مخالفات السالكين في دعوى حب الله

الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية

السؤال: مخالفات السالكين في دعوى حب الله
الإجابة: وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب اللّه أنواعاً من أمور الجهل بالدين، إما من تعدي حدود اللّه، وإما من تضييع حقوق اللّه، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها، كقول بعضهم‏:‏ أي مريد لي ترك في النار أحداً فأنا منه بريء، فقال الآخر‏:‏ أي مريد لي ترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء، فالأول‏:‏ جعل مريده يخرج كل من في النار، والثاني‏:‏ جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار‏.‏ ويقول بعضهم‏:‏ إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد، وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين، وهي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم، ومثل هذا قد يصدر في حال سكر، وغلبة، وفناء يسقط فيها تمييز الإنسان، أو يضعف حتى لا يدري ما قال، والسكر هو لذة مع عدم تمييز؛ ولهذا كان بين هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام‏.

‏‏ والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب، والشوق، واللوم، والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم‏.‏ ولهذا أنزل اللّه للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال‏:‏ ‏{‏‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، فلا يكون محباً للّه إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية‏.

‏‏ وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته، ويدعي من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول، وسنته، وطاعته، بل قد جعل محبة اللّه ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر اللّه به، وكمال بغض ما نهى اللّه عنه؛ ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه‏:‏ ‏{‏‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.

‏‏ ولهذا كانت محبة هذه الأمة للّه أكمل من محبة من قبلها، وعبوديتهم للّه أكمل من عبودية من قبلهم، وأكمل هذه الأمة في ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل، فأين هذا من قوم يدعون المحبة‏؟‏‏!‏ وفي كلام بعض الشيوخ‏:‏ المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب، وأرادوا أن الكون كله قد أراد اللّه وجوده، فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء، حتى الكفر والفسوق، والعصيان، ولا يمكن أحداً أن يحب كل موجود، بل يحب ما يلائمه وينفعه، ويبغض ما ينافيه ويضره، ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم، فهم يحبون ما يهوونه كالصور، والرئاسة وفضول المال، والبدع المضلة، زاعمين أن هذا من محبة اللّه، ومن محبة اللّه بغض ما يبغضه اللّه ورسوله، وجهاد أهله بالنفس والمال‏.

‏‏ وأصل ضلالهم‏:‏ أن هذا القائل الذي قال‏:‏ إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد اللّه تعالى الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه، فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب للّه، وهذا معنى صحيح، فإن من تمام الحب ألا يحب إلا ما يحبه اللّه، فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة، وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهي عنه، فإن لم أوافقه في بغضه، وكراهته، وسخطه لم أكن محباً له، بل محباً لما يبغضه‏.‏ فإتباع الشريعة، والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة اللّه وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من يدعي محبة اللّه ناظراً إلى عموم ربوبيته، أو متبعاً لبعض البدع المخالفة لشريعته، فإن دعوى هذه المحبة للّه من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة للّه، بل قد تكون دعوى هؤلاء شراً من دعوى اليهود والنصارى، لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الأسفل من النار، كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شراً من دعواهم، إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم، وفي التوراة والإنجيل من محبة اللّه ما هم متفقون عليه، حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس‏.

‏‏ ففي الإنجيل أن المسيح قال‏:‏ ‏(‏أعظم وصايا المسيح أن تحب اللّه بكل قلبك وعقلك ونفسك‏)‏، والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة، وإن ما هم فيه من الزهد، والعبادة هو من ذلك، وهم برآء من محبة اللّه، إذا لم يتبعوا ما أحبه، بل اتبعوا ما أسخط اللّه وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم، واللّه يبغض الكافرين ويمقتهم، ويلعنهم، وهو سبحانه يحب من يحبه، لا يمكن أن يكون العبد محباً للّه، واللّه تعالى غير محب له، بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب اللّه له، وإن كان جزاء اللّه لعبده أعظم، كما في الحديث الصحيح الإلهي عن اللّه تعالى أنه قال "من تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة‏".

‏‏ وقد أخبر سبحانه أنه يحب المتقين، والمحسنين والصابرين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب، كما في الحديث الصحيح "لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به‏"‏‏ الحديث‏.

‏‏ وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياخاً في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى، من دعوى المحبة للّه مع مخالفة شريعته، وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك، ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى اللّه، بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه، والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن قائلها معصوماً، فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا، كما جعل النصارى قسيسيهم، ورهبانهم شارعين لهم ديناً، ثم إنهم ينتقصون العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعى النصارى في المسيح، ويثبتون للخاصة من المشاركة في اللّه من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه، إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع‏.

‏‏ وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية للّه بكل وجه، وهو تحقيق محبة اللّه بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير اللّه، كانت فيه عبودية لغير اللّه بحسب ذلك، وكلما كان فيه عبودية لغير اللّه كان فيه حب لغير اللّه بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون للّه فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه اللّه فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان للّه، ولا يكون للّه إلا ما أحبه اللّه ورسوله، وهو المشروع، فكل عمل أريد به غير اللّه لم يكن للّه، وكل عمل لا يوافق شرع اللّه لم يكن للّه، بل لا يكون للّه إلا ما جمع الوصفين، أن يكون للّه، وأن يكون موافقاً لمحبة اللّه ورسوله، وهو الواجب والمستحب، كما قال‏:‏ ‏ {‏‏فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً‏}‏‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏‏.

‏‏ فلابد من العمل الصالح، وهو الواجب، والمستحب، ولابد أن يكون خالصاً لوجه اللّه تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله، فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏"‏‏‏.

‏‏ وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين، وبه أرسل اللّه الرسل، وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول، وعليه جاهد، وبه أمر، وفيه رغب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه‏.‏

والشرك غالب على النفوس، وهو كما جاء في الحديث"وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل‏"‏‏، وفي حديث آخر‏:‏ قال أبو بكر‏ "يا رسول اللّه، كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل ‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ ‏‏ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله ‏؟‏ قل‏:‏ اللّهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم‏".

‏‏ وكان عمر يقول في دعائه‏:‏ اللّهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.