أقصى مدة يمكن أن يمكثها الإنسان ولم يصِل رحمه

محمد الحسن الددو الشنقيطي

السؤال: هل هناك أثر فيه أقصى مدة يمكن أن يمكثها الإنسان ولم يصِل رحمه؟
الإجابة: إن النبي صلى الله عليه وسلم حضَّ على صلة الرحم، وقد عدَّ الله تعالى قطيعة الرحم من عمل الكفار المشركين، فقال في سورة محمد: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لما خلق الخلق ففرغ منه قامت الرحم فأمسكت بساق العرش، فقالت: يا رب هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: "أما ترضين أن أصِلَ من وصلك، وأقطع من قطعك؟"، وهذا وعد عظيم من الله سبحانه وتعالى ووعيد كذلك شديد، فالوعد لمن وصل رحمه أن يصله الله تعالى، والوعيد على من قطع رحمه أن يقطعه الله تعالى، وذلك يشمل نقص توفيقه وعدم قبول عمله فمن قطعه الله تعالى لا يمكن أن يوفق لخير.

وقد نص أهل العلم على أن للرحم ثلاث مقامات:

فالمقام الأول من يرثك وترثه فهذا آكد الأرحام وتجب صلته.
والمقام الثاني: من تعرف نسبك إليه، تعرف المكان الذي تتصل بنسبه فيه وهذا هو أوسط درجات الرحم.
والمقام الثالث من ينتمي معك إلى عشيرة واحدة فهذا المقام الثالث وهو أدنى مقامات الرحم.

ولا شك أن المقام الأول آكدها في الصلة، وأن من قطعه فهو مسخوط الشهادة في المسلمين ومن العصاة ما لم يتب إلى الله سبحانه وتعالى، وأيضاً فإن توبته لا تَجُبُّ ذلك الذنب لما فيه من حق المخلوق فالله تعالى غني عن حقوقه والمخلوق مفتقر إلى حقوقه، فيحتاج الإنسان إلى التماس المسامحة ممن كان قطعه.

ومدة ذلك متفاوتة، ففي حق الوالدين مثلاً لا شك أن الاعتبار في ذلك هو الإحسان إليهما وما يرضيهما باعتبار العرف، لأن الله أمر بالإحسان إليهما، فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، وقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} فكل هذا يقتضي من الإنسان الإحسان إلى والديه بكل أنواع الإحسان بما يدخل في هذا الاسم من المعاني، وذلك يقتضي أن لا يمكث وقتاً يستطيع الوصول إليهما فيه والاطلاع على حالهما دون عذر، فانقطاع الإنسان عنهما بدون عذر سفه ونقص في الإحسان إليهما، وبالأخص إذا تذكر ما كانا يقومان به في صباه، وأنهما لم يكونا يتضجران بحاله في صغره ولا يتأذيان بأذاه، فيمنعهما نومهما ببكائه وصراخه، ويقومان عليه في حال ضعفه وعجزه، ولا يستقذران شيئاً من أقذاره فكل ذلك يقتضي منه القيام بحقهما، ولهذا أدبنا الله تعالى أن نقول: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}، وقد سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك، ثم أدناك أدناك".

فلذلك على الإنسان أن يرتبهم بحسب الدنو في القرابة، فالأم والأب والأدنى فالأدنى هؤلاء هم الذين يوصلون من ذوي الأرحام، وقد ذكر البخاري رحمه الله في الصحيح عموم صلة الرحم فقال: "هي إشراك الإنسان القرابات فيما أوتي من أنواع الخيرات"، هذا تعريف البخاري رحمه الله لصلة الرحم أنها إشراك الإنسان للقرابات فيما أوتي من الخيرات، فهذا يشمل إشراكهم في عقله بالنصح، وإشراكهم في علمه بالتعليم، وإشراكهم في دعائه، وإشراكهم في ماله وإشراكهم في جاهه، في كل ما أوتي من أنواع الخيرات.

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أن تأذي ذوي الأرحام بالصلة لا يقطعها، وبيَّن أن ذوي الرحم الكاشح في وصلهم من الأجر ما ليس في ذوي الرحم الواصل، وقال: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من يصل ذا الرحم الكاشح"، ليس الواصل بالمكافئ الذي إذا زاره قريبه زاره، وإذا أهدى إليه أهدى إليه في المقابل، هذا ليس بواصل للرحم، إنما هو مكافئ على نعمة وإحسان، إنما الواصل الذي يقطعه ذوو رحمه فيصلهم، ويؤذونه فيحسن إليهم فهذا هو الواصل، وهذا مما كان العرب يتمدحون به في الجاهلية وقد قال أحدهم:
يعاتبني في الدين قومي وإنما *** ديوني في أشياء تُكسبهم حمداً
ألم يدرِ قومي كيف أوسر مرة *** وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا
فما زادني الإقتار منهم تقرباً *** ولا زادني فضل الغنى منهم بعداً
أسدُّ به ما قد أخلوا وضيعوا *** ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدّاً
وإن الذي بيني وبين بني أبي *** وبين بني عمي لمختلف جداً
أراهم إلى نصري بطاء وإن همُ *** دعوني إلى نصر أجبتهم شداً
ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ *** وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تطاول بي غنى *** وإن قل مالي لم أكلفهمُ رفدا

وقد أثنى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما وقف عليه شهيداً يوم الجمل فبكى، فمسح التراب عنه وأنشأ يقول:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه *** إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
فتى لا يعد المال رَبّاً ولا يُرى *** به نخوة إن نال مالا ولا كبر

ولا يمكن أن يحدد وقت للزيارة ولا للصلة فإنما هي بحسب حال الإنسان وقدرته، وبحسب حال المزور أيضاً، فإن كان مريضاً فلا بد أن تكون هذه الزيارة متقاربة للحاجة إليها، ولذلك فإن أمية بن الأسكر الثقفي رضي الله عنه وقد كان يسكن بالطائف وهو ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيراً فقد عاش في الجاهلية زماناً طويلاً وعمي، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم ولداه وهما كعب وكلاب، وكان كلاب أحب أولاده إليه، فجاء سعد بن أبي وقاص يحض أهل مكة وأهل الطائف على الغزو معه في سبيل الله إلى القادسية، فخرج ولدا أمية بن الأسكر فبكى بكاء شديداً لفراقهما وهو شيخ كبير ترتعش يداه وقد عمي، فكان من شعره الذي وصل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إذ ذاك:
يا ابني أمية إني عنكما غانٍ *** وما الغنى غير أني مرعش فانٍ
يا ابني أمية إلا تشهدا كبري *** فإن نأيكما والثكل مثلان
إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا *** وإذ فراقكما والنأي سيان
يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني *** ريب المنون وهذان الجديدان
إما تري حجري قد رَكَّ جانبه *** فقد يسرك صلبا غير كَذَّان
أو ما تريني لا أمضي إلى سفر *** إلا معي واحد منكم أو اثنان
ولست أهدي بلادا كنت أسكنها *** قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني
أمسيت هُزْءاً لراعي الضأن أعجبه *** ماذا يريبك مني راعي الضان
انعق بضأنك في نجم تحفره *** من المواضع واحبسها بجمدان
إن ترع ضأنا فإني قد رعيتهمُ *** بيض الوجوه بني عمي وإخواني

فلما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه شعره رحمه وأرسل إلى سعد أن يسفر إليه كلاباً، فجاءه بالمدينة وأرسل إلى أمية فجيء به، فسأله: لماذا أحببت كلاباً؟ فقال: كان أبر أولادي بي، وكان إذا أراح الإبل اختار أحبها إليَّ فغسل ضرعها بالماء وغسل الإناء واحتلب بيده وأمسك عليَّ القعب حتى أشرب منه، فأمر عمر كلاباً ففعل ذلك، فجاء عمر فأمسك القعب على أمية، فلما ذاقه قال: "حلبُ كلابٍ ورب الكعبة"، فعرف طعم حلبه كما عرف يعقوب عليه السلام ثوب يوسف، فأمره عمر أن يلزمه وأن لا يفارقه حتى يموت.

ومثل ذلك من قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي استأذنه في الجهاد قال: "ألك والدان؟" قال: نعم، قال: "فيهما فجاهد"، فإذا كان الوالدان ضعيفان فلابد من الاتصال بهما في كل الأوقات والقيام بشؤونهما ورعايتهما، ويتفاوت الحال مع من سواهما من ذوي الرحم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.