غسل الملابس المتنجسة بالبخار

الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل

السؤال: ما حكم الملابس التي ترد من بلاد غير المسلمين. هل يجوز للمسلم استعمالها، والصلاة فيها بدون غَسل أو لا بُدَّ من غسلها؟ وإذا كان لا بد من غسلها فهل يجزئ غسلها بالبخار أم لا؟
الإجابة: هذا السؤال ذو شقين.

الأول: هل يجوز استعمالها بدون غسل أم لا بد من غسلها؟ والثاني: هل يجزئ غسلها بالبخار أم لا؟

فأما الشق الأول، فجوابه: أنه يجوز استعمالها بدون غسل.
قال في (كشاف القناع عن متن الإقناع) (1): ولا يجب غسل الثوب المصبوغ في حُبِّ الصبَّاغ مسلمًا كان الصبّاغ أو كافرًا نصًّا. قيل للإمام أحمد عن صبغ اليهود بالبول، فقال: المسلم والكافر في هذا سواء.

ولا يسأل عن هذا، ولا يبحث عنه، فإن علمت نجاسته فلا تُصَل فيه حتى تغسله، وإذا علمت نجاسته فإنه يطهر بالغسل المعتبر، ولو بقي اللون بحاله.

الشق الثاني من السؤال: هل يجزئ غسل النجاسة بالبخار أم لا؟ وهذا سؤال مهم، ويحتاج إلى جواب مفصل.

والظاهر أنكم تقصدون البخار الناري الممزوج بسائل يلطف حرارة النار وينفذ بين مسام الثياب ونحوها؛ حتى يحصل بذلك إزالة الأوساخ والنجاسات العالقة بالملابس وغيرها.

وعلى هذا فلا يخلو هذا السائل: إما أن يكون ماء طهورًا، فهذا يحصل به التطهير إذا زالت عين النجاسة ولم يبق لها أثر في اللون والرائحة وغيرها. وإما أن يكون السائل نجسًا، فهذا لا يزيد النجاسة إلا تلوثًا. وإما أن يكون ماءً مختلطًا بشيء من الطاهرات كالخل وعصير الأشجار، وما يخرج من الأرض كالكيروسين وغيره من مشتقات البترول، وغير ذلك. إذا عرف هذا فإزالة النجاسات من قسم التروك الذي لا يحتاج إلى نية.

لكن هل يشترط لها الماء الطهور أم لا؟ وهل إذا أزيلت بغير الماء الطهور يزول حكمها كليًّا أم لا؟ وهذه المسألة مما اختلف فيه أهل العلم. فالمشهور من المذهب اشتراط الماء الطهور. والقول الآخر أنها إذا أزيلت بأي مائع مطهر ولم يبق للنجاسة أثر -من لون ولا ريح ولا غيره- أنها تطهر بذلك، كما اختاره شيخنا عبد الرحمن السعدي.

وهذا هو الأصح دليلاً، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال في (الاختيارات) (2): وتطهر النجاسة بكل مائع طاهر يزيل، كالخل ونحوه، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن عقيل، وهو مذهب الحنفية.

وقال في موضع آخر (الاختيارات) (3): وتجوز طهارة الحدث بكل ما يسمى ماء، وبمعتصر الشجر. قاله ابن أبي ليلى والأوزاعي والأصم وابن شعبان. وبالمتغير بطاهر، وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب أبي حنيفة. انتهى.

والقول الأول هو المشهور من المذهب، وقد ترجم عليه شيخ المذهب في وقته مجد الدين بن تيمية المتوفى سنة (621هـ) في كتابه المشهور (المنتقى)، فقال: باب تعين الماء لإزالة النجاسة: عن عبد الله بن عمرو، أن أبا ثعلبة قال: يا رسول الله، أفتنا في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها؟ قال: "إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء، واطبخوا فيها" (رواه أحمد) (4).

وعن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: يا رسول الله، إنا بأرض أهل الكتاب فنطبخ في قدورهم ونشرب في آنيتهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء" (رواه الترمذي (5)، وقال: حسن صحيح).
والرحض: الغسل.

وذكر أيضًا حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبَها من دم الحيضة، كيف تصنع؟ فقال: "تَحُتُّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه" (متفق عليه) (6).

قال الشارح، محمد بن علي الشوكاني، في (نيل الأوطار) (7): وقد استدل المصنف رحمه الله بما ذكره في الباب، على أنه يتعين الماء لإزالة النجاسة، وكذلك فعل غيره.

ولا يخفاك أن مجرد الأمر به لإزالة خصوص هذه النجاسة لا يستلزم أنه يتعين لكل نجاسة، فالتنصيص عليه في هذه النجاسة الخاصة لا ينفي إجزاء ما عداه من المطهرات فيما عداها، فلا حصر على الماء، ولا عموم باعتبار المغسول، فأين دليل التعين المُدعى؟

واستدل (8) الخطابي والنووي بالحديث على أن النجاسات إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات. قال في (الفتح): لأن جميع النجاسات بمثابة الدم، ولا فرق بينه وبينها إجماعًا. وهو قول الجمهور؛ أي تعين الماء لإزالة النجاسة.

وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر. واحتجوا بقول عائشة: ما كان لإحدانا إلاَّ ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض قالت بريقها، فَمَصَعَته بظفرها (9).

وأجيب بأنها ربما فعلت ذلك تحليلاً لأثره، ثم غسلته بعد ذلك.

والحق أن الماء أصل في التطهير؛ لوصفه بذلك -كتابًا وسنة- وصْفًا مطلقًا غير مقيد، لكن القول بتعينه وعدم إجزاء غيره يرده حديث مسح النعل، وفرك المني وحتّه وإماطته بإذخرة، وأمثال ذلك كثير. ولم يأت دليل يقضي بحصر التطهير في الماء، ومجرد الأمر به في بعض النجاسات لا يستلزم الأمر به مطلقًا، وغايته تعينه في ذلك المنصوص بخصوصه، إن سلم.

فالإنصاف أن يقال: إنه يَطْهُرُ كلُّ فرد من أفراد النجاسة المنصوص على تطهيرها بما اشتمل عليه النص، إن كان فيه إحالة على فرد من أفراد المطهرات، لكنه إن كان ذلك الفردُ المحال عليه هو الماءَ فلا يجوز العدول إلى غيره؛ للمزية التي اختص بها، وعدم مساواة غيره له فيها، وإن كان ذلك الفرد غير الماء جاز العدول عنه إلى الماء لذلك. وإن وجد فرد من أفراد النجاسة لم يقع من الشارع الإحالة في تطهيره على فرد من أفراد المطهرات، بل مجرد الأمر بمطلق التطهير -فالاقتصار على الماء هو اللازم لحصول الامتثال به بالقطع، وغيره مشكوك فيه. وهذه طريقة متوسطة بين القولين، لا محيص عن سلوكها. انتهى من (نيل الأوطار) ملخصًا. والله أعلم.

___________________________________________

1 - وهو من أشهر كتب متأخري الحنابلة، مؤلفه الشيخ منصور بن يونس البهوتي المتوفى سنة (1051هـ).
2 - (ص 23).
3 - (ص 3).
4 - أحمد (2/184)، وأبو داود (2857)، من طريق حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، به. وإسناده حسن، على الخلاف الواقع في نسخة عمرو بن شعيب، وقد حسنه الألباني في (الإرواء) (1/76)، ومعناه ثابت في (الصحيحين)، كما سيأتي.
5 - (الجامع) (1797)، والحديث أصله في (الصحيحين)، البخاري (5478)، ومسلم (1930).
6 - البخاري (227)، ومسلم (291) واللفظ لمسلم.
7 - (نيل الأوطار) (1/41).
8 - (نيل الأوطار) (1/ 39).
9 - البخاري (312) من حديث مجاهد، عن عائشة به.