فصل: في لفظ ‏المعصية‏ و‏الفسوق‏ و‏الكفر

الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية

السؤال: فصل: في لفظ ‏المعصية‏ و‏الفسوق‏ و‏الكفر
الإجابة: فصـــل:

وكذلك لفظ ‏[‏المعصية‏]‏ و ‏[‏الفسوق‏]‏ و ‏[‏الكفر‏]‏، فإذا أطلقت المعصية للّه ورسوله دخل فيها الكفر والفسوق، كقوله‏:‏‏{‏‏وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً‏}‏‏ ‏[‏الجن‏:‏23‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏‏وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ‏}‏‏ ‏[‏هود‏:‏59‏]‏، فأطلق معصيتهم للرسل بأنهم عصوا هوداً معصية تكذيب لجنس الرسل، فكانت المعصية لجنس الرسل كمعصية من قال‏:‏ ‏{‏‏فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ‏}‏‏ ‏[‏الملك‏:‏9‏]‏، ومعصية من كذب وتولى، قال تعالى‏:‏‏{‏‏لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏‏ ‏[‏الليل‏:‏15-16‏]‏، أي‏:‏ كذب بالخبر، وتولي عن طاعة الأمر، وإنما على الخلق أن يصدقوا الرسل فيما أخبروا، ويطيعوهم فيما أمروا‏.

‏‏ وكذلك قال في فرعون‏:‏ ‏{‏‏فَكَذَّبَ وَعَصَى‏}‏‏ ‏[‏النازعات‏:‏21‏]‏، وقال عن جنس الكافر‏:‏ ‏{‏‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏‏ ‏[‏القيامة‏:‏31-32‏]‏‏.‏ فالتكذيب للخبر، والتولي عن الأمر‏.‏

وإنما الإيمان تصديق الرسل فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏‏كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ‏}‏‏ ‏[‏المزمل‏:‏15- 16‏]‏‏.

‏‏ ولفظ ‏[‏التولي‏]‏ بمعنى التولي عن الطاعة مذكور في مواضع من القرآن،كقوله‏:‏ ‏{‏‏سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏‏ ‏[‏الفتح‏:‏16‏]‏، وذمه في غير موضع من القـرآن من تولى، دليل على وجوب طاعة اللّه ورسوله وأن الأمر المطلق يقتضى وجوب الطاعة، وذم المتولى عن الطاعة؛ كما علق الذم بمطلق المعصية في مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ‏}‏‏‏.

‏‏ وقد قيل‏:‏ إن ‏[‏التأبيد‏]‏ لم يذكر في القرآن إلا في وعيد الكفار؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏‏ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏93‏]‏‏.‏وقال فيمن يجور في المواريث‏:‏ ‏{‏‏وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏ ‏[‏ النساء‏:‏14 ‏]‏‏.‏ فهنا قيد المعصية بتعدي حدوده، فلم يذكرها مطلقة، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏‏ ‏[‏ طه‏:‏121 ‏]‏، فهي معصية خاصة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ‏}‏‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏152‏]‏، فأخبر عن معصية واقعة معينة، وهي معصية الرماة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمرهم بلزوم ثغرهم، وإن رأوا المسلمين قد انتصروا، فعصى من عصى منهم هذا الأمر، وجعل أميرهم يأمرهم لما رأوا الكفار منهزمين، وأقبل من أقبل منهم على المغانم‏.‏

وكذلك قوله‏:‏‏{‏‏وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ‏}‏‏ ‏[‏ الحجرات‏:‏7 ‏]‏ ، جعل ذلك ثلاث مراتب‏.

‏‏ وقد قال‏:‏ ‏{‏‏وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ‏}‏‏ ‏[‏ الممتحنة‏:‏12 ‏]‏، فقيد المعصية؛ ولهذا فسرت بالنياحة، قاله ابن عباس، وروي ذلك مرفوعاً‏.‏

وكذلك قال زيد بن أسلم‏:‏ لا يدعن ويلاً، ولا يخدشن وجهاً، ولا ينشرن شعراً، ولا يشققن ثوباً، وقد قال بعضهم‏:‏ هو جميع ما يأمرهم به الرسول من شرائع الإسلام وأدلته كما قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

ولفظ الآية عام أنهن لا يعصينه في معروف‏.‏

ومعصيته لا تكون إلا في معروف؛ فإنه لا يأمر بمنكر، لكن هذا كما قيل‏:‏ فيه دلالة على أن طاعة أولي الأمر إنما تلزم في المعروف، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ "‏‏إنما الطاعة في المعروف‏"‏‏، ونظير هذا قوله‏:‏‏{‏‏اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏24‏]‏، وهو لا يدعو إلا إلى ذلك‏.

‏‏ والتقييد هنا لا مفهوم له؛ فإنه لا يقع دعاء لغير ذلك، ولا أمر بغير معروف، وهذا كقوله تعالى‏:‏‏{‏‏وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً‏}‏‏ ‏[‏النور‏:‏33‏]‏، فإنهن إذا لم يردن تحصناً، امتنع الإكراه‏.‏

ولكن في هذا بيان الوصف المناسب للحكم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ‏}‏‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏117‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏61‏]‏‏.

‏‏ فالتقييد في جميع هذا للبيان والإيضاح، لا لإخراج في وصف آخر؛ ولهذا يقول من يقول من النحاة‏:‏ الصفات في المعارف للتوضيح لا للتخصيص، وفي النكرات للتخصيص، يعني في المعارف التي لا تحتاج إلى تخصيص، كقوله‏:‏ ‏{‏‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏‏ ‏[‏الأعلى‏:‏1- 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ‏}‏‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏2- 3‏]‏‏.‏

والصفات في النكرات إذا تميزت تكون للتوضيح أيضاً، ومع هذا فقد عطف المعصية على الكفر والفسوق في قوله‏:‏‏{‏‏وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ‏}‏‏ ‏[‏الحجرات‏:‏7‏]‏، ومعلوم أن الفاسق عاص أيضاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.