الصلاة على المنتحر

خالد عبد المنعم الرفاعي

السؤال: هل يصلى على المنتحر ويدفن في مقابر المسلمين؟
الإجابة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّ قَتْلَ النَّفْسِ من كبائرِ الذُّنوبِ، وقد جاء الوعيدُ الشديدُ في حَقِّ مَنْ فَعلَ ذلك.
قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29].
وفي الصحيحَيْنِ عن جُنْدبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمَنْ كان قبلكم رجُلٌ به جُرْحٌ، فجَزِعَ فأخذ سِكِّيناً فَحَزَّ بِها يَدَهُ، فما رَقَأَ الدَّمُ حتَّى ماتَ، قال الله تعالى: بَادَرَنِي عبدي بنفسه، حرَّمتُ عليْهِ الجَنَّةَ".

لكنه لا يخرج عن دائرة الإسلام؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، ولما روى مُسْلِمٌ أنَّ الطفيل بْنَ عَمْرٍو هاجَرَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فاجْتَوَوُا المدينةَ فَمَرِضَ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ له فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشخبتْ يَدَاهُ حتَّى ماتَ، فرآه الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو في مَنَامِهِ فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، ورآه مغطِّياً يديه، فقال له: ما صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فقال: غَفَرَ لي بِهِجْرَتِي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أراك مغطِّياً يديك؟ قال: قيل لي: لن نُصْلِحَ منك ما أفسدتَ، فَقَصَّها الطُّفَيْلُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ".

- قال الإمام النَّووِي في شرحه على مسلم: "أمَّا أَحْكَام الْحَدِيث فَفِيهِ حُجَّة لِقَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ لِأَهْلِ السُّنَّة أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ أَوِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً غَيْرهَا وَمَاتَ مِنْ غَيْر تَوْبَةٍ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَلا يُقْطَع لَهُ بِالنَّارِ، بَلْ هُوَ فِي حُكْم الْمَشِيئَة".

- وقال ابْنُ بَطَّالٍ في (شَرْحِ البُخَارِيّ): "أَجْمَعَ الفُقَهاءُ وأَهْلُ السُّنَّة أنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ أنَّهُ لا يخرج بذلك عن الإسلام، وأنه يُصَلَّى عليه، وإثْمه عليه كما قال مالكٌ، ويُدفن في مقابر المسلمين، ولم يَكْرهِ الصلاةَ عليه إلا عُمَرُ بن عبد العزيز، والأوزاعيُّ في خاصَّة أَنْفُسِهِما، والصَّوابُ قَوْلُ الجماعةِ".

.. هذا؛ وقد دلَّتِ السُّنةُ على جواز صلاة عامَّة الناس على المنتحِر، وأما أهلُ العلم والفضلِ فيمتَنِعون عن الصلاة عليه ردعاً وزجراً لأمْثالِه.

فعن جابر بن سمرة قال: أُتِي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قَتَل نَفْسَهُ بِمشاقِصَ فلم يُصَلِّ عليه (رواه مسلم)، والمِشقص: سهم عريض له طرفٌ حادٌّ.

- قال النووي: "وَهَذَا كَمَا تَرَكَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاة فِي أَوَّل الأمْر عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْن؛ زَجْراً لَهُمْ عن التسَاهُل في الاستِدَانة وعن إِهْمَال وفائه، وَأَمَرَ أَصْحَابه بِالصَّلاةِ عَلَيْهِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا على صَاحِبكُمْ".

- قَالَ الْقَاضِي: "مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة: الصَّلاة عَلَى كُلّ مُسْلِم، وَمَحْدُود، وَمَرْجُوم، وَقَاتِل نَفْسه، وَوَلَد الزِّنَا"، وَعَنْ مَالِك وَغَيْره: أَنَّ الإمَام يَجْتَنِب الصَّلاة عَلَى مَقْتُول فِي حَدٍّ. انتهى.

- وقال شيخ الإسلام في اختياراته: "ومن امتنع من الصلاة على أحدهم -أي: الغالّ والقاتل والمدين- زجراً لأمثاله عن مثل فعله كان حسناً، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين: كان أولى من تفويت إحداهما"، والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن موقع الآلوكة.