إسماعيل, عن سعيد بن جبير في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: ذبحي .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان, عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير قال ابن مهدي: لا أدري من « إسماعيل » هذا ! ( صلاتي ونسكي ) ، قال: صلاتي وذبيحتي .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: وذبيحتي .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ونسكي ) ، قال: ذبحي .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( ونسكي ) ، قال: ذبيحتي .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: « الصلاة » ، الصلاة, و « النسك » ، الذبح .

وأما قوله: ( وأنا أوّل المسلمين ) ، فإن:-

محمد بن عبد الأعلى حدثنا قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر، عن قتادة: ( وأنا أول المسلمين ) ، قال: أول المسلمين من هذه الأمة .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان, الداعيك إلى عبادة الأصنام واتباع خطوات الشيطان ( أغير الله أبغي ربًّا ) ، يقول: أسوى الله أطلب سيدًا يسودني ؟ ( وهو رب كل شيء ) ، يقول: وهو سيد كل شيء دونه ومدبّره ومصلحه ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) ، يقول: ولا تجترح نفس إثمًا إلا عليها، أي: لا يؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى، وركبت من الخطيئة، سواها, بل كل ذي إثم فهو المعاقب بإثمه والمأخوذ بذنبه ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها, ولكنها تأثم بإثمها، وعليه تعاقب، دون إثم أخرى غيرها .

وإنما يعني بذلك المشركين الذين أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لهم. يقول: قل لهم: إنا لسنا مأخوذين بآثامكم, وعليكم عقوبة إجرامكم, ولنا جزاء أعمالنا . وهذا كما أمره الله جل ثناؤه في موضع آخر أن يقول لهم: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [ سورة الكافرون:6 ] ، وذلك كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: كان في ذلك الزمان، لا مخرج للعلماء العابدين إلا إحدى خَلَّتين: إحداهما أفضل من صاحبتها. إمَّا أمرٌ ودعاء إلى الحق, أو الاعتزال فلا تشارك أهل الباطل في عملهم, وتؤدي الفرائض فيما بينك وبين ربك, وتحبّ لله وتبغض لله, ولا تشارك أحدًا في إثم . قال: وقد أنـزل في ذلك آية محكمة: ( قل أغير الله أبغي ربًا وهو رب كل شيء ) ، إلى قوله: فِيهِ تَخْتَلِفُونَ , وفي ذلك قال: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [ سورة البينة: 4 ] .

يقال من « الوزر » « وزَر يَزِر » , « و وزَرَ يَوْزَر » , و « وُزِرَ يُؤزر، فهو موزور » .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 164 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان: كل عامل منا ومنكم فله ثواب عمله، وعليه وزره, فاعملوا ما أنتم عاملوه - ( ثم إلى ربكم ) ، أيها الناس ( مرجعكم ) ، يقول: ثم إليه مصيركم ومنقلبكم ( فينبئكم بما كنتم فيه ) ، في الدنيا, ( تختلفون ) من الأديان والملل, إذ كان بعضكم يدين باليهودية, وبعضٌ بالنصرانية, وبعض بالمجوسية, وبعض بعبادة الأصنام وادِّعاء الشركاء مع الله والأنداد, ثم يجازي جميعَكم بما كان يعمل في الدنيا من خير أو شر, فتعلموا حينئذ من المحسنُ منَّا والمسيء .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: والله الذي جعلكم، أيها الناس، ( خلائفَ الأرض ) ، بأن أهلك مَنْ كان قبلكم من القرون والأمم الخالية, واستخلفكم، فجعلكم خلائف منهم في الأرض, تخلفونهم فيها, وتعمرُونها بعدَهم .

و « الخلائف » جمع « خليفة » , كما « الوصائف » جمع « وصيفة » , وهي من قول القائل: « خَلَف فلان فلانًا في داره يخلُفه خِلافة، فهو خليفة فيها » , كما قال الشماخ:

تُصِيبُهُـــمُ وَتُخْـــطِئُنِي المَنَايــا وَأَخْــلُفُ فِـي رُبُـوعٍ عَـنْ رُبُـوعِ

وذلك كما:-

حدثني الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) ، قال: أما « خلائف الأرض » ، فأهلك القرون واستخلفنا فيها بعدهم .

وأما قوله: ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) ، فإنه يقول: وخالف بين أحوالكم, فجعل بعضكم فوق بعض, بأن رفع هذا على هذا، بما بسط لهذا من الرزق ففضّله بما أعطاه من المال والغِنى، على هذا الفقير فيما خوَّله من أسباب الدنيا, وهذا على هذا بما أعطاه من الأيْد والقوة على هذا الضعيف الواهن القُوى, فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا، وخفض من درجة هذا عن درجة هذا . وذلك كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) ، يقول: في الرزق .

وأما قوله: ( ليبلوكم في ما آتاكم ) ، فإنه يعني: ليختبركم فيما خوَّلكم من فضله ومنحكم من رزقه, فيعلم المطيع له منكم فيما أمره به ونهاه عنه، والعاصي؛ ومن المؤدِّي مما آتاه الحق الذي أمره بأدائه منه، والمفرِّط في أدائه .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 165 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « إن ربك » ، يا محمد، لسريع العقاب لمن أسخطه بارتكابه معاصيه، وخلافه أمره فيما أمره به ونهاه, ولمن ابتلى منه فيما منحه من فضله وطَوْله, تولِّيًا وإدبارًا عنه, مع إنعامه عليه، وتمكينه إياه في الأرض, كما فعل بالقرون السالفة ( وإنه لغفور ) ، يقول: وإنه لساتر ذنوبَ مَنْ ابتلى منه إقبالا إليه بالطاعة عند ابتلائه إياه بنعمة, واختباره إياه بأمره ونهيه, فمغطٍّ عليه فيها، وتارك فضيحته بها في موقف الحساب ( رحيم ) بتركه عقوبته على سالف ذنوبه التي سلفت بينه وبينه، إذ تاب وأناب إليه قبل لقائه ومصيره إليه.

آخر تفسير سورة الأنعام

 

تفسير سورة الأعراف

تفسير السورة التي يذكر فيها الأعراف

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدَّست أسماؤه المص ( 1 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قول الله تعالى ذكره: ( المص ) .

فقال بعضهم: معناه: أنا الله أفضل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن أبي الضحى, عن ابن عباس: ( المص ) ، أنا الله أفضل.

حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عمار بن محمد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير في قوله: ( المص ) ، أنا الله أفضل.

وقال آخرون: هو هجاء حروف اسم الله تبارك وتعالى الذي هو « المصوّر » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( المص ) ، قال: هي هجاء « المصوّر » .

وقال آخرون: هي اسم من أسماء الله، أقسم ربنا به.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( المص ) ، قسم أقسمه الله, وهو من أسماء الله.

وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( المص ) ، قال: اسم من أسماء القرآن.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.

وقال آخرون: هي حروف هجاء مقطّعة.

وقال آخرون: هي من حساب الجمَّل.

وقال آخرون: هي حروف تحوي معاني كثيرة، دلّ الله بها خلقه على مراده من ذلك.

وقال آخرون: هي حروف اسم الله الأعظم.

وقد ذكرنا كل ذلك بالرواية فيه, وتعليل كلّ فريق قال فيه قولا. وما الصواب من القول عندنا في ذلك، بشواهده وأدلته فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

القول في تأويل قول الله تعالى ذكره كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: هذا القرآن، يا محمد، كتاب أنـزله الله إليك.

ورفع « الكتاب » بتأويل: هذا كتابٌ.

 

القول في تأويل قوله : فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا يضق صدرك، يا محمد، من الإنذار به مَنْ أرسلتك لإنذاره به, وإبلاغه مَنْ أمرتك بإبلاغه إياه, ولا تشك في أنه من عندي, واصبر للمضيّ لأمر الله واتباع طاعته فيما كلفك وحملك من عبء أثقال النبوة, كما صبر أولو العزم من الرسل, فإن الله معك.

و « الحرج » ، هو الضيق، في كلام العرب, وقد بينا معنى ذلك بشواهده وأدلته في قوله: ضَيِّقًا حَرَجًا [ سورة الأنعام: 125 ] ، بما أغنى عن إعادته.

وقال أهل التأويل في ذلك ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ، قال: لا تكن في شك منه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ، قال: شك.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ، شك منه.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة، مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ، قال: أما « الحرج » ، فشك.

حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا في قوله: ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ، قال: شك من القرآن.

قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكرته من التأويل عن أهل التأويل، هو معنى ما قلنا في « الحرج » ، لأن الشك فيه لا يكون إلا من ضيق الصدر به، وقلة الاتساع لتوجيهه وجهته التي هي وجهته الصحيحة. وإنما اخترنا العبارة عنه بمعنى « الضيق » ، لأن ذلك هو الغالب عليه من معناه في كلام العرب, كما قد بيناه قبل.

 

القول في تأويل قوله : لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: هذا كتاب أنـزلناه إليك، يا محمد، لتنذر به من أمرتك بإنذاره, ( وذكرى للمؤمنين ) وهو من المؤخر الذي معناه التقديم. ومعناه: « كتاب أنـزل إليك لتنذر به » , و « ذكرى للمؤمنين » , فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ .

وإذا كان ذلك معناه، كان موضع قوله: ( وذكرى ) نصبًا، بمعنى: أنـزلنا إليك هذا الكتاب لتنذر به, وتذكر به المؤمنين.

ولو قيل معنى ذلك: هذا كتاب أنـزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، أن تنذر به، وتذكّر به المؤمنين كان قولا غير مدفوعة صحته.

وإذا وُجِّه معنى الكلام إلى هذا الوجه، كان في قوله: ( وذكرى ) من الإعراب وجهان:

أحدهما: النصب بالردّ على موضع « لتنذر به » .

والآخر: الرفع، عطفًا على « الكتاب » , كأنه قيل: المص * كِتَابٌ أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ، و « ذكرى للمؤمنين » .

 

القول في تأويل قوله : اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 3 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك الذين يعبدون الأوثان والأصنام: اتبعوا، أيها الناس، ما جاءكم من عند ربكم بالبينات والهدى, واعملوا بما أمركم به ربكم, ولا تتبعوا شيئًا من دونه يعني: شيئًا غير ما أنـزل إليكم ربكم. يقول: لا تتبعوا أمر أوليائكم الذين يأمرونكم بالشرك بالله وعبادة الأوثان, فإنهم يضلونكم ولا يهدونكم.

فإن قال قائل: وكيف قلت: « معنى الكلام: قل اتبعوا » , وليس في الكلام موجودًا ذكرُ القول؟

قيل: إنه وإن لم يكن مذكورًا صريحًا, فإن في الكلام دلالة عليه, وذلك قوله: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ , ففي قوله: « لتنذر به » ، الأمر بالإنذار, وفي الأمر بالإنذار، الأمرُ بالقول، لأن الإنذار قول. فكأن معنى الكلام: أنذر القومَ وقل لهم: اتبعوا ما أنـزل إليكم من ربكم.

ولو قيل معناه: لتنذر به وتذكر به المؤمنين فتقول لهم: اتبعوا ما أنـزل إليكم كان غير مدفوع.

وقد كان بعض أهل العربية يقول: قوله: ( اتبعوا ) ، خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم , ومعناه: كتاب أنـزل إليك, فلا يكن في صدرك حرج منه, اتبع ما أنـزل إليك من ربك ويرى أن ذلك نظير قول الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ سورة الطلاق: 1 ] ، إذ ابتدأ خطابَ النبي صلى الله عليه وسلم , ثم جعل الفعل للجميع, إذ كان أمر الله نبيه بأمرٍ، أمرًا منه لجميع أمته, كما يقال للرجل يُفْرَد بالخطاب والمراد به هو وجماعة أتباعه أو عشيرته وقبيلته: « أما تتقون الله، أما تستحيون من الله! » ، ونحو ذلك من الكلام.

وذلك وإن كان وجهًا غير مدفوع, فالقولُ الذي اخترناه أولى بمعنى الكلام، لدلالة الظاهر الذي وصفنا عليه.

وقوله: ( قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) ، يقول: قليلا ما تتعظون وتعتبرون فتراجعون الحق.

 

القول في تأويل قوله : وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( 4 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: حذّر هؤلاء العابدين غيري، والعادلين بي الآلهة والأوثان، سَخَطي لا أُحِلّ بهم عقوبتي فأهلكهم، كما أهلكت من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم, فكثيرًا ما أهلكت قبلهم من أهل قرى عصوني وكذَّبوا رسلي وعبدوا غيري ( فجاءها بأسنا بياتًا ) ، يقول: فجاءتهم عقوبتنا ونقمتنا ليلا قبل أن يصبحوا أو جاءتهم « قائلين » , يعني: نهارًا في وقت القائلة.

وقيل: « وكم » لأن المراد بالكلام ما وصفت من الخبر عن كثرة ما قد أصاب الأمم السالفة من المَثُلاث، بتكذيبهم رسلَه وخلافهم عليه. وكذلك تفعل العرب إذا أرادوا الخبر عن كثرة العدد, كما قال الفرزدق:

كَـمْ عَمـةٍ لَـكَ يـا جَـرِيرُ وَخَالَـةٍ فَدْعَـاءَ قَـدْ حَـلَبَتْ عَـلَيَّ عِشَـارِي

فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره إنما أخبر أنه « أهلك قرًى » , فما في خبره عن إهلاكه « القرى » من الدليل على إهلاكه أهلها؟

قيل: إن « القرى » لا تسمى « قرى » ولا « القرية » « قرية » ، إلا وفيها مساكن لأهلها وسكان منهم, ففي إهلاكها إهلاك مَنْ فيها من أهلها.

وقد كان بعض أهل العربية يرى أن الكلام خرج مخرج الخبر عن « القرية » , والمراد به أهلها.

قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بالحق، لموافقته ظاهر التنـزيل المتلوّ.

فإن قال قائل: وكيف قيل: ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون ) ؟ وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسَخَطه بها؟ فكيف قيل: « أهلكناها فجاءها » ؟ وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها، فما وجه مجيء ذلك قومًا قد هلكوا وبادوا، ولا يشعرون بما ينـزل بهم ولا بمساكنهم؟

قيل: إن لذلك من التأويل وجهين، كلاهما صحيح واضح منهجه:

أحدهما: أن يكون معناه: « وكم من قرية أهلكناها » ، بخذلاننا إياها عن اتباع ما أنـزلنا إليها من البينات والهدى، واختيارها اتباع أمر أوليائها المُغْوِيتِهَا عن طاعة ربها « فجاءها بأسنا » إذ فعلت ذلك « بياتا أو هم قائلون » ، فيكون « إهلاك الله إياها » ، خذلانه لها عن طاعته, ويكون « مجيء بأس الله إياهم » ، جزاء لمعصيتهم ربهم بخذلانه إياهم.

والآخر منهما: أن يكون « الإهلاك » هو « البأس » بعينه، فيكون في ذكر « الإهلاك » الدلالةُ على ذكر « مجيء البأس » , وفي ذكر « مجيء البأس » الدلالة على ذكر « الإهلاك » .

وإذا كان ذلك كذلك, كان سواء عند العرب، بُدئ بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس, أو بدئ بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك. وذلك كقولهم: « زرتني فأكرمتني » ، إذ كانت « الزيارة » هي « الكرامة » , فسواء عندهم قدم « الزيارة » وأخر « الكرامة » , أو قدم « الكرامة » وأخر « الزيارة » فقال: « أكرمتني فزرتني » .

وكان بعض أهل العربية يزعم أن في الكلام محذوفًا, لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحًا وأن معنى ذلك: وكم من قرية أهلكناها, فكان مجيء بأسنا إياها قبل إهلاكنا. وهذا قول لا دلالة على صحته من ظاهر التنـزيل، ولا من خبر يجب التسليم له. وإذا خلا القولُ من دلالة على صحته من بعض الوجوه التي يجبُ التسليم لها، كان بيّنًا فساده.

وقال آخر منهم أيضًا: معنى « الفاء » في هذا الموضع معنى « الواو » . وقال: تأويل الكلام: وكم من قرية أهلكناها، وجاءها بأسنا بياتًا. وهذا قول لا معنى له, إذ كان لـ « الفاء » عند العرب من الحكم ما ليس للواو في الكلام, فصرفها إلى الأغلب من معناها عندهم، ما وجد إلى ذلك سبيل، أولى من صرفها إلى غيره.

فإن قال: وكيف قيل: ( فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون ) , وقد علمت أن الأغلب من شأن « أو » في الكلام، اجتلابُ الشك, وغير جائز أن يكون في خبر الله شك؟

قيل: إن تأويل ذلك خلافُ ما إليه ذهبتَ. وإنما معنى الكلام: وكم من قرية أهلكناها فجاء بعضها بأسنا بياتًا, وبعضها وهم قائلون. ولو جعل مكان « أو » في هذا الموضع « الواو » ، لكان الكلام كالمحال, ولصار الأغلب من معنى الكلام: أن القرية التي أهلكها الله جاءها بأسه بياتًا وفي وقت القائلة . وذلك خبرٌ عن البأس أنه أهلك من قد هلك، وأفنى من قد فني. وذلك من الكلام خَلْفٌ . ولكن الصحيح من الكلام هو ما جاء به التنـزيل, إذ لم يفصل القرى التي جاءها البأس بياتًا، من القرى التي جاءها ذلك قائلةً. ولو فُصلت، لم يخبر عنها إلا بالواو.

وقيل: « فجاءها بأسنا » خبرًا عن « القرية » أن البأس أتاها, وأجرى الكلام على ما ابتدئ به في أول الآية . ولو قيل: « فجاءهم بأسنا بياتًا » ، لكان صحيحًا فصيحًا، ردًّا للكلام إلى معناه, إذ كان البأس إنما قصد به سكان القرية دون بنيانها, وإن كان قد نال بنيانها ومساكنها من البأس بالخراب، نحوٌ من الذي نال سكانها. وقد رجع في قوله: ( أو هم قائلون ) ، إلى خصوص الخبر عن سكانها دون مساكنها، لما وصفنا من أن المقصود بالبأس كان السكان، وإن كان في هلاكهم هلاك مساكنهم وخرابها.

ولو قيل: « أو هي قائلة » ، كان صحيحًا، إذ كان السامعون قد فهموا المراد من الكلام.

فإن قال قائل: أو ليس قوله: ( أو هم قائلون ) ، خبرًا عن الوقت الذي أتاهم فيه بأس الله من النهار؟

قيل: بلى!

فإن قال: أو ليس المواقيت في مثل هذا تكون في كلام العرب بالواو الدالِّ على الوقت؟

قيل: إن ذلك، وإن كان كذلك, فإنهم قد يحذفون من مثل هذا الموضع، استثقالا للجمع بين حرفي عطف, إذ كان « أو » عندهم من حروف العطف, وكذلك « الواو » , فيقولون: « لقيتني مملقًا أو أنا مسافر » , بمعنى: أو وأنا مسافر, فيحذفون « الواو » وهم مريدوها في الكلام، لما وصفت.

 

القول في تأويل قوله : فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 5 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها، إذ جاءهم بأسنا وسطوتُنا بياتًا أو هم قائلون, إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين، وبربهم آثمين، ولأمره ونهيه مخالفين.

وعنى بقوله جل ثناؤه: ( دعواهم ) ، في هذا الموضع دعاءَهم.

ولـ « الدعوى » ، في كلام العرب، وجهان: أحدهما: الدعاء ، والآخر: الادعاء للحق.

ومن « الدعوى » التي معناها الدعاء، قول الله تبارك وتعالى: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ [ سورة الأنبياء: 15 ] ، ومنه قول الشاعر:

وَإِنْ مَـذِلَتْ رِجْـلِي دَعَـوْتُكِ أَشْـتَفِي بِدَعْــوَاكِ مِـنْ مَـذْلٍ بِهَـا فَيَهُـونُ

وقد بينا فيما مضى قبل أن « البأس » و « البأساء » الشدة, بشواهد ذلك الدالة على صحته, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وفي هذه الآية الدلالةُ الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: « ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم » .

وقد تأوّل ذلك كذلك بعضهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن أبي سنان, عن عبد الملك بن ميسرة الزرَّاد قال، قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله: ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم - قال قلت لعبد الملك: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا ) ، الآية .

فإن قال قائل: وكيف قيل: ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) ؟ وكيف أمكنتهم الدعوى بذلك، وقد جاءهم بأس الله بالهلاك؟ أقالوا ذلك قبل الهلاك؟ فإن كانوا قالوه قبل الهلاك, فإنهم قالوا قبل مجيء البأس, والله يخبر عنهم أنهم قالوه حين جاءهم، لا قبل ذلك؟ أو قالوه بعد ما جاءهم، فتلك حالة قد هلكوا فيها, فكيف يجوز وصفهم بقيل ذلك إذا عاينوا بأس الله، وحقيقة ما كانت الرسل تَعِدهم من سطوة الله؟.

قيل: ليس كل الأمم كان هلاكها في لحظة ليس بين أوّله وآخره مَهَلٌ, بل كان منهم من غرق بالطوفان. فكان بين أوّل ظهور السبب الذي علموا أنهم به هالكون، وبين آخره الذي عمَّ جميعهم هلاكُه، المدة التي لا خفاء بها على ذي عقل . ومنهم من مُتِّع بالحياة بعد ظهور علامة الهلاك لأعينهم أيامًا ثلاثة, كقوم صالح وأشباههم. فحينئذ لما عاينوا أوائل بأس الله الذي كانت رسل الله تتوعدهم به، وأيقنوا حقيقة نـزول سطوة الله بهم, دعوا: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ، فلم يك ينفعهم إيمانهم مع مجيء وعيد الله وحلول نقمته بساحتهم. فحذّر ربنا جل ثناؤه الذين أرسل إليهم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم من سطوته وعقابه على كفرهم به وتكذيبهم رسوله, ما حلَّ بمن كان قبلهم من الأمم إذ عصوا رُسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد.

 

القول في تأويل قوله : فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( 6 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لنسألن الأمم الذين أرسلت إليهم رسلي: ماذا عملت فيما جاءتهم به الرسل من عندي من أمري ونهيي؟ هل عملوا بما أمرتهم به، وانتهوا عما نهيتهم عنه، وأطاعوا أمري, أم عصوني فخالفوا ذلك؟ ( ولنسألن المرسلين ) ، يقول: ولنسألن الرسل الذين أرسلتهم إلى الأمم: هل بلغتهم رسالاتي، وأدَّت إليهم ما أمرتهم بأدائه إليهم, أم قصّروا في ذلك ففرَّطوا ولم يبلغوهم؟.

وكذلك كان أهل التأويل يتأولونه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) ، قال: يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين, ويسأل المرسلين عما بلغوا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ) إلى قوله: ( غائبين ) ، قال: يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كانوا يعملون.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فلنسألنّ الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) ، يقول فلنسألن الأمم: ما عملوا فيما جاءت به الرسل؟ ولنسألن الرسل: هل بلغوا ما أرسلوا به؟

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، قال مجاهد: ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ) ، الأمم ولنسألن الذين أرسلنا إليهم عما ائتمناهم عليه: هل بلغوا؟

 

القول في تأويل قوله : فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ( 7 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلنخبرن الرسل ومَنْ أرسلتهم إليه بيقين علمٍ بما عملوا في الدنيا فيما كنت أمرتهم به, وما كنت نهيتهم عنه « وما كنا غائبين » ، عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها.

فإن قال قائل: وكيف يسأل الرسلَ، والمرسل إليهم, وهو يخبر أنه يقصّ عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك؟

قيل: إن ذلك منه تعالى ذكره ليس بمسألة استرشاد، ولا مسألة تعرّف منهم ما هو به غير عالم, وإنما هو مسألة توبيخ وتقرير معناها الخبر, كما يقول الرجل للرجل: « ألم أحسن إليك فأسأت؟ » ، و « ألم أصلك فقطعت؟ » . فكذلك مسألة الله المرسلَ إليهم، بأن يقول لهم: « ألم يأتكم رسلي بالبينات؟ ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم من كفر بي وعبد غيري » ؟ كما أخبر جل ثناؤه أنه قائل لهم يومئذ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [ سورة يس: 60- 61 ] .

ونحو ذلك من القول الذي ظاهره ظاهر مسألة, ومعناه الخبر والقصص، وهو بعدُ توبيخ وتقرير.

وأما مسألة الرسل الذي هو قصص وخبر, فإن الأمم المشركة لما سئلت في القيامة قيل لها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ ؟ أنكر ذلك كثير منهم وقالوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ . فقيل للرسل: « هل بلغتم ما أرسلتم به » ؟ أو قيل لهم: « ألم تبلغوا إلى هؤلاء ما أرسلتم به؟ » ، كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكما قال جل ثناؤه لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ، [ سورة البقرة: 143 ] . فكل ذلك من الله مسألة للرسل على وجه الاستشهاد لهم على من أرسلوا إليه من الأمم، وللمرسَل إليهم على وجه التقرير والتوبيخ, وكل ذلك بمعنى القصص والخبر.

فأما الذي هو عن الله منفيٌّ من مسألته خلقه, فالمسألة التي هي مسألة استرشاد واستثبات فيما لا يعلمه السائل عنها ويعلمه المسؤول, ليعلم السائل علم ذلك من قِبَله، فذلك غير جائز أن يوصف الله به ، لأنه العالم بالأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها, وهي المسألة التي نفاها جل ثناؤه عن نفسه بقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ، [ سورة الرحمن: 39 ] ، وبقوله: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ، [ سورة القصص: 78 ] ، يعني: لا يسأل عن ذلك أحدًا منهم مستثبت, ليعلم علم ذلك من قبل مَنْ سأل منه, لأنه العالم بذلك كله وبكل شيء غيره.

وقد ذكرنا ما روي في معنى ذلك من الخبر في غير هذا الموضع, فكرهنا إعادته.

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في معنى قوله: ( فلنقصن عليهم بعلم ) ، أنه ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم.

هذا قولٌ غيرُ بعيد من الحق, غير أن الصحيح من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه تَرْجُمان, فيقول له: « أتذكر يوم فعلت كذا وفعلت كذا » ؟ حتى يذكره ما فعل في الدنيا والتسليم لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من التسليم لغيره.

 

القول في تأويل قوله : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 8 )

قال أبو جعفر: « الوزن » مصدر من قول القائل: « وزنت كذا وكذا أزِنه وَزْنًا وزِنَةً » , مثل: « وَعدته أعده وعدًا وعدة » .

وهو مرفوع بـ « الحق » , و « الحق » به.

ومعنى الكلام: والوزن يوم نسأل الذين أرسل إليهم والمرسلين, الحق ويعني بـ « الحق » ، العدلَ.

وكان مجاهد يقول: « الوزن » ، في هذا الموضع، القضاء.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « والوزن يومئذ » ، القضاء.

وكان يقول أيضًا: معنى « الحق » ، هاهنا، العدل.

* ذكر الرواية بذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: ( والوزن يومئذ الحق ) ، قال: العدل.

وقال آخرون: معنى قوله: ( والوزن يومئذ الحق ) ، وزن الأعمال.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, قوله: ( والوزن يومئذ الحق ) ، توزن الأعمال.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( والوزن يومئذ الحق ) ، قال: قال عبيد بن عمير: يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشَّروب, فلا يزن جناح بَعُوضة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( والوزن يومئذ الحق ) ، قال: قال عبيد بن عمير: يؤتى بالرجل الطويل العظيم فلا يزن جناح بعوضة.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يوسف بن صهيب, عن موسى, عن بلال بن يحيى, عن حذيفة قال: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، قال: يا جبريل، زِن بينهم! فردَّ من بعضٍ على بعض. قال: وليس ثم ذهبٌ ولا فضة. قال: فإن كان للظالم حسنات، أخذ من حسناته فترد على المظلوم, وإن لم يكن له حسنات حُمِل عليه من سيئات صاحبه ، فيرجع الرجل عليه مثل الجبال, فذلك قوله: ( والوزن يومئذ الحق ) .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فمن ثقلت موازينه ) .

فقال بعضهم: معناه: فمن كثرت حسناته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: ( فمن ثقلت موازينه ) ، قال: حسناته.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمن ثقلت موازينه التي توزن بها حسناته وسيئاته. قالوا: وذلك هو « الميزان » الذي يعرفه الناس, له لسان وكِفَّتان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال لي عمرو بن دينار قوله: ( والوزن يومئذ الحق ) ، قال: إنا نرى ميزانًا وكفتين, سمعت عبيد بن عمير يقول: يُجْعَل الرجل العظيم الطويل في الميزان, ثم لا يقوم بجناح ذباب.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، القول الذي ذكرناه عن عمرو بن دينار، من أن ذلك هو « الميزان » المعروف الذي يوزن به, وأن الله جل ثناؤه يزن أعمال خلقه الحسنات منها والسيئات, كما قال جل ثناؤه: ( فمن ثقلت موازينه ) ، موازين عمله الصالح ( فأولئك هم المفلحون ) ، يقول: فأولئك هم الذين ظفروا بالنجاح، وأدركوا الفوز بالطلبات, والخلود والبقاء في الجنات, لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « ما وُضِع في الميزان شيء أثقل من حسن الخُلق » , ونحو ذلك من الأخبار التي تحقق أن ذلك ميزانٌ يوزن به الأعمال، على ما وصفت.

فإن أنكر ذلك جاهل بتوجيه معنى خبر الله عن الميزان وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وِجْهَته, وقال: أوَ بالله حاجة إلى وزن الأشياء، وهو العالم بمقدار كل شيء قبل خلقه إياه وبعده، وفي كل حال ؟ أو قال: وكيف توزن الأعمال, والأعمال ليست بأجسام توصف بالثقل والخفة, وإنما توزن الأشياء ليعرف ثقلها من خفتها، وكثرتها من قلتها, وذلك لا يجوز إلا على الأشياء التي توصف بالثقل والخفة، والكثرة والقلة؟

قيل له في قوله: « وما وجه وزن الله الأعمالَ، وهو العالم بمقاديرها قبل كونها » : وزن ذلك، نظيرُ إثباته إياه في أمِّ الكتاب واستنساخه ذلك في الكتب، من غير حاجة به إليه، ومن غير خوف من نسيانه, وهو العالم بكل ذلك في كل حال ووقت قبل كونه وبعد وجوده, بل ليكون ذلك حجة على خلقه, كما قال جل ثناؤه في تنـزيله: ( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [ سورة الجاثية: 28- 29 ] الآية فكذلك وزنه تعالى أعمال خلقه بالميزان، حجة عليهم ولهم, إما بالتقصير في طاعته والتضييع، وإما بالتكميل والتتميم

وأمّا وجه جواز ذلك, فإنه كما:

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي, عن عبد الله بن يزيد, عن عبد الله بن عمرو، قال: يُؤْتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان, فيوضع في الكِفّة, فيخرج له تسعة وتسعون سِجِلا فيها خطاياه وذنوبه. قال: ثم يخرج له كتاب مثل الأنْمُلة, فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم . قال: فتوضع في الكِفّة، فترجح بخطاياه وذنوبه.

فكذلك وزن الله أعمال خلقه، بأن يوضع العبد وكتب حسناته في كفة من كفتي الميزان, وكتب سيئاته في الكفة الأخرى, ويحدث الله تبارك وتعالى ثقلا وخفة في الكفة التي الموزون بها أولى، احتجاجًا من الله بذلك على خلقه، كفعله بكثير منهم: من استنطاق أيديهم وأرجلهم, استشهادًا بذلك عليهم, وما أشبه ذلك من حججه.

ويُسأل مَن أنكر ذلك فيقال له: إن الله أخبرنا تعالى ذكره أنه يثقل موازين قوم في القيامة، ويخفف موازين آخرين, وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق ذلك, فما الذي أوجب لك إنكار الميزان أن يكون هو الميزان الذي وصفنا صفته، الذي يتعارفه الناس؟ أحجة عقل تُبْعِد أن يُنال وجه صحته من جهة العقل؟ وليس في وزن الله جل ثناؤه خلقَه وكتبَ أعمالهم لتعريفهم أثقل القسمين منها بالميزان، خروجٌ من حكمة, ولا دخول في جور في قضية, فما الذي أحال ذلك عندك من حجةِ عقلٍ أو خبر؟ إذ كان لا سبيل إلى حقيقة القول بإفساد ما لا يدفعه العقل إلا من أحد الوجهين اللذين ذكرتُ، ولا سبيل إلى ذلك. وفي عدم البرهان على صحة دعواه من هذين الوجهين، وضوحُ فساد قوله، وصحة ما قاله أهل الحق في ذلك.

وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في هذا المعنى على من أنكر الميزان الذي وصفنا صفته, إذ كان قصدُنا في هذا الكتاب: البيانَ عن تأويل القرآن دون غيره. ولولا ذلك لقرنَّا إلى ما ذكرنا نظائره, وفي الذي ذكرنا من ذلك كفاية لمن وُفِّق لفهمه إن شاء الله.

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ( 9 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ومن خفت موازين أعماله الصالحة، فلم تثقل بإقراره بتوحيد الله، والإيمان به وبرسوله، واتباع أمره ونهيه, فأولئك الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته ( بما كانوا بآياتنا يظلمون ) ، يقول: بما كانوا بحجج الله وأدلته يجحدون, فلا يقرّون بصحتها, ولا يوقنون بحقيقتها، كالذي:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: ( ومن خفت موازينه ) ، قال: حسناته.

وقيل: « فأولئك » ، و « من » في لفظ الواحد, لأن معناه الجمع. ولو جاء موحَدًا كان صوابًا فصيحًا.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 10 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد وطَّأْنا لكم، أيها الناس، في الأرض, وجعلناها لكم قرارًا تستقرُّون فيها, ومهادًا تمتهدونها, وفراشًا تفترشونها ( وجعلنا لكم فيها معايش ) ، تعيشون بها أيام حياتكم, من مطاعم ومشارب, نعمة مني عليكم، وإحسانًا مني إليكم ( قليلا ما تشكرون ) ، يقول: وأنتم قليل شكركم على هذه النعم التي أنعمتها عليكم لعبادتكم غيري, واتخاذكم إلهًا سواي.

* *

والمعايش: جمع « معيشة » .

واختلفت القرأة في قراءتها.

فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: ( مَعَايِشَ ) بغير همز.

وقرأه عبد الرحمن الأعرج: « مَعَائِشَ » بالهمز.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: ( مَعَايِشَ ) بغير همز, لأنها « مفاعل » من قول القائل « عشتَ تعيش » , فالميم فيها زائدة، والياء في الحكم متحركة, لأن واحدها « مَفْعلة » ، « مَعْيشة » ، متحركة الياء, نقلت حركة الياء منها إلى « العين » في واحدها . فلما جُمعت، رُدّت حركتها إليها لسكون ما قبلها وتحركها. وكذلك تفعل العرب بالياء والواو إذا سكن ما قبلهما وتحركتا، في نظائر ما وصفنا من الجمع الذي يأتي على مثال « مفاعل » , وذلك مخالف لما جاء من الجمع على مثال « فعائل » التي تكون الياء فيها زائدة ليست بأصل. فإن ما جاء من الجمع على هذا المثال، فالعرب تهمزه، كقولهم: « هذه مدائن » و « صحائف » ونظائرهما, لأن « مدائن » جمع « مدينة » , و « المدينة » ، « فعيلة » من قولهم: « مدنت المدينة » , وكذلك، « صحائف » جمع « صحيفة » , و « الصحيفة » ، « فعيلة » من قولك: « صحفت الصحيفة » , فالياء في واحدها زائدة ساكنة, فإذا جمعت همزت، لخلافها في الجمع الياء التي كانت في واحدها, وذلك أنها كانت في واحدها ساكنة, وهي في الجمع متحركة. ولو جعلت « مدينة » « مَفْعلة » من: « دان يدين » , وجمعت على « مفاعل » , كان الفصيح ترك الهمز فيها. وتحريك الياء. وربما همزت العرب جمع « مفعلة » في ذوات الياء والواو وإن كان الفصيح من كلامها ترك الهمز فيها. إذا جاءت على « مفاعل » تشبيهًا منهم جمعها بجمع « فعيلة » , كما تشبه « مَفْعلا » « بفعيل » فتقول: « مَسِيل الماء » , من: « سال يسيل » , ثم تجمعها جمع « فعيل » , فتقول: « هي أمسلة » ، في الجمع، تشبيهًا منهم لها بجمع « بعير » وهو « فعيل » , إذ تجمعه « أبعرة » . وكذلك يجمع « المصير » وهو « مَفْعل » ، « مُصْران » تشبيهًا له بجمع: « بعير » وهو « فعيل » , إذ تجمعه « بُعْران » , وعلى هذا همز الأعرج « معايش » . وذلك ليس بالفصيح في كلامها، وأولى ما قرئ به كتاب الله من الألسن أفصحها وأعرفها، دون أنكرها وأشذِّها.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( 11 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: تأويل ذلك: ( ولقد خلقناكم ) ، في ظهر آدم، أيها الناس ( ثم صورناكم ) ، في أرحام النساء. خلقًا مخلوقًا ومثالا ممثلا في صورة آدم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) , قوله: ( خلقناكم ) ، يعني آدم وأما « صورناكم » ، فذريّته.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) الآية, قال: أمّا « خلقناكم » ، فآدم. وأمّا « صورناكم » ، فذرية آدم من بعده.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع: ( ولقد خلقناكم ) ، يعني: آدم ( ثم صورناكم ) ، يعني: في الأرحام.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس في قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، يقول: خلقناكم خلق آدم, ثم صَوَّرناكم في بطون أمهاتكم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، يقول: خلقنا آدم، ثم صورنا الذرية في الأرحام.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: خلق الله آدم من طين « ثم صورناكم » ، في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق: علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا, ثم كسا العظام لحمًا, ثم أنشأناه خلقًا آخر.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: خلق الله آدم، ثم صوّر ذريته من بعده.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمر بن هارون, عن نصر بن مُشارس, عن الضحاك: ( خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: ذريته.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك, قوله: ( ولقد خلقناكم ) ، يعني آدم ( ثم صورناكم ) , يعني: ذريته.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: « ولقد خلقناكم » ، في أصلاب آبائكم « ثم صورناكم » ، في بطون أمهاتكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن سماك, عن عكرمة: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: خلقناكم في أصلاب الرجال, وصوّرناكم في أرحام النساء.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانى قال، حدثنا شريك, عن سماك, عن عكرمة, مثله.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان قال، سمعت الأعمش يقرأ: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: خلقناكم في أصلاب الرجال, ثم صورناكم في أرحام النساء.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ( خلقناكم ) ، يعني آدم ( ثم صورناكم ) ، يعني في ظهره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( ولقد خلقناكم ) ، قال: آدم ( ثم صورناكم ) ، قال: في ظهر آدم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، في ظهر آدم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: صورناكم في ظهر آدم.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا في قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: في ظهر آدم، لما تصيرون إليه من الثواب في الآخرة.

وقال آخرون: معنى ذلك: « ولقد خلقناكم » ، في بطون أمهاتكم « ثم صورناكم » ، فيها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عمن ذكره قال: ( خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: خلق الله الإنسان في الرحم, ثم صوّره، فشقَّ سمعه وبصره وأصابعه.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله: ( ولقد خلقناكم ) ، ولقد خلقنا آدم ( ثم صورناكم ) ، بتصويرنا آدم, كما قد بينا فيما مضى من خطاب العرب الرجلَ بالأفعال تضيفها إليه, والمعنيُّ في ذلك سلفه, وكما قال جل ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول الله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ، [ سورة البقرة: 63 ] . وما أشبه ذلك من الخطاب الموجَّه إلى الحيّ الموجود، والمراد به السلف المعدوم, فكذلك ذلك في قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، معناه: ولقد خلقنا أباكم آدم ثم صوَّرناه.

وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب, لأن الذي يتلو ذلك قوله: ( ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) ، ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم، قبل أن يصوِّر ذريته في بطون أمهاتهم, بل قبل أن يخلُق أمهاتهم.

و « ثم » في كلام العرب لا تأتي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها, وذلك كقول القائل: « قمت ثم قعدت » , لا يكون « القعود » إذ عطف به بـ « ثم » على قوله: « قمت » إلا بعد القيام, وكذلك ذلك في جميع الكلام. ولو كان العطف في ذلك بالواو، جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها, وذلك كقول القائل: « قمت وقعدت » , فجائز أن يكون « القعود » في هذا الكلام قد كان قبل « القيام » , لأن الواو تدخل في الكلام إذا كانت عطفًا، لتوجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها، من غير دلالة منها بنفسها على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين, أو إن كانا في وقتين، أيهما المتقدم وأيهما المتأخر. فلما وصفنا قلنا إنّ قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، لا يصح تأويله إلا على ما ذكرنا.

فإن ظن ظانّ أن العربَ، إذ كانت ربما نطقت بـ « ثم » في موضع « الواو » في ضرورة شعره، كما قال بعضهم:

سَــأَلْتُ رَبِيعَــةَ: مَــنْ خَيْرُهَــا أَبًــا ثُــمَّ أُمًّــا? فَقَـالَتْ: لِمَـهْ?

بمعنى: أبًا وأمًّا, فإن ذلك جائز أن يكون نظيره فإن ذلك بخلاف ما ظن . وذلك أن كتاب الله جل ثناؤه نـزل بأفصح لغات العرب, وغير جائز توجيه شيء منه إلى الشاذّ من لغاتها، وله في الأفصح الأشهر معنى مفهومٌ ووجه معروف.

وقد وجَّه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب ذلك إلى أنه من المؤخر الذي معناه التقديم, وزعم أن معنى ذلك: ولقد خلقناكم, ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم, ثم صورناكم. وذلك غير جائز في كلام العرب, لأنها لا تدخل « ثم » في الكلام وهي مرادٌ بها التقديم على ما قبلها من الخبر, وإن كانوا قد يقدِّمونها في الكلام, إذا كان فيه دليل على أن معناها التأخير, وذلك كقولهم: « قام ثم عبد الله عمرو » ، فأما إذا قيل: « قام عبد الله ثم قعد عمرو » , فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلا بعد قيام عبد الله, إذا كان الخبر صدقًا, فقول الله تبارك وتعالى: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا ) ، نظير قول القائل: « قام عبد الله ثم قعد عمرو » ، في أنه غير جائز أن يكون أمرُ الله الملائكةَ بالسجود لآدم كان إلا بعد الخلق والتصوير، لما وصفنا قبل.

وأما قوله للملائكة: ( اسجدوا لآدم ) ، فإنه يقول جل ثناؤه: فلما صوّرنا آدم وجعلناه خلقًا سويًّا, ونفخنا فيه من روحنا, قلنا للملائكة: « اسجدوا لآدم » , ابتلاء منا واختبارًا لهم بالأمر, ليعلم الطائع منهم من العاصي ، ( فسجدوا ) ، يقول: فسجد الملائكة، إلا إبليس فإنه لم يكن من الساجدين لآدم، حين أمره الله مع مَنْ أمرَ من سائر الملائكة غيره بالسجود.

وقد بينا فيما مضى، المعنى الذي من أجله امتحن جَلّ جلاله ملائكته بالسجود لآدم, وأمْرَ إبليس وقصصه, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 12 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيله لإبليس، إذ عصاه فلم يسجد لآدم إذ أمره بالسجود له. يقول: قال الله لإبليس: ( ما منعك ) ، أيّ شيء منعك ( ألا تسجد ) ، أن تدع السجود لآدم ( إذ أمرتك ) ، أن تسجد « قال أنا خير منه » ، يقول: قال إبليس: أنا خير من آدم « خلقتني من نار وخلقته من طين » .

فإن قال قائل: أخبرنا عن إبليس, ألحقته الملامة على السجود، أم على ترك السجود؟ فإن تكن لحقته الملامة على ترك السجود, فكيف قيل له: ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) ؟ وإن كان النكير على السجود, فذلك خلافُ ما جاء به التنـزيل في سائر القرآن, وخلاف ما يعرفه المسلمون!

قيل: إن الملامة لم تلحق إبليس إلا على معصيته ربه بتركه السجود لآدم إذ أمره بالسجود له.

غير أن في تأويل قوله: ( ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك ) ، بين أهل المعرفة بكلام العرب اختلافًا، أبدأ بذكر ما قالوا, ثم أذكر الذي هو أولى ذلك بالصواب .

فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما منعك أن تسجد و « لا » ها هنا زائدة, كما قال الشاعر:

أبَـى جُـودُهُ لا البُخْـلَ, وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَـمْ, مِـنْ فَتًـى لا يَمْنَعُ الجُوعَ قَاتِلهْ

وقال: فسرته العرب: « أبى جوده البخل » , وجعلوا « لا » زائدةً حشوًا ها هنا، وصلوا بها الكلام. قال: وزعم يونس أن أبا عمرو كان يجر « البخل » , ويجعل « لا » مضافة إليه, أراد: أبى جوده « لا » التي هي للبخل, ويجعل « لا » مضافة, لأن « لا » قد تكون للجود والبخل, لأنه لو قال له: « امنع الحق ولا تعط المسكين » فقال: « لا » كان هذا جودًا منه.

وقال بعض نحويي الكوفة نحو القول الذي ذكرناه عن البصريين في معناه وتأويله, غير أنه زعم أن العلة في دخول « لا » في قوله: ( أن لا تسجد ) ، أن في أول الكلام جحدا يعني بذلك قوله: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ، فإن العرب ربما أعادوا في الكلام الذي فيه جحد، الجحدَ, كالاستيثاق والتوكيد له . قال: وذلك كقولهم:

مَــا إنْ رَأَيْنَــا مِثْلَهُــنَّ لِمَعْشَـرٍ سُــودِ الــرُّؤُوسِ, فَـوَالِجٌ وَفُيُـولُ

فأعاد على الجحد الذي هو « ما » جحدًا, وهو قوله « إن » ، فجمعهما للتوكيد.

وقال آخر منهم: ليست « لا » ، بحشو في هذا الموضع ولا صلة, ولكن « المنع » هاهنا بمعنى « القول » ، وإنما تأويل الكلام: مَنْ قال لك لا تسجد إذ أمرتك بالسجود ولكن دخل في الكلام « أن » ، إذ كان « المنع » بمعنى « القول » ، لا في لفظه, كما يُفعل ذلك في سائر الكلام الذي يضارع القول, وهو له في اللفظ مخالف، كقولهم: « ناديت أن لا تقم » , و « حلفت أن لا تجلس » , وما أشبه ذلك من الكلام. وقال: خفض « البخل » من روى: « أبى جوده لا البخل » ، بمعنى: كلمة البخل, لأن « لا » هي كلمة البخل, فكأنه قال: كلمة البخل.

وقال بعضهم: معنى « المنع » ، الحول بين المرء وما يريده. قال: والممنوع مضطّر به إلى خلاف ما منع منه, كالممنوع من القيام وهو يريده, فهو مضطر من الفعل إلى ما كان خلافًا للقيام, إذ كان المختار للفعل هو الذي له السبيل إليه وإلى خلافه, فيوثر أحدهما على الآخر فيفعله . قال: فلما كانت صفة « المنع » ذلك, فخوطب إبليس بالمنع فقيل له: ( ما منعك ألا تسجد ) ، كان معناه كأنه قيل له: أيّ شيء اضطرك إلى أن لا تسجد؟

قال أبو جعفر: والصواب عندي من القول في ذلك أن يقال: إن في الكلام محذوفًا قد كفى دليلُ الظاهر منه, وهو أن معناه: ما منعك من السجود فأحوجك أن لا تسجد فترك ذكر « أحوجك » ، استغناء بمعرفة السامعين قوله: إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ، أن ذلك معنى الكلام، من ذكره. ثم عمل قوله: ( ما منعك ) ، في « أن » ما كان عاملا فيه قبل « أحوجك » لو ظهر، إذ كان قد ناب عنه.

وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب، لما قد مضى من دلالتنا قبل على أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له, وأن لكل كلمة معنًى صحيحًا, فتبين بذلك فسادُ قول من قال: « لا » في الكلام حشو لا معنى لها.

وأما قول من قال: معنى « المنع » ههنا « القول » , فلذلك دخلت « لا » مع « أن » فإن « المنعَ » وإن كان قد يكون قولا وفعلا فليس المعروف في الناس استعمالُ « المنع » ، في الأمر بترك الشيء, لأن المأمور بترك الفعل إذا كان قادرًا على فعله وتركه ففعله، لا يقال: « فعله » ، وهو ممنوع من فعله، إلا على استكراه للكلام . وذلك أن المنع من الفعل حَوْلٌ بينه وبينه, فغير جائز أن يكون وهو مَحُولٌ بينه وبينه فاعلا له, لأنه إن جاز ذلك، وجب أن يكون مَحُولا بينه وبينه لا محولا وممنوعًا لا ممنوعًا.

وبعدُ, فإن إبليس لم يأتمر لأمر الله تعالى ذكره بالسجود لآدم كبرًا, فكيف كان يأتمر لغيره في ترك أمر الله وطاعته بترك السجود لآدم, فيجوز أن يقال له: « أي شيء قال لك: لا تسجد لآدم إذ أمرتك بالسجود له؟ » ولكن معناه إن شاء الله ما قلت: « ما منعك من السجود له فأحوجك, أو: فأخرجك, أو: فاضطرك إلى أن لا تسجد له » ، على ما بيَّنت.

وأما قوله: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ، فإنه خبرٌ من الله جل ثناؤه عن جواب إبليس إياه إذ سأله: ما الذي منعه من السجود لآدم, فأحوجه إلى أن لا يسجد له, واضطره إلى خلافه أمرَه به، وتركه طاعته أنّ المانعَ كان له من السجود، والداعيَ له إلى خلافه أمر ربه في ذلك: أنه أشد منه أيْدًا، وأقوى منه قوة، وأفضل منه فضلا لفضل الجنس الذي منه خلق، وهو النارُ, على الذي خلق منه آدم، وهو الطين . فجهل عدوّ الله وجه الحق, وأخطأ سبيل الصواب. إذ كان معلومًا أن من جوهر النار الخفة والطيش والاضطراب والارتفاع علوًّا, والذي في جوهرها من ذلك هو الذي حملَ الخبيث بعد الشقاء الذي سبق له من الله في الكتاب السابق، على الاستكبار عن السجود لآدم، والاستخفاف بأمر ربه, فأورثه العطبَ والهلاكَ. وكان معلومًا أن من جوهر الطين الرزانة والأناة والحلم والحياء والتثبُّت, وذلك الذي هو في جوهره من ذلك، كان الداعي لآدم بعد السعادة التي كانت سبقت له من ربه في الكتاب السابق، إلى التوبة من خطيئته, ومسألته ربَّه العفوَ عنه والمغفرة . ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان: « أول مَنْ قاسَ إبليس » , يعنيان بذلك: القياسَ الخطأ, وهو هذا الذي ذكرنا من خطأ قوله، وبعده من إصابة الحق، في الفضل الذي خص الله به آدم على سائر خلقه: من خلقه إياه بيده, ونفخه فيه من روحه, وإسجاده له الملائكة, وتعليمه أسماء كلِّ شيء، مع سائر ما خصه به من كرامته . فضرب عن ذلك كلِّه الجاهلُ صفحًا, وقصد إلى الاحتجاج بأنه خُلق من نار وخلق آدم من طين!! وهو في ذلك أيضًا له غير كفء, لو لم يكن لآدم من الله جل ذكره تكرمة شيء غيره, فكيف والذي خصّ به من كرامته يكثر تعداده، ويملّ إحصاؤه؟

حدثني عمرو بن مالك قال، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي, عن هشام, عن ابن سيرين قال: أوّل من قاس إبليس, وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن كثير, عن ابن شوذب, عن مطر الورّاق, عن الحسن قوله: ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) ، قال: قاس إبليس وهو أول من قاس.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما خلق الله آدم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة، دون الملائكة الذين في السموات: اسْجُدُوا لآدَمَ ، فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر, لما كان حدَّث نفسه، من كبره واغتراره, فقال: « لا أسجد له, وأنا خير منه, وأكبر سنًّا, وأقوى خلقًا, خلقتني من نار وخلقته من طين! » يقول: إنّ النار أقوى من الطين.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( خلقتني من نار ) ، قال: ثم جعل ذريته من ماء.

قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله عدوّ الله ليس لما سأله عنه بجواب. وذلك أن الله تعالى ذكره قال له: ما منعك من السجود؟ فلم يجب بأن الذي منعه من السجود أنه خُلِقَ من نار وخلق آدم من طين, ولكنه ابتدأ خبرًا عن نفسه, فيه دليل على موضع الجواب فقال: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )

 

القول في تأويل قوله : قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ( 13 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قال الله لإبليس عند ذلك: ( فاهبط منها ) .

وقد بيَّنا معنى « الهبوط » فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته.

( فما يكون لك أن تتكبر فيها ) ، يقول تعالى ذكره: فقال الله له: « اهبط منها » ، يعني: من الجنة « فما يكون لك » , يقول: فليس لك أن تستكبر في الجنة عن طاعتي وأمري.

فإن قال قائل: هل لأحد أن يتكبر في الجنة؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ, وإنما معنى ذلك: فاهبط من الجنة, فإنه لا يسكن الجنة متكبر عن أمر الله, فأما غيرها، فإنه قد يسكنها المستكبر عن أمر الله، والمستكين لطاعته.

وقوله: ( فاخرج إنك من الصاغرين ) ، يقول: فاخرج من الجنة، إنك من الذين قد نالهم من الله الصَّغَار والذلّ والمَهانة.

يقال منه: « صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَرًا وصَغارًا وصُغْرَانًا » ، وقد قيل: « صغُرَ يَصْغُرُ صَغارًا وصَغارَة » .

وبنحو ذلك قال السدي.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فاخرج إنك من الصاغرين ) ، و « الصغار » ، هو الذل.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 14 ) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 15 )

قال أبو جعفر: وهذه أيضًا جَهْلة أخرى من جَهَلاته الخبيثة. سأل ربه ما قد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله إليه . وذلك أنه سأل النَّظِرة إلى قيام الساعة, وذلك هو يوم يبعث فيه الخلق. ولو أعطي ما سأل من النَّظِرة، كان قد أعطي الخلودَ وبقاءً لا فناء معه, وذلك أنه لا موت بعد البعث. فقال جل ثناؤه له: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ سورة الحجر: 37- 38 / سورة ص: 80 ، 81 ] ، وذلك إلى اليوم الذي قد كتب الله عليه فيه الهلاك والموت والفناء، لأنه لا شيء يبقى فلا يفنى، غير ربِّنا الحيِّ الذي لا يموت. يقول الله تعالى ذكره: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ، [ سورة آل عمران: 185 / سورة الأنبياء: 35 / سورة العنكبوت: 57 ] .

و « الإنظار » في كلام العرب، التأخير. يقال منه: « أنظرته بحقي عليه أنظره به إنظارًا » .

فإن قال قائل: فإن الله قد قال له إذ سأله الإنظار إلى يوم يبعثون: ( إنك من المنظرين ) في هذا الموضع, فقد أجابه إلى ما سأل؟

قيل له: ليس الأمر كذلك, وإنما كان مجيبًا له إلى ما سأل لو كان قال له: « إنك من المنظرين إلى الوقت الذي سألت أو: إلى يوم البعث أو إلى يوم يبعثون » , أو ما أشبه ذلك، مما يدل على إجابته إلى ما سأل من النظرة. وأما قوله: ( إنك من المنظرين ) ، فلا دليل فيه لولا الآية الأخرى التي قد بيَّن فيها مدة إنظاره إياه إليها, وذلك قوله: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ، [ سورة الحجر: 37 ، 38 / سورة ص: 80 ، 81 ] ، كم المدة التي أنظره إليها, لأنه إذا أنظره يومًا واحدًا أو أقل منه أو أكثر, فقد دخل في عداد المنظرين، وتمَّ فيه وعد الله الصادق, ولكنه قد بيَّن قدر مدة ذلك بالذي ذكرناه, فعلم بذلك الوقت الذي أُنظِر إليه.

وبنحو ذلك كان السدي يقول.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ سورة الحجر: 36- 38 / سورة ص: 80 ، 81 ] ، فلم ينظره إلى يوم البعث, ولكن أنظره إلى يوم الوقت المعلوم, وهو يوم ينفخ في الصور النفخة الأولى, فصعق مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض, فمات.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: قال إبليس لربه: « أنظرني » ، أي أخّرني وأجّلني, وأنسئْ في أجلي, ولا تمتني إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ , يقول: إلى يوم يبعث الخلق. فقال تعالى ذكره: ( إنك من المنظرين ) ، إلى يوم ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله.

فإن قال قائل: فهل أحَدٌ مُنْظرٌ إلى ذلك اليوم سوى إبليس، فيقال له: « إنك منهم » ؟

قيل: نعم, مَنْ لم يقبض الله روحه من خلقه إلى ذلك اليوم، ممن تقوم عليه الساعة, فهم من المنظرين بآجالهم إليه . ولذلك قيل لإبليس: ( إنك من المنظرين ) ، بمعنى: إنك ممن لا يميته الله إلا ذلك اليوم.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( 16 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال إبليس لربه: ( فبما أغويتني ) ، يقول: فبما أضللتني، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( فبما أغويتني ) ، يقول: أضللتني.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فبما أغويتني ) ، قال: فبما أضللتني.

وكان بعضهم يتأول قوله: ( فبما أغويتني ) ، بما أهلكتني, من قولهم: « غَوِيَ الفصيل يَغوَى غَوًى » , وذلك إذا فقد اللبن فمات, من قول الشاعر:

مُعَطَّفَــةُ الأَثْنَــاءِ لَيْسَ فَصِيلُهَــا بِرَازِئِهَــا دَرًّا وَلا مَيِّــتٍ غَــوَى

وأصل الإغواء في كلام العرب: تزيين الرجل للرجل الشيء حتى يحسّنه عنده، غارًّا له.

وقد حكي عن بعض قبائل طيئ، أنها تقول: « أصبح فلان غاويًا » ، أي: أصبح مريضًا.

وكان بعضهم يتأوّل ذلك أنه بمعنى القسم, كأن معناه عنده: فبإغوائك إياي، لأقعدن لهم صراطك المستقيم, كما يقال: « بالله لأفعلن كذا » .

وكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى المجازاة, كأن معناه عنده: فلأنك أغويتني أو: فبأنك أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم.

قال أبو جعفر: وفي هذا بيان واضح على فساد ما يقول القدرية، من أن كل من كفر أو آمن فبتفويض الله أسبابَ ذلك إليه, وأن السبب الذي به يصل المؤمن إلى الإيمان، هو السبب الذي به يصل الكافر إلى الكفر . وذلك أنّ ذلك لو كان كما قالوا: لكان الخبيث قد قال بقوله: ( فبما أغويتني ) ، « فبما أصلحتني » , إذ كان سبب « الإغواء » هو سبب « الإصلاح » , وكان في إخباره عن الإغواء إخبارٌ عن الإصلاح, ولكن لما كان سبباهما مختلفين، وكان السبب الذي به غوَى وهلك من عند الله. أضاف ذلك إليه فقال: ( فبما أغويتني ) .

وكذلك قال محمد بن كعب القرظي, فيما:-

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو مودود, سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: قاتل الله القدريّة, لإبليس أعلمُ بالله منهم !

وأما قوله: ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) ، فإنه يقول: لأجلسن لبني آدم « صراطك المستقيم » , يعني: طريقك القويم, وذلك دين الله الحق, وهو الإسلام وشرائعه. وإنما معنى الكلام: لأصدَّن بني آدم عن عبادتك وطاعتك, ولأغوينهم كما أغويتني, ولأضلنهم كما أضللتني.

وذلك كما روي عن سبرة بن أبي الفاكه:-

أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطْرِقَةٍ، فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذرُ دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك, وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطِّوَل؟ فعصاه وهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد, وهو جَهْدُ النفس والمال, فقال: أتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد.

وروي عن عون بن عبد الله في ذلك ما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حَبّويه أبو يزيد, عن عبد الله بن بكير, عن محمد بن سوقة, عن عون بن عبد الله: ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) ، قال: طريق مكة.

والذي قاله عون، وإن كان من صراط الله المستقيم، فليس هو الصراط كله. وإنما أخبر عدوّ الله أنه يقعد لهم صراط الله المستقيم، ولم يخصص منه شيئًا دون شيء. فالذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشبهُ بظاهر التنـزيل، وأولى بالتأويل, لأن الخبيث لا يألو عباد الله الصدَّ عن كل ما كان لهم قربة إلى الله.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل في معنى « المستقيم » ، في هذا الموضع.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( صراطك المستقيم ) ، قال: الحق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا يقول: ( لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم ) ، قال: سبيل الحق, فلأضلنَّهم إلا قليلا.

قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في ذلك.

فقال بعض نحويي البصرة: معناه: لأقعدن لهم على صراطك المستقيم, كما يقال: « توجَّه مكة » ، أي إلى مكة, وكما قال الشاعر:

كَــأَنِّي إذْ أَسْــعَى لأظْفَـرَ طَـائِرًا مَـعَ النَّجْـمِ مِـنْ جَـوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ

بمعنى: لأظفر بطائر, فألقى « الباء » ، وكما قال: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ، [ سورة الأعراف: 150 ] ، بمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم.

وقال بعض نحويي الكوفة، المعنى، والله أعلم: لأقعدن لهم على طريقهم, وفي طريقهم . قال: وإلقاء الصفة من هذا جائز, كما تقول: « قعدت لك وجهَ الطريق » و « على وجه الطريق » ، لأن الطريق صفة في المعنى، فاحتمل ما يحتمله « اليوم » و « الليلة » و « العام » , إذا قيل: « آتيك غدًا » , و « آتيك في غد » .

قال أبو جعفر: وهذا القول هو أولى القولين في ذلك عندي بالصواب, لأن « القعود » مقتضٍ مكانًا يقعد فيه, فكما يقال: « قعدت في مكانك » , يقال: « قعدت على صراطك » , و « في صراطك » , كما قال الشاعر:

لَــدْنٌ بِهَــزِّ الْكَـفِّ يَعْسِـلُ مَتْنُـهُ فِيـهِ, كَمَـا عَسَـلَ الطَّـرِيقَ الثَّعْلَـبُ

فلا تكاد العرب تقول ذلك في أسماء البلدان, لا يكادون يقولون: « جلست مكة » ، و « قمت بغداد » .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( 17 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى قوله: ( لآتينهم من بين أيديهم ) ، من قبل الآخرة ( ومن خلفهم ) ، من قبل الدنيا ( وعن أيمانهم ) ، من قِبَل الحق ( وعن شمائلهم ) ، من قبل الباطل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ) ، يقول: أشككهم في آخرتهم ( ومن خلفهم ) ، أرغبهم في دنياهم ( وعن أيمانهم ) ، أشبِّه عليهم أمرَ دينهم ( وعن شمائلهم ) ، أشَهِّي لهم المعاصي.

وقد روي عن ابن عباس بهذا الإسناد في تأويل ذلك خلاف هذا التأويل, وذلك ما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ) ، يعني من الدنيا ( ومن خلفهم ) ، من الآخرة ( وعن أيمانهم ) ، من قبل حسناتهم ( وعن شمائلهم ) ، من قبل سيئاتهم.

وتحقق هذه الرواية، الأخرى التي:

حدثني بها محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، قال: أما بين « أيديهم » ، فمن قبلهم ، وأما « من خلفهم » ، فأمر آخرتهم ، وأما « عن أيمانهم » ، فمن قبل حسناتهم ، وأما « عن شمائلهم » ، فمن قبل سيئاتهم.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ) الآية, أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار « ومن خلفهم » ، من أمر الدنيا, فزيَّنها لهم ودعاهم إليها « وعن أيمانهم » ، من قبل حسناتهم بطَّأهم عنها « وعن شمائلهم » ، زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. أتاك يابن آدم من كل وجه, غير أنه لم يأتك من فوقك, لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله!

وقال آخرون: بل معنى قوله: ( من بين أيديهم ) ، من قبل دنياهم ( ومن خلفهم ) ، من قبل آخرتهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم في قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ) ، قال: ( من بين أيديهم ) ، من قبل دنياهم ( ومن خلفهم ) ، من قبل آخرتهم ( وعن أيمانهم ) من قبل حسناتهم ( وعن شمائلهم ) ، من قبل سيئاتهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن الحكم: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، قال: ( من بين أيديهم ) ، من دنياهم ( ومن خلفهم ) ، من آخرتهم ( وعن أيمانهم ) ، من حسناتهم ( وعن شمائلهم ) ، من قِبَل سيئاتهم.

حدثنا سفيان قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن الحكم: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ) ، قال: من قبل الدنيا يزيِّنها لهم ( ومن خلفهم ) من قبل الآخرة يبطّئهم عنها ( وعن أيمانهم ) ، من قبل الحق يصدّهم عنه ( وعن شمائلهم ) ، من قبل الباطل يرغّبهم فيه ويزينه لهم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، أما ( من بين أيديهم ) ، فالدنيا، أدعوهم إليها وأرغبهم فيها ( ومن خلفهم ) ، فمن الآخرة أشككهم فيها وأباعدها عليهم ( وعن أيمانهم ) ، يعني الحق فأشككهم فيه ( وعن شمائلهم ) ، يعني الباطل أخفّفه عليهم وأرغّبهم فيه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( من بين أيديهم ) ، من دنياهم، أرغّبهم فيها ( ومن خلفهم ) ، آخرتهم، أكفّرهم بها وأزهِّدهم فيها ( وعن أيمانهم ) ، حسناتهم أزهدهم فيها ( وعن شمائلهم ) ، مساوئ أعمالهم، أحسِّنها إليهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قول الله: ( من بين أيديهم وعن أيمانهم ) ، قال: حيث يبصرون ( ومن خلفهم ) ( وعن شمائلهم ) ، حيث لا يبصرون.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور قال، تذاكرنا عند مجاهد قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، فقال مجاهد: هو كما قال، يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم زاد ابن حميد, قال: « يأتيهم من ثَمَّ » .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، قال مجاهد، فذكر نحو حديث محمد بن عمرو, عن أبي عاصم.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: ثم لآتينهم من جميع وجوه الحقّ والباطل, فأصدّهم عن الحق، وأحسِّن لهم الباطل . وذلك أن ذلك عَقِيب قوله: لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، فاخبر أنه يقعد لبني آدم على الطريق الذي أمرَهم الله أن يسلكوه, وهو ما وصفنا من دين الله دينِ الحق، فيأتيهم في ذلك من كل وجوهه، من الوجه الذي أمرهم الله به, فيصدّهم عنه, وذلك « من بين أيديهم وعن أيمانهم » ومن الوجه الذي نهاهم الله عنه, فيزيّنه لهم ويدعوهم إليه, وذلك « من خلفهم وعن شمائلهم » .

وقيل: ولم يقل: « من فوقهم » ، لأن رحمة الله تنـزل على عباده من فوقهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، ولم يقل: « من فوقهم » , لأن الرحمة تنـزل من فوقهم.

وأما قوله: ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) . فإنه يقول: ولا تجد، ربِّ، أكثر بني آدم شاكرين لك نعمتَك التي أنعمت عليهم، كتكرمتك أباهم آدم بما أكرمته به, من إسجادك له ملائكتك, وتفضيلك إياه عليَّ و « شكرهم إياه » ، طاعتهم له بالإقرار بتوحيده, واتّباع أمره ونهيه.

وكان ابن عباس يقول في ذلك بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) ، يقول: موحِّدين.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن إحلاله بالخبيث عدوِّ الله ما أحلّ به من نقمته ولعنته, وطرده إياه عن جنته, إذ عصاه وخالف أمره, وراجعه من الجواب بما لم يكن له مراجعته به . يقول: قال الله له عند ذلك: ( اخرج منها ) ، أي من الجنة ( مذؤُومًا مدحورًا ) ، يقول: مَعِيبًا.

و « الذأم » ، العيب. يقال منه: « ذأمَه يذأمه ذأمًا فهو مذؤوم » , ويتركون الهمز فيقولون: « ذِمْته أذيمه ذيمًا وذامًا » , و « الذأم » و « الذيم » ، أبلغ في العيب من « الذمّ » ، وقد أنشد بعضهم هذا البيت:

صَحِـبْتُكَ إذْ عَيْنِـي عَلَيْهَـا غِشَـاوَةٌ فَلَمَّـا انْجَـلَتْ قَطَّعْـتُ نَفْسِـي أَذِيمُهَا

وأكثر الرواة على إنشاده « ألومها » .

وأما المدحور: فهو المُقْصَى, يقال: « دحره يدحَرُه دَحْرًا ودُحُورًا » ، إذا أقصاه وأخرجه، ومنه قولهم: « ادحَرْ عنكَ الشيطان » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( اخرج منها مذؤومًا مدحورًا ) ، يقول: اخرج منها لعينًا منفيًّا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « مذؤومًا » ممقوتًا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( قال اخرج منها مذؤومًا ) ، يقول: صغيرًا منفيًّا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( اخرج منها مذؤومًا مدحورًا ) ، أما « مذؤومًا » ، فمنفيًّا, وأما « مدحورا » ، فمطرودًا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( مذؤومًا ) ، قال: منفيًّا ( مدحورًا ) ، قال: مطرودًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ( اخرج منها مذؤومًا ) ، قال: منفيًّا. و « المدحور » , قال: المصغَّر.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال:، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن يونس وإسرائيل, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس: ( اخرج منها مذؤومًا ) ، قال: منفيًّا.

حدثني أبو عمرو القرقساني عثمان بن يحيى قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن التميمي, سأل ابن عباس: ما ( اخرج منها مذؤومًا مدحورًا ) ، قال: مقيتًا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( اخرج منها مذؤومًا مدحورًا ) ، فقال: ما نعرف « المذؤوم » و « المذموم » إلا واحدًا, ولكن تكون حروف منتقصة, وقد قال الشاعر لعامر: يا « عام » , ولحارث: « يا حار » , وإنما أنـزل القرآن على كلام العرب.

 

القول في تأويل قوله : لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( 18 )

قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه. أقسم أن مَنْ اتبع من بني آدم عدوَّ الله إبليس وأطاعه وصَدَّق ظنه عليه، أن يملأ من جميعهم يعني: من كفرة بني آدم تُبّاع إبليس، ومن إبليس وذريته جهنم. فرحم الله امرأً كذّب ظن عدوِّ الله في نفسه, وخيَّب فيها أمله وأمنيته, ولم يمكّن من طمعَ طمعٍ فيها عدوَّه, واستغشَّه ولم يستنصحه، فإن الله تعالى ذكره إنما نبّه بهذه الآيات عباده على قِدَم عداوة عدوِّه وعدوهم إبليس لهم, وسالف ما سلف من حسده لأبيهم, وبغيه عليه وعليهم, وعرّفهم مواقع نعمه عليهم قديمًا في أنفسهم ووالدهم ليدّبروا آياته, وليتذكر أولو الألباب, فينـزجروا عن طاعة عدوه وعدوهم إلى طاعته ويُنيبوا إليها.

 

القول في تأويل قوله : وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 19 )

قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وقال الله لآدم: ( يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ) . فأسكن جل ثناؤه آدم وزوجته الجنة بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه منها, وأباح لهما أن يأكلا من ثمارها من أيّ مكان شاءا منها, ونهاهما أن يقربا ثمر شجرة بعينها.

وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في ذلك، وما نرى من القول فيه صوابًا، في غير هذا الموضع, فكرهنا إعادته.

( فتكونا من الظالمين ) ، يقول: فتكونا ممن خالف أمر ربِّه، وفعل ما ليس له فعله.

 

القول في تأويل قوله : فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فوسوس لهما ) ، فوسوس إليهما, وتلك « الوسوسة » كانت قوله لهما: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ، وإقسامه لهما على ذلك.

وقيل: « وسوس لهما » , والمعنى ما ذكرت, كما قيل: « غَرِضت إليه » , بمعنى: اشتقْتُ إليه, وإنما تعني: غَرضت من هؤلاء إليه. فكذلك معنى ذلك.

فوسوس من نفسه إليهما الشيطان بالكذب من القيل، ليبدي لهما ما وُوري عنهما من سوءاتهما، كما قال رؤبة:

* وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الفَلَقْ *

ومعنى الكلام: فجذب إبليس إلى آدم حوّاء, وألقى إليهما: ما نهاكما ربكما عن أكل ثمر هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ليبدي لهما ما واراه الله عنهما من عوراتهما فغطاه بستره الذي ستره عليهما.

وكان وهب بن منبه يقول في الستر الذي كان الله سترهما به، ما:-

حدثني به حوثرة بن محمد المنقري قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو, عن ابن منبه, في قوله: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا قال: كان عليهما نور، لا ترى سوءاتهما.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( 20 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وقال الشيطان لآدم وزوجته حواء: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة أن تأكلا ثمرَها، إلا لئلا تكونا ملكين.

وأسقطت « لا » من الكلام، لدلالة ما ظهر عليها, كما أسقطت من قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [ سورة النساء: 176 ] . والمعنى: يبين الله لكم أن لا تضلوا.

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يزعم أن معنى الكلام: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تكونا ملكين, كما يقال: « إياك أن تفعل » كراهيةَ أن تفعل.

« أو تكونا من الخالدين » ، في الجنة، الماكثين فيها أبدًا، فلا تموتا.

والقراءة على فتح « اللام » ، بمعنى: ملكين من الملائكة.

وروي عن ابن عباس، ما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا عيسى الأعمى, عن السدّي قال: كان ابن عباس يقرأ: « إلا أَنْ تَكُونَا مَلِكَيْنِ » ، بكسر « اللام » .

وعن يحيى بن أبي كثير، ما:-

حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثني القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون قال، حدثنا يعلى بن حكيم, عن يحيى بن أبي كثير أنه قرأها: « مَلِكَيْنِ » ، بكسر « اللام » .

وكأنَّ ابن عباس ويحيى وجَّها تأويل الكلام إلى أن الشيطان قال لهما: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين من الملوك وأنهما تأوّلا في ذلك قول الله في موضع آخر: قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ، [ سورة طه: 120 ] .

قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة في ذلك بغيرها, القراءةُ التي عليها قرأة الأمصار وهي، فتح « اللام » من: « مَلَكَيْنِ » , بمعنى: ملكين، من الملائكة ، لما قد تقدم من بياننا في أن كل ما كان مستفيضًا في قرأة الإسلام من القراءة, فهو الصواب الذي لا يجوزُ خلافه.

 

القول في تأويل قوله : وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( 21 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وقاسمهما ) ، وحلف لهما, كما قال في موضع آخر: تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ ، [ سورة النمل: 49 ] ، بمعنى تحالفوا بالله ، وكما قال خالد بن زهير [ ابن ] عمّ أبي ذويب:

وَقَاسَــمَهَا بِاللــهِ جَــهْدًا لأَنْتُــمُ ألَـذُّ مِـنَ السَّـلْوَى إِذَا مَـا نَشُـورُهَا

بمعنى: وحالفهما بالله ، وكما قال أعشى بني ثعلبة:

رَضِيعَــيْ لِبَـانٍ, ثَـدْيَ أُمٍّ تَقَاسَـمَا بِأَسْــحَمَ دَاجٍ عَــوْضُ لا نَتَفَــرَّقُ

بمعنى تحالفا.

وقوله: ( إني لكما لمن الناصحين ) أي: لممن ينصح لكما في مشورته لكما, وأمره إياكما بأكل ثمر الشجرة التي نهيتما عن أكل ثمرها، وفي خبري إياكما بما أخبركما به، من أنكما إن أكلتماه كنتما ملكين أو كنتما من الخالدين، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ) ، فحلف لهما بالله حتى خدعهما, وقد يُخْدع المؤمن بالله, فقال: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما, فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول: « من خادَعنا بالله خُدِعْنا » .

 

القول في تأويل قوله : فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فدلاهما بغرور ) ، فخدعهما بغرور.

يقال منه: « ما زال فلان يدلّي فلانًا بغرور » , بمعنى: ما زال يخدعه بغرور، ويكلمه بزخرف من القول باطل.

( فلما ذاقا الشجرة ) ، يقول: فلما ذاق آدم وحواء ثمر الشجرة, يقول: طعماه ( بدت لهما سوآتهما ) يقول: انكشفت لهما سوءاتهما, لأن الله أعراهما من الكسوة التي كان كساهما قبل الذنب والخطيئة, فسلبهما ذلك بالخطيئة التي أخطآ والمعصية التي ركبا ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ، يقول: أقبلا وجعلا يشدَّان عليهما من ورق الجنة، ليواريا سوءاتهما، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس: ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ، قال: جعلا يأخذان من ورق الجنة، فيجعلان على سوءاتهما.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر, عن الحسن, عن أبي بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان آدم كأنه نخلةٌ سَحُوق، كثيرُ شعر الرأس, فلما وقع بالخطيئة بدت له عورته، وكان لا يراها, فانطلق فارًّا, فتعرضت له شجرة فحبسته بشعره, فقال لها: أرسليني! فقالت: لست بمرسلتك! فناداه ربه: يا آدم, أمنِّي تفرّ؟ قال: لا ولكني استحييتك.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان بن عيينة وابن مبارك, عن الحسن, عن عمارة, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال، كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، السنبلة . فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما, وكان الذي وَارى عنهما من سوءاتهما أظفارُهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ورق التين، يلصقان بعضها إلى بعض. فانطلق آدم مولّيًا في الجنة, فأخذت برأسه شجرة من الجنة, فناداه: أي آدم أمني تفرّ؟ قال: لا ولكني استحييتك يا رب ! قال: أما كان لك فيما منحتُك من الجنة وأبحتُك منها مندوحةٌ عما حرمت عليك؟ قال: بلى يا رب, ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا. قال: وهو قول الله: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . قال: فبعزّتي لأهبطنك إلى الأرض, ثم لا تنال العيش إلا كدًّا. قال: فأهبط من الجنة, وكانا يأكلان فيها رغدًا, فأهبطا في غير رغد من طعام وشراب, فعُلّم صنعة الحديد, وأُمر بالحرث, فحرث وزرع ثم سقى، حتى إذا بلغ حصد، ثم داسَه, ثم ذرّاه, ثم طحنه, ثم عجنه, ثم خبزه, ثم أكله, فلم يبلعْه حتى بُلِّعَ منه ما شاء الله أن يبلعَ.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( يخصفان ) ، قال: يرقعان، كهيئة الثوب.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يخصفان عليهما من الورق كهيئة الثوب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ) وكانا قبل ذلك لا يريانها ( وطفقا يخصفان ) ، الآية.

. . . . قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، حدثنا الحسن, عن أبي بن كعب: أن آدم عليه السلام كان رجلا طُوالا كأنه نخلة سَحُوق, كثير شعر الرأس . فلما وقع بما وقع به من الخطيئة, بدت له عورته عند ذلك، وكان لا يراها. فانطلق هاربًا في الجنة, فعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة, فقال لها: أرسليني ! قالت: إني غير مرسلتك! فناداه ربه: يا آدم, أمنّي تفرّ؟ قال: رب إني استحييتك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون, عن سفيان الثوري, عن ابن أبي ليلى, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ، قال: ورق التين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن ابن أبي ليلى, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ، قال: ورق التين.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن حسام بن مِصَكّ، عن قتادة وأبي بكر، عن غير قتادة قال: كان لباس آدم في الجنة ظُفُرًا كله, فلما وقع بالذنب، كُشِط عنه وبدت سوءته قال أبو بكر: قال غير قتادة: ( فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ، قال: ورق التين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ( بدت لهما سوءاتهما ) ، قال: كانا لا يريان سوءاتهما.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو قال، سمعت وهب بن منبه يقول: يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ، [ سورة الأعراف: 27 ] . قال: كان لباس آدم وحواء عليهما السلام نورًا على فروجهما, لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا. فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوءاتهما.

 

القول في تأويل قوله : وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 22 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى آدمَ وحواءَ ربُّهما: ألم أنهكما عن أكل ثمرة الشجرة التي أكلتما ثمرها, وأعلمكما أن إبليس لكما عدو مبين يقول: قد أبان عداوته لكما، بترك السجود لآدم حسدًا وبغيًا، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن قيس قوله: ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ) ، لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب، أطعمتني حواء ! قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية! قال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس! قال: ملعون مدحور ! أما أنت يا حواء فكما دمَّيت الشجرة تَدْمَيْن كل شهر. وأما أنت يا حية، فأقطع قوائمك فتمشين على وجهك, وسيشدخُ رأسك من لقيك ، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عباد بن العوّام, عن سفيان بن حسين, عن يعلى بن مسلم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني! قال: فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْهًا، ولا تضع إلا كرها. قال: فرنَّت حواء عند ذلك, فقيل لها: الرنّة عليك وعلى ولدك.

 

القول في تأويل قوله : قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 )

قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله جل ثناؤه عن آدم وحواء فيما أجاباه به, واعترافِهما على أنفسهما بالذنب, ومسألتهما إياه المغفرة منه والرحمة, خلاف جواب اللعين إبليس إياه.

ومعنى قوله: ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ) ، قال: آدم وحواء لربهما: يا ربنا، فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمعصيتك وخلاف أمرك، وبطاعتنا عدوَّنا وعدوَّك, فيما لم يكن لنا أن نطيعه فيه، من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها ( وإن لم تغفر لنا ) ، يقول: وإن أنت لم تستر علينا ذنبنا فتغطيه علينا، وتترك فضيحتنا به بعقوبتك إيانا عليه « وترحمنا » ، بتعطفك علينا, وتركك أخذنا به ( لنكونن من الخاسرين ) ، يعني: لنكونن من الهالكين.

وقد بيَّنا معنى « الخاسر » فيما مضى بشواهده، والرواية فيه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: قال آدم عليه السلام: يا رب, أرأيتَ إن تبتُ واستغفرتك؟ قال: إذًا أدخلك الجنة . وأما إبليس فلم يسأله التوبة, وسأل النَّظِرة, فأعطى كلَّ واحد منهما ما سأل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا ) ، الآية, قال: هي الكلمات التي تلقَّاها آدم من ربه.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 24 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن فعله بإبليس وذريته، وآدم وولده، والحية.

يقول تعالى ذكره لآدم وحواء وإبليس والحية: اهبطوا من السماء إلى الأرض، بعضكم لبعض عدوّ، كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن طلحة, عن أسباط, عن السدي: ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) ، قال: فلعنَ الحية, وقطع قوائمها, وتركها تمشي على بطنها, وجعل رزقها من التراب, وأهبطوا إلى الأرض: آدم، وحواء، وإبليس، والحية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن أبي عوانة, عن إسماعيل بن سالم, عن أبي صالح: ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) ، قال: آدم، وحواء، والحية.

وقوله: ( ولكم في الأرض مستقر ) ، يقول: ولكم، يا آدم وحواء، وإبليس والحية في الأرض قرارٌ تستقرونه، وفراش تمتهدونه، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( ولكم في الأرض مستقر ) ، قال: هو قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا ، [ سورة البقرة: 22 ] .

وروي عن ابن عباس في ذلك، ما:-

حدثت عن عبيد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عمن حدثه, عن ابن عباس قوله: ( ولكم في الأرض مستقر ) ، قال: القبور.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ آدم وحواءَ وإبليس والحية، إذ أهبطوا إلى الأرض: أنهم عدوٌّ بعضهم لبعض, وأن لهم فيها مستقرًّا يستقرون فيه, ولم يخصصها بأن لهم فيها مستقرًّا في حال حياتهم دون حال موتهم, بل عمَّ الخبرَ عنها بأن لهم فيها مستقرًّا, فذلك على عمومه، كما عمّ خبرُ الله, ولهم فيها مستقر في حياتهم على ظهرها، وبعد وفاتهم في بطنها, كما قال جل ثناؤه: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ، [ سورة المرسلات: 25- 26 ] .

وأما قوله: ( ومتاع إلى حين ) ، فإنه يقول جل ثناؤه: « ولكم فيها متاع » ، تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا, وذلك هو الحين الذي ذكره، كما:-

حدثت عن عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل, عن السدي, عمن حدثه, عن ابن عباس: ( ومتاع إلى حين ) ، قال: إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا.

و « الحين » نفسه: الوقت, غير أنه مجهول القدر ، يدل على ذلك قول الشاعر:

وَمَـا مِرَاحُـكَ بَعْـدَ الْحِـلْمِ وَالـدِّينِ وَقَـدْ عَـلاكَ مَشِـيبٌ حِـينَ لا حِـينِ

أي وقت لا وقت.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( 25 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال الله للذين أهبطهم من سمواته إلى أرضه: ( فيها تحيون ) ، يقول: في الأرض تحيون, يقول: تكونون فيها أيام حياتكم ( وفيها تموتون ) ، يقول في الأرض تكون وفاتكم, ( ومنها تخرجون ) ، يقول: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم إليه لبعث القيامة أحياء.

 

القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للجهلة من العرب الذين كانوا يتعرَّون للطواف، اتباعًا منهم أمرَ الشيطان، وتركًا منهم طاعةَ الله, فعرفهم انخداعهم بغروره لهم، حتى تمكن منهم فسلبهم من ستر الله الذي أنعمَ به عليهم, حتى أبدى سوءاتهم وأظهرها من بعضهم لبعض, مع تفضل الله عليهم بتمكينهم مما يسترونها به, وأنهم قد سار بهم سيرته في أبويهم آدم وحواء اللذين دلاهما بغرور حتى سلبهما ستر الله الذي كان أنعم به عليهما حتى أبدى لهما سوءاتهما فعرّاهما منه: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا ) ، يعني بإنـزاله عليهم ذلك، خلقَه لهم, ورزقه إياهم و « اللباس » ما يلبسون من الثياب ( يواري سوآتكم ) يقول: يستر عوراتكم عن أعينكم وكنى بـ « السوءات » ، عن العورات.

واحدتها « سوءة » , وهي « فعلة » من « السوء » , وإنما سميت « سوءة » ، لأنه يسوء صاحبها انكشافُها من جسده, كما قال الشاعر:

خَــــرَقُوا جَـــيْبَ فَتَـــاتِهِمُ لَـــمْ يُبَــالُوا سَــوْءَةَ الرَّجُلَــهْ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( لباسًا يواري سوآتكم ) قال: كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراةً, ولا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا ) ، قال: أربع آيات نـزلت في قريش. كانوا في الجاهلية لا يطوفون بالبيت إلا عراة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عوف قال: سمعت معبدًا الجهني يقول في قوله: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا ) ، قال: اللباس الذي تلبسون.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم ) قال: كانت قريش تطوف عراة, لا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه. وقد كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم ) قال: اللباس الذي يواري سوءاتكم: وهو لَبُوسكم هذه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لباسًا يواري سوآتكم ) قال: هي الثياب.

حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، حدثني مَنْ سمع عروة بن الزبير يقول، اللباس: الثياب.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم ) قال: يعني ثيابَ الرجل التي يلبسها.

 

القول في تأويل قوله : وَرِيشًا

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( وَرِيشًا ) ، بغير « ألف » .

وذكر عن زر بن حبيش والحسن البصري: أنهما كانا يقرآنه: « وَرِياشًا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, عن أبان العطار قال، حدثنا عاصم: أن زر بن حبيش قرأها: « وَرِياشًا » .

قال أبو جعفر: والصوابُ من القراءة في ذلك، قراءة من قرأ: ( وَرِيشًا ) بغير « ألف » ، لإجماع الحجة من القرأة عليها.

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ في إسناده نظر: أنه قرأه: « وَرِياشًا » .

فمن قرأ ذلك: « وَرِياشًا » فإنه محتمل أن يكون أراد به جمع « الريش » , كما تجمع « الذئب » ، « ذئابًا » ، و « البئر » « بئارًا » .

ويحتمل أن يكون أراد به مصدرًا، من قول القائل: « راشه الله يَريشه رياشًا ورِيشًا » , كما يقال: « لَبِسه يلبسه لباسًا ولِبْسًا » ، وقد أنشد بعضهم:

فَلَمــا كَشَـفْنَ اللِّبْسَ عَنْـهُ مَسَـحْنَهُ بِـأَطْرَافِ طَفْـلٍ زَانَ غَيْـلا مُوَشَّـمَا

بكسر « اللام » من « اللبس » .

و « الرياش » ، في كلام العرب، الأثاث، وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يُحْشى من فراش أو دِثَار.

و « الريش » إنما هو المتاع والأموال عندهم. وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال. يقولون: « أعطاه سرجًا بريشه » , و « رحْلا بريشه » ، أي بكسوته وجهازه. ويقولون: « إنه لحسن ريش الثياب » ، وقد يستعمل « الرياش » في الخصب ورَفاهة العيش.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال: « الرياش » ، المال:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وريشًا ) ، يقول: مالا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وريشًا ) ، قال: المال.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ورياشًا » ، قال: أما « رياشًا » ، فرياش المال.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، حدثني من سمع عروة بن الزبير يقول: « الرياش » ، المال.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قوله: « ورياشًا » ، يعني، المال.

* ذكر من قال: هو اللباس ورفاهة العيش.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ورياشًا » ، قال: « الرياش » ، اللباس والعيش والنَّعيم.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني: « ورياشًا » ، قال: « الرياش » ، المعاش.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا عوف قال، قال معبد الجهني: « ورياشًا » ، قال: هو المعاش.

وقال آخرون: « الريش » ، الجمال.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ورياشًا » ، قال: « الريش » ، الجمال.

 

القول في تأويل قوله : وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: « لباس التقوى » ، هو الإيمان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولباس التقوى ) ، هو الإيمان.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولباس التقوى ) ، الإيمان.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج, عن ابن جريج: ( ولباس التقوى ) ، الإيمان.

وقال آخرون: هو الحياء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني في قوله: ( ولباس التقوى ) ، الذي ذكر الله في القرآن، هو الحياء.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا عوف قال، قال معبد الجهني, فذكر مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عوف, عن معبد، بنحوه.

وقال آخرون: هو العمل الصالح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( ولباس التقوى ذلك خير ) ، قال: لباس التقوى: العمل الصالح.

وقال آخرون: بل ذلك هو السَّمْت الحسن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الله بن داود, عن محمد بن موسى, عن . . . . بن عمرو, عن ابن عباس: ( ولباس التقوى ) ، قال: السمت الحسن في الوجه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن سليمان بن أرقم, عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليه قميصٌ قُوهيّ محلول الزرّ, وسمعته يأمر بقتل الكلاب، وينهى عن اللعب بالحمام, ثم قال: يا أيها الناس، اتقوا الله في هذه السرائر, فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « والذي نفس محمد بيده، ما عمل أحدٌ قط سرًّا إلا ألبسه الله رداءَ علانيةٍ, إن خيرًا فخيرًا, وإن شرًّا فشرًا » ، ثم تلا هذه الآية: « وَرِيَاشًا » ولم يقرأها: وَرِيشًا

( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ) ، قال: السمتُ الحسن.

وقال آخرون: هو خشية الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدنى قال، حدثني من سمع عروة بن الزبير يقول: ( لباس التقوى ) ، خشية الله.

وقال آخرون: ( لباس التقوى ) ، في هذه المواضع، ستر العورة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولباس التقوى ) ، يتقي الله، فيواري عورته, ذلك « لباس التقوى » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة المكيين والكوفيين والبصريين: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) ، برفع « ولباس » .

وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة: « وَلِبَاسَ التَّقْوَى » ، بنصب « اللباس » , وهي قراءة بعض قرأة الكوفيين.

فمن نصب: « ولباس » ، فإنه نصبه عطفًا على « الريش » ، بمعنى: قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا, وأنـزلنا لباسَ التقوى.

وأما الرفع, فإن أهل العربية مختلفون في المعنى الذي ارتفع به « اللباس » .

فكان بعض نحويي البصرة يقول: هو مرفوع على الابتداء, وخبره في قوله: ( ذلك خير ) . وقد استخطأه بعض أهل العربية في ذلك وقال: هذا غلط, لأنه لم يعد على « اللباس » في الجملة عائد, فيكون « اللباس » إذا رفع على الابتداء وجعل « ذلك خير » خبرًا.

وقال بعض نحويي الكوفة: ( ولباس ) ، يرفع بقوله: ولباس التقوى خير، ويجعل « ذلك » من نعته.

قال أبو جعفر: وهذا القول عندي أولى بالصواب في رافع « اللباس » ، لأنه لا وجه للرفع إلا أن يكون مرفوعًا بـ « خير » ، وإذا رفع بـ « خير » لم يكن في ذلك وجه إلا أن يجعل « اللباس » نعتًا, لا أنه عائد على « اللباس » من ذكره في قوله: ( ذلك خير ) ، فيكون خير مرفوعًا بـ « ذلك » ، و « ذلك » ، به.

فإذ، كان ذلك كذلك, فتأويل الكلام إذا رفع « لباس التقوى » : ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه، خير لكم يا بني آدم، من لباس الثياب التي تواري سوءاتكم, ومن الرياش التي أنـزلناها إليكم، هكذا فالبَسوه.

وأما تأويل مَنْ قرأه نصبًا, فإنه: « يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى » ، هذا الذي أنـزلنا عليكم من اللباس الذي يواري سوءاتكم, والريش, ولباس التقوى خير لكم من التعرِّي والتجرد من الثياب في طوافكم بالبيت, فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش, ولا تطيعوا الشيطان بالتجرد والتعرِّي من الثياب, فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة, كما فعل بأبويكم آدم وحواء، فخدعهما حتى جرّدهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له، في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصَياه بأكلها.

قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب, أعني نصب قوله: « وَلِبَاسَ التَّقْوَى » ، لصحة معناه في التأويل على ما بيّنت, وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنـزاله اللباس الذي يواري سوءاتنا والرياش، توبيخًا للمشركين الذين كانوا يتجرّدون في حال طوافهم بالبيت, ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كل حال، مع الإيمان به واتباع طاعته ويعلمهم أن كلّ ذلك خير من كلّ ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله، وتعرِّيهم, لا أنه أعلمهم أن بعض ما أنـزل إليهم خيرٌ من بعض.

وما يدل على صحة ما قلنا في ذلك، الآيات التي بعد هذه الآية, وذلك قوله: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا وما بعد ذلك من الآيات إلى قوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ، فإنه جل ثناؤه يأمر في كل ذلك بأخذ الزينة من الثياب، واستعمال اللباس وترك التجرّد والتعرّي، وبالإيمان به، واتباع أمره والعمل بطاعته, وينهى عن الشرك به واتباع أمر الشيطان ، مؤكدًا في كل ذلك ما قد أجمله في قوله: ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله: « ولباس التقوى » ، استشعار النفوس تقوى الله، في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته ، وذلك يجمع الإيمان، والعمل الصالح، والحياء، وخشية الله، والسمتَ الحسن, لأن مَنْ اتقى الله كان به مؤمنًا، وبما أمره به عاملا ومنه خائفًا، وله مراقبًا, ومن أن يُرَى عند ما يكرهه من عباده مستحييًا. ومَنْ كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه, فحسن سَمْته وهَدْيه، ورُئِيَتْ عليه بهجة الإيمان ونوره.

وإنما قلنا: عنى بـ « لباس التقوى » ، استشعارَ النفس والقلب ذلك لأن « اللباس » ، إنما هو ادِّراع ما يلبس، واجتياب ما يكتسى, أو تغطية بدنه أو بعضه به. فكل من ادَّرع شيئًا واجتابهُ حتى يُرَى عَيْنه أو أثرُه عليه, فهو له « لابس » . ولذلك جعل جل ثناؤه الرجال للنساء لباسًا، وهن لهم لباسًا, وجعل الليل لعباده لباسًا.

* ذكر من تأول ذلك بالمعنى الذي ذكرنا من تأويله، إذا قرئ قوله: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ) ، رفعًا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولباس التقوى ) ، الإيمان ( ذلك خير ) ، يقول: ذلك خير من الرياش واللباس يواري سوءاتكم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولباس التقوى ) ، قال: لباس التقوى خير, وهو الإيمان.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 26 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ذلك الذي ذكرت لكم أنّي أنـزلته إليكم، أيها الناس، من اللباس والرياش، من حجج الله وأدلته التي يعلم بها مَنْ كفر صحة توحيد الله, وخطأ ما هم عليه مقيمون من الضلالة ( لعلهم يذكرون ) ، يقول جل ثناؤه: جعلت ذلك لهم دليلا على ما وصفت، ليذكروا فيعتبروا وينيبوا إلى الحق وترك الباطل, رحمة مني بعبادي.

 

القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا بني آدم، لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوءاتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم, كما فعل بأبويكم آدم وحواء عند اختباره إياهما فأطاعاه وعصيا ربهما، فأخرجهما بما سبَّب لهما من مكره وخدعه، من الجنة, ونـزع عنهما ما كان ألبسهما من اللباس، ليريهما سوءاتهما بكشف عورتهما، وإظهارها لأعينهما بعد أن كانت مستترةً.

وقد بينا فيما مضى أن معنى « الفتنة » ، الاختبار والابتلاء، بما أغنى عن إعادته.

وقد اختلف أهل التأويل في صفة « اللباس » الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه نـزعه عن أبوينا، وما كان.

فقال بعضهم: كان ذلك أظفارًا.

* ذكر من لم يذكر قوله فيما مضى من كتابنا هذا في ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عكرمة: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: لباس كل دابة منها, ولباس الإنسان الظُّفر, فأدركت آدم التوبة عند ظُفُره أو قال: أظفاره.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الحميد الحماني, عن نضر أبي عمر, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: تركت أظفاره عليه زينة ومنافع، في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) .

حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال، أخبرنا مخلد بن الحسين, عن عمرو بن مالك, عن أبي الجوزاء, عن ابن عباس في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: كان لباسهما الظفر ، فلما أصابا الخطيئة نـزع عنهما, وتركت الأظفار تذكرة وزينة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سماك, عن عكرمة في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: كان لباسه الظفر, فانتهت توبته إلى أظفاره.

وقال آخرون: كان لباسهما نورًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن وهب بن منبه: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، النور.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو قال، سمعت وهب بن منبه يقول في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ) قال: كان لباس آدم وحواء نورًا على فروجهما, لا يرى هذا عورة هذه, ولا هذه عورة هذا.

وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، يسلبهما تقوى الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مطلب بن زياد, عن ليث, عن مجاهد: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: التقوى.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن ليث, عن مجاهد: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: التقوى.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد, مثله.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى حذر عباده أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم آدم وحواء, وأن يجرِّدهم من لباس الله الذي أنـزله إليهم, كما نـزع عن أبويهم لباسهما. « اللباس » المطلق من الكلام بغير إضافة إلى شيء في متعارف الناس, وهو ما اجتابَ فيه اللابس من أنواع الكُسي, أو غطى بدنه أو بعضه.

وإذ كان ذلك كذلك, فالحق أن يقال: إن الذي أخبر الله عن آدم وحواء من لباسهما الذي نـزعه عنهما الشيطان، هو بعض ما كانا يواريان به أبدانهما وعوْرَتهما . وقد يجوز أن يكون ذلك كان ظفرًا ويجوز أن يكون كان ذلك نورًا ويجوز أن يكون غير ذلك ولا خبر عندنا بأيِّ ذلك تثبت به الحجة, فلا قول في ذلك أصوب من أن يقال كما قال جلّ ثناؤه: ( ينـزع عنهما لباسهما ) .

وأضاف جل ثناؤه إلى إبليس إخراجَ آدم وحواء من الجنة, ونـزعَ ما كان عليهما من اللباس عنهما، وإن كان الله جل ثناؤه هو الفاعل ذلك بهما عقوبة على معصيتهما إياه, إذ كان الذي كان منهما في ذلك عن تسْنيةِ ذلك لهما بمكره وخداعه, فأضيف إليه أحيانًا بذلك المعنى, وإلى الله أحيانًا بفعله ذلك بهما.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 27 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: إن الشيطان يراكم هو و « الهاء » في « إنه » عائدة على الشيطان و « قبيله » ، يعني: وصنفه وجنسه الذي هو منه واحدٌ جمع جيلا وهم الجن، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: ( إنه يراكم هو وقبيله ) ، قال: الجن والشياطين.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إنه يراكم هو وقبيله ) ، قال: « قبيله » ، نسله.

وقوله: ( من حيث لا ترونهم ) ، يقول: من حيث لا ترون أنتم، أيها الناس، الشيطان وقبيله ( إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) ، يقول: جعلنا الشياطين نُصراء الكفار الذين لا يوحِّدون الله ولا يصدقون رسله.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 28 )

قال أبو جعفر: ذكر أن معنى « الفاحشة » ، في هذا الموضع, ما:-

حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا أبو محياة، عن منصور, عن مجاهد: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, يقولون: « نطوف كما ولدتنا أمهاتنا » , فتضع المرأة على قُبُلها النِّسعة أو الشيء، فتقول:

الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد في قوله: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن مفضل, عن منصور, عن مجاهد, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير والشعبي: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) ، قال: كان قبيلة من العرب من أهل اليمن يطوفون بالبيت عراة, فإذا قيل: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: وجدنا عليها آباءنا, والله أمرنا بها.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وإذا فعلوا فاحشة ) ، قال: طوافهم بالبيت عراة.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد, عن مجاهد ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، قال: في طواف الحُمْس في الثياب، وغيرهم عراة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، قال: كان نساؤهم يطفن بالبيت عراة, فتلك الفاحشة التي وجدوا عليها آباءهم: ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ) ، الآية.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله، الذين جعل الله الشياطين لهم أولياء، قبيحًا من الفعل، وهو « الفاحشة » , وذلك تعرِّيهم للطواف بالبيت وتجردهم له, فعُذِلوا على ما أتوا من قبيح فعلهم وعوتبوا عليه, قالوا: « وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا, فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون, ونقتدي بهديهم، ونستنّ بسنتهم, والله أمرنا به, فنحن نتبع أمره فيه » .

يقول الله جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهم: « إن الله لا يأمر بالفحشاء » , يقول: لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويها « أتقولون » ، أيها الناس، « على الله ما لا تعلمون » ، يقول: أتروون على الله أنه أمركم بالتعرِّي والتجرد من الثياب واللباس للطواف, وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك؟

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبًا على الله: ما أمر ربي بما تقولون, بل ( أمر ربي بالقسط ) ، يعني: بالعدل، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قل أمر ربي بالقسط ) ، بالعدل.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( قل أمر ربي بالقسط ) ، والقسط: العدل.

وأما قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله . فقال بعضهم: معناه: وجِّهوا وجوهكم حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، إلى الكعبة حيثما صليتم، في الكنيسة وغيرها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: إذا صليتم فاستقبلوا الكعبة، في كنائسكم وغيرها.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، هو « المسجد » ، الكعبة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن, عن عمر بن ذر, عن مجاهد في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: الكعبة، حيثما كنت.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: أقيموها للقبلة، هذه القبلة التي أمركم الله بها.

وقال آخرون: بل عنى بذلك: واجعلوا سجودكم لله خالصًا، دون ما سواه من الآلهة والأنداد.

ذكر من قال ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: في الإخلاص، أن لا تدعوا غيره, وأن تخلصوا له الدين.

قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية، ما قاله الربيع: وهو أن القوم أُمِروا أن يتوجهوا بصلاتهم إلى ربهم, لا إلى ما سواه من الأوثان والأصنام, وأن يجعلوا دعاءهم لله خالصًا, لا مُكاءً ولا تصدية.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية, لأن الله إنما خاطب بهذه الآية قومًا من مشركي العرب، لم يكونوا أهل كنائس وبيع, وإنما كانت الكنائس والبِيَع لأهل الكتابين. فغير معقول أن يقال لمن لا يصلي في كنيسة ولا بِيعة: « وجِّه وجهك إلى الكعبة في كنيسة أو بِيعةٍ » .

وأما قوله: ( وادعوه مخلصين له الدين ) ، فإنه يقول: واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة, لا تخلطوا ذلك بشرك، ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكًا، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وادعوه مخلصين له الدين ) ، قال: أن تخلصوا له الدين والدعوة والعمل, ثم توجِّهون إلى البيت الحرام.

 

القول في تأويل قوله : كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( 29 ) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .

فقال بعضهم: تأويله: كما بدأكم أشقياء وسُعَداء, كذلك تبعثون يوم القيامة.

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة ) ، قال: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا, كما قال جل ثناؤه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ، [ سورة التغابن: 2 ] ، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم، مؤمنًا وكافرًا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور قال، حدثنا أصحابنا, عن ابن عباس: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: يبعث المؤمن مؤمنًا, والكافر كافرًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن الضريس, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن رجل, عن جابر قال: يبعثون على ما كانوا عليه, المؤمن على إيمانه، والمنافق على نفاقه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع, عن أبي العالية قال: عادوا إلى علمه فيهم, ألم تسمع إلى قول الله فيهم: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ؟ ألم تسمع قوله: ( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) ؟.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: رُدُّوا إلى علمه فيهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب في قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: من ابتدأ الله خلقه على الشِّقوة صار إلى ما ابتدأ الله خلقه عليه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة, كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه. ومن ابتدئ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء, كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء، ثم صاروا إلى ما ابتدئ عليه خلقهم.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن وِقَاء بن إياس أبي يزيد, عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: يبعث المسلم مسلمًا, والكافر كافرًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو دكين قال، حدثنا سفيان, عن أبي يزيد, عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: يبعث المسلم مسلمًا, والكافر كافرًا.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا محمد بن أبي الوضاح, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: كما كتب عليكم تكونون.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد, مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة ) ، يقول: كما بدأكم تعودون، كما خلقناكم, فريق مهتدون، وفريق ضال, كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.

حدثنا ابن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن جابر, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تُبعث كل نفس على ما كانت عليه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري, عن شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: كما كتب عليكم تكونون.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد بن زيد, عن ليث, عن مجاهد قال، يبعث المؤمن مؤمنًا, والكافر كافرًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، شقيًّا وسعيدًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة عن مجاهد, مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك: كما خلقكم ولم تكونوا شيئًا، تعودون بعد الفناء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر, عن عوف, عن الحسن: ( كما بدأكم تعودون ) ، قال: كما بدأكم ولم تكونوا شيئًا فأحياكم, كذلك يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى, عن عوف, عن الحسن: ( كما بدأكم تعودون ) ، قال: كما بدأكم في الدنيا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: بدأ خلقهم ولم يكونوا شيئًا, ثم ذهبوا، ثم يعيدهم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( كما بدأكم تعودون فريقًا هدى ) ، يقول: كما خلقناكم أول مرة، كذلك تعودون.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، يحييكم بعد موتكم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: كما خلقهم أولا كذلك يعيدهم آخرًا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, القولُ الذي قاله من قال: معناه: كما بدأكم الله خلقًا بعد أن لم تكونوا شيئًا، تعودون بعد فنائكم خلقًا مثله, يحشركم إلى يوم القيامة لأن الله تعالى ذكره: أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلم بما في هذه الآية قومًا مشركين أهلَ جاهلية، لا يؤمنون بالمعاد، ولا يصدِّقون بالقيامة. فأمره أن يدعوهم إلى الإقرار بأن الله باعثهم يوم القيامة، ومثيبُ مَنْ أطاعه، ومعاقبُ مَنْ عصاه. فقال له: قل لهم: أمرَ ربي بالقسط, وأن أقيموا وجوهكم عند كل مسجد, وأن ادعوه مخلصين له الدين, وأن أقرُّوا بأنْ كما بدأكم تعودون فترك ذكر « وأن أقروا بأن » . كما ترك ذكر « أن » مع « أقيموا » , إذ كان فيما ذكر دلالة على ما حذف منه.

وإذ كان ذلك كذلك, فلا وجه لأن يؤمر بدعاء مَنْ كان جاحدًا النشورَ بعد الممات، إلى الإقرار بالصفة التي عليها ينشر مَنْ نُشِر, وإنما يؤمر بالدعاء إلى ذلك مَنْ كان بالبعث مصدّقًا, فأما مَنْ كان له جاحدًا، فإنما يدعى إلى الإقرار به، ثم يعرَّف كيف شرائط البعث. على أن في الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-

حدثناه محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يُحْشر الناس عُراة غُرْلا وأوّل مَنْ يكسى إبراهيم صلى الله عليه وسلم . ثم قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ، [ سورة الأنبياء: 104 ]

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا إسحاق بن يوسف قال، حدثنا سفيان, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم , بنحوه.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة, فقال: يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حُفَاة غُرْلا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ .

ما يبيِّن صحة القول الذي قلنا في ذلك, من أن معناه: أن الخلقَ يعودون إلى الله يوم القيامة خلقًا أحياء، كما بدأهم في الدنيا خلقًا أحياء.

يقال منه: « بدأ الله الخلق يبدؤهم وأبدأَهُم يُبْدِئهم إبداءً » ، بمعنى خلقهم, لغتان فصيحتان.

ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه عما سبق من علمه في خلقه، وجرى به فيهم قضاؤه, فقال: هدى الله منهم فريقًا فوفّقهم لصالح الأعمال فهم مهتدون, وحقَّ على فريق منهم الضلالة عن الهدى والرشاد, باتخاذهم الشيطان من دون الله وليًّا.

وإذا كان التأويل هذا, كان « الفريق » الأول منصوبًا بإعمال « هدى » فيه, و « الفريق » ، الثاني بوقوع قوله: « حق » على عائد ذكره في « عليهم » , كما قال جل ثناؤه: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ، [ سورة الإنسان: 31 ]

ومن وجه تأويل ذلك إلى أنه: كما بدأكم في الدنيا صنفين: كافرًا, ومؤمنًا, كذلك تعودون في الآخرة فريقين: فريقًا هدى، وفريقًا حق عليهم الضلالة نصب « فريقًا » ، الأول بقوله: « تعودون » , وجعل الثاني عطفًا عليه. وقد بينا الصواب عندنا من القول فيه.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( 30 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجارُوا عن قصد المحجة, باتخاذهم الشياطين نُصراء من دون الله، وظُهراء, جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق, وأن الصواب ما أتوه وركبوا.

وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعمَ أن الله لا يعذِّب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك, لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسَبُ أنه هادٍ. وفريق الهدى، فَرْقٌ. وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية.

 

القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 31 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يتعرَّون عند طوافهم ببيته الحرام، ويبدون عوراتهم هنالك من مشركي العرب, والمحرِّمين منهم أكل ما لم يحرِّمه الله عليهم من حلال رزقه، تبرُّرًا عند نفسه لربه: ( يا بني آدم خذوا زينتكم ) ، من الكساء واللباس ( عند كل مسجد وكلوا ) ، من طيبات ما رزقتكم, وحللته لكم ( واشربوا ) ، من حلال الأشربة, ولا تحرِّموا إلا ما حَرَّمْتُ عليكم في كتابي أو على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة, عن سلمة, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أن النساء كنّ يطفن بالبيت عراة وقال في موضع آخر: بغير ثياب إلا أن تجعل المرأة على فرجها خِرقة، فيما وُصِف إن شاء الله, وتقول:

الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ

قال: فنـزلت هذه الآية: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون عراة, الرجال بالنهار, والنساء بالليل, وكانت المرأة تقول:

الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ

فقال الله: ( خذوا زينتكم ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن ابن عباس: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: الثياب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر ووهب بن جرير, عن شعبة, عن سلمة بن كهيل قال: سمعت مسلمًا البطين يحدث، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة قال غندر: وهي عريانة قال، وهب: كانت المرأة تطوف بالبيت وقد أخرجت صدرَها وما هنالك قال غندر: وتقول: « مَنْ يعيرني تِطْوافًا‍‍ » ، تجعله على فرْجها وتقول:

الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ

فأنـزل الله ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرَّوا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) « الآية » قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة, فأمرهم الله بالزينة و « الزينة » ، اللباس, وهو ما يواري السوءة, وما سوى ذلك من جيِّد البزِّ والمتاع فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وابن فضيل, عن عبد الملك, عن عطاء: ( خذوا زينتكم ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فأمروا أن يلبسوا ثيابهم.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن عبد الملك, عن عطاء, بنحوه.

حدثني عمرو قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا عبد الملك, عن عطاء في قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، البسوا ثيابكم.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: كان ناس يطوفون بالبيت عراة، فنهوا عن ذلك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فأمروا أن يلبسوا الثياب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: ما وارى العورة ولو عبَاءة.

حدثنا عمرو قال:حدثنا يحيى بن سعيد, وأبو عاصم, وعبد الله بن داود, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد في قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: ما يواري عورتك، ولو عباءة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، في قريش, لتركهم الثياب في الطواف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: الثياب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب, عن إبراهيم, عن نافع, عن ابن طاوس, عن أبيه: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: الشَّمْلة من الزينة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن طاوس: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: الثياب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد وأبو أسامة, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن سعيد بن جبير قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فطافت امرأة بالبيت وهي عريانة فقالت:

الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: كان حي من أهل اليمن، كان أحدهم إذا قدم حاجًّا أو معتمرًا يقول: « لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد دَنِسْتُ فيه » , فيقول: من يعيرني مئزرًا؟ فإن قدر على ذلك, وإلا طاف عريانًا, فأنـزل الله فيه ما تسمعون: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: قال الله: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) يقول: ما يواري العورة عند كل مسجد.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة, إلا الحُمْس، قريش وأحلافهم. فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثياب أحمس, فإنه لا يحل له أن يلبس ثيابه. فإن لم يجد من يعيره من الحمس، فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانًا. وإن طاف في ثياب نفسه، ألقاها إذا قضى طوافه، يحرِّمها، فيجعلها حرامًا عليه. فلذلك قال الله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .

وبه عن معمر قال، قال ابن طاوس, عن أبيه: الشَّملة، من الزينة.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، الآية, كان ناسٌ من أهل اليمن والأعراب إذا حجوا البيت يطوفون به عُراة ليلا فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم، ولا يتعرّوا في المسجد.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( خذوا زينتكم ) ، قال: زينتهم، ثيابهم التي كانوا يطرحونها عند البيت ويتعرّون.

وحدثني به مرة أخرى بإسناده, عن ابن زيد في قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، قال: كانوا إذا جاءوا البيت فطافوا به، حرمت عليهم ثيابهم التي طافوا فيها. فإن وجدوا مَنْ يُعيرهم ثيابًا, وإلا طافوا بالبيت عراة. فقال: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ، قال: ثياب الله التي أخرج لعباده، الآية.

وكالذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل قوله: ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سَرَفًا أو مَخِيلة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ، في الطعام والشراب.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرِّمون عليهم الوَدَك ما أقاموا بالموسم, فقال الله لهم: ( كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ، يقول: لا تسرفوا في التحريم.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) ، قال: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تسرفوا ) ، لا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.

وقوله ( إنه لا يحب المسرفين ) ، يقول: إن الله لا يحب المتعدِّين حدَّه في حلال أو حرام, الغالين فيما أحلّ الله أو حرم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال, ولكنه يحبّ أن يحلَّل ما أحل ويحرَّم ما حرم, وذلك العدل الذي أمر به.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يتعرّون عند طوافهم بالبيت, ويحرمون على أنفسهم ما أحللت لهم من طيبات الرزق: من حرَّم، أيها القوم، عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزيَّنوا بها وتتجملوا بلباسها, والحلال من رزق الله الذي رزق خلقه لمطاعمهم ومشاربهم.

واختلف أهل التأويل في المعنيّ: بـ « الطيبات من الرزق » ، بعد إجماعهم على أن « الزينة » ما قلنا.

فقال بعضهم: « الطيبات من الرزق » في هذا الموضع، اللحم. وذلك أنهم كانوا لا يأكلونه في حال إحرامهم.

ذكر من قال ذلك منهم:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، وهو الودَك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، الذي حرموا على أنفسهم. قال: كانوا إذا حجُّوا أو اعتمروا، حرموا الشاة عليهم وما يخرج منها.

وحدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل من حرم زينة الله ) إلى آخر الآية, قال: كان قوم يحرِّمون ما يخرج من الشاة، لبنها وسمنها ولحمها, فقال الله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، قال: والزينة من الثياب.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن رجل, عن الحسن قال: لما بعث محمدًا فقال: « هذا نبيي، هذا خياري, استنّوا به » ، خذوا في سَنَنه وسبيله، لم تغلق دونه الأبواب، ولم تُقَمْ دونه الحَجَبَة, ولم يُغْدَ عليه بالجفان، ولم يُرْجع عليه بها، وكان يجلس بالأرض, ويأكل طعامه بالأرض, ويلعق يده, ويلبس الغليظ, ويركب الحمار, ويُرْدِف بعده, وكان يقول: « مَنْ رغب عن سنتي فليس مني » . قال الحسن: فما أكثر الراغبين عن سنته، التاركين لها! ثم إنّ عُلُوجًا فُسَّاقًا, أكلة الربا والغُلول, قد سفَّههم ربي ومقتهم, زعموا أن لا بأس عليهم فيما أكلوا وشربوا، وزخرفوا هذه البيوت, يتأوّلون هذه الآية: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، وإنما جعل ذلك لأولياء الشيطان, قد جعلها ملاعبَ لبطنه وفرجه من كلام لم يحفظه سفيان.

وقال آخرون: بل عنى بذلك ما كانت الجاهلية تحرم من البحائر والسوائب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، وهو ما حرم أهل الجاهلية عليهم من أموالهم: البحيرة, والسائبة, والوصيلة, والحام.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، قال: إن الجاهلية كانوا يحرمون أشياءَ أحلها الله من الثياب وغيرها, وهو قول الله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا ، [ سورة يونس: 59 ] ، وهو هذا, فأنـزل الله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق )

 

القول في تأويل قوله : قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ

قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد لهؤلاء الذين أمرتك أن تقول لهم: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، إذ عَيُّوا بالجواب، فلم يدروا ما يجيبونك : زينة الله التي أخرج لعباده, وطيبات رزقه، للذين صدّقوا الله ورسوله, واتبعوا ما أنـزل إليك من ربك، في الدنيا, وقد شركهم في ذلك فيها من كفر بالله ورسوله وخالف أمر ربه, وهي للذين آمنوا بالله ورسوله خالصة يوم القيامة, لا يشركهم في ذلك يومئذ أحدٌ كفر بالله ورسوله وخالف أمر ربه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، يقول: شارك المسلمون الكفار في الطيبات, فأكلوا من طيبات طعامها, ولبسوا من خِيار ثيابها, ونكحوا من صالح نسائها, وخلصوا بها يوم القيامة.

وحدثني به المثنى مرة أخرى بهذا الإسناد بعينه, عن ابن عباس فقال: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ) ، يعني: يشارك المسلمون المشركين في الطيبات في الحياة الدنيا, ثم يُخْلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا, وليس للمشركين فيها شيء.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ، يقول: قل هي في الآخرة خالصة لمن آمن بي في الدنيا, لا يشركهم فيها أحدٌ في الآخرة. وذلك أن الزينة في الدنيا لكل بني آدم, فجعلها الله خالصة لأوليائه في الآخرة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سلمة بن نبيط, عن الضحاك: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، قال: اليهود والنصارى يشركونكم فيها في الدنيا, وهي للذين آمنوا خالصة يوم القيامة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، خالصةً للمؤمنين في الآخرة، لا يشاركهم فيها الكفار. فأما في الدنيا فقد شاركوهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، مَنْ عمل بالإيمان في الدنيا خلصت له كرامة الله يوم القيامة, ومَنْ ترك الإيمان في الدنيا قَدِم على ربّه لا عذرَ له.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السديّ: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ) ، يشترك فيها معهم المشركون ( خالصة يوم القيامة ) ، للذين آمنوا.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، يقول: المشركون يشاركون المؤمنين في الدنيا في اللباس والطعام والشراب, ويوم القيامة يَخْلُص اللباس والطعام والشراب للمؤمنين, وليس للمشركين في شيء من ذلك نصيبٌ.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: الدنيا يصيب منها المؤمن والكافر, ويخلص خيرُ الآخرة للمؤمنين, وليس للكافر فيها نصيب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، قال: هذه يوم القيامة للذين آمنوا, لا يشركهم فيها أهل الكفر، ويشركونهم فيها في الدنيا. وإذا كان يوم القيامة، فليس لهم فيها قليل ولا كثير.

وقال سعيد بن جبير في ذلك بما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسماعيل بن أبان، وحبويه الرازي أبو يزيد، عن يعقوب القمي, عن سعيد بن جبير: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، قال: ينتفعون بها في الدنيا، ولا يتبعهم إثمها.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « خالصة » .

فقرأ ذلك بعض قرأة المدينة: « خَالِصَةٌ » ، برفعها, بمعنى: قل هي خالصة للذين آمنوا.

وقرأه سائر قرأة الأمصار: ( خَالِصَةً ) ، بنصبها على الحال من « لهم » , وقد ترك ذكرها من الكلام اكتفاءً منها بدلالة الظاهر عليها, على ما قد وصفت في تأويل الكلام أن معنى الكلام: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة, وهي لهم في الآخرة خالصة. ومن قال ذلك بالنصب، جعل خبر « هي » في قوله: ( للذين آمنوا )

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصحة، قراءة من قرأ نصبًا, لإيثار العرب النصبَ في الفعل إذا تأخر بعد الاسم والصفة، وإن كان الرفع جائزًا, غير أن ذلك أكثر في كلامهم.

 

القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 32 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما بينت لكم الواجب عليكم في اللباس والزينة، والحلال من المطاعم والمشارب والحرام منها, وميزت بين ذلك لكم، أيها الناس, كذلك أبيِّن جميع أدلتي وحججي، وأعلامَ حلالي وحرامي وأحكامي، لقوم يعلمون ما يُبَيَّن لهم، ويفقهون ما يُمَيَّز لهم.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت, ويحرمون أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه: أيها القوم، إن الله لم يحرم ما تحرمونه, بل أحل ذلك لعباده المؤمنين وطيَّبه لهم، وإنما حرم ربِّي القبائح من الأشياء وهي « الفواحش » « ما ظهر منها » ، فكان علانية « وما بطن » ، منها فكان سرًّا في خفاء.

وقد روي عن مجاهد في ذلك ما:-

حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: « ما ظهر منها » ، طوافُ أهل الجاهلية عراة « وما بطن » ، الزنى.

وقد ذكرت اختلاف أهل التأويل في تأويل ذلك بالروايات فيما مضى، فكرهت إعادته.

وأما « الإثم » ، فإنه المعصية « والبغي » ، الاستطالة على الناس.

يقول تعالى ذكره: إنما حرم ربي الفواحش مع الإثم والبغي على الناس.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( والإثم والبغي ) ، أما « الإثم » فالمعصية و « البغي » ، أن يبغي على الناس بغير الحق.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا في قوله: ( ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي ) ، قال: نهى عن « الإثم » ، وهي المعاصي كلها وأخبر أن الباغيَ بَغْيُه كائنٌ على نفسه.

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 33 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: إنما حرم ربي الفواحش والشرك به، أن تعبدوا مع الله إلهًا غيره ( ما لم ينـزل به سلطانًا ) ، يقول: حرم ربكم عليكم أن تجعلوا معه في عبادته شِرْكًا لشيء لم يجعل لكم في إشراككم إياه في عبادته حجة ولا برهانًا, وهو « السلطان » ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ، يقول: وأن تقولوا إن الله أمركم بالتعرِّي والتجرُّد للطواف بالبيت, وحرم عليكم أكل هذه الأنعام التي حرمتموها وسيَّبتموها وجعلتموها وصائل وحوامي, وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرّمه، أو أمر به، أو أباحه, فتضيفوا إلى الله تحريمه وحَظْره والأمر به, فإن ذلك هو الذي حرمه الله عليكم دون ما تزعمون أن الله حرمه، أو تقولون إن الله أمركم به، جهلا منكم بحقيقة ما تقولون وتضيفونه إلى الله.

 

القول في تأويل قوله : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 34 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره تهدُّدًا للمشركين الذين أخبر جل ثناؤه عنهم أنهم كانوا إذا فعلوا فاحشة قالوا: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ووعيدًا منه لهم على كذبهم عليه، وعلى إصرارهم على الشرك به والمقام على كفرهم ومذكرًا لهم ما أحلّ بأمثالهم من الأمم الذين كانوا قبلهم : ( ولكل أمة أجل ) ، يقول: ولكل جماعة اجتمعت على تكذيب رُسل الله، وردِّ نصائحهم, والشرك بالله، مع متابعة ربهم حججه عليهم « أجل » , يعني: وقت لحلول العقوبات بساحتهم, ونـزول المثُلات بهم على شركهم ( فإذا جاء أجلهم ) ، يقول: فإذا جاء الوقت الذي وقّته الله لهلاكهم، وحلول العقاب بهم ( لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ، يقول: لا يتأخرون بالبقاء في الدنيا، ولا يُمَتَّعون بالحياة فيها عن وقت هلاكهم وحين حلول أجل فنائهم، ساعة من ساعات الزمان ( ولا يستقدمون ) ، يقول: ولا يتقدّمون بذلك أيضًا عن الوقت الذي جعله الله لهم وقتًا للهلاك.

 

القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 35 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره معرِّفًا خلقه ما أعدَّ لحزبه وأهل طاعته والإيمان به وبرسوله, وما أعدّ لحزب الشيطان وأوليائه والكافرين به وبرسله: ( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم ) ، يقول: إن يجئكم رسلي الذين أرسلهم إليكم بدعائكم إلى طاعتي، والانتهاء إلى أمري ونهيي « منكم » , يعني: من أنفسكم, ومن عشائركم وقبائلكم ( يقصون عليكم آياتي ) ، يقول: يتلون عليكم آيات كتابي, ويعرّفونكم أدلتي وأعلامي على صدق ما جاؤوكم به من عندي, وحقيقة ما دعوكم إليه من توحيدي ( فمن اتقى وأصلح ) ، يقول: فمن آمن منكم بما أتاه به رُسلي مما قص عليه من آياتي وصدَّق، واتقى الله فخافه بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه على لسان رسوله ( وأصلح ) ، يقول: وأصلح أعماله التي كان لها مفسدًا قبل ذلك من معاصي الله بالتحوُّب منها ( فلا خوف عليهم ) ، يقول: فلا خوف عليهم يوم القيامة من عقاب الله إذا وردوا عليه ( ولا هم يحزنون ) ، على ما فاتهم من دنياهم التي تركوها, وشهواتهم التي تجنَّبوها, اتباعًا منهم لنهي الله عنها، إذا عاينوا من كرامة الله ما عاينوا هنالك.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام أبو عبد الله قال، حدثنا هياج قال، حدثنا عبد الرحمن بن زياد, عن أبي سيّار السُّلَمي قال، إن الله جعل آدم وذريته في كفّه فقال: ( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، ثم نظر إلى الرسل فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [ سورة المؤمنون: 51- 52 ] ، ثم بَثَّهم.

فإن قال قائل: ما جواب قوله: ( إما يأتينكم رسل منكم ) ؟

قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك.

فقال بعضهم في ذلك: الجوابُ مضمرٌ, يدل عليه ما ظهر من الكلام, وذلك قوله: ( فمن اتقى وأصلح ) . وذلك لأنه حين قال: ( فمن اتقى وأصلح ) ، كأنه قال: فأطيعوهم.

وقال آخرون منهم: الجواب: « فمن اتقى » , لأن معناه: فمن اتقى منكم وأصلح. قال: ويدل على أنّ ذلك كذلك, تبعيضه الكلام, فكان في التبعيض اكتفاء من ذكر « منكم » .

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 36 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وأما من كذّب بإيتاء رسلي التي أرسلتها إليه، وجحد توحيدي، وكفر بما جاء به رسلي، واستكبر عن تصديق حُجَجي وأدلّتي ( فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، يقول: هم في نار جهنم ماكثون, لا يخرجون منها أبدًا.

 

القول في تأويل قوله : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فمن أخطأ فعلا وأجهلُ قولا وأبعد ذهابًا عن الحق والصواب ( ممن افترى على الله كذبًا ) ، يقول: ممن اختلق على الله زُورًا من القول, فقال إذا فعل فاحشة: إن الله أمرنا بها ( أو كذب بآياته ) ، يقول: أو كذب بأدلته وأعلامه الدّالة على وحدانيته ونبوّة أنبيائه, فجحد حقيقتها ودافع صحتها ( أولئك ) يقول: مَنْ فعل ذلك، فافترى على الله الكذب وكذب بآياته ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، يقول: يصل إليهم حظهم مما كتب الله لهم في اللوح المحفوظ.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة ذلك « النصيب » ، الذي لهم في « الكتاب » ، وما هو؟

فقال بعضهم: هو عذاب الله الذي أعدَّه لأهل الكفر به.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا مروان, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، أي من العذاب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن إسماعيل, عن أبي صالح, مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، يقول: ما كتب لهم من العذاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن كثير بن زياد, عن الحسن في قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: من العذاب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن جويبر, عن أبي سهل, عن الحسن, قال: من العذاب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن رجل, عن الحسن, قال: من العذاب.

وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما سبق لهم من الشقاء والسعادة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن سعيد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: من الشِّقوة والسعادة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، كشقي وسعيد.

حدثنا واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل, عن الحسن ابن عمرو الفقيمي, عن الحكم قال: سمعت مجاهدًا يقول: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: هو ما سبق.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، ما كتب لهم من الشقاوة والسعادة.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، ما كتب عليهم من الشقاوة والسعادة, كشقي وسعيد.

. . . . قال، حدثنا ابن المبارك, عن شريك, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، من الشقاوة والسعادة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير وابن إدريس, عن الحسن بن عمرو, عن الحكم, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما قد سبق من الكتاب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن فضيل بن مرزوق, عن عطية: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما سبق لهم في الكتاب.

. . . . قال، حدثنا سويد بن عمرو ويحيى بن آدم, عن شريك, عن سالم, عن سعيد: ( أولئك ينالهم نصيبهم ) ، قال: من الشقاوة والسعادة.

. . . . قال: حدثنا أبو معاوية, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ما قُضي أو قُدِّر عليهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، ينالهم الذي كتب عليهم من الأعمال.

حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن إسماعيل بن سميع, عن بكر الطويل, عن مجاهد في قول الله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: قوم يعملون أعمالا لا بُدَّ لهم من أن يعملوها.

وقال آخرون: معنى ذلك، أولئك ينالهم نصيبهم من كتابهم الذي كتب لهم أو عليهم، بأعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير وشر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، يقول: نصيبهم من الأعمال, من عمل خيرًا جُزي به, ومن عمل شرًّا جزي به.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) قال: من أحكام الكتاب، على قدر أعمالهم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ينالهم نصيبهم في الآخرة من أعمالهم التي عملوا وأسْلَفوا.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، أي: أعمالهم, أعمال السوء التي عملوها وأسلفوها.

حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، قال أبي: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، زعم قتادة: من أعمالهم التي عملوا.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، يقول: ينالهم نصيبهم من العمل. يقول: إن عمل من ذلك نصيبَ خير جُزِي خيرًا, وإن عمل شرًّا جُزِي مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك: ينالهم نصيبهم مما وُعِدوا في الكتاب من خير أو شر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس في هذه الآية: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: من الخير والشر.

. . . قال حدثنا زيد, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد قال: ما وُعدوا.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما وعدوا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما وعدوا فيه من خير أو شر.

. . . . قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن ليث, عن ابن عباس: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما وُعِدوا مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: ما وُعِدوا فيه من خير أو شر.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم، قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما وُعِدوا فيه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد في قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما وعدوا من خير أو شر.

حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن الحسن بن عمرو, عن الحكم, عن مجاهد في قول الله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ينالهم ما سبق لهم من الكتاب.

وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب الذي كتبه الله على من افترى عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، يقول: ينالهم ما كتب عليهم. يقول: قد كتب لمن يفتري على الله أنّ وجهه مسوَدٌّ.

وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما كتب لهم من الرزق والعمر والعمل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، مما كتب لهم من الرزق.

. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب, عن ابن لهيعة, عن أبي صخر, عن القرظي: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: عمله ورزقه وعمره.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: من الأعمال والأرزاق والأعمار, فإذا فني هذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، وقد فرغوا من هذه الأشياء كلها.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، مما كتب لهم من خير وشر في الدنيا، ورزق وعمل وأجل. وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، فأبان بإتباعه ذلك قولَه: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، أن الذي ينالهم من ذلك إنما هو ما كان مقضيًّا عليهم في الدنيا أن ينالهم, لأنه قد أخبر أن ذلك ينالهم إلى وقت مجيئهم رسلَه لتقبض أرواحهم. ولو كان ذلك نصيبهم من الكتاب، أو مما قد أعدّ لهم في الآخرة, لم يكن محدودًا بأنه ينالهم إلى مجيء رسل الله لوفاتهم، لأن رسل الله لا تجيئهم للوفاة في الآخرة, وأن عذابهم في الآخرة لا آخر له ولا انقضاء، فإن الله قد قضى عليهم بالخلود فيه. فبيِّنٌ بذلك أن معناه ما اخترنا من القول فيه.

 

القول في تأويل قوله : حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 37 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( حتى إذا جاءتهم رسلنا ) ، إلى أن جاءتهم رسلنا. يقول جل ثناؤه: وهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، أو كذبوا بآيات ربهم, ينالهم حظوظهم التي كتب الله لهم، وسبق في علمه لهم من رزق وعمل وأجل وخير وشر في الدنيا, إلى أن تأتيهم رسلنا لقبض أرواحهم. فإذا جاءتهم رسلنا، يعني ملك الموت وجنده ( يتوفونهم ) ، يقول: يستوفون عددهم من الدنيا إلى الآخرة ( قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله ) ، يقول: قالت الرسل: أين الذين كنتم تدعونهم أولياء من دون الله وتعبدونهم, لا يدفعون عنكم ما قد جاءكم من أمر الله الذي هو خالقكم وخالقهم، وما قد نـزل بساحتكم من عظيم البلاء؟ وهلا يُغيثونكم من كرب ما أنتم فيه فينقذونكم منه؟ فأجابهم الأشقياء فقالوا: ضَلَّ عنا أولياؤنا الذين كنا ندعو من دون الله. يعني بقوله: ( ضلوا ) ، جاروا وأخذوا غير طريقنا، وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا. يقول الله جل ثناؤه: وشهد القوم حينئذ على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بالله، جاحدين وحدانيته.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن قيله لهؤلاء المفترين عليه، المكذبين آياته يوم القيامة. يقول تعالى ذكره: قال لهم حين وردوا عليه يوم القيامة، ادخلوا، أيها المفترون على ربكم، المكذبون رسله، في جماعات من ضُرَبائكم ( قد خلت من قبلكم ) ، يقول: قد سلفت من قبلكم « من الجن والإنس في النار » ، ومعنى ذلك: ادخلوا في أمم هي في النار، قد خلت من قبلكم من الجن والإنس وإنما يعني بـ « الأمم » ، الأحزابَ وأهلَ الملل الكافرة ( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) ، يقول جل ثناؤه: كلما دخلت النارَ جماعةٌ من أهل ملة لعنت أختها, يقول: شتمت الجماعة الأخرى من أهل ملتها، تبرِّيًا منها.

وإنما عنى بـ « الأخت » ، الأخوة في الدين والملة، وقيل: « أختها » ، ولم يقل: « أخاها » , لأنه عنى بها « أمة » وجماعة أخرى, كأنه قيل: كلما دخلت أمة لعنت أمة أخرى من أهل ملتها ودينها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) ، يقول: كلما دخل أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك الدين, يلعن المشركون المشركين، واليهودُ اليهودَ، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوسُ المجوسَ, تلعن الآخرةُ الأولى.

 

القول في تأويل قوله : حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: حتى إذا تداركت الأمم في النار جميعًا, يعني اجتمعت فيها.

يقال: « قد ادَّاركوا » ، و « تداركوا » ، إذا اجتمعوا.

يقول: اجتمع فيها الأوَّلون من أهل الملل الكافرة والآخِرون منهم.

 

القول في تأويل قوله : قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ( 38 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن محاورة الأحزاب من أهل الملل الكافرة في النار يوم القيامة. يقول الله تعالى ذكره: فإذا اجتمع أهل الملل الكافرة في النار فادّاركوا, قالت أخرى أهل كل ملة دخلت النار الذين كانوا في الدنيا بعد أولى منهم تَقَدَّمتها وكانت لها سلفًا وإمامًا في الضلالة والكفر لأولاها الذين كانوا قبلهم في الدنيا: ربنا هؤلاء أضلونا عن سبيلك، ودعونا إلى عبادة غيرك، وزيَّنوا لنا طاعة الشيطان, فآتهم اليوم من عذابك الضعفَ على عذابنا، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قالت أخراهم » ، الذين كانوا في آخر الزمان « لأولاهم » ، الذين شرعوا لهم ذلك الدين ( ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار )

وأما قوله: ( قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) ، فإنه خبر من الله عن جوابه لهم, يقول: قال الله للذين يدعونه فيقولون: « ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار » : لكلكم, أوَّلكم وآخركم، وتابعوكم ومُتَّبَعوكم « ضعف » , يقول: مكرر عليه العذاب.

و « ضعف الشيء » ، مثله مرة.

وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( عذابًا ضعفًا من النار قال لكل ضعف ) ، مضعّف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال الله: ( لكل ضعف ) ، للأولى، وللآخرة ضعف.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان قال، حدثني غير واحد, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله: ( ضعفًا من النار ) ، قال: أفاعي.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله: ( فآتهم عذابًا ضعفًا من النار ) ، قال: حيّات وأفاعي.

وقيل: إن « المضَعَّف » ، في كلام العرب، ما كان ضعفين، و « المضاعف » ، ما كان أكثر من ذلك.

وقوله: ( ولكن لا تعلمون ) ، يقول: ولكنكم، يا معشر أهل النار, لا تعلمون ما قدْرُ ما أعدّ الله لكم من العذاب, فلذلك تسأل الضعفَ منه الأمةُ الكافرةُ الأخرى لأختها الأولى.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 39 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وقالت أولى كل أمة وملة سبقت في الدنيا، لأخراها الذين جاؤوا من بعدهم، وحَدَثوا بعد زمانهم فيها, فسلكوا سبيلهم واستنوا سنتهم: ( فما كان لكم علينا من فضل ) ، و قد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله جل ثناؤه بمعصيتنا إياه وكفرنا بآياته, بعدما جاءتنا وجاءتكم بذلك الرسل والنذر, فهل أنَبْتم إلى طاعة الله, وارتدعتم عن غوايتكم وضلالتكم؟ فانقضت حجة القوم وخُصِموا ولم يطيقوا جوابًا بأن يقولوا: « فضِّلنا عليكم إذ اعتبرنا بكم فآمنا بالله وصدقنا رسله » , قال الله لجميعهم: فذوقوا جميعكم، أيها الكفرة، عذابَ جهنم, بما كنتم في الدنيا تكسبون من الآثام والمعاصي, وتجترحون من الذنوب والإجرام.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عمران, عن أبي مجلز: ( وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ) ، قال: يقول: فما فَضْلكم علينا, وقد بُيِّن لكم ما صنع بنا، وحُذِّرتم؟

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل ) ، فقد ضللتم كما ضللنا.

وكان مجاهد يقول في هذا بما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن أبن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فما كان لكم علينا من فضل ) ، قال: من التخفيف من العذاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فما كان لكم علينا من فضل ) ، قال: من تخفيف.

وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد، قولٌ لا معنى له لأن قول القائلين: « فما كان لكم علينا من فضل » لمن قالوا ذلك، إنما هو توبيخ منهم على ما سلف منهم قبل تلك الحال, يدل على ذلك دخول « كان » في الكلام. ولو كان ذلك منهم توبيخًا لهم على قيلهم الذي قالوا لربهم: « آتهم عذابًا ضعفًا من النار » , لكان التوبيخ أن يقال: « فما لكم علينا من فضل، في تخفيف العذاب عنكم، وقد نالكم من العذاب ما قد نالنا » ، ولم يقل: « فما كان لكم علينا من فضل » .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا فلم يصدقوا بها، ولم يتبعوا رسلنا ( واستكبروا عنها ) ، يقول: وتكبروا عن التصديق بها وأنفوا من اتباعها والانقياد لها تكبرًا « لا تفتح لهم » ، لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم « أبواب السماء » , ولا يصعد لهم في حياتهم إلى الله قول ولا عمل, لأن أعمالهم خبيثة، وإنما يُرْفع الكلم الطيبُ والعملُ الصالح, كما قال جل ثناؤه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [ سورة فاطر: 10 ] .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) .

فقال بعضهم: معناه: لا تفتح لأرواح هؤلاء الكفار أبواب السماء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يعلى, عن أبي سنان, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: عنى بها الكفار، أنّ السماء لا تفتح لأرواحهم، وتفتح لأرواح المؤمنين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن أبي سنان, عن الضحاك قال، قال ابن عباس: تُفتح السماء لروح المؤمن, ولا تفتح لروح الكافر.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: إن الكافر إذا أُخِذ روحُه، ضربته ملائكة الأرض حتى يرتفع إلى السماء, فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء فهبط, فضربته ملائكة الأرض فارتفع, فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء الدنيا فهبط إلى أسفل الأرضين. وإذا كان مؤمنًا نفخ روحه, وفتحت له أبواب السماء, فلا يمرّ بملك إلا حيَّاه وسلم عليه، حتى ينتهي إلى الله, فيعطيه حاجته, ثم يقول الله: ردّوا روحَ عبدي فيه إلى الأرض, فإني قضيتُ من التراب خلقه, وإلى التراب يعود, ومنه يخرج.

وقال آخرون: معنى ذلك أنه لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاءٌ إلى الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن سفيان, عن ليث, عن عطاء, عن ابن عباس: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، لا يصعد لهم قولٌ ولا عمل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، يعني: لا يصعد إلى الله من عملهم شيء.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، يقول: لا تفتح لخير يعملون.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: لا يصعد لهم كلامٌ ولا عمل.

حدثنا مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا عبد الله بن داود قال، حدثنا شريك, عن منصور, عن إبراهيم, في قوله: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن سالم, عن سعيد: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سعيد: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: لا يرفع لهم عملٌ صالح ولا دعاء.

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم ولا لأعمالهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: لأرواحهم ولا لأعمالهم.

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا في تأويل ذلك ما اخترنا من القول، لعموم خبر الله جل ثناؤه أن أبواب السماء لا تفتح لهم. ولم يخصص الخبر بأنه يفتح لهم في شيء, فذلك على ما عمّه خبر الله تعالى بأنها لا تفتح لهم في شيء، مع تأييد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلنا في ذلك، وذلك ما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن الأعمش, عن المنهال, عن زاذان, عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبضَ روح الفاجر, وأنه يصعد بها إلى السماء, قال: فيصعدون بها، فلا يمرّون على ملإ من الملائكة إلا قالوا: « ما هذا الروح الخبيث » ؟ فيقولون: « فلان » ، بأقبح أسمائه التي كان يُدعى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له فلا يفتح له. ثم قرأ رسول الله: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط )

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن, عن ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الميت تحضره الملائكة, فإذا كان الرجلَ الصالحَ قالوا: « اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب, اخرجي حميدة, وأبشري برَوْح وريحان، وربّ غير غضبان » ، قال: فيقولون ذلك حتى يُعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها, فيقال: « من هذا » ؟ فيقولون: « فلان » . فيقال: « مرحبًا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب, ادخلي حميدة, وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان » ، فيقال لها حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله. وإذا كان الرجلَ السَّوْءَ قال: « اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, اخرجي ذميمة, وأبشري بحميم وغسَّاق، وآخر من شكله أزواج » ، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها, فيقال: « من هذا » ؟ فيقولون: « فلان » . فيقولون: « لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, ارجعي ذميمة، فإنه لم تفتح لك أبواب السماء » ، فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثني ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الكوفة: « لا يُفَتَحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء » ، بالياء من « يفتح » ، وتخفيف « التاء » منها, بمعنى: لا يفتح لهم جميعها بمرة واحدةٍ وفتحةٍ واحدة.

وقرأ ذلك بعض المدنيين وبعض الكوفيين: ( لا تُفَتَّحُ ) ، بالتاء وتشديد التاء الثانية, بمعنى: لا يفتح لهم باب بعد باب، وشيء بعد شيء.

قال أبو جعفر: والصواب في ذلك عندي من القول أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى. وذلك أن أرواح الكفار لا تفتح لها ولا لأعمالهم الخبيثة أبوابُ السماء بمرة واحدة، ولا مرة بعد مرة، وباب بعد باب. فكلا المعنيين في ذلك صحيح.

وكذلك « الياء » ، و « التاء » في « يفتح » ، و « تفتح » , لأن « الياء » بناء على فعل الواحد للتوحيد، و « التاء » لأن « الأبواب » جماعة, فيخبر عنها خبر الجماعة.

 

القول في تأويل قوله : وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( 40 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ولا يدخل هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها، الجنة التي أعدّها الله لأوليائه المؤمنين أبدًا, كما لا يلج الجمل في سمِّ الخياط أبدًا, وذلك ثقب الإبرة.

وكل ثقب في عين أو أنف أو غير ذلك, فإن العرب تسميه « سَمًّا » وتجمعه « سمومًا » ، و « السِّمام » , في جمع « السَّم » القاتل، أشهر وأفصح من « السموم » . وهو في جمع « السَّم » الذي هو بمعنى الثقب أفصح. وكلاهما في العرب مستفيض. وقد يقال لواحد « السموم » التي هي الثقوب « سَمٌّ » و « سُمٌّ » بفتح السين وضمها, ومن « السَّم » الذي بمعنى الثقب قول الفرزدق:

فَنَفَّسْــتُ عَـنْ سَـمَّيْهِ حَـتَّى تَنَفَّسَـا وَقُلْـتُ لَـهُ: لا تَخْـشَ شَـيْئًا وَرَائِيـا

يعني بسمِّيه، ثقبي أنفه.

وأما « الخياط » فإنه « المخيط » ، وهي الإبرة. قيل لها: « خِيَاط » و « مِخْيَط » , كما قيل: « قِناع » و « مِقْنع » , و « إزار » و « مِئْزر » , و « قِرام » و « مِقْرَم » , و « لحاف » و « مِلْحف » .

وأما القرأة من جميع الأمصار, فإنها قرأت قوله: ( فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) ، بفتح « السين » , وأجمعت على قراءة: « الجَمَلُ » بفتح « الجيم » ، و « الميم » وتخفيف ذلك.

وأما ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير, فإنه حكي عنهم أنهم كانوا يقرؤون ذلك: « الجُمَّلُ » ، بضم « الجيم » وتشديد « الميم » , على اختلاف في ذلك عن سعيد وابن عباس.

فأما الذين قرؤوه بالفتح من الحرفين والتخفيف, فإنهم وجهوا تأويله إلى « الجمل » المعروف، وكذلك فسروه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن عبد الله في قوله: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: الجمل ابن الناقة, أو: زوج الناقة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي حصين, عن إبراهيم, عن عبد الله: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: « الجمل » ، زوج الناقة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي حصين, عن إبراهيم, عن عبد الله, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي, عن هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن عبد الله قال: « الجمل » ، زوج الناقة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن عبد الله، مثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا قرة قال، سمعت الحسن يقول: « الجمل » ، الذي يقوم في المِرْبد.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: حتى يدخل البعير في خُرت الإبرة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي, عن هشيم, عن عباد بن راشد, عن الحسن قال: هو الجمل! فلما أكثروا عليه قال: هو الأشتر.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن عباد بن راشد, عن الحسن, مثله.

حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن يحيى قال: كان الحسن يقرؤها: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: فذهب بعضهم يستفهمه, قال: أشتر، أشتر.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد, عن شعيب بن الحبحاب, عن أبي العالية: ( حتى يلج الجمل ) ، قال: الجمل الذي له أربع قوائم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن أبي حصين أو: حصين , عن إبراهيم, عن ابن مسعود في قوله: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: زوج الناقة, يعني الجمل.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك أنه كان يقرأ: ( الجمل ) ، وهو الذي له أربع قوائم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو تميلة, عن عبيد, عن الضحاك: ( حتى يلج الجمل ) ، الذي له أربع قوائم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب, عن قرة, عن الحسن: ( حتى يلج الجمل ) ، قال: الذي بالمربد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: « حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ الأَصْفَرُ » .

حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا يحيى بن سليم قال، حدثنا عبد الكريم بن أبي المخارق, عن الحسن في قوله: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: الجمل ابن الناقة أو بَعْلُ الناقة.

وأما الذين خالفوا هذه القراءة فإنهم اختلفوا.

فروي عن ابن عباس في ذلك روايتان: إحداهما الموافقة لهذه القراءة وهذا التأويل.

* ذكر الرواية بذلك عنه:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، والجمل: ذو القوائم.

وذكر أن ابن مسعود قال ذلك.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، وهو الجمل العظيم، لا يدخل في خُرْت الإبرة، من أجل أنه أعظم منها.

والرواية الأخرى ما:-

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » ، قال: هو قَلْس السفينة.

حدثني عبد الأعلى بن واصل قال، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل, عن خالد بن عبد الله الواسطي, عن حنظلة السدوسي, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه كان يقرأ: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » ، يعني الحبل الغليظ فذكرت ذلك للحسن فقال: ( حتى يلجَ الجمَل ) ، قال عبد الأعلى: قال أبو غسان, قال خالد: يعني: البعير.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن فضيل, عن مغيرة, عن مجاهد, عن ابن عباس أنه قرأ: « الجُمَّلُ » ، مثقَّلة, وقال: هو حبل السفينة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي, عن هشيم, عن مغيرة, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « الجمَّل » ، حبال السفن.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن ابن مبارك, عن حنظلة, عن عكرمة, عن ابن عباس: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » ، قال: الحبل الغليظ.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن مجاهد, عن ابن عباس: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » قال: هو الحبل الذي يكون على السفينة.

واختُلِف عن سعيد بن جبير أيضًا في ذلك, فروي عنه روايتان إحداهما مثل الذي ذكرنا عن ابن عباس: بضم « الجيم » وتثقيل « الميم » .

* ذكر الرواية بذلك عنه:

حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا حسين المعلم, عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أنه قرأها: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ » ، يعني قُلُوس السفن, يعني: الحبال الغلاظ.

والأخرى منهما بضم « الجيم » وتخفيف « الميم » .

* ذكر الرواية بذلك عنه:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عمرو, عن سالم بن عجلان الأفطس قال، قرأت على أبي: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلَ » فقال: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَلُ » خفيفة، هو حبل السفينة هكذا أقرأنيها سعيد بن جبير.

وأما عكرمة, فإنه كان يقرأ ذلك: « الْجُمَّلُ » ، بضم « الجيم » وتشديد « الميم » , وبتأوّله كما:-

حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبو تميلة, عن عيسى بن عبيد قال: سمعت عكرمة يقرأ: « الْجُمَّلُ » مثقلة, ويقول: هو الحبل الذي يصعد به إلى النخل.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا كعب بن فروخ قال، حدثنا قتادة, عن عكرمة, في قوله: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » ، قال: الحبل الغليظ في خرق الإبرة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » ، قال: حبل السفينة في سمّ الخياط.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: سمعت مجاهدًا يقول: الحبل من حبال السفن.

وكأنَّ من قرأ ذلك بتخفيف « الميم » وضم « الجيم » ، على ما ذكرنا عن سعيد بن جبير، على مثال « الصُّرَد » و « الجُعَل » ، وجهه إلى جماع « جملة » من الحبال جمعت « جُمَلا » , كما تجمع « الظلمة » ، « ظُلَمًا » ، و « الخُرْبة » « خُرَبًا » .

وكان بعض أهل العربية ينكر التشديد في « الميم » ويقول: إنما أراد الراوي « الجُمَل » بالتخفيف, فلم يفهم ذلك منه فشدّده.

وحدثت عن الفراء, عن الكسائي أنه قال: الذي رواه عن ابن عباس كان أعجميًّا.

وأما من شدد « الميم » وضم « الجيم » فإنه وجهه إلى أنه اسم واحد، وهو الحبل، أو الخيط الغليظ.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، ما عليه قرأة الأمصار، وهو: ( حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) ، بفتح « الجيم » و « الميم » من « الجمل » وتخفيفها, وفتح « السين » من « السم » , لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار, وغير جائز مخالفة ما جاءت به الحجة متفقة عليه من القراءة.

وكذلك ذلك في فتح « السين » من قوله: ( سَمِّ الخياط ) .

وإذ كان الصواب من القراءة ذلك, فتأويل الكلام: ولا يدخلون الجنة حتى يلج و « الولوج » الدخول، من قولهم: « ولج فلان الدار يلِجُ ولوجًا » , بمعنى: دخل الجملُ في سم الإبرة، وهو ثقبها

( وكذلك نجزي المجرمين ) ، يقول: وكذلك نثيب الذين أجرَموا في الدنيا ما استحقوا به من الله العذاب الأليم في الآخرة.

وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله: ( سم الخياط ) ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة وابن مهدي وسويد الكلبي, عن حماد بن زيد, عن يحيى بن عتيق قال: سألت الحسن عن قوله: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: ثقب الإبرة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا كعب بن فروخ قال، حدثنا قتادة, عن عكرمة: ( في سم الخياط ) ، قال: ثقب الإبرة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن, مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( في سم الخياط ) ، قال: جُحْر الإبرة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( في سم الخياط ) ، يقول: جُحْر الإبرة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( في سم الخياط ) ، قال: في ثقبه.

 

القول في تأويل قوله : لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( 41 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: لهؤلاء الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها ( من جهنم مهاد ) .

وهو ما امتهدوه مما يقعد عليه ويضطجع، كالفراش الذي يفرش، والبساط الذي يبسط.

( ومن فوقهم غواش ) .

وهو جمع « غاشية » , وذلك ما غَشَّاهم فغطاهم من فوقهم.

وإنما معنى الكلام: لهم من جهنم مهاد من تحتهم فُرُش، ومن فوقهم منها لُحُف, وإنهم بين ذلك.

وبنحو ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: ( لهم من جهنم مهاد ) ، قال: الفراش ( ومن فوقهم غواش ) ، قال: اللُّحُف

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن أبي روق, عن الضحاك: ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) ، قال: « المهاد » ، الفُرُش, و « الغواشي » ، اللحف.

حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) ، أما « المهاد » كهيئة الفراش و « الغواشي » ، تتغشاهم من فوقهم.

وأما قوله ( وكذلك نجزي الظالمين ) ، فإنه يقول: وكذلك نثيب ونكافئ من ظلم نفسه، فأكسبها من غضب الله ما لا قبل لها به بكفره بربه، وتكذيبه أنبياءه.

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 42 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: والذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به من وحي الله وتنـزيله وشرائع دينه, وعملوا ما أمرهم الله به فأطاعوه، وتجنبوا ما نهاهم عنه ( لا نكلف نفسًا إلا وسعها ) ، يقول: لا نكلف نفسًا من الأعمال إلا ما يسعها فلا تحرج فيه ( أولئك ) ، يقول: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( أصحاب الجنة ) ، يقول: هم أهل الجنة الذين هم أهلها، دون غيرهم ممن كفر بالله, وعمل بسيئاتهم ( هم فيها خالدون ) ، يقول هم في الجنة ماكثون, دائمٌ فيها مكثهم، لا يخرجون منها، ولا يُسلبون نعيمها.

 

القول في تأويل قوله : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وَصَف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة, ما فيها من حقد وغِمْرٍ وعَداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض, فجعلهم في الجنة إذا أدخلهموها على سُرُر متقابلين, لا يحسد بعضهم بعضًا على شيء خصَّ الله به بعضهم وفضّله من كرامته عليه, تجري من تحتهم أنهار الجنة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: ( ونـزعنا ما في صدورهم من غل ) ، قال: العداوة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن سعيد بن بشير, عن قتادة: ( ونـزعنا ما في صدورهم من غل ) ، قال: هي الإحَن.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك, عن ابن عيينة, عن إسرائيل أبي موسى, عن الحسن, عن علي قال: فينا والله أهلَ بدر نـزلت: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [ سورة الحجر: 47 ] .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن إسرائيل قال: سمعته يقول: قال علي عليه السلام: فينا والله أهلَ بدر نـزلت: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير، من الذين قال الله تعالى فيهم: ( وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) ، رضوان الله عليهم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ونـزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار ) ، قال: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا, وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان, فشربوا من إحداهما, فينـزع ما في صدورهم من غِلّ, فهو « الشراب الطهور » ، واغتسلوا من الأخرى, فجرت عليهم « نَضْرة النعيم » , فلم يشعَثُوا ولم يتَّسخوا بعدها أبدًا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن الجريري, عن أبي نضرة قال، يحبس أهل الجنة دون الجنة حتى يقضى لبعضهم من بعض, حتى يدخلوا الجنة حين يدخلونها ولا يطلب أحدٌ منهم أحدًا بقلامة ظُفُرٍ ظلمها إياه. ويحبس أهل النار دون النار حتى يقضى لبعضهم من بعض, فيدخلون النار حين يدخلونها ولا يطلب أحدٌ منهم أحدًا بقُلامة ظفر ظلمها إياه.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حين أدخلوا الجنة, ورأوا ما أكرمهم الله به من كرامته, وما صرف عنهم من العذاب المهين الذي ابتلي به أهل النار بكفرهم بربهم، وتكذيبهم رُسله: ( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) ، يقول: الحمد لله الذي وفقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله، وصرف عذابه عنا ( وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ، يقول: وما كنا لنرشد لذلك، لولا أن أرشدنا الله له ووفقنا بمنّه وطَوْله، كما:-

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا الأعمش, عن أبي صالح, عن [ أبي سعيد ] قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل أهل النار يرى منـزله من الجنة, فيقولون: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ , فتكون عليهم حسرة. وكل أهل الجنة يرى منـزله من النار, فيقولون: « لولا أن هدانا الله » ! فهذا شكرهم.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت أبا إسحاق يحدِّث عن عاصم بن ضمرة, عن علي قال، ذكر عمر لشيء لا أحفظه , ثم ذكر الجنة فقال: يدخلون، فإذا شجرة يخرج من تحت ساقها عينان. قال: فيغتسلون من إحداهما, فتجري عليهم نضرة النعيم, فلا تشعَث أشعارهم ولا تغبرُّ أبشارهم. ويشربون من الأخرى, فيخرج كل قذًى وقذر وبأس في بطونهم. قال، ثم يفتح لهم باب الجنة, فيقال لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، قال: فتستقبلهم الوِلدان, فيحفّون بهم كما تحفّ الولدان بالحميم إذا جاء من غيبته. ثم يأتون فيبشرون أزواجهم, فيسمونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم. فيقلن: أنت رأيته! قال: فيستخفهنَّ الفرَح, قال: فيجئن حتى يقفن على أُسْكُفَّة الباب. قال: فيجيئون فيدخلون, فإذا أسُّ بيوتهم بِجَندل اللؤلؤ, وإذا صُرُوح صفر وخضر وحمر ومن كل لون, وسُرُر مرفوعة, وأكواب موضوعة, ونمارق مصفوفة, وزرِابيُّ مبثوثة. فلولا أن الله قدَّرها، لالْتُمِعَتْ أبصارهم مما يرون فيها. فيعانقون الأزواج, ويقعدون على السرر, ويقولون: ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ) ، الآية.

 

القول في تأويل قوله : لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنهم يقولون عند دخولهم الجنة، ورؤيتهم كرامة الله التي أكرمهم بها, وهو أنّ أعداء الله في النار: والله لقد جاءتنا في الدنيا، وهؤلاء الذين في النار، رسل ربنا بالحق من الأخبار عن وعد الله أهلَ طاعته والإيمان به وبرسله، ووعيده أهلَ معاصيه والكفر به.

وأما قوله: ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) ، فإن معناه: ونادى منادٍ هؤلاء الذين وصف الله صفتهم، وأخبر عما أعدّ لهم من كرامته: أنْ يا هؤلاء، هذه تلكم الجنة التي كانت رسلي في الدنيا تخبركم عنها, أورَثكموها الله عن الذين كذبوا رسله, لتصديقكم إياهم وطاعتكم ربكم. وذلك هو معنى قوله: ( بما كنتم تعملون ) .

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) ، قال: ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منـزل، فإذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهل النار النارَ, ودخلوا منازلهم, رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها, فقيل لهم: « هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله » , ثم يقال: « يا أهل الجنة، رِثُوهم بما كنتم تعملون » ، فتُقْسم بين أهل الجنة منازلهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن سعد أبو داود الحفري, [ عن سعيد بن بكير ] , عن سفيان الثوري, عن أبي إسحاق, عن الأغرّ: ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) ، قال: نودوا أنْ صِحُّوا فلا تسقموا، واخلُدوا فلا تموتوا، وانعموا فلا تَبْأسوا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن الأغر, عن أبي سعيد: ( ونودوا أن تلكم الجنة ) ، الآية, قال: ينادي منادٍ: أن لكم أنْ تصحُّوا فلا تسقموا أبدًا.

واختلف أهل العربية في « أنْ » التي مع « تلكم » .

فقال بعض نحويي البصرة: هي « أنّ » الثقيلة، خففت وأضمر فيها, ولا يستقيم أن تجعلها الخفيفة، لأن بعدها اسمًا, والخفيفة لا تليها الأسماء, وقد قال الشاعر:

فِـي فِتْيَـةٍ كَسُـيُوفِ الهِنْـد, قَدْ عَلِمُوا أنْ هَـالِكٌ كُـلُّ مَـنْ يَحْـفَى وَيَنْتَعِـلُ

وقال آخر:

أُكَاشِـــرُهُ وَأَعْلَـــمُ أَنْ كِلانَـــا عَـلَى مَـا سَـاءَ صَاحِبَـهُ حَـرِيصُ

قال: فمعناه: أنه كِلانا. قال: ويكون كقوله: أَنْ قَدْ وَجَدْنَا ، في موضع « أي » ؛ وقوله: أَنْ أَقِيمُوا ، [ سورة الشورى: 13 ] ، ولا تكون « أن » التي تعمل في الأفعال, لأنك تقول: « غاظني أن قام » , و « أن ذهب » , فتقع على الأفعال، وإن كانت لا تعمل فيها. وفي كتاب الله: وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ سورة ص: 6 ] ، أي: امشوا.

وأنكر ذلك من قوله هذا بعض أهل الكوفة, فقال: غير جائز أن يكون مع « أن » في هذا الموضع « هاء » مضمرة, لأن « أن » دخلت في الكلام لتَقِيَ ما بعدها. قال: « وأن » هذه التي مع « تلكم » هي الدائرة التي يقع فيها ما ضارع الحكاية, وليس بلفظ الحكاية, نحو: « ناديت أنك قائم, » و « أنْ زيد قائم » و « أنْ قمت » , فتلي كلَّ الكلام, وجعلت « أن » وقاية, لأن النداء يقع على ما بعده, وسلم ما بعد « أن » كما سلم ما بعد « القول » . ألا ترى أنك تقول: « قلت: زيد قائم » , و « قلت: قام » , فتليها ما شئت من الكلام؟ فلما كان النداء بمعنى « الظن » وما أشبهه من « القول » سلم ما بعد « أن » , ودخلت « أن » وقاية. قال: وأما « أي » ، فإنها لا تكون على « أن » لا يكون « أي » جواب الكلام, و « أن » تكفي من الاسم.

 

القول في تأويل قوله : وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 44 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى أهلُ الجنة أهلَ النار بعد دخولهموها: يا أهل النار، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا في الدنيا على ألسن رسله، من الثواب على الإيمان به وبهم، وعلى طاعته, فهل وجدتم ما وعدنا ربكم على ألسنتهم على الكفر به وعلى معاصيه من العقاب؟ فأجابهم أهل النار: بأنْ نعم, قد وجدنا ما وعد ربنا حقًّا، كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا قالوا نعم ) ، قال: وجد أهل الجنة ما وُعدوا من ثواب, وأهل النار ما وُعدوا من عقاب.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا ) ، وذلك أن الله وعد أهل الجنة النعيم والكرامة وكلَّ خير علمه الناس أو لم يعلموه, ووعدَ أهل النار كلَّ خزي وعذاب علمه الناس أو لم يعلموه، فذلك قوله: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ، [ سورة ص: 58 ] . قال: فنادى أصحاب الجنة أصحابَ النار أنْ قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ قالوا: نعم. يقول: من الخزي والهوان والعذاب. قال أهل الجنة: فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا من النعيم والكرامة ( فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ) .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( قالوا نعم ) .

فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة: ( قَالُوا نَعَمْ ) ، بفتح العين من « نعم » .

ورُوِي عن بعض الكوفيين أنه قرأ: « قَالُوا نَعِمْ » بكسر « العين » , وقد أنشد بيتا لبني كلب:

نَعِــمْ, إِذَا قالَهَــا, مِنْــهُ مُحَقَّقَـةٌ وَلاتَخِيبُ « عَسَــى » مِنْــهُ وَلا قَمـنُ

بكسر « نعم » .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا ( نَعَمْ ) بفتح « العين » , لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار، واللغة المشهورة في العرب.

وأما قوله: ( فأذن مؤذن بينهم ) ، يقول: فنادى مناد, وأعلم مُعْلِمٌ بينهم ( أن لعنة الله على الظالمين ) ، يقول: غضب الله وسخطه وعقوبته على مَنْ كفر به.

وقد بينا القول في « أنّ » إذا صحبت من الكلام ما ضارع الحكاية، وليس بصريح الحكاية, بأنها تشددها العرب أحيانًا، وتوقع الفعل عليها فتفتحها وتخففها أحيانًا, وتعمل الفعل فيها فتنصبها به، وتبطل عملها عن الاسم الذي يليها، فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإذ كان ذلك كذلك, فسواء شُدِّدت « أن » أو خُفِّفت في القراءة, إذ كان معنى الكلام بأيّ ذلك قرأ القارئ واحدًا, وكانتا قراءتين مشهورتين في قرأة الأمصار.

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ( 45 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: إن المؤذن بين أهل الجنة والنار يقول: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ، الذين كفروا بالله وصدّوا عن سبيله ( ويبغونها عوجًا ) ، يقول: حاولوا سبيل الله وهو دينه « أن يغيروه ويبدِّلوه عما جعله الله له من استقامته » ( وهم بالآخرة كافرون ) ، يقول: وهم لقيام الساعة والبعث في الآخرة والثواب والعقاب فيها جاحدون.

والعرب تقول للميل في الدِّين والطريق: « عِوَج » بكسر « العين » , وفي ميل الرجل على الشيء والعطف عليه: « عاجَ إليه يَعُوج عِيَاجًا وعَوَجًا وعِوَجًا » , بالكسر من « العين » والفتح, كما قال الشاعر:

قِفَــا نَسْــأَلْ مَنَــازِلَ آلِ لَيْــلى عَــلَى عِــوَجٍ إلَيْهَــا وَانْثِنَــاءِ

ذكر الفراء أن أبا الجرّاح أنشده إياه بكسر العين من « عوج » ، فأما ما كان خلقة في الإنسان, فإنه يقال فيه: « عَوَج ساقه » , بفتح العين.

 

القول في تأويل قوله : وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وبينهما حجاب ) ، وبين الجنة والنار حجاب, يقول: حاجز, وهو: السور الذي ذكره الله تعالى فقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، [ سورة الحديد: 13 ] . وهو « الأعراف » التي يقول الله فيها: ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ ) ، كذلك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد قال: « الأعراف » ، حجاب بين الجنة والنار.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وبينهما حجاب ) ، وهو « السور » , وهو « الأعراف » .

وأما قوله: ( وعلى الأعراف رجال ) ، فإن « الأعراف » جمع، واحدها « عُرْف » , وكل مرتفع من الأرض عند العرب فهو « عُرْف » , وإنما قيل لعُرف الديك « عرف » , لارتفاعه على ما سواه من جسده، ومنه قول الشماخ بن ضرار:

وَظَلًّــتْ بِــأَعْرَافٍ تَغَـالَى, كَأَنَّهَـا رِمَـاحٌ نَحَاهَـا وِجْهَـةَ الـرِّيحِ رَاكِزُ

يعني بقوله: « بأعراف » ، بنشوز من الأرض، ومنه قول الآخر:

كُـــلُّ كِنَـــازٍ لَحْمُــهُ نِيَــافِ كَــالْعَلَمِ الْمُــوفِي عَـلَى الأعْـرَافِ

وكان السدي يقول: إنما سمي « الأعراف » أعرافًا, لأن أصحابه يعرفون الناس.

حدثني بذلك محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع, قال:حدثنا ابن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد, سمع ابن عباس يقول: « الأعراف » ، هو الشيء المشرف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي, عن سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « الأعراف » ، سور كعرف الديك.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس, مثله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « الأعراف » ، حجاب بين الجنة والنار، سور له باب قال أبو موسى: وحدثني عبيد الله بن أبي يزيد: أنه سمع ابن عباس يقول: إن الأعراف تَلٌّ بين الجنة والنار، حُبس عليه ناسٌ من أهل الذنوب بين الجنة والنار.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: « الأعراف » ،حجاب بين الجنة والنار, سور له باب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال: « الأعراف » ، سور بين الجنة والنار.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: « الأعراف » ، سور بين الجنة والنار.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وعلى الأعراف رجال ) ، يعني بالأعراف: السور الذي ذكر الله في القرآن، وهو بين الجنة والنار.

||

حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « الأعراف » ، سور له عُرْف كعرف الديك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر قال: « الأعراف » ، سور بين الجنة والنار.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: « الأعراف » ، السور الذي بين الجنة والنار.

واختلف أهل التأويل في صفة الرجال الذين أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم على الأعراف، وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك.

فقال بعضهم: هم قوم من بني آدم، استوت حسناتهم وسيئاتهم, فجعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء, ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال، قال الشعبي: أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش, وإذا هما قد ذكرَا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذَكَرا, فقلت لهما: إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات ! فقلت: إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال: هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيِّئاتهم عن الجنة, فإذا صُرفت أبصارُهم تلقاء أصحاب النار قالوا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . فبينا هم كذلك, اطّلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال: اذهبوا وادخلوا الجنة, فإني قد غفرت لكم.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين, عن الشعبي, عن حذيفة, أنه سئل عن أصحاب الأعراف, قال فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة, وخلّفت بهم حسناتهم عن النار. قال: فوُقِفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وعمران بن عيينة, عن حصين, عن عامر, عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قومٌ كانت لهم ذنوب وحسنات, فقصرت بهم ذنوبهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار, فهم كذلك حتى يقضي الله بين خلقه، فينفذ فيهم أمره.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن جابر, عن الشعبي, عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فيقول: ادخلوا الجنة بفضلي ومغفرتي, لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن يونس بن أبي إسحاق, عن عامر, عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار, وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير, وهو يحدّث ذلك عن ابن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة, فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة, ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ثم قرأ قول الله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، [ سورة الأعراف: 8- 9 ] . ثم قال: إن الميزان يخفّ بمثقال حبة ويرجح. قال: فمن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط, ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار, فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظرُوا أصحاب النار قالوا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ سورة الأعراف: 47 ] ، فيتعوذون بالله من منازلهم، قال: فأما أصحاب الحسنات, فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم, ويعطى كل عبد يومئذ نورًا، وكل أمَةٍ نورًا. فإذا أتوا على الصراط سَلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون, قالوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا . وأما أصحاب الأعراف, فإن النور كان في أيديهم فلم ينـزع من أيديهم, فهنالك يقول الله: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ، فكان الطمع دخولا. قال: فقال ابن مسعود: على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر, وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة. ثم يقول: هلك من غلب وُحْدَانُه أعشارَه.

حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع قال، أخبرني ابن وهب قال، أخبرني عيسى الحنّاط، عن الشعبي, عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار, وهم آخر من يدخل الجنة, قد عرَفوا أهل الجنة وأهل النار.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام, عن قتادة قال: قال ابن عباس: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم، ولا سيئاتهم على حسناتهم.

حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عبد الله بن الحارث, عن ابن عباس قال: « الأعراف » ، سور بين الجنة والنار, وأصحاب الأعراف بذلك المكان, حتى إذا بَدَا لله أن يعافيهم, انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له: « الحياة » ، حافتاه قَصَبُ الذهب، مكلَّل باللؤلؤ، ترابه المسك, فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم، ويبدو في نحورهم شامَةٌ بيضاء يعرفون بها, حتى إذا صلحت ألوانهم، أتى بهم الرحمنُ فقال: تمنوا ما شئتم ! قال: فيتمنون, حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم: لكم الذي تمنيتم ومثله سبعين مرة‍‍! فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها, يسمَّون مساكين الجنة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حبيب, عن مجاهد, عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب الأعراف، يؤمر بهم إلى نهر يقال له: « الحياة » , ترابه الوَرْس والزعفران, وحافتاه قَصَبُ اللؤلؤ قال: وأحسبه قال: مكلل باللؤلؤ وقال: فيغتسلون فيه, فتبدو في نحورهم شامة بيضاء، فيقال لهم: تمنوا ! فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفًا! وإنهم مساكين أهل الجنة قال حبيب: وحدثني رجل: أنهم استوت حسناتهم وسيئاتهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن مجاهد, عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب الأعراف، ينتهى بهم إلى نهر يقال له: « الحياة » , حافتاه قَصَب من ذهب قال سفيان: أراه قال : مكلل باللؤلؤ قال: فيغتسلون منه اغتسالةً فتبدو في نحورهم شامة بيضاء, ثم يعودون فيغتسلون، فيزدادون. فكلما اغتسلوا ازدادت بياضًا, فيقال لهم: تمنوا ما شئتم ! فيتمنون ما شاءوا، فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفًا ! قال: فهم مساكين أهل الجنة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن حصين, عن الشعبي, عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فهم على سور بين الجنة والنار: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان ابن عباس يقول: « الأعراف » ، بين الجنة والنار, حبس عليه أقوام بأعمالهم. وكان يقول: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم, ولا سيئاتهم على حسناتهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال، قال ابن عباس: أهل الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.

. . . . وقال، حدثنا يحيى بن يمان, عن شريك, عن منصور, عن سعيد بن جبير قال: أصحاب الأعراف، استوت أعمالهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فوُقِفوا هنالك على السور.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سفيع، أو سميع قال أبو جعفر: كذا وجدت في كتاب سفيع ، عن أبي علقمة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.

وقال آخرون: كانوا قتلوا في سبيل الله عصاة لآبائهم في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن أبي مسعر, عن شرحبيل بن سعد قال: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد, عن سعيد, عن يحيى بن شبل: أن رجلا من بني النضير أخبره، عن رجل من بني هلال: أن أباه أخبره: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم غزوا في سبيل الله عصاةً لآبائهم, فقتلوا, فأعتقهم الله من النار بقتلهم في سبيله, وحُبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم, فهم آخر من يدخل الجنة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن أبي معشر, عن يحيى بن شبل مولى بني هاشم, عن محمد بن عبد الرحمن, عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف, فقال: قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم, فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار, ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة.

وقال آخرون: بل هم قوم صالحون فقهاء علماء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد قال: أصحاب الأعراف، قوم صالحون فقهاء علماء.

وقال آخرون: بل هم ملائكة وليسوا ببني آدم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي مجلز قوله: ( وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، إلى قوله: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، قال: فنادى أصحاب الأعراف رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ . أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، قال: فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عمران قال: قلت لأبي مجلز: يقول الله: ( وعلى الأعراف رجال ) ، وتزعم أنتَ أنهم الملائكة؟ قال فقال: إنهم ذكور، وليسوا بإناث.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز: ( وعلى الأعراف رجال ) ، قال: رجال من الملائكة، يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم, أهل النار وأهل الجنة, وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن أبي عدي, عن التيمي, عن أبي مجلز, بنحوه.

. . . . وقال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن التيمي, عن أبي مجلز قال: أصحاب الأعراف، الملائكة.

حدثني المثنى قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، أخبرنا التيمي, عن أبي مجلز: ( وعلى الأعراف رجال ) ، قال: هم الملائكة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز: ( وعلى الأعراف رجال ) ، قال: هم الملائكة. قلت: يا أبا مجلز، يقول الله تبارك وتعالى: « رجال » , وأنت تقول: ملائكة؟ قال: إنهم ذُكران ليسوا بإناث.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز في قوله: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: الملائكة. قال قلت: يقول الله « رجال » ؟ قال: الملائكة ذكور.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال كما قال الله جل ثناؤه فيهم: هم رجال يعرفون كُلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم, ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح سنده ،ولا أنه متفق على تأويلها, ولا إجماع من الأمة على أنهم ملائكة.

فإذ كان ذلك كذلك, وكان ذلك لا يدرك قياسًا, وكان المتعارف بين أهل لسان العرب أن « الرجال » اسم يجمع ذكور بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق غيرهم, كان بيِّنًا أن ما قاله أبو مجلز من أنهم ملائكة، قولٌ لا معنى له, وأن الصحيح من القول في ذلك ما قاله سائر أهل التأويل غيره. هذا مع مَنْ قال بخلافه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار، وإن كان في أسانيدها ما فيها، وقد:-

حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني جرير عن عمارة بن القعقاع, عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: هم آخر مَنْ يفصل بينهم من العباد, وإذا فرغ ربُّ العالمين من فصله بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلكم الجنة, وأنتم عُتَقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم.

 

القول في تأويل قوله : يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( 46 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلى الأعراف رجال يعرفون أهل الجنة بسيماهم, وذلك بياض وجوههم، ونضرةُ النعيم عليها ويعرفون أهل النار كذلك بسيماهم, وذلك سواد وجوههم، وزرقة أعينهم, فإذا رأوا أهل الجنة نادوهم: « سَلامٌ عَلَيْكُمْ » .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: يعرفون أهل النار بسواد الوجوه, وأهل الجنة ببياض الوجوه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: أنـزلهم الله بتلك المنـزلة، ليعرفوا من في الجنة والنار, وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه, ويتعوَّذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين, وهم في ذلك يحيّون أهل الجنة بالسلام, لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها, وهم داخلوها إن شاء الله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( بسيماهم ) ، قال: بسواد الوجوه، وزُرقة العيون.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، الكفار بسواد الوجوه وزرقة العيون, وسيما أهل الجنة مبيَضَّة وجوههم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرَفوهم ببياض الوجوه, وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: إن أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوبٌ عِظام, وكان حَسْمُ أمرهم لله, فأقيموا ذلك المقام، إذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه, فقالوا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وإذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض الوجوه, فذلك قوله: ( ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ) .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، زعموا أن أصحاب الأعراف رجال من أهل الذنوب، أصابوا ذنوبًا، وكان حَسْم أمرهم لله, فجعلهم الله على الأعراف. فإذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه, فتعوذوا بالله من النار. وإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوهم: « أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ » , قال الله: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) . قال: وهذا قول ابن عباس.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( يعرفون كلا بسيماهم ) ، يعرفون الناس بسيماهم, يعرفون أهل النار بسواد وجوههم, وأهل الجنة ببياض وجوههم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يعرفون كلا بسيماهم ) ، يعرفون أهل النار بسواد وجوههم, وأهل الجنة ببياض وجوههم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: أهل الجنة بسيماهم. بيض الوجوه وأهل النار بسيماهم، سود الوجوه. قال: وقوله ( يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: أصحاب الجنة وأصحاب النار « ونادوا أصحاب الجنة » , قال: حين رأوا وجوههم قد ابيضت.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: بسواد الوجوه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن مبارك, عن الحسن: ( بسيماهم ) ، قال: بسواد الوجوه وزرقة العيون.

و « السيماء » ، العلامة الدالة على الشيء، في كلام العرب. وأصله من « السِّمَة » ، نقلت واوها التي هي فاء الفعل، إلى موضع العين, كما يقال: « اضمحلّ » و « امضحلّ » . وذكر سماعًا عن بعض بني عقيل: « هي أرض خامة » , يعني « وَخِمة » . ومنه قولهم: « له جاه عند الناس » , بمعنى « وجه » , نقلت واوه إلى موضع عين الفعل. وفيها لغات ثلاث: « سيما » مقصورة, و « سيماء » ، ممدودة, و « سيمياء » ، بزيادة ياء أخرى بعد الميم فيها، ومدها، على مثال « الكبرياء » , كما قال الشاعر:

غُـلامٌ رَمَـاهُ اللـه بِالحُسْـنِ إذْ رَمَى لَـهُ سِـيمِيَاءُ لا تَشُـقُّ عَـلَى البَصَـرْ

وأما قوله: ( ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، أي: حلت عليهم أمنة الله من عقابه وأليم عذابه.

واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) .

فقال بعضهم: هذا خبر من الله عن أهل الأعراف: أنهم قالوا لأهل الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف, غير أنهم قالوه وهم يطمعون في دخولها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: أهل الأعراف يعرفون الناسَ, فإذا مرُّوا عليهم بزُمْرة يُذْهب بها إلى الجنة قالوا: « سلام عليكم » . يقول الله لأهل الأعراف: لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، تلا الحسن: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، قال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، قال: أنبأكم الله بمكانهم من الطمع.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن أبي بكر الهذلي قال، قال سعيد بن جبير, وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال: أما أصحاب الأعراف, فإن النور كان في أيديهم، فانتزع من أيديهم، يقول الله: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، قال: في دخولها. قال ابن عباس: فأدخل الله أصحاب الأعراف الجنة.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن عكرمة وعطاء: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، قالا في دخولها.

وقال آخرون: إنما عني بذلك أهلَ الجنة, وأن أصحاب الأعراف يقولون لهم قبل أن يدخلوا الجنة: « سلام عليكم » , وأهل الجنة يطمعون أن يدخلوها, ولم يدخلوها بعدُ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا جرير, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز: ( ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، قال: الملائكة، يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم. وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة، أصحاب الأعراف ينادون أصحابَ الجنة: أنْ سلام عليكم، لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 47 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا صرفت أبصارُ أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار يعني: حِيالَهم ووِجاههم فنظروا إلى تشويه الله لهم ( قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) ، الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها من سخطك ما أورثهم من عذابك ما هم فيه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: وإذا مروا بهم يعني بأصحاب الأعراف بزمرة يُذهب بها إلى النار, قالوا: ( ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم، قالوا: ( ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي مكين, عن أخيه, عن عكرمة: ( وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ) ، قال: تحرد وجوههم للنار, فإذا رأوا أهل الجنة ذهبَ ذلك عنهم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله: ( وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ) ، فرأوا وجوههم مسودّة، وأعينهم مزرقّة, ( قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) .

 

القول في تأويل قوله : وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( 48 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا ) ، من أهل الأرض ( يعرفونهم بسيماهم ) ، سيما أهل النار ( قالوا ما أغنى عنكم جمعكم ) ، ما كنتم تجمعون من الأموال والعَدَد في الدنيا ( وما كنتم تستكبرون ) ، يقول: وتكبُّركم الذي كنتم تتكبرون فيها، كما:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال، فمرّ بهم يعني بأصحاب الأعراف ناس من الجبَّارين عرفوهم بسيماهم. قال: يقول: قال أصحاب الأعراف: ( ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ) .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا ) ، قال: في النار ( يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ) ، وتكبركم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز: ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ) ، قال: هذا حين دخل أهل الجنةِ الجنةَ, أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، الآية، قلت لأبي مجلز: عن ابن عباس؟ قال: لا بل عن غيره.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز: ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ) ، قال: نادت الملائكة رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ . أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، قال: هذا حين دخل أهل الجنةِ الجنةَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ) ، فالرجال، عظماء من أهل الدنيا. قال: فبهذه الصفة عرَف أهلُ الأعراف أهلَ الجنة من أهل النار. وإنما ذكر هذا حين يذهب رئيس أهل الخير ورئيس أهل الشر يوم القيامة قال: وقال ابن زيد في قوله: ( ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ) ، قال: على أهل طاعة الله.

 

القول في تأويل قوله : أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( 49 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّين بهذا الكلام.

فقال بعضهم: هذا قِيل الله لأهل النار، توبيخًا على ما كان من قِيلهم في الدنيا، لأهل الأعراف، عند إدخاله أصحابَ الأعراف الجنة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: « أصحاب الأعراف » ، رجال كانت لهم ذنوب عظام، وكان حَسْم أمرهم لله، يقومون على الأعراف، فإذا نظروا إلى أهل الجنة طمعوا أن يدخلوها. وإذا نظروا إلى أهل النار تعوَّذوا بالله منها، فأدخلوا الجنة. فذلك قوله تعالى: « أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة » ، يعني أصحابَ الأعراف « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك قال، قال ابن عباس: إن الله أدخل أصحابَ الأعراف الجنة لقوله: « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قال الله لأهل التكبر والأموال: « أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة » ، يعني أصحاب الأعراف « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أهؤلاء » ، الضعفاء « الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » ، قال: فقال حذيفة: « أصحاب الأعراف » ، قوم تكافأت أعمالهم، فقصَّرت بهم حسناتهم عن الجنة، وقصَّرت بهم سيئاتهم عن النار، فجعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيماهم. فلما قُضِي بين العباد، أذن لهم في طلب الشفاعة، فأتوا آدم عليه السلام، فقالوا: يا آدم، أنت أبونا فاشفع لنا عند ربك ! فقال: هل تعلمون أحدًا خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسبقت رحمته إليه غضبه، وسجدت له الملائكة، غيري؟ فيقولون: لا! قال: فيقول: ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا ابني إبراهيم ! قال: فيأتون إبراهيم عليه السلام فيسألونه أن يشفع لهم عند ربه، فيقول: هل تعلمون من أحدٍ اتخذه الله خليلا؟ هل تعلمون أحدًا أحرقه قومه في النار في الله، غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: ما عملت كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا ابني موسى ! فيأتون موسى عليه السلام، فيقول: هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليمًا، وقرّبه نجيًّا، غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا عيسى ! فيأتونه فيقولون: اشفع لنا عند ربك ! فيقول: هل تعلمون أحدًا خلقه الله من غير أب، غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري؟ قال: فيقولون: لا! قال: فيقول: أنا حجيجُ نفسي، ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيأتوني، فأضرب بيدي على صدري، ثم أقول: أنا لها! ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فأثني على ربي، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قطُّ، ثم أسجد فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، سل تُعطَه، واشفع تُشَفَّع ! فأرفع رأسي فأقول: رب، أمتي ! فيقال: هم لك، فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرَّب إلا غَبَطني يومئذ بذلك المقام، وهو المقام المحمود. قال: فآتي بهم باب الجنة، فأستفتح فيفتح لي ولهم، فيُذهب بهم إلى نهر يقال له « نهر الحيوان » ، حافتاه قَصَب من ذهب مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت، فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة، ويصيرون كأنهم الكواكب الدرّية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم: « مساكين أهل الجنة » .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك قال: إن الله أدخلهم بعد أصحاب الجنة، وهو قوله: « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » ، يعني أصحاب الأعراف. وهذا قول ابن عباس.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على هذا التأويل الذي ذكرنا عن ابن عباس، ومن ذكرنا قوله فيه: قال الله لأهل التكبر عن الإقرار بوحدانية الله، والإذعان لطاعته وطاعة رسله، الجامعين في الدنيا الأموال مكاثرة ورياء: أيها الجبابرة كانوا في الدنيا، أهؤلاء الضعفاء الذين كنتم في الدنيا أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؟ قال: قد غفرت لهم ورحمتهم بفضلي ورحمتي، ادخلوا يا أصحاب الأعراف الجنة لا خوف عليكم بعدها من عقوبة تعاقبون بها على ما سلف منكم في الدنيا من الآثام والإجرام، ولا أنتم تحزنون على شيء فاتكم في دنياكم.

وقال أبو مجلز: بل هذا القول خبر من الله عن قيل الملائكة لأهل النار، بعد ما دخلوا النار، تعييرًا منهم لهم على ما كانوا يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين أدخلهم الله يوم القيامة جنته. وأما قوله: « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » ، فخبر من الله عن أمره أهل الجنة بدخولها.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز قال: نادت الملائكة رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم: « ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة » ، قال: فهذا حين يدخل أهل الجنة الجنةَ « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » .

 

القول في تأويل قوله : وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة، عند نـزول عظيم البلاء بهم من شدة العطش والجوع، عقوبةً من الله لهم على ما سلف منهم في الدنيا من ترك طاعة الله، وأداء ما كان فرض عليهم فيها في أموالهم من حقوق المساكين من الزكاة والصدقة.

يقول تعالى ذكره: « ونادى أصحاب النار » ، بعد ما دخلوها « أصحاب الجنة » ، بعد ما سكنوها « أن » ، يا أهل الجنة « أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ، أي: أطعمونا مما رزقكم الله من الطعام، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ، قال: من الطعام.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ، قال: يستطعمونهم ويستسقونهم.

فأجابهم أهل الجنة، إن الله حرم الماء والطعام على الذين جحدوا توحيده، وكذبوا في الدنيا رسله.

و « الهاء والميم » في قوله: « إن الله حرّمهما » ، عائدتان على « الماء » وعلى « ما » التي في قوله: « أو مما رزقكم الله » .

وبنحو ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عثمان الثقفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ، قال: ينادي الرجلُ أخاه أو أباه، فيقول: « قد احترقت، أفض عليَّ من الماء! » ، فيقال لهم: أجيبوهم ! فيقولون: « إن الله حرمهما على الكافرين »

وحدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا سفيان، عن عثمان، عن سعيد بن جبير: « ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ، قال: ينادي الرجل أخاه: يا أخي، قد احترقتُ فأغثني! فيقول: « إن الله حرمهما على الكافرين » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « قالوا إن الله حرمهما على الكافرين » ، قال: طعامُ أهل الجنة وشرابُها.

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 51 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عن قِيل أهل الجنة للكافرين.

يقول تعالى ذكره: فأجاب أهلُ الجنة أهلَ النار: « إن الله حرمهما على الكافرين » الذين كفروا بالله ورسله، الذين اتخذوا دينهم الذي أمرهم الله به لهوًا ولعبا ، يقول: سخرية ولعبًا.

وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: « الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا » ، الآية، قال: وذلك أنهم كانوا إذا دُعوا إلى الإيمان سخِروا ممن دعاهم إليه وهزؤوا به، اغترارًا بالله.

« وغرتهم الحياة الدنيا » ، يقول: وخدعهم عاجلُ ما هم فيه من العيش والخفض والدَّعة، عن الأخذ بنصيبهم من الآخرة، حتى أتتهم المنية يقول الله جل ثناؤه : « فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » ، أي ففي هذا اليوم ، وذلك يوم القيامة « ننساهم » ، يقول: نتركهم في العذاب المبين جياعًا عطاشًا بغير طعام ولا شراب، كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا ، ورفضوا الاستعداد له بإتعاب أبدانهم في طاعة الله.

وقد بينا معنى قوله: « ننساهم » ، بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: « فاليوم ننساهم » ، قال: نسوا في العذاب.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فاليوم ننساهم » ، قال: نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « ننساهم » ، قال: نتركهم في النار.

حدثني المثتي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » ، قال: نتركهم من الرحمة، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا.

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » ، الآية ، يقول: نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشرّ.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا في قوله: « فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » ، قال: نؤخرهم في النار.

وأما قوله: « وما كانوا بآياتنا يجحدون » ، فإن معناه: « اليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » ، وكما كانوا بآياتنا يجحدون.

فـ « ما » التي في قوله: « وما كانوا » معطوفة على « ما » التي في قوله: « كما نسوا » .

قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: فاليوم نتركهم في العذاب، كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما كانوا بآيات الله يجحدون وهي حججه التي احتج بها عليهم، من الأنبياء والرسل والكتب وغير ذلك

« يجحدون » ، يكذبون ولا يصدقون بشيء من ذلك.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 52 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أقسم، يا محمد، لقد جئنا هؤلاء الكفرة بكتاب يعني القرآن الذي أنـزله إليه. يقول: لقد أنـزلنا إليهم هذا القرآن، مفصَّلا مبيَّنًا فيه الحق من الباطل « على علم » ، يقول: على علم منا بحقِّ ما فُصِّل فيه، من الباطل الذي مَيَّز فيه بينه وبين الحق « هدى ورحمة » ، يقول: بيناه ليُهْدَى ويُرْحَم به قومٌ يصدقون به، وبما فيه من أمر الله ونهيه، وأخباره، ووعده ووعيده، فينقذهم به من الضلالة إلى الهدى.

وهذه الآية مردودة على قوله: كِتَابٌ أُنْـزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [ سورة الأعراف 2 ] « ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم » .

و « الهدى » في موضع نصب على القطع من « الهاء » التي في قوله: « فصلناه » ، ولو نصب على فعل « فصلناه » ، فيكون المعنى: فصلنا الكتاب كذلك كان صحيحًا.

ولو قرئ: « هدى ورحمةٍ » كان في الإعراب فصيحًا، وكان خفض ذلك بالردِّ على « الكتاب » .

 

القول في تأويل قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « هل ينظرون إلا تأويله » ، هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله ويجحدون لقاءه « إلا تأويله » ، يقول: إلا ما يؤول إليه أمرهم، من ورودهم على عذاب الله، وصِلِيِّهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به.

وقد بينا معنى « التأويل » فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « هل ينظرون إلا تأويله » ، أي: ثوابه « يوم يأتي تأويله » ، أي ثوابه.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: « هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله » ، قال: « تأويله » ، عاقبته.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح: عن مجاهد، « هل ينظرون إلا تأويله » ، قال: جزاءه « يوم يأتي تأويله » ، قال: جزاؤه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « هل ينظرون إلا تأويله » ، أما « تأويله » ، فعواقبه، مثل وقعة بدر، والقيامة، وما وعد فيها من موعد.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: « هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق » ، فلا يزال يقع من تأويله أمرٌ بعد أمر، حتى يتم تأويله يوم القيامة، ففي ذلك أنـزل: « هل ينظرون إلا تأويله » ، حيث أثابَ الله تبارك وتعالى أولياءَه وأعداءه ثواب أعمالهم. يقول يومئذ الذين نسوه من قبل: « قد جاءت رسل ربنا بالحق » ، الآية.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله » ، قال: يوم القيامة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يوم يأتي تأويله » ، قال: يوم يأتي حقيقته، وقرأ قول الله تعالى: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ، [ سورة يوسف: 100 ] . قال: هذا تحقيقها. وقرأ قول الله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ

، [ سورة آل عمران: 7 ] ، قال: ما يعلم حقيقته ومتى يأتي، إلا الله تعالى

وأما قوله: « يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل » ، فإن معناه: يوم يجيء ما يؤول إليه أمرهم من عقاب الله « يقول الذين نسوه من قبل » ، أي: يقول الذين ضيَّعوا وتركوا ما أمروا به من العمل المنجيهم مما آل إليه أمرهم يومئذ من العذاب، من قبل ذلك في الدنيا « لقد جاءت رسل ربنا بالحق » ، أقسم المساكين حين عاينوا البلاءَ وحلّ بهم العقاب: أنّ رسل الله التي أتتهم بالنِّذارة وبلغتهم عن الله الرسالة، قد كانت نصحت لهم وصَدَقتهم عن الله، وذلك حين لا ينفعهم التصديق. ولا ينجيهم من سَخَط الله وأليم عقابه كثرة القال والقيل.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق » ، أما « الذين نسوه » ، فتركوه، فلما رأوا ما وعدهم أنبياؤهم، استيقنوا فقالوا: « قد جاءت رسل ربنا بالحق » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يقول الذين نسوه » ، قال: أعرضوا عنه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

 

القول في تأويل قوله : فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 53 )

قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم، أنهم يقولون عند حلول سَخَط الله بهم، وورودهم أليمَ عذابه، ومعاينتهم تأويل ما كانت رسلُ الله تعِدهم: هل لنا من أصدقاءَ وأولياء اليوم فيشفعوا لنا عند ربنا، فتنجينا شفاعتهم عنده مما قد حلّ بنا من سوء فعالنا في الدنيا أو نردّ إلى الدنيا مرة أخرى، فنعمل فيها بما يرضيه ويُعْتِبُه من أنفسنا؟ قال هذا القولَ المساكينُ هنالك، لأنهم كانوا عهدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاء تشفع لهم في حاجاتهم، فيذكروا ذلك في وقت لا خُلة فيه لهم ولا شفاعة.

يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : « قد خسروا أنفسهم » ، يقول: غَبَنوا أنفسهم حظوظها، ببيعهم ما لا خطر له من نعيم الآخرة الدائم، بالخسيس من عَرَض الدنيا الزائل « وضل عنهم ما كانوا يفترون » ، يقول: وأسلمهم لعذاب الله، وحار عنهم أولياؤهم، الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، ويزعمون كذبًا وافتراء أنهم أربابهم من دون الله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « قد خسروا أنفسهم » ، يقول: شروها بخسران.

وإنما رفع قوله: « أو نردُّ » ولم ينصب عطفًا على قوله: « فيشفعوا لنا » ، لأن المعنى: هل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو هل نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ ولم يرد به العطف على قوله: « فيشفعوا لنا » .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومصلح أموركم، أيها الناس، هو المعبود الذي له العبادة من كل شيء « الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام » ، وذلك يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال: بدءُ الخلق العرشُ والماء والهواء، وخلقت الأرض من الماء، وكان بدء الخلق يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وجُمع الخلق في يوم الجمعة، وتهوَّدت اليهودُ يوم السبت. ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون.

« ثم استوى على العرش » .

وقد ذكرنا معنى « الاستواء » واختلاف الناس فيه، فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: « يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا » ، فإنه يقول: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه، حتى يذهب نضرته ونوره « يطلبه » ، يقول: يطلب الليل النهار « حثيثًا » ، يعني: سريعًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « يطلبه حثيثًا » ، يقول: سريعًا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا » ، قال: يغشي الليل النهارَ بضوئه، ويطلبه سريعًا حتى يدركه.

 

القول في تأويل قوله : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 54 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، كلّ ذلك بأمره، أمرهن الله فأطعن أمرَه، ألا لله الخلق كله، والأمرُ الذي لا يخالف ولا يردّ أمره، دون ما سواه من الأشياء كلها، ودون ما عبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخلق ولا تأمر، تبارك الله معبودُنا الذي له عبادة كل شيء، رب العالمين.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه، قلَّ شكره، وحَبِط عمله. ومَنْ زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئًا فقد كفر بما أنـزل الله على أنبيائه، لقوله: « ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين » .

 

القول في تأويل قوله : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 55 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ادعوا، أيها الناس، ربَّكم وحده، فأخلصوا له الدعاء، دون ما تدعون من دونه من الآلهة والأصنام « تضرعًا » ، يقول: تذلُّلا واستكانة لطاعته « وخفية » ، يقول بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاةً، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته، فعلَ أهل النفاق والخداع لله ولرسوله، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعرُ جارُه. وإن كان الرجل لقد فَقُه الفقهَ الكثير، وما يشعرُ به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْر، وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدًا! ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: « ادعوا ربكم تضرعًا وخفية » ، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا فرضِي فعله فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ، [ سورة مريم: 3 ] .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، فأشرفوا على وادٍ يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم، فقال: « أيها الناس، اربَعُوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا! إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: « ادعوا ربكم تضرعًا وخفية » ، قال: السر.

وأما قوله: « إنه لا يحب المعتدين » ، فإن معناه: إن ربكم لا يحب من اعتدى فتجاوز حدَّه الذي حدَّه لعباده في دعائه ومسألته ربَّه، ورفعه صوته فوق الحد الذي حدَّ لهم في دعائهم إياه، ومسألتهم، وفي غير ذلك من الأمور، كما:-

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، أنبأنا إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، عن عباد بن عباد، عن علقمة، عن أبي مجلز: « ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين » ، قال: لا يسأل منازلَ الأنبياء عليهم السلام.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: « إنه لا يحب المعتدين » ، في الدعاء ولا في غيره قال ابن جريج: إن من الدعاء اعتداءً، يُكره رفعُ الصوتِ والنداءُ والصياحُ بالدعاء، ويُؤمر بالتضرُّع والاستكانة.

 

القول في تأويل قوله : وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها » ، لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها، وذلك هو الفساد فيها.

وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى، وبينا معناه بشواهده.

« بعد إصلاحها » يقول: بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته، بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحق، وإيضاحه حججه لهم « وادعوه خوفًا وطمعًا » ، يقول: وأخلصوا له الدعاء والعمل، ولا تشركوا في عملكم له شيئًا غيره من الآلهة والأصنام وغير ذلك، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفًا من عقابه، وطمعًا في ثوابه. وإنّ مَن كان دعاؤه إياه على غير ذلك، فهو بالآخرة من المكذبين، لأنّ من لم يخف عقابَ الله ولم يرجُ ثوابه، لم يبال ما ركب من أمر يسخَطه الله ولا يرضاه « إن رحمة الله قريب من المحسنين » ، يقول تعالى ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا، قريب منهم، وذلك هو رحمته، لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعدّ لهم من كرامته إلا أن تفارق أرواحهم أجسادهم.

ولذلك من المعنى ذُكِّر قوله: « قريب » ، وهو من خبر « الرحمة » ، و « الرحمة » مؤنثة، لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النَّسب، والأوقات بذلك المعنى إذا وقعت أخبارًا للأسماء، أجرتها العرب مجرى الحال، فوحّدتها مع الواحد والاثنين والجميع، وذكَّرتها مع المؤنث، فقالوا: « كرامة الله بعيد من فلان » ، و « هي قريب من فلان » ، كما يقولون: « هند قريب منا » ، و « الهندان منا قريب » ، و « الهندات منا قريب » ، لأن معنى ذلك: هي في مكان قريب منا. فإذا حذفوا المكان وجعلوا « القريب » خلفًا منه، ذكَّروه ووحَّدوه في الجمع، كما كان المكان مذكرًا وموحدًا في الجمع. وأما إذا أنثوه، أخرجوه مثنى مع الاثنين، ومجموعًا مع الجميع، فقالوا: « هي قريبة منا » ، و « هما منّا قريبتان » ، كما قال عروة [ بن الورد ] :

عَشِــيَّةَ لا عَفْــرَاءُ مِنْـكَ قَرِيبَـةٌ فَتَدْنُــو, وَلا عَفْــرَاءُ مِنْـكَ بَعِيـدُ

فأنث « قريبة » ، وذكّر « بعيدًا » ، على ما وصفت. ولو كان « القريب » ، من « القرابة » في النسب، لم يكن مع المؤنث إلا مؤنثًا، ومع الجميع إلا مجموعًا.

وكان بعض نحويي البصرة يقول: ذكَّر « قريب » وهو صفة لـ « الرحمة » ، وذلك كقول العرب: « ريح خريق » ، و « ملحفَة جديد » ، و « شاة سديس » . قال: وإن شئت قلت: تفسير « الرحمة » هاهنا، المطر ونحوه، فلذلك ذكَّر، كما قال: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا ، [ سورة الأعراف : 87 ] ، فذكَّر، لأنه أراد الناس. وإن شئت جعلته كبعض ما يذكرون من المؤنث، كقول الشاعر:

وَلا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا

وقد أنكر ذلك من قِيله بعضُ أهل العربية، ورأى أنه يلزمه إن جاز أن يذكِّر « قريبًا » ، توجيهًا منه للرحمة إلى معنى المطر، أن يقول: « هند قام » ، توجيهًا منه لـ « هند » وهي امرأة، إلى معنى: « إنسان » ، ورأى أن ما شبَّه به قوله: « إن رحمة الله قريب من المحسنين » ، بقوله: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا ، غير مُشْبِهِه. وذلك أن « الطائفة » فيما زعم مصدر، بمعنى « الطيف » ، كما « الصيحة » و « الصياح » ، بمعنًى، ولذلك قيل: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ، [ سورة هود: 67 ] .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 57 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، هو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته.

و « النشر » بفتح « النون » وسكون « الشين » ، في كلام العرب، من الرياح، الطيبة اللينة الهبوب، التي تنشئ السحاب. وكذلك كل ريح طيبة عندهم فهي « نشر » ، ومنه قول امرئ القيس:

كَــأَنَّ المُــدَامَ وَصَــوْبَ الغَمَـامِ وَرِيــحَ الخُــزَامَى وَنَشْـرَ القُطُـرْ

وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين، خلا عاصم بن أبي النجود، فإنه كان يقرؤه: « بشرًا » على اختلاف عنه فيه.

فروى ذلك بعضهم عنه: ( بُشْرًا ) ، بالباء وضمها، وسكون الشين.

وبعضهم، بالباء وضمها وضم الشين.

وكان يتأوّل في قراءته ذلك كذلك قوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [ سورة الروم: 46 ] ، تبشر بالمطر، وأنه جمع « بشير » يبشر بالمطر، جُمِع « بُشُرًا » ، كما يجمع « النذير » « نُذُرًا » .

وأما قرأة المدينة وعامة المكيين والبصريين، فإنهم قرؤوا ذلك: ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِل الرِّيَاحَ نُشُرَا ) ، بضم « النون » ، و « الشين » بمعنى جمع « نَشور » جمع « نشرًا » ، كما يجمع « الصبور » « صُبُرًا » ، و « الشكور » « شُكُرًا » .

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: معناها إذا قرئت كذلك: أنها الريح التي تهبّ من كل ناحية، وتجيء من كل وجه.

وكان بعضهم يقول: إذا قرئت بضم النون، فينبغي أن تسكن شينها، لأن ذلك لغة بمعنى « النَّشْر » بالفتح. وقال: العرب تضم النون من « النُّشْر » أحيانًا، وتفتح أحيانًا بمعنى واحد. قال: فاختلاف القرأة في ذلك على قدر اختلافها في لغتها فيه. وكان يقول: هو نظير « الخَسْف » ، « والخُسْف » ، بفتح الخاء وضمها.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأ ذلك: ( نَشْرًا ) و ( نُشُرًا ) ، بفتح « النون » وسكون « الشين » ، وبضم « النون » و « الشين » قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار.

... ... .... ...... ..... ..... ...... ...... ...... ..... ..... ... ... ...... ..... ..... ... ... .

فلا أحب القراءة بها، وإن كان لها معنى صحيح ووجه مفهوم في المعنى والإعراب، لما ذكرنا من العلة .

وأما قوله: « بين يدي رحمته » ، فإنه يقول: قدام رحمته وأمامها.

والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه: « جاء بين يديه » ، لأن ذلك من كلامهم جرى في أخبارهم عن بني آدم، وكثر استعماله فيهم، حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يَدَ له.

و « الرحمة » التي ذكرها جل ثناؤه في هذا الموضع، المطر.

فمعنى الكلام إذًا: والله الذي يرسل الرياح ليّنًا هبوبها، طيبًا نسيمها، أمام غيْثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها سحابًا ثقالا حتى إذا أقلتها و « الإقلال » بها، حملها، كما يقال: « استقلّ البعير بحمله » ، و « أقله » ، إذا حمله فقام به ساقه الله لإحياء بلد ميت، قد تعفَّت مزارعه، ودَرَست مشاربه، وأجدب أهلُه، فأنـزل به المطر، وأخرج به من كل الثمرات.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وهو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته » إلى قوله: « لعلكم تذكرون » ، قال: إن الله يرسل الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين، طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان، فيخرجه من ثَمَّ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء، فيسيل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وأما « رحمته » ، فهو المطر.

وأما قوله: « كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون » ، فإنه يقول تعالى ذكره: كما نحيي هذا البلد الميت بما ننـزل به من الماء الذي ننـزله من السحاب، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقُحُوط أهله، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياءً بعد فنائهم ودروس آثارهم « لعلكم تذكرون » ، يقول تعالى ذكرُه للمشركين به من عبدة الأصنام، المكذبين بالبعث بعد الممات، المنكرين للثواب والعقاب: ضربتُ لكم، أيها القوم، هذا المثل الذي ذكرت لكم: من إحياء البلد الميت بقَطْر المطر الذي يأتي به السحاب الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها، لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن مَنْ كان ذلك من قدرته، فيسيرٌ في قدرته إحياء الموتى بعد فنائها، وإعادتها خلقًا سويًّا بعد دُرُوسها.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون » ، وكذلك تخرجون، وكذلك النشور، كما نخرج الزرع بالماء.

وقال أبو هريرة: إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى، أمطر عليهم من ماء تحت العرش يُدعى « ماء الحيوان » أربعين سنة، فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. حتى إذا استكملت أجسادهم، نفخ فيهم الروح، ثم تُلْقى عليهم نَوْمة، فينامون في قبورهم. فإذا نفخ في الصور الثانية عاشوا، وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم، كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ، فناداهم المنادي: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [ سورة يس: 52 ] .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « كذلك نخرج الموتى » ، قال: إذا أراد الله أن يخرج الموتى، أمطر السماء حتى تتشقق عنهم الأرض، ثم يرسل الأرواح، فتعود كل روح إلى جسدها، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض.

 

القول في تأويل قوله : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( 58 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والبلدُ الطيبة تربته، العذبةُ مشاربه، يخرج نباته إذا أنـزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا، بإذنه، طيبًا ثمرُه في حينه ووقته. والذي خَبُث فردؤت تربته، وملحت مشاربه، لا يخرج نباته إلا نكدًا

يقول: إلا عَسِرًا في شدة، كما قال الشاعر:

لا تُنْجِــزُ الوعْـدَ, إِنْ وَعَـدْتَ, وإن أَعْطَيْــتَ أَعْطَيْــتَ تَافِهًــا نَكِـدَا

يعني بـ « التافه » ، القليل، وبـ « النكد » العسر. يقال منه: « نكِد يَنْكَد نكَدًا، ونَكْدًا فهو نَكَدٌ ونَكِدٌ » ، والنُّكْد، المصدر. ومن أمثالهم: « نَكْدًا وجحدًا » ، « ونُكدًا وجُحْدا » . و « الجحد » ، الشدة والضيق. ويقال: « إذا شُفِه وسئل: قد نَكَدوه ينكَدُونه نَكْدًا » ، كما قال الشاعر:

وَأَعْـــطِ مَــا أَعْطَيْتَــهُ طَيِّبًــا لا خَــيْرَ فِــي المَنْكُــودِ والنَّـاكِدِ

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأه بعض أهل المدينة: ( إلا نَكَدًا ) ، بفتح الكاف.

وقرأه بعض الكوفيين بسكون الكاف: ( نَكْدًا ) .

وخالفهما بعد سائر القرأة في الأمصار، فقرؤوه: ( إلا نَكِدًا ) ، بكسر الكاف.

كأن من قرأه: « نكَدًا » بنصب الكاف أراد المصدر.

وكأنّ من قرأه بسكون الكاف أراد كسرها، فسكنها على لغة من قال: « هذه فِخْذ وكِبْد » ، وكان الذي يجب عليه إذا أراد ذلك أن يكسر « النون » من « نكد » حتى يكون قد أصاب القياس.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءةُ من قرأهُ: ( نَكِدًا ) ، بفتح « النون » وكسر « الكاف » ، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه.

وقوله: « كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون » ، يقول: كذلك: نُبين آية بعد آية، وندلي بحجة بعد حجة، ونضرب مثلا بعد مثل، لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية، وتبصيره إياهم سبيل أهل الضلالة، باتباعهم ما أمرَهم باتباعه، وتجنُّبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة. وهذا مثل ضرَبه الله للمؤمن والكافر، فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه، مثل للمؤمن والذي خَبُث فلا يخرج نباته إلا نكدًا، مثلٌ للكافر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا » ، فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. يقول: هو طيب، وعمله طيب، كما البلد الطيب ثمره طيب. ثم ضرب مثلَ الكافر كالبلدة السَّبِخة المالحة التي يخرج منها النـز فالكافر هو الخبيث، وعمله خبيث.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « والبلد الطيب » ، و « الذي خبث » قال: كل ذلك من الأرض السِّباخ وغيرها، مثل آدم وذريته، فيهم طيب وخبيث.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا » ، قال: هذا مثل ضربه الله في الكافر والمؤمن.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد يعني ابن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث » ، هي السبخة لا يخرج نباتها إلا نكدًا و « النكد » ، الشيء القليل الذي لا ينفع. فكذلك القلوب لما نـزل القرآن، فالقلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان فيه، والقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه، ولم يثبت فيه من الإيمان شيء إلا ما لا ينفع، كما لم يُخْرِج هذا البلد إلا ما لا ينفع من النبات.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا » ، قال: الطيب ينفعه المطر فينبت، « والذي خبث » السباخُ، لا ينفعه المطر، لا يخرج نباته إلا نكدًا. قال: هذا مثل ضربه الله لآدم وذريته كلهم، إنما خلقوا من نفس واحدة، فمنهم من آمن بالله وكتابه، فطابَ. ومنهم من كفر بالله وكتابه، فخَبُث.

 

القول في تأويل قوله : لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 59 )

قال أبو جعفر: أقسم ربنا جل ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية: أنه أرسل نوحًا إلى قومه، منذرَهم بأسَه، ومخوِّفَهم سَخَطه، على عبادتهم غيره، فقال لمن كفر منهم: يا قوم، اعبدوا الله الذي له العبادة، وذِلُّوا له بالطاعة، واخضعوا له بالاستكانة، ودعوا عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، فإنه ليس لكم معبودٌ يستوجب عليكم العبادةَ غيرُه، فإني أخاف عليكم إن لم تفعلوا ذلك « عذابَ يوم عظيم » ، يعني: عذابَ يوم يعظم فيه بلاؤكم بمجيئه إياكم بسخط ربِّكم.

وقد اختلفت القَرَأة في قراءة قوله: « غيره » .

فقرأ ذلك بعض أهل المدينة والكوفة: ( مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِهِ ) ، بخفض « غير » على النعت لـ « إله » .

وقرأه جماعة من أهل المدينة والبصرة والكوفة: ( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه ) ، برفع « غير » ، ردًّا لها على موضع « من » ، لأن موضعها رفع، لو نـزعت من الكلام لكان الكلام رفعًا، وقيل: « ما لكم إله غيرُ الله » . فالعرب [ لما وصفت من أن المعلوم بالكلام ] أدخلت « من » فيه أو أخرجت، وأنها تدخلها أحيانًا في مثل هذا من الكلام، وتخرجها منه أحيانًا، تردّ ما نعتت به الاسم الذي عملت فيه على لفظه، فإذا خفضت، فعلى كلام واحد، لأنها نعت لـ « الإله » . وأما إذا رفعت، فعلى كلامين: « ما لكم غيره من إله » ، وهذا قول يستضعفه أهل العربية.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 60 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عن جواب مشركي قوم نوح لنوح، وهم « الملأ » و « الملأ » ، الجماعة من الرجال، لا امرأة فيهم أنهم قالوا له حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له: « إنا لنراك » ، يا نوح « في ضلال مبين » ، يعنون في أمر زائل عن الحق، مبين زوالهُ عن قصد الحقّ لمن تأمله.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 61 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه مجيبًا لهم: يا قوم، لم آمركم بما أمرتكم به من إخلاص التوحيد لله، وإفراده بالطاعة دون الأنداد والآلهة، زوالا مني عن محجة الحقّ، وضلالا لسبيل الصواب، وما بي ما تظنون من الضلال، ولكنّي رسول إليكم من رب العالمين بما أمرتكم به: من إفراده بالطاعة، والإقرار له بالوحدانية، والبراءة من الأنداد والآلهة.

 

القول في تأويل قوله : أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 62 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه الذين كفروا بالله وكذبوه: وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أرسلني إليكم، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم في تحذيري إياكم عقابَ الله على كفركم به، وتكذيبكم إياي، وردّكم نصيحتي « وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ » ، من أن عقابه لا يردُّ عن القوم المجرمين.

 

القول في تأويل قوله : أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 63 )

قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله عز ذكره عن قِيل نوح لقومه أنه قال لهم، إذ ردُّوا عليه النصيحة في الله، وأنكروا أن يكون الله بعثه نبيًّا، وقالوا له: مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ، [ سورة هود : 27 ] : « أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم » ، يقول: أوعجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعِظة، يذكركم بما أنـزل ربكم « على رجل منكم » ، قيل: معنى قوله: « على رجل منكم » ، مع رجل منكم « لينذركم » ، يقول: لينذركم بأس الله ويخوِّفكم عقابه على كفركم به « ولتتقوا » ، يقول: وكي تتقوا عقابَ الله وبأسه، بتوحيده وإخلاص الإيمان به، والعمل بطاعته « ولعلكم ترحمون » ، يقول: وليرحمكم ربكم إن اتقيتم الله، وخفتموه وحَذِرتم بأسه.

وفتحت « الواو » من قوله: « أوعجبتم » ، لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف استفهام.

 

القول في تأويل قوله : فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ( 64 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه إذ أخبرهم أنه لله رسولٌ إليهم، يأمرهم بخلع الأنداد، والإقرار بوحدانية الله، والعمل بطاعته، وخالفوا أمر ربهم، ولجُّوا في طغيانهم يعمهون، فأنجاه الله في الفلك والذين معه من المؤمنين به، وكانوا بنوح عليه السلام أنفسًا عشرة، فيما:-

حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: نوح، وبنوه الثلاثة سامٌ وحام ويافث، وأزواجهم، وستة أناسيّ ممن كان آمن به.

وكان حمل معه في الفلك من كل زوجين اثنين، كما قال تبارك وتعالى: وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ [ سورة هود: 40 ] .

و « الفلك » ، هو السفينة.

« وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا » ، يقول: وأغرق الله الذين كذبوا بحججه، ولم يتبعوا رسله، ولم يقبلوا نصيحته إياهم في الله بالطوفان.

« إنهم كانوا قومًا عمين » ، يقول: عمين عن الحق، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « عمين » ، قال: عن الحق.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « قوما عمين » ، قال: العَمَى، العامي عن الحق.

 

القول في تأويل قوله : وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 65 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا ولذلك نصب « هودًا » ، لأنه معطوف به على « نوح » عليهما السلام قال هود: يا قوم، اعبدوا الله فأفردوا له العبادة، ولا تجعلوا معه إلهًا غيره، فإنه ليس لكم إله غيره « أفلا تتقون » ، ربكم فتحذرونه، وتخافون عقابه بعبادتكم غيره، وهو خالقكم ورازقكم دون كل ما سواه.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 66 ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 67 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عما أجاب هودًا به قومُه الذين كفروا بالله: « قال الملأ الذين كفروا » ، يعني: الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا رسالة الله إليهم

« إِنَّا لَنَرَاكَ » ، يا هود « في سفاهة » ، يعنون: في ضلالة عن الحق والصواب بتركك ديننا وعبادة آلهتنا « وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ » ، في قيلك: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال: « يا قوم ليس بي سفاهة » ، يقول: أي ضلالة عن الحق والصواب « ولكني رسول من رب العالمين » ، أرسلني، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأؤدّيها إليكم كما أمرني أن أؤدِّيَها.

 

القول في تأويل قوله : أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( 68 ) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 69 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي » ، أؤدي ذلك إليكم، أيها القوم « وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ » ، يقول: وأنا لكم في أمري إياكم بعبادة الله دون ما سواه من الأنداد والآلهة، ودعائكم إلى تصديقي فيما جئتكم به من عند الله، ناصحٌ، فاقبلوا نصيحتي، فإني أمين على وحي الله، وعلى ما ائتمنني الله عليه من الرسالة، لا أكذب فيه ولا أزيد ولا أبدِّل، بل أبلغ ما أمرت كما أمرت « أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم » ، يقول: أوعجبتم أن أنـزل الله وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة، على رجل منكم لينذركم بأس الله ويخوّفكم عقابه « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، يقول: فاتقوا الله في أنفسكم، واذكروا ما حلّ بقوم نوح من العذاب إذ عصوا رسولهم، وكفروا بربهم، فإنكم إنما جعلكم ربكم خلفاء في الأرض منهم، لمّا أهلكهم أبدلكم منهم فيها، فاتقوا الله أن يحلّ بكم نظير ما حل بهم من العقوبة، فيهلككم ويبدل منكم غيركم، سنَّته في قوم نوح قبلكم، على معصيتكم إياه وكفركم به « وزادكم في الخلق بسطة » ، زاد في أجسامكم طولا وعِظَمًا على أجسام قوم نوح، وفي قواكم على قواهم، نعمة منه بذلك عليكم، فاذكروا نعمه وفضله الذي فضلكم به عليهم في أجسامكم وقُوَاكم، واشكروا الله على ذلك بإخلاص العبادة له، وترك الإشراك به، وهجر الأوثان والأنداد « لعلكم تفلحون » ، يقول: كي تفلحوا فتدركوا الخلود والبقاء في النعم في الآخرة، وتنجحوا في طلباتكم عنده.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، يقول: ذهب بقوم نوح، واستخلفكم من بعدهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، أي: ساكني الأرض بعد قوم نوح.

وبنحو الذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل قوله: « بسطة » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وزادكم في الخلق بسطة » ، قال: ما لقوّةِ قوم عاد.

وأما « الآلاء » ، فإنها جمع، واحدها: « إلًى » بكسر « الألف » في تقدير « مِعًى » ، ويقال: « ألَى » في تقدير « قَفَا » بفتح « الألف » . وقد حكي سماعًا من العرب: « إلْي » مثل « حِسْي » . و « الآلاء » ، النعم.

وكذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فاذكروا آلاء الله » ، أي: نعم الله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما « آلاء الله » ، فنعم الله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فاذكروا آلاء الله » ، قال: آلاؤه، نعمه.

قال أبو جعفر: و « عاد » ، هؤلاء القوم الذين وصف الله صفتهم، وبعث إليهم هودًا يدعوهم إلى توحيد الله، واتّباع ما أتاهم به من عنده، هم، فيما:-

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.

وكانت مساكنهم الشِّحْر، من أرض اليمن وما وَالى بلاد حضرموت إلى عُمَان، كما:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن عادًا قوم كانوا باليمن، بالأحقاف.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيبًا أحمر تخالطه مَدَرَةٌ حمراء، ذا أرَاك وسِدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه! قال: لا ولكني قد حُدِّثت عنه. فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبرُ هود صلوات الله عليه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هودًا، الأحقاف. قال: و « الأحقاف » ، الرملُ، فيما بين عُمان إلى حضرموت، فاليمن كله. وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلِّها، وقهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله. وكانوا أصحاب أوثانٍ يعبدونها من دون الله: صنم يقال له « صُداء » ، وصنم يقال له « صَمُود » ، وصنم يقال له « الهباء » . فبعث الله إليهم هودًا، وهو من أوْسطهم نسبًا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحِّدوا الله ولا يجعلوا معه إلهًا غيره، وأن يكفُّوا عن ظلم الناس. ولم يأمرهم فيما يذكر، والله أعلم، بغير ذلك. فأبوا عليه وكذبوه. وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً . واتبعه منهم ناسٌ، وهم يسيرٌ مكتتمون بإيمانهم. وكان ممن آمن به وصدّقه رجلٌ من عاد يقال له: « مرثد بن سعد بن عفير » ، وكان يكتم إيمانه. فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيَّهم، وأكثروا في الأرض الفساد، وتجبَّروا وبنوا بكل رِيع آية عبَثًا بغير نفع، كلمهم هود فقال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [ سورة الشعراء: 128- 131 ] ، قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي ، إلى قوله: صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ سورة هود: 53- 56 ] . فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر من السَّماء ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك. وكان الناس في ذلك الزمان إذا نـزل بهم بلاء أو جَهْد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طَلِبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة، مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثيرٌ شتى مختلفةٌ أديانُهم، وكلهم معظّم لمكة، يعرف حُرْمتها ومكانَها من الله.

قال ابن إسحاق: وكان البيت في ذلك الزمان معروفًا مكانه، والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق وإنما سموا « العماليق » ، لأن أباهم: « عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح » وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة، فيما يزعمون رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكان أبوه حيًّا في ذلك الزمان، ولكنه كان قد كبر، وكان ابنه يرأس قومه. وكان السؤدد والشرف من العماليق، فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت. وكانت أم معاوية بن بكر، كلهدة ابنة الخيبري، رجلٍ من عادٍ، فلما قَحَطَ المطر عن عاد وجُهِدوا، قالوا: جهزوا منكم وفدًا إلى مكة فليستسقوا لكم، فإنكم قد هلكتم! فبعثوا قيل بن عنـز ولقيم بن هزّال بن هزيل، وعتيل بن صُدّ بن عاد الأكبر. ومرثد بن سعد بن عفير، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، وجُلْهُمَة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر أخو أمه. ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صُدّ بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدّة وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نـزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجًا من الحرم، فأنـزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وصِهْرَه.

فلما نـزل وفد عاد على معاوية بن بكر، أقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنِّيهم الجرادَتان قينتان لمعاوية بن بكر. وكان مسيرهم شهرًا، ومقامهم شهرًا. فلما رأى معاوية بن بكر طُول مقامهم، وقد بعثهم قومُهم يتعوَّذون بهم من البلاء الذي أصابهم، شقَّ ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي نازلون عليّ! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له، فيظنوا أنه ضِيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك مَنْ وراءهم من قومهم جَهْدًا وعَطَشا!! أو كما قال. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرًا نُغنِّيهم به، لا يدرون مَنْ قاله، لعل ذلك أن يحرِّكهم! فقال معاوية بن بكر، حين أشارتا عليه بذلك:

أَلا يَــا قَيْـلَ, ويْحَـكَ! قُـمْ فَهَيْنِـمْ لَعَــلَّ اللــهَ يُصْبِحُنَــا غَمَامَــا

فَيَسْــقِي أَرْضَ عَــادٍ, إنَّ عَــادًا قَــدَ امْسَــوا لا يُبِينُــونَ الكَلامَـا

مِــنَ الْعَطَشِ الشَّـدِيدِ, فَلَيْسَ نَرْجُـو بِــهِ الشَّــيْخَ الكَبِـيرَ وَلا الغُلامَــا

وَقــدْ كَــانَتْ نِسَــاؤُهُمُ بِخَــيْرٍ فَقَــدْ أَمْسَــتْ نِسَــاؤُهُمُ عَيَـامَى

وَإنَّ الْوَحْـــشَ تَــأتِيهِمْ جِهَــارًا وَلا تَخْشَـــى لِعَـــادِيٍّ سِــهَامَـا

وَأنْتُــمْ هَــا هُنَـا فِيمَـا اشْـتَهَيْتُمْ نَهَــــارَكُمُ وَلَيْلَكُـــمُ التَّمَامَـــا

فَقُبِّــحَ وَفْــدُكُمْ مِــنْ وَفْـدِ قَـوْمٍ وَلا لُقُّـــوا التَّحِيَّـــةَ وَالسَّــلامَا

فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع القوم ما غنَّتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومُكم يتعوَّذون بكم من هذا البلاء الذي نـزل بهم، وقد أبطأتم عليهم! فادخلوا هذا الحرمَ واستسقوا لقومكم! فقال لهم مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تُسْقَون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيَّكم، وأنبتم إليه، سُقِيتم! فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال لهم جُلْهُمة بن الخيبريّ، خال معاوية بن بكر، حين سمع قوله، وعرف أنه قد اتبع دين هودٍ وآمن به:

أَبَــا سَــعْدٍ فَــإِنَّكَ مِــنْ قَبِيـلٍ ذَوِي كَــرَمٍ وَأُمُّــكَ مِــنْ ثَمُـودِ

فَإنَّــا لَــنْ نُطِيعَــكَ مَــا بقِينَـا وَلَسْـــنَا فَــاعِلِينَ لِمَــا تُرِيــدُ

أَتَأْمُرنَـــا لِنَــتْرُكَ دِيــنَ رِفْــدٍ وَرَمْـــلَ وَآلَ صُـــدَّ والعُبُــودِ

وَنَـــتْرُكَ دِيــنَ آبــاءٍ كِــرَامٍ ذَوِي رَأيٍ وَنَتْبَـــعَ دِيــنَ هُــودِ

ثم قالوا لمعاوية بن أبي بكر وأبيه بكرٍ: احبسَا عَنَّا مرثد بن سعد، فلا يقدمنَّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك دينَنَا ! ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد. فلما ولَّوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منـزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها، قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له. فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله بمكة، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعُون، يقول: « اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفدُ عاد » ! وكان قيل بن عنـز رأس وفد عاد. وقال وفد عاد: « اللهمّ أعطِ قَيْلا ما سألك، واجعل سؤلَنا مع سُؤله » ! وكان قد تخلّف عن وفد عاد حين دعا، لقمانُ بن عاد، وكان سيِّد عادٍ. حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: « اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي، فأعطني سؤلي » ! وقال قيل بن عنـز حين دعا: « يا إلهنا، إن كان هود صادقًا فاسقِنا، فإنّا قد هلكنا » ! فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثًا: بيضاء، وَحمراء، وسوداء. ثم ناداه منادٍ من السحاب: « يا قيل، اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب » . فقال: « اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماءً » ! فناداه منادٍ: « اخترت رَمَادًا، رِمْدِدًا، لا تُبقي مِن آل عاد أحدًا، لا والدًا تترك ولا ولدًا، إلا جعلته هَمِدًا، إلا بني اللُّوذِيّة المُهَدَّى » و « بنو اللوذية » ، بنو لقيم بن هزّال بن هزيلة بن بكر، وكانوا سكانًا بمكة مع أخوالهم، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عادٌ الآخِرة، ومن كان من نسلهم الذين بقُوا من عاد.

وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها قَيْل بن عنـز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من وادٍ يقال له: « المغيث » . فلما رأوها استبشروا بها، وقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ، يقول الله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [ سورة الأحقاف: 24- 25 ] ، أي: كلّ شيء أُمِرَتْ به. وكان أوّل من أبصر ما فيها وعرف أنها رِيح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها « مَهْدَد » .، فلما تيقنت ما فيها صاحت، ثم صَعِقت. فلما أن أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيتُ ريحًا فيها كشُهُب النار، أمامها رجالٌ يقودُونها! فسخَّرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا، كما قال الله و « الحسوم » ، الدائمة فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك. فاعتزل هُود، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليهِ الجلود، وتَلتذُّ الأنفس، وإنها لتمرُّ على عاد بالطَّعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وخرج وفد عاد من مكّة حتى مرُّوا بمعاوية بن بكر وأبيه، فنـزلوا عليه. فبينما هم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمِرة مُسْيَ ثالثةٍ من مُصاب عادٍ، فأخبرهم الخبر، فقالوا له: أين فارقت هودًا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر. فكأنهم شكُّوا فيما حدّثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر: صدَق وربِّ الكعبة!

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا عاصم، عن الحارث بن حسّان البكري قال: قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بامرأة بالرّبَذَة، فقالت: هل أنت حاملي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم! فحملتها حتى قدِمت المدينة، فدخلتُ المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وإذا بلالٌ متقلِّدَ السيف، وإذا رايات سُودٌ. قال قلت: ما هذا؟ قالوا: عمرو بن العاص قدم من غزوته. فلما نـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على منبره، أتيته فاستأذنتُ، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، إن بالباب امرأة من بني تميم، وقد سألتني أن أحملها إليك. قال: يا بلال، ائذن لها. قال: فدخلتْ، فلما جلست قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم! وكانت الدَّبَرَة عليهم فإن رأيت أن تجعل الدَّهنا بيننا وبينهم حاجزًا فعلت! قال: تقول المرأة: فأين تضطرُّ مُضَرَك، يا رسول الله؟ قال قلت: مَثَلي مَثَلُ مِعْزى حملت حَتْفًا! قال قلت: وحملتُك تكونين عليَّ خَصْمًا! أعوذ بالله أن أكون كوافدِ عاد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما وافدُ عادٍ؟ قال قلت: على الخبير سقطتَ! إنّ عادًا قَحَطت فبعثت مَنْ يستسقي لها، فبعثُوا رجالا فمرُّوا على بكر بن معاوية، فسقاهم الخمر وتغنَّتهم الجرادتان شهرًا، ثم بعث من عنده رجلا حتى أتى جبالَ مَهْرة، فدعَوْا، فجاءت سحابات. قال: وكلما جاءت سحابة قال: اذهبي إلى كذا، حتى جاءت سحابة، فنودي منها « خذها رَمادًا رِمددًا * لا تدعُ من عادٍ أحدًا » . قال: فسمعه وكتمهم حتى جاءهم العذاب قال أبو كريب: قال أبو بكر بعد ذلك في حديث عادٍ، قال: فأقبل الذين أتاهم، فأتى جبال مهرة، فصعد فقال: اللهم إنّي لم أجئك لأسير فأفاديه، ولا لمريض فأشفيه، فأسْقِ عادًا ما كنت مُسْقِيه ! قال: فرفعت له سحاباتٌ، قال: فنودي منها: اخْتَر ! قال: فجعل يقول: اذهبي إلى بني فلان، اذهبي إلى بني فلان. قال: فمرَّت آخرَها سحابةٌ سوداء، فقال: اذهبي إلى عاد! فنودي منها: « خُذْها رمادًا رِمْددًا، لا تدع من عاد أحدًا » . قال: وكتمهم، والقوم عند بكر بن معاوية، يشربون. قال: وكره بكر بن معاوية أن يقولَ لهم، من أجل أنهم عنده، وأنهم في طعامه. قال: فأخذَ في الغناء وذكَّرهم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا سلام أبو المنذر النحوي قال، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن يزيد البكري قال: خرجت لأشكوَ العلاء بن الحضرميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربَذَة، فإذا عجوزٌ منقَطعٌ بها، من بني تميم، فقالت: يا عبد الله، إنّ لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجةً، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها، فقدمت المدينة. قال: فإذا رايات، قلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث بعمرو بن العاص وجهًا. قال: فجلست حتى فرغ. قال: فدخل منـزله أو قال: رَحْله فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فقعدت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم! وكانت لنا الدَّبَرة عليهم، وقد مررت بالربذة، فإذا عجوز منهم مُنقطَعٌ بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب. فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت، فقلت: يا رسول الله، اجعل بيننا وبين تميم الدَّهنا حاجزًا، فحميت العجوزُ واستوفزت، وقالت: فأين تضطرُّ مُضَرَك يا رسول الله؟ قال، قلت: أنا كما قال الأول: « معزى حملت حَتْفًا » ! حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصمًا! أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد! قال: وما وافدُ عادٍ؟ « قلت » على الخبير سقطتَ! قال: وهو يستطعمني الحديثَ. قلت: إن عادًا قُحِطوا فبعثوا « قَيْلا » وافدًا، فنـزل على بكرٍ، فسقاه الخمرَ شهرًا وتغنّيه جاريتان يقال لهما « الجرادتان » ، فخرج إلى جبال مهرة، فنادى: « إني لم أجئ لمريض فأداويه، ولا لأسير فأفاديه، اللهم فأسقِ عادًا ما كانت تُسْقِيه » ! فمرت به سحابات سُودٌ، فنودي منها: « خذها رمادًا رِمْدِدًا، لا تبقي من عادٍ أحدًا » . قال: فكانت المرأة تقول: « لا تكن كوافد عادٍ » ! فما بَلَغني أنَّه ما أرسل عليهم من الريح، يا رسول الله، إلا قَدْر ما يجري في خاتمي قال أبو وائل: فكذلك بلغني.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ، أنّ عادًا أتاهم هود، فوعظهم وذكّرهم بما قَصّ الله في القرآن، فكذبوه وكفَروا، وسألوه أن يأتيهم بالعذاب، فقال لهم: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ [ سورة الأحقاف: 23 ] . وإن عادًا أصابهم حين كفروا قُحُوطُ المطر، حتى جُهِدوا لذلك جَهْدًا شديدًا. وذلك أن هودًا دَعَا عليهم، فبعث الله عليهم الريح العَقيم، وهي الريح التي لا تُلْقِح الشجرَ. فلما نظروا إليها قالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [ سورة الأحقاف: 24 ] . فلما دنت منهم، نظروا إلى الإبل والرجال تطيرُ بهم الريحُ بين السماء والأرض. فلما رأوها تبادَروا إلى البيوت، فلما دخلوا البيوت، دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فأصابتهم فِي يَوْمِ نَحْسٍ والنحس، هو الشؤم و مُسْتَمِرٍّ ، استمر عليهم بالعذاب سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا حَسمت كل شيء مرّت به، فلما أخرجتهم من البيوت قال الله: تَنْـزِعُ النَّاسَ من البيوت، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ، [ سورة القمر: 20 ] انقعر من أصوله « خاوية » ، خوت فسقطت. فلما أهلكهم الله، أرسل عليهم طيرًا سودًا، فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه، فذلك قوله: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ [ سورة الأحقاف: 25 ] . ولم تخرج ريحٌ قط إلا بمكيال، إلا يومئذ، فإنها عَتَتْ على الخَزَنة فغلبتهم، فلم يعلموا كم كان مكيالها، وذلك قوله: فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ، [ سورة الحاقة: 6 ] و « الصرصر » ، ذات الصوت الشديد.

 

القول في تأويل قوله : قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 70 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت عاد له: أجئتنا تتوعَّدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين، كي نعبد الله وحده، وندين له بالطاعة خالصًا، ونهجر عبادة الآلهة والأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها، ونتبرَّأ منها؟ فلسنا فاعِلي ذلك، ولا نحن متبعوك على ما تدعونا إليه، فأتنا بما تعدنا من العقابِ والعذاب على تركنا إخلاص التوحيد لله، وعبادتنا ما نعبد من دونه مِنَ الأوثان، إن كنت من أهل الصدق على ما تقول وتعِدُ.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 71 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه: قد حَلَّ بكم عذَابٌ وغضبٌ من الله.

وكان أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر لنا عنه يزعم أن « الرجز » و « الرجس » بمعنى واحد، وأنها مقلوبة، قلبت السين زايًا، كما قلبت « ستّ » وهي من « سداس » بسين، وكما قالوا « قَرَبُوس » و « قَرَبُوت » وكما قال الراجز:

أَلا لَحَــى اللــهُ بَنِــي السِّـعْلاتِ عَمْــرَو بْـنَ يَرْبُـوعٍ لِئَـامَ النَّـاتِ

لَيْسُــوا بِأَعْفَـافٍ وَلا أَكْيَــاتِ

يريد « الناس » ، و « أكياس » ، فقلبت السين تاء، كما قال رؤبة:

كَـمْ قَـدْ رَأَيْنَـا مِـنْ عَدِيـدٍ مُـبْزِي حَــتَّى وَقَمْنَــا كَيْــدَهُ بــالرِّجْزِ

روي عن ابن عباس أنه كان يقول: « الرجس » ، السّخط.

حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس، قوله: ( قد وقع عليكم من ربكم رجس ) يقول: سَخَط.

وأما قوله: ( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ) فإنه يقول: أتخاصمونني في أسماء سمَّيتموها أصنامًا لا تضر ولا تنفع ( أنتم وآباؤكم ما نـزل الله بها من سلطان ) يقول: ما جعل الله لكم في عبادتكم إياها من حجة تحتجُّون بها ، ولا معذرة تعتذرون بها ، لأن العبادة إنما هي لمن ضرَّ ونفع ، وأثابَ على الطاعة وعاقب على المعصية ، ورزق ومنَع . فأما الجماد من الحجارة والحديد والنحاس ، فإنه لا نفع فيه ولا ضرّ، إلا أن تتخذ منه آلةً، ولا حجة لعابد عبده من دون الله في عبادته إياه ، لأن الله لم يأذن بذلك، فيعتذر من عبدَه بأنه يعبده اتباعًا منه أمرَ الله في عبادته إياه. ولا هو إذ كان الله لم يأذن في عبادته مما يرجى نفعه ، أو يخاف ضرّه ، في عاجل أو آجل، فيعبد رجَاء نفعه ، أو دفع ضره - ( فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) يقول: فانتظروا حكمَ الله فينا وفيكم ( إني معكم من المنتظرين ) حكمَه وفصل قضائه فينا وفيكم.

 

القول في تأويل قوله : فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( 72 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأنجينا نوحًا والذين معه من أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبما دعَا إليه ، من توحيد الله ، وهجر الآلهة والأوثان ( برحمة منّا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ) يقول: وأهلكنا الذين كذَّبوا من قوم هود بحججنا جميعًا عن آخرهم، فلم نبق منهم أحدًا ، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: ( وقطعنا دابرَ الذين كذبوا بآياتنا ) قال: استأصلناهم.

وقد بينا فيما مضى معنى قوله: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [ الأنعام: 45 ] ، بشواهده ، بما أغنى عن إعادته.

( وما كانوا مؤمنين ) يقول: لم يكونوا مصَدّقين بالله ولا برسوله هود.

 

القول في تأويل قوله : وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 73 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا.

و « ثمود » ، هو ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَدِيس بن غاثر ، وكانت مساكنهما الحِجْر ، بين الحجاز والشأم ، إلى وادي القُرَى وما حوله.

ومعنى الكلام: وإلى بني ثمود أخاهم صالحًا.

وإنما منع « ثمود » ، لأن « ثمود » قبيلة ، كما « بكر » قبيلة، وكذلك « تميم » .

( قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ، يقول: قال صالح لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم إله يجوزُ لكم أن تعبدوه غيره، وقد جاءتكم حُجَّة وبرهان على صدق ما أقول، وحقيقة ما إليه أدعو ، من إخلاص التوحيد لله ، وإفراده بالعبادة دون ما سواه ، وتصديقي على أني له رسول. وبيِّنتي على ما أقول وحقيقة ما جئتكم به من عند ربي، وحجتي عليه ، هذه الناقة التي أخرجها الله من هذه الهَضْبة ، دليلا على نبوّتي وصدق مقالتي ، فقد علمتم أن ذلك من المعجزات التي لا يقدر على مثلها أحدٌ إلا الله.

وإنما استشهد صالح ، فيما بلغني ، على صحة نبوّته عند قومه ثمود بالناقة ، لأنهم سألُوه إياها آيةً ودلالة على حقيقةِ قوله.

ذكر من قال ذلك، وذكر سبب قتل قوم صالح الناقة:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل قال، قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين ! قال: فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هَضْبَةٍ من الأرض! فخرجوا، فإذا هي تَتَمَخَّض كما تتمخَّض الحامل ، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسَطها الناقة، فقال صالح: ( هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسُّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، [ سورة الشعراء:155 ] . فلما ملُّوها عقروها، فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، [ سورة هود:65 ] قال عبد العزيز: وحدثني رجل آخر: أنّ صالحًا قال لهم: إن آية العذاب أن تصبحوا غدًا حُمْرًا، واليوم الثاني صُفْرًا، واليوم الثالث سُودًا. قال: فصبَّحهم العذاب، فلما رأوا ذلك تحنَّطُوا واستعدُّوا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وإلى ثمود أخاهم صالحًا ) ، قال: إن الله بعث صالحا إلى ثمود، فدعاهم فكذّبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، فسألوه أن يأتيهم بآية، فجاءهم بالناقة، لها شِرْب ولهم شِرْبُ يومٍ معلوم. وقال: ( ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء ) . فأقرُّوا بها جميعًا، فذلك قوله: فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ، [ سورة فصلت: 17 ] . وكانوا قد أقرُّوا به على وجه النفاق والتقيَّة، وكانت الناقة لها شِرْبٌ، فيومَ تشرب فيه الماء تمرّ بين جبلين فيرحمانها، ففيهما أثرُها حتى الساعة، ثم تأتي فتقف لهم حتى يحلبُوا اللبنَ ، فيرويهم، إنما تصبُّ صبًّا، ويوم يشربون الماءَ لا تأتيهم. وكان معها فصيل لها، فقال لهم صالح: إنه يولدُ في شهركم هذا غلامٌ يكون هلاككم على يديه ! فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم وُلد للعاشر فأبَى أن يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك شيء. فكان ابن العاشر أزْرَق أحمرَ ، فنبت نباتًا سريعًا، فإذا مرَّ بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياءَ كانوا مثل هذا! فغضب التِّسعة على صالح ، لأنه أمرهم بذبح أبنائهم تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ، [ النمل:49 ] . قالوا: نخرج، فيرى الناس أنّا قد خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى المسجد ، أتيناه فقتلناه ، ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه، ثم رجعنا فقلنا: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ، يصدقوننا ، يعلمون أنّا قد خرجنا إلى سفر! فانطلقوا ، فلما دخلوا الغارَ أرادوا أن يخرجوا من الليل، فسقط عليهم الغارُ فقتلهم، فذلك قوله: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ حتى بلغ ها هنا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [ سورة النمل: 48- 51 ] . وكبر الغلام ابن العاشر، ونبت نباتًا عجبًا من السرعة، فجلس مع قومٍ يصيبون من الشَّراب، فأرادُوا ماءً يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم يوم شِرب الناقة، فوجدوا الماء قد شربته الناقةُ، فاشتدَّ ذلك عليهم ، وقالوا في شأن الناقة: ما نَصْنع نحن باللبن؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة، فنُسْقيه أنعامنا وحروثنا، كان خيرًا لنا ! فقال الغلام ابن العاشر: هل لكم في أن أعْقِرَها لكم؟ قالوا: نعم! فأظهروا دينَهم، فأتاها الغلام، فلما بَصُرت به شدَّت عليه، فهرب منها ، فلما رأى ذلك، دخل خلف صخرةٍ على طريقها فاستتر بها، فقال: أحِيشوها عليّ ! فأحَاشوها عليه، فلما جازت به نادوه: عليك ! فتناولها فعقرها، فسقطت ، فذلك قوله: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ، [ سورة القمر:29 ] . وأظهروا حينئذٍ أمرهم، وعقروا الناقة، وعَتَوْا عن أمر ربهم، وقالوا: يا صالحُ ائتنا بما تعِدنا . وفزع ناسٌ منهم إلى صالح ، وأخبروه أن الناقة قد عُقرت، فقال: عليَّ بالفصيل ! فطلبوا الفَصِيل فوجدوه على رَابية من الأرض، فطلبوه، فارتفعت به حتى حلَّقت به في السماء، فلم يقدروا عليه. ثم رَغَا الفصيلُ إلى الله، فأوحى الله إلى صالح: أنْ مُرْهم فليتمتَّعوا في دارهم ثلاثة أيام! فقال لهم صالح: تَمتَّعوا في داركم ثلاثة أيام ، وآية ذلك أن تُصبح وجوهكم أوَّل يوم مصفَرَّة، والثاني محمرّة، واليوم الثالث مسوَدّة، واليومُ الرابعُ فيه العذاب. فلما رأوا العلامات تكفّنوا وتحنّطوا ولطَّخوا أنفسهم بالمرّ، ولبسوا الأنْطاع، وحفروا الأسراب فدخلوا فيها ينتظرون الصيحة، حتى جاءهم العذاب فهلكوا. فذلك قوله: دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، لما أهلك الله عادًا وتقضَّى أمرها، عَمِرتْ ثمود بعدَها واستُخْلِفوا في الأرض، فنـزلوا فيها وانتشروا ، ثم عتوا على الله . فلما ظهر فسادهم وعبدوا غيرَ الله، بعث إليهم صالحًا وكانوا قومًا عَربًا، وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم موضعًا رسولا وكانت منازلهم الحِجر إلى قُرْح، وهو وادي القرى، وبين ذلك ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجاز والشأم! فبعث الله إليهم غلامًا شابًا، فدعاهم إلى الله، حتى شَمِط وكبر، لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعَفون ، فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء، وأكثر لهم التحذير، وخوَّفهم من الله العذاب والنقمة، سألوه أن يُريهم آية تكون مِصداقًا لما يقول فيما يدعوهم إليه، فقال لهم: أيَّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عِيدِنا هذا وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم وما يعبدون من دون الله ، في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندْعُو آلهتنا، فإن استجيب لك اتَّبعناك! وإن استجيب لنا اتَّبعتنا! فقال لهم صالح: نعم! فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك، وخرج صالح معهم إلى الله فدعَوْا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثم قال له جندع بن عمرو بن جواس بن عمرو بن الدميل، وكان يومئذٍ سيّد ثمود وعظيمَهم: يا صالح ، أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحِجْر ، يقال لها الكاثِبة ناقةً مخترجة جَوْفاء وَبْرَاء و « المخترجة » ، ما شاكلت البُخْت من الإبل. وقالت ثمود لصالح مثل ما قال جندع بن عمرو فإن فعلت آمنَّا بك وصَدَّقناك ، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ ! وأخذ عليهم صالح مواثيقهم: لئن فعلتُ وفَعَل الله لتصدِّقُنِّي ولتؤمنُنَّ بي! قالوا: نعم! فأعطوه على ذلك عهودَهم. فدعا صالح ربَّه بأن يخرجَها لهم من تلك الهَضْبة ، كما وصفوا.

فحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدَّث: أنَّهم نظروا إلى الهضبة ، حين دعا الله صالح بما دعا به ، تتمخَّض بالناقة تمخُّض النَّتُوج بولدها، فتحركت الهضبة ، ثم انتفضت بالناقة، فانصدعت عن ناقة ، كما وصَفوا ، جوفاءَ وَبْرَاء نَتُوج، ما بين جنبيها لا يعلمه إلا الله عِظمًا ، فآمن به جندع بن عمرو ومَنْ كان معه على أمره من رهطه، وأراد أشرافُ ثمود أن يؤمنوا به ويصدِّقوا، فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد ، والحباب صاحبُ أوثانهم ، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكانوا من أشراف ثمود، فردُّوا أشرافَها عن الإسلام والدخول فيما دعاهم إليه صالح من الرَّحمة والنجاة ، وكان لجندع ابن عم يقال له: « شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد بن جواس » ، فأراد أن يسلم ، فنهاه أولئك الرهط عن ذلك، فأطاعهم، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فقال رجل من ثمود يقال له: « مهوس بن عنمة بن الدّميل » ، وكان مسلمًا:

وَكَــانَتْ عُصْبَــةٌ مِـنْ آلِ عَمْـروٍ إِلَــى دِيــنِ النَّبِـيِّ دَعَـوْا شِـهَابَا

عَزِيــزَ ثَمُــودَ كُــلِّهِمُ جَمِيعًــا فَهَــمَّ بِــأَنْ يُجِــيبَ وَلَـوْ أَجَابَـا

لأَصْبَــحَ صَــالِحٌ فِينَــا عَزِيـزًا وَمَــا عَدَلــوا بصَــاحِبِهم ذُؤَابَـا

وَلكِــنَّ الغُــوَاةَ مِــن َآلِ حُجْـرٍ تَوَلَّـــوْا بَعْــدَ رُشْــدِهِمُ ذُبَابَــا

فمكثت الناقة التي أخرجها الله لهم معها سَقْبها في أرض ثمودَ ترعى الشجر وتشرب الماء، فقال لهم صالح عليه السلام: ( هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ، وقال الله لصالح: إن الماء قسمةٌ بينهم، كُلّ شِرْبٍ مُحْتَضَر أي: إن الماء نصفان ، لهم يوم ، ولها يوم وهي محتضرة، فيومها لا تدع شربها. وقال: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، [ سورة الشعراء:155 ] . فكانت ، فيما بلغني والله أعلم ، إذا وردت ، وكانت تَرِد غِبًّا ، وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها « بئر الناقة » ، فيزعمون أنها منها كانت تشرب إذا وردت ، تضع رأسَها فيها، فما ترْفَعه حتى تشرب كل قطرة ماء في الوادي، ثم ترفع رأسها فتفشَّج يعني تفحَّج لهم فيحتلبون ما شاؤوا من لبن، فيشربون ويدَّخرون ، حتى يملؤوا كل آنيتهم، ثم تصدر من غير الفجّ الذي منه وردت، لا تقدِرُ على أن تصدر من حيث ترِدُ لضيقِه عنها، فلا ترجع منه . حتى إذا كان الغدُ ، كان يومهم، فيشربون ما شاؤوا من الماء، ويدّخرون ما شاؤوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة. وكانت الناقة ، فيما يذكرون ، تَصِيف إذا كان الحرّ ظَهْرَ الوادي، فتهرب منها المواشي ، أغنامُهم وأبْقارهم وإبلُهم، فتهبط إلى بطن الوادي في حرِّه وجَدْبه وذلك أن المواشي تنفِرُ منها إذا رأتها وتشتو في بطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مَواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدْب، فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاءِ والاختبار. وكانت مرابعُها ، فيما يزعمون ، الحبابُ وحِسْمَى، كل ذلك ترعى مع وادي الحِجر ، فكبر ذلك عليهم، فعتوا عن أمر ربهم، وأجمعوا في عقر الناقة رأيَهم.

وكانت امرأة من ثمودَ يقال لها: « عنيزة بنت غنم بن مجلز » ، تكني بأم غنم، وهي من بني عبيد بن المهل ، أخي رُميل بن المهل، وكانت امرأةَ ذؤاب بن عمرو، وكانت عجوزًا مسنة، وكانت ذات بناتٍ حسان، وكانت ذات مال من إبلٍ وبقر وغنم وامرأة أخرى يقال لها: « صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا » ، سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول ، وكان الوادي يقال له: « وادي المحيا » ، وهو المحيَّا الأكبر ، جد المحيَّا الأصغر أبي صدوف وكانت « صدوف » من أحسن الناس، وكانت غنيَّة ، ذات مالٍ من إبل وغنم وبقر وكانتَا من أشدِّ امرأتين في ثمود عداوةً لصالح ، وأعظمِه به كفرًا، وكانتا تَحْتالان أن تُعْقَر الناقة مع كفرهما به ، لما أضرَّت به من مواشيهما. وكانت صدوف عند ابن خالٍ لها يقال له: « صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف » ، من بني هليل، فأسلم فحسن إسلامه، وكانت صدوفُ قد فَوَّضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح حتى رَقَّ المال. فاطّلعت على ذلك من إسلامه صدوفُ، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه ، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام، فأبت عليه، وبيَّتتْ له، فأخذت بنيه وبناته منه فغيَّبتهم في بني عبيد بطنِها الذي هي منه. وكان صنتم زوجُها من بني هليل، وكان ابنَ خالها، فقال لها: ردِّي عليَّ ولدي ! فقالت: حتى أنافِرك إلى بني صنعان بن عبيد ، أو إلى بني جندع بن عبيد! فقال لها صنتم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد ! وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام ، وأبطأ عنه الآخرون. فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه ! فقال بنو مرداس: والله لتعطِنَّه ولده طائعةً أو كارهة ! فلما رأت ذلك أعطته إياهم.

ثم إن صدوف وعُنيزة مَحَلَتا في عقر الناقة ، للشقاء الذي نـزل. فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له « الحباب » لعقر الناقة. وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل، فأبَى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له : « مصدع بن مهرج بن المحيَّا » ، وجعلت له نفسها ، على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناسِ ، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك. ودعت عنيزة بنت غنم ، « قدارَ بن سالف بن جندع » ، رجلا من أهل قُرْح. وكان قُدار رجلا أحمرَ أزرقَ قصيرًا ،يزعمون أنه كان لزَنْيَةٍ ، من رجل يقال له : « صهياد » ، ولم يكن لأبيه « سالف » الذي يدعى إليه ، ولكنه قد ولد على فراش « سالف » ، وكان يدعى له وينسب إليه. فقالت: أعطيك أيَّ بناتي شئتَ على أن تعقر الناقة ! وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو ، من أشراف رجال ثمود. وكان قدار عزيزًا منيعًا في قومه. فانطلق قدار بن سالف ، ومصدع بن مهرج، فاستنفرَا غُواةً من ثمود ، فاتّبعهما سبعة نفر، فكانوا تسعة نفر، أحدُ النفر الذين اتبعوهما رجل يقال له : « هويل بن ميلغ » خال قدار بن سالف ، أخو أمّه لأبيها وأمها، وكان عزيزًا من أهل حجر و « دعير بن غنم بن داعر » ، وهو من بني خلاوة بن المهل و « دأب بن مهرج » ، أخو مصدع بن مهرج، وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم..... فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قُدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى. فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظمَ به عضَلَة ساقها. وخرجت أم غنم عنيزة ، وأمرت ابنتها ، وكانت من أحسن الناس وجهًا ، فأسفرت لقدار وأرته إياه، ثم ذمَّرته، فشدّ على الناقة بالسيف، فخشَفَ عُرْقوبها، فخرَّت ورغت رَغَاةً واحدة تحذّرُ سَقْبها ، ثم طعن في لبَّتها فنحرَها ، وانطلق سقبها حتى أتى جبلا مُنِيفًا، ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعًا ولاذ بها واسم الجبل فيما يزعمون « صنو » ، فأتاهم صالح، فلما رأى الناقة قد عقرت ، ثم قال: انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته ! فاتّبع السقبَ أربعةُ نفر من التّسعة الذين عقرُوا الناقة، وفيهم « مصدع بن مهرج » ، فرماه مصدع بسهم، فانتظمَ قلبَه، ثم جرَّ برجله فأنـزله، ثم ألقوا لحمَه مع لحم أمه.

فلما قال لهم صالح: « أبشروا بعذاب الله ونقمته » ، قالوا له وهم يهزؤون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد « أول » والاثنين « أهون » ، والثلاثاء « دبار » ، والأربعاء « جبار » ، والخميس « مؤنس » ، والجمعة « العروبة » ، والسبت « شيار » ، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح حين قالوا ذلك: تصبحون غداة يوم مؤنس ، يعني يوم الخميس ، ووجوهكم مصفرّة ، ثم تصبحون يوم العروبة ، يعني يوم الجمعة ، ووجوهكم محمرّة ، ثم تصبحون يوم شيار ، يعني يوم السبت ، ووجوهكم مسودَّة ، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول ، يعني يوم الأحد. فلما قال لهم صالح ذلك، قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلمَّ فلنقتل صالحًا ، إن كان صادقًا عجَّلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا يكون قد ألحقناه بناقتِه ! فأتوه ليلا ليبيِّتوه في أهله، فدمَغَتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطؤوا على أصحابهم ، أتوا منـزلَ صالح، فوجدوهم مشدَّخين قد رُضِخوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم ! ثم همُّوا به، فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاحَ، وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدًا، فقد وعدكم أنَّ العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربَّكم عليكم إلا غضبًا، وإن كان كاذبًا فأنتم من وراء ما تريدون! فانصرفوا عنهم ليلتَهم تلك، والنفر الذين رَضَختهم الملائكة بالحجارة ، التسعةُ الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ إلى قوله: لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، [ سورة النمل: 48 - 52 ] .

فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح ، وجوههم مصفرَّة، فأيقنوا بالعذاب، وعرفوا أن صالحًا قد صدَقهم، فطلبوه ليقتلوه. وخرج صالح هاربًا منهم ، حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم : « بنو غنم » ، فنـزل على سيِّدهم رجلٍ منهم يقال له : « نفيل » ، يكنى بأبي هدب، وهو مشرِك، فغيَّبه ، فلم يقدروا عليه. فغدوا على أصحاب صالح فعذّبوهم ليدلُّوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له : « ميدع بن هرم » : يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلَّهم عليك، أفندلُّهم عليك؟ قال: نعم ! فدلهم عليه « ميدع بن هرم » ، فلما علموا بمكان صالح ، أتوا أبا هُدْب فكلموه، فقال لهم: عندي صالح، وليس لكم إليه سبيل! فأعرضوا عنه وتركوه، وشغلهم عنه ما أنـزل الله بهم من عذابه. فجعل بعضهم يخبر بعضًا بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرَّة، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم محمرَّة، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودّة، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشأم، فنـزل رملة فلسطين، وتخلّف رجل من أصحابه يقال له : « ميدع بن هرم » ، فنـزل قُرْح وهي وادي القرى، وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا فنـزل على سيِّدِهم رجلٍ يقال له : « عمرو بن غنم » ، وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يَشْتَركْ في قتلها، فقال له ميدع بن هرم: يا عمرو بن غنم، أخرج من هذا البلد، فإن صالحًا قال: « من أقام فيه هلك ، ومن خرج منه نجا » ، فقال عمرو: ما شرِكت في عَقْرها، وما رضيت ما صُنع بها! فلما كانت صبيحة الأحد أخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك، إلا جارية مقعدة يقال لها : « الزُّرَيْعَة » ، وهي الكلبة ابنة السِّلق، كانت كافرة شديدَة العداوة لصالح، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت العذابَ أجمعَ، فخرجت كأسرع ما يُرَى شيءٌ قط، حتى أتت أهل قُرْحٍ فأخبرتهم بما عاينتْ من العذاب وما أصاب ثمود منه، ثم استسقت من الماء فسُقِيت، فلما شربت ماتت.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر ، أخبرني من سمع الحسن يقول: لما عقرت ثمود الناقة ، ذهبَ فصيلها حتى صعد تلا فقال: يا رب ، أين أمي؟ ثم رغا رَغوةً، فنـزلت الصيحةُ، فأخمدتهم.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن بنحوه إلا أنه قال: أصعد تلا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أن صالحًا قال لهم حين عقروا الناقة: تمتَّعوا ثلاثة أيام! وقال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم مصفرَّة، ثم تصبح اليومَ الثاني محمرَّة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودَّة ، فأصبحت كذلك. فلما كان اليوم الثالث وأيقنوا بالهلاك ، تكفَّنوا وتحنَّطوا، ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم قال قتادة: قال عاقر الناقة لهم: لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين! فجعلوا يدخلون على المرأة في حِجْرها فيقولون: أترضين؟ فتقول: نعم! والصبيّ، حتى رضوا أجمعين، فعقرها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال، لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحِجر قال: لا تسألوا الآيات، فقد سألها قومُ صالح، فكانت ترد من هذا الفجّ ، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم ، فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يومًا ، ويشربون لبنها يومًا. فعقروها، فأخذتهم الصيحة: أهمد الله مَنْ تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدًا كان في حَرَم الله ، قيل: من هو؟ قال: أبو رِغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه.

.... قال عبد الرزاق، قال معمر: وأخبرني إسماعيل بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبر أبي رِغال، فقال: أتدرون ما هذا؟ ، قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: هذا قبر أبي رِغال؟ قالوا فمن أبو رِغال؟ قال: رجل من ثمود ، كان في حرم الله، فمنعه حرم الله عذابَ الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب! فنـزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عليه، فاستخرجوا الغصن.

. . . قال عبد الرزاق: قال: معمر: قال الزهري: أبو رِغال: أبو ثقيف.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر قال، مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال في حديثه: قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة قال، كان يقال إنّ أحمرَ ثمود الذي عقر الناقة، كان ولد زَنْية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن أبي إسحاق قال، قال أبو موسى: أتيت أرض ثمود، فذرعت مَصْدرَ الناقة ، فوجدته ستين ذراعًا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وأخبرني إسماعيل بن أمية بنحو هذا يعني بنحو حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر قال: ومرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبر أبي رِغال، قالوا: ومن أبو رِغال؟ قال: أبو ثقيف، كان في الحرم لما أهلك الله قومه، منعه حرم الله من عذاب الله ، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، فدفن ها هنا ، ودفن معه غصن من ذهب. قال: فابتدره القوم يبحثون عنه ، حتى استخرجوا ذلك الغصن.

وقال الحسن: كان للناقة يوم ولهم يومٌ، فأضرَّ بهم.

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري قال: لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين ، أنْ يصيبكم مثل الذي أصابهم! ثم قال: هذا وادي النَّفَر! ثم قَنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي.

وأما قوله: ( ولا تمسوها بسوء ) ، فإنه يقول: ولا تمسوا ناقة الله بعقرٍ ولا نحر ( فيأخذكم عذابٌ أليم ) ، يعني: موجع.

 

القول في تأويل قوله : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 74 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه ، واعظًا لهم: واذكروا ، أيها القوم ، نعمة الله عليكم ( إذ جعلكم خلفاء ) ، يقول: تخلفون عادًا في الأرض بعد هلاكها.

و « خلفاء » جمع « خليفة » . وإنما جمع « خليفة » « خلفاء » ، و « فُعلاء » إنما هي جمع « فعيل » ، كما « الشركاء » جمع « شريك » ، و « العلماء » جمع « عليم » ، و « الحلماء » جمع « حليم » ، لأنه ذهب بالخليفة إلى الرجل، فكأن واحدهم « خليف » ، ثم جمع « خلفاء » ، فأما لو جمعت « الخليفة » على أنها نظيرة « كريمة » و « حليلة » و « رغيبة » ، قيل « خلائف » ، كما يقال: « كرائم » و « حلائل » و « رغائب » ، إذ كانت من صفات الإناث. وإنما جمعت « الخليفة » على الوجهين اللذين جاء بهما القرآن، لأنها جُمعت مرّة على لفظها، ومرة على معناها.

وأما قوله: ( وبوأكم في الأرض ) ، فإنه يقول: وأنـزلكم في الأرض، وجعل لكم فيها مساكن وأزواجًا ، ( تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا ) ، ذكر أنهم كانوا ينقُبون الصخر مساكن، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وتنحتون الجبال بيوتًا ) ، كانوا ينقبون في الجبال البيوتَ.

وقوله: ( فاذكروا آلاء الله ) ، يقول: فاذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) .

وكان قتادة يقول في ذلك ما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: لا تسيروا في الأرض مفسدين.

وقد بينت معنى ذلك بشواهده واختلاف المختلفين فيه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 75 ) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 76 )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) ، قال الجماعة الذين استكبروا من قوم صالح عن اتباع صالح والإيمان بالله وبه ( للذين استضعفوا ) ، يعني: لأهل المسكنة من تبَّاع صالح والمؤمنين به منهم، دون ذوي شرفهم وأهل السُّؤدد منهم ( أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه ) ، أرسله الله إلينا وإليكم ، قال الذين آمنوا بصالح من المستضعفين منهم: إنا بما أرسل الله به صالحًا من الحقّ والهدى مؤمنون ، يقول: مصدِّقون مقرّون أنه من عند الله ، وأن الله أمر به ، وعن أمر الله دعانا صالح إليه ( قال الذين استكبروا ) ، عن أمر الله وأمر رسوله صالح ( إنا ) ، أيها القوم ( بالذي آمنتم به ) ، يقول: صدقتم به من نبوّة صالح، وأن الذي جاء به حق من عند الله ( كافرون ) ، يقول: جاحدون منكرون، لا نصدِّق به ولا نقرُّ.

 

القول في تأويل قوله : فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 77 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمودُ الناقةَ التي جعلها الله لهم آية ( وعتوا عن أمر ربهم ) ، يقول: تكبروا وتجبروا عن اتباع الله، واستعلوا عن الحق ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وعتوا ) ، علوا عن الحق ، لا يبصرون.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ( عتوا عن أمر ربهم ) ، علوا في الباطل.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله: ( وعتوا عن أمر ربهم ) ، قال: عتوا في الباطل وتركوا الحق.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( وعتوا عن أمر ربهم ) ، قال: علوا في الباطل.

وهو من قولهم: « جبّار عاتٍ » ، إذا كان عاليًا في تجبُّره.

( وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدُنا ) ، يقول: قالوا: جئنا ، يا صالح ، بما تعدنا من عذاب الله ونقمته ، استعجالا منهم للعذاب ( إن كنت من المرسلين ) ، يقول: إن كنت لله رسولا إلينا، فإن الله ينصر رسله على أعدائه ، فعجَّل ذلك لهم كما استعجلوه، يقول جل ثناؤه: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ .

 

القول في تأويل قوله : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 78 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأخذت الذين عقروا الناقةَ من ثمود ( الرجفة ) ، وهي الصيحة.

و « الرجفة » ، « الفعلة » ، من قول القائل: « رجَف بفلان كذا يرجُفُ رجْفًا » ، وذلك إذا حرَّكه وزعزعه، كما قال الأخطل:

إِمَّـا تَـرَيْنِي حَنَـانِي الشَّـيْبُ مِنْ كِبَرٍ كَالنَّسْـرِ أَرْجُـفُ , وَالإنْسَـانُ مَهْدُودُ

وإنما عنى بـ « الرجفة » ، ها هنا الصيحة التي زعزعتهم وحركتهم للهلاك، لأن ثمود هلكت بالصيحة ، فيما ذكر أهل العلم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: « الرجفة » ، قال: الصيحة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( فأخذتهم الرجفة ) ، وهي الصيحة.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: ( فأخذتهم الرجفة ) ، قال: الصيحة.

وقوله: ( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) ، يقول: فأصبح الذين أهلك الله من ثمود ( في دارهم ) ، يعني في أرضهم التي هلكوا فيها وبلدتهم.

ولذلك وحَّد « الدار » ولم يجمعها فيقول « في دورهم » وقد يجوز أن يكون أريد بها الدور، ولكن وجَّه بالواحدة إلى الجميع، كما قيل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) [ العصر: 1- 2 ] .

وقوله: ( جاثمين ) ، يعني: سقوطًا صرعَى لا يتحركون ، لأنهم لا أرواح فيهم ، قد هلكوا. والعرب تقول للبارك على الركبة: « جاثم » ، ومنه قول جرير:

عَــرَفْتُ المُنْتَـأَى , وَعَـرَفْتُ مِنْهَـا مَطَايَــا القِــدْرِ كَــالحِدَإِ الجُـثُومِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: ( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) ، قال: ميتين.

 

القول في تأويل قوله : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( 79 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأدبر صالح عنهم حين استعجلوه العذاب وعقروا ناقة الله ، خارجًا عن أرضهم من بين أظهُرهم ، لأن الله تعالى ذكره أوحَى إليه: إنّي مهلكهم بعد ثالثة.

وقيل: إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهُرها.

فأخبر الله جل ثناؤه عن خروج صالح من بين قومه الذين عتوا على ربهم حين أراد الله إحلال عقوبته بهم، فقال: ( فتولى عنهم ) صالح وقال لقومه ثمود ( لقد أبلغتكم رسالة ربي ) ، وأدّيت إليكم ما أمرني بأدائه إليكم ربّي من أمره ونهيه ( ونصحت لكم ) ، في أدائي رسالة الله إليكم ، في تحذيركم بأسه بإقامتكم على كفركم به وعبادتكم الأوثان ( ولكن لا تحبون الناصحين ) ، لكم في الله ، الناهين لكم عن اتباع أهوائكم ، الصادِّين لكم عن شهوات أنفسكم.

 

القول في تأويل قوله : وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 80 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا لوطًا.

ولو قيل: معناه: واذكر لوطًا ، يا محمد ، ( إذ قال لقومه ) إذ لم يكن في الكلام صلة « الرسالة » كما كان في ذكر عاد وثمود كان مذهبًا.

وقوله: ( إذ قال لقومه ) ، يقول: حين قال لقومه من سَدُوم، وإليهم كان أرسل لوط ( أتأتون الفاحشة ) ، وكانت فاحشتهم التي كانوا يأتونها ، التي عاقبهم الله عليها ، إتيان الذكور ( ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) ، يقول: ما سبقكم بفعل هذه الفاحشة أحد من العالمين ، وذلك كالذي:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار قوله: ( ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) ، قال: ما رُئي ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 81 )

قال أبو جعفر : يخبر بذلك تعالى ذكره عن لوط أنه قال لقومه، توبيخًا منه لهم على فعلهم: إنكم ، أيها القوم ، لتأتون الرجال في أدبارهم، شهوة منكم لذلك، من دون الذي أباحه الله لكم وأحلَّه من النساء ( بل أنتم قوم مسرفون ) ، يقول: إنكم لقوم تأتون ما حرَّم الله عليكم ، وتعصونه بفعلكم هذا.

وذلك هو « الإسراف » ، في هذا الموضع.

و « الشهوة » ، « الفَعْلة » ، وهي مصدر من قول القائل: « شَهَيتُ هذا الشيء أشهاه شهوة » ومن ذلك قول الشاعر:

وأَشْـعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ: ارْتَحِلْ! إذَا مَـا النُّجُـومُ أَعْـرَضَتْ وَاسْبَطَرَّتِ

فَقَــامَ يَجُـرُّ الـبُرْدَ , لَـوْ أَنَّ نَفْسَـهُ يُقَـالُ لَـهُ : خُذْهَـا بِكَـفَّيْكَ! خَـرَّتِ

 

القول في تأويل قوله : وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( 82 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وما كان جواب قوم لُوط للوط ، إذ وبَّخهم على فعلهم القبيح ، وركوبهم ما حرم الله عليهم من العمل الخبيث ، إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطًا وأهله ولذلك قيل: « أخرجوهم » ، فجمع ، وقد جرى قبل ذكر « لوط » وحده دون غيره.

وقد يحتمل أن يكون إنما جمع بمعنى: أخرجوا لوطًا ومن كان على دينه من قريتكم فاكتفى بذكر « لوط » في أول الكلام عن ذكر أتباعه، ثم جمع في آخر الكلام، كما قيل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ، [ الطلاق: 1 ] .

وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

( إنهم أناس يتطهرون ) ، يقول: إن لوطًا ومن تبعه أناس يتنـزهون عما نفعله نحنُ من إتيان الرجال في الأدبار.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد النخعي، عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، قال: من أدبار الرجال وأدبار النساء.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مجاهد: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، من أدبار الرجال وأدبار النساء.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، قال: يتطهرون من أدبار الرجال والنساء.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، قال: من أدبار الرجال ومن أدبار النساء.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، قال: يتحرَّجون.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، يقول: عابوهم بغير عَيْب، وذمُّوهم بغير ذَمّ.

 

القول في تأويل قوله : فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 83 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فلما أبى قوم لوط مع توبيخ لوط إياهم على ما يأتون من الفاحشة، وإبلاغه إياهم رسالة ربه بتحريم ذلك عليهم إلا التمادي في غيّهم، أنجينا لوطًا وأهله المؤمنين به ، إلا امرأته ، فإنها كانت للوط خائنة ، وبالله كافرة.

وقوله: ( من الغابرين ) ، يقول: من الباقين.

وقيل: ( من الغابرين ) ، ولم يقل « الغابرات » ، لأنه أريد أنها ممن بقي مع الرجال، فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قيل: « من الغابرين » .

والفعل منه: « غبَرَ يَغْبُرُ غُبُورًا ، وغَبْرًا » ، وذلك إذا بقي ، كما قال الأعشى:

عَــضَّ بِمَــا أَبْقَـى المَوَاسِـي لَـهُ مِــنْ أَمَــةٍ فِــي الـزَّمَنِ الغَـابِرِ

وكما قال الآخر:

وَأَبِــي الَّـذِي فَتَـحَ البِـلادَ بِسَـيْفِهِ فَأَذَلَّهـــا لِبَنِــي أَبَــانَ الغَــابِرِ

يعني: الباقي.

فإن قال قائل: فكانت امرأة لوط ممن نجا من الهلاك الذي هلك به قوم لوط؟

قيل: لا بل كانت فيمن هلك.

فإن قال: فكيف قيل: ( إلا امرأته كانت من الغابرين ) ، وقد قلت إن معنى « الغابر » الباقي؟ فقد وجب أن تكون قد بقيت؟

قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه ، وإنما عنى بذلك ، إلا امرأته كانت من الباقين قبلَ الهلاك ، والمعمَّرين الذين قد أتى عليهم دهرٌ كبيرٌ ومرّ بهم زمن كثيرٌ، حتى هرِمت فيمن هرِم من الناس، فكانت ممن غبرَ الدهرَ الطويلَ قبل هلاك القوم، فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب.

وقيل: معنى ذلك: من الباقين في عذاب الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ، [ سورة الشعراء : 171 /سورة الصافات : 135 ] ، في عذاب الله.

 

القول في تأويل قوله : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( 84 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأمطرنا على قوم لوط الذين كذبوا لوطًا ولم يؤمنوا به ، مطرًا من حجارة من سجّيل أهلكناهم به ( فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) ، يقول جل ثناؤه: فانظر ، يا محمد ، إلى عاقبة هؤلاء الذين كذبوا الله ورسوله من قوم لوط، فاجترموا معاصيَ الله ، وركبوا الفواحش ، واستحلوا ما حرم الله من أدبار الرجال، كيف كانت؟ وإلى أي شيء صارت؟ هل كانت إلا البوار والهلاك؟ فإن ذلك أو نظيرَه من العقوبة، عاقبةُ من كذَّبك واستكبر عن الإيمان بالله وتصديقك إن لم يتوبوا، من قومك.

 

القول في تأويل قوله : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 85 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ولد مدين و « مدين » ، هم ولدُه مديان بن إبراهيم خليل الرحمن، فيما:-

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.

فإن كان الأمر كما قال: فـ « مدين » ، قبيلة كَتميم.

وزعم أيضًا ابن إسحاق: أن شعيبًا الذي ذكر الله أنه أرسله إليهم ، من ولد مدين هذا، وأنه « شعيب بن ميكيل بن يشجر » ، قال: واسمه بالسريانية ، « يثرون » .

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على ما قاله ابن إسحاق: ولقد أرسلنا إلى ولد مدين ، أخاهم شعيب بن ميكيل، يدعوهم إلى طاعة الله ، والانتهاء إلى أمره، وترك السعي في الأرض بالفساد ، والصدِّ عن سبيله، فقال لهم شعيب: يا قوم ، اعبدوا الله وحده لا شريك له، ما لكم من إله يستوجب عليكم العبادة غير الإله الذي خلقكم ، وبيده نفعكم وضركم ( قد جاءتكم بينة من ربكم ) ، يقول: قد جاءتكم علامة وحجة من الله بحقيقة ما أقول ، وصدق ما أدعوكم إليه ( فأوفوا الكيل والميزان ) ، يقول: أتموا للناس حقوقهم بالكيل الذي تكيلون به ، وبالوزن الذي تزنون به ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ، يقول ولا تظلموا الناس حقوقهم ، ولا تنقصوهم إياها.

ومن ذلك قولهم: « تَحْسَبُها حَمْقَاءَ وهي بَاخِسَةٌ » ، بمعنى: ظالمة ومنه قول الله: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ، [ سورة يوسف: 20 ] ، يعني به: رديء.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ، : قال: لا تظلموا الناس أشياءهم.

قوله: ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) ، يقول: ولا تعملوا في أرض الله بمعاصيه ، وما كنتم تعملونه قبل أن يبعث الله إليكم نبيه، من عبادة غير الله ، والإشراك به ، وبخس الناس في الكيل والوزن ( بعد إصلاحها ) ، يقول: بعد أن قد أصلح الله الأرض بابتعاث النبي عليه السلام فيكم، ينهاكم عما لا يحل لكم ، وما يكرهه الله لكم ( ذلكم خير لكم ) ، يقول: هذا الذي ذكرت لكم وأمرتكم به ، من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، وإيفاء الناس حقوقهم من الكيل والوزن ، وترك الفساد في الأرض، خيرٌ لكم في عاجل دنياكم وآجل آخرتكم عند الله يوم القيامة ( إن كنتم مؤمنين ) ، يقول: إن كنتم مصدقيَّ فيما أقول لكم ، وأؤدِّي إليكم عن الله من أمره ونهيه.

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 86 )

قال أبو جعفر : يعني بقوله: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، ولا تجلسوا بكل طريق وهو « الصراط » توعدون المؤمنين بالقتل.

وكانوا ، فيما ذكر ، يقعدون على طريق من قصد شعيبًا وأراده ليؤمن به، فيتوعَّدونه ويخوِّفونه ، ويقولون: إنه كذاب!

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( بكل صراط توعدون ) ، قال: كانوا يوعدون مَنْ أتى شعيبًا وغشِيَه فأراد الإسلام.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، و « الصراط » ، الطريق، يخوِّفون الناس أن يأتوا شعيبًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله ) ، قال: كانوا يجلسون في الطريق ، فيخبرون مَنْ أتى عليهم: أن شعيبًا عليه السلام كذاب، فلا يفتنكم عن دينكم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: ( بكل صراط ) ، قال:طريق ( توعدون ) ، بكل سبيل حق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، كانوا يقعدون على كل طريق يوعدون المؤمنين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن السدي: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، قال: العشَّارُون.

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره شك أبو جعفر الرازي قال: أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسْرِي به على خشبة على الطريق ، لا يمرُّ بها ثوبٌ إلا شقته ، ولا شيء إلا خرقته ، قال: ما هذا يا جبريل ؟ ، قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه! ثم تلا ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون ) .

وهذا الخبر الذي ذكرناه عن أبي هريرة ، يدلّ على أن معناه كان عند أبي هريرة: أن نبي الله شعيبًا إنما نهى قومه بقوله: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، عن قطع الطريق، وأنهم كانوا قُطَّاع الطريق.

وقيل: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، ولو قيل في غير القرآن: « لا تقعدوا في كلّ صراط » ، كان جائزًا فصيحًا في الكلام ، وإنما جاز ذلك لأن الطريق ليس بالمكان المعلوم، فجاز ذلك كما جاز أن يقال: « قعد له بمكان كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا » .

وقال: ( توعدون ) ، ولم يقل: « تَعِدُون » ، لأن العرب كذلك تفعل فيما أبهمت ولم تفصح به من الوعيد. تقول: « أوعدته » بالألف ، « وتقدَّم مني إليه وعيد » ، فإذا بينت عما أوعدت وأفصحت به، قالت: « وعدته خيرًا » ، و « وعدته شرًّا » ، بغير ألف، كما قال جل ثناؤه: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، [ سورة الحج: 72 ] .

وأما قوله: ( وتصدون عن سبيل الله من آمن به ) ، فإنه يقول: وتردُّون عن طريق الله ، وهو الردُّ عن الإيمان بالله والعمل بطاعته ( من آمن به ) ، يقول: تردُّون عن طريق الله مَنْ صدق بالله ووحّده ( وتبغونها عوجًا ) ، يقول: وتلتمسون لمن سلك سبيل الله وآمن به وعمل بطاعته ( عوجًا ) ، عن القصد والحق ، إلى الزيغ والضلال ، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وتصدون عن سبيل الله ) ، قال: أهلها ( وتبغونها عوجًا ) ، تلتمسون لها الزيغ.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( وتبغونها عوجًا ) ، قال: تبغون السبيل عن الحق عوجًا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وتصدون عن سبيل الله ) ، عن الإسلام تبغون السبيل ( عوجًا ) ، هلاكًا.

وقوله: ( واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ) ، يذكرهم شعيب نعمة الله عندهم بأن كثّرَ جماعتهم بعد أن كانوا قليلا عددهم، وأنْ رَفعهم من الذلة والخساسة ، يقول لهم: فاشكروا الله الذي أنعم عليكم بذلك ، وأخلصوا له العبادة، واتقوا عقوبته بالطاعة، واحذروا نقمته بترك المعصية ، ( وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) ، يقول: وانظروا ما نـزل بمن كان قبلكم من الأمم حين عتوا على ربهم وعصوا رسله، من المَثُلات والنقمات، وكيف وجدوا عقبى عصيانهم إياه؟ ألم يُهلك بعضهم غرقًا بالطوفان ، وبعضهم رجمًا بالحجارة ، وبعضهم بالصيحة؟

و « الإفساد » ، في هذا الموضع ، معناه: معصية الله.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 87 )

قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره: ( وإن كان طائفة منكم ) ، وإن كانت جماعة منكم وفرقة ( آمنوا ) ، يقول: صدّقوا ( بالذي أرسلتُ به ) من إخلاص العبادة لله ، وترك معاصيه ، وظلم الناس ، وبخسهم في المكاييل والموازين، فاتّبعوني على ذلك ( وطائفة لم يؤمنوا ) ، يقول: وجماعة أخرى لم يصدِّقوا بذلك، ولم يتبعوني عليه ( فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ) ، يقول: فاحتبسوا على قضاء الله الفاصل بيننا وبينكم ( وهو خير الحاكمين ) ، يقول: والله خيرُ من يفصل وأعدل من يقضي، لأنه لا يقع في حكمه مَيْلٌ إلى أحدٍ، ولا محاباة لأحدٍ.