التصويت على مسائل الدين في الفضائيات والمنتديات

الشيخ خالد عبد المنعم الرفاعي

السؤال:

ما حكم التصويت على مسائل الدين في الفضائيات والمنتديات؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّ التَّصويتَ على مسائلِ الدين بالصورة المنتشرة في بعض المنتديات أو المواقع الإخباريَّة وساحات الحوار من وضع استفتاءٍ مثلاً عن تعدُّد الزَّوجات أوتَحريم ربا البنوك أو حرية الرِّدَّة، وغير ذلك من أحكام الشريعةِ الثابتة للتَّصويت-: لا يَجوزُ ألبتة.

فالأحكام العقديَّة، والأحكام التعبُّديَّة، والأحكام التشريعية، لا يُمكنُ تعريضُها للتَّصويت وأخذ الرأي؛ لأنَّ الأمر فيها لله وحده وليس للخلق إلا الرضا والتسليم؛ قال الله تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26]، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف: 40]، وقال {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 55]، وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

وهو مُنكرٌ من القول وزُور؛ فالمسلم لا يسَعُه في أحكام الشَّرع إلا التَّسليمُ المُطْلق لأحكامِه الغرَّاء ولا حقَّ له في الاعتِراض أو الخروج عليها، بل لو اعترض ورفض تطبيقَ أيِّ حُكْمٍ صارَ مُرْتَدًّا؛ قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65]، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

ولْيُعْلَمْ أنَّ هذهِ الأُمُورَ ما دخلتْ على المسلمين إلا عن طريق التشبُّه بالكافرين، أوِ الجهل بأحكام الشَّريعة، أو الاستخفاف بِها، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30]؛ فمَن ظنَّ أنَّه يسوغُ له الخروج عن الشريعة النبوية أو اعترض على بعض أحكامها، كَفَر.

قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية: "إنَّه قد عُلِمَ بِالاضْطِرار منْ دين الإسلام: أنَّ رِسالةَ مُحَمَّد بن عبدالله صلى الله عليه وسلَّم لِجميع الناس: عربِهم وعَجَمِهم ومُلُوكِهم وزُهَّادِهِم وعُلمائِهم وعامَّتِهم، وأنَّها باقيةٌ دائمةٌ إلى يوم القيامة؛ بل عامَّة الثقلين الجن والإنس، وأنَّه ليس لأحدٍ منَ الخلائق الخروجُ عن مُتابَعَتِه وطاعَتِه ومُلازمة ما يشرَعُه لأُمَّتِه من الدين، وما سنَّهُ لَهُم من فِعْل المأمورات وتَرْكِ المَحظورات، بَلْ لو كان الأنبياءُ المُتَقَدِّمُون قَبْلَه أحياءً لَوَجَبَ عليْهِم مُتابعتُه ومطاوَعَتُه، وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]، قال ابْنُ عبَّاس: ما بَعَثَ اللَّهُ نبيًّا إلا أخذ عليه الميثاق: لئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهو حيّ ليؤمِنَنَّ به ولينصرَنَّه وأَمَرَهُ بأخْذِ الميثاقِ على أُمَّتِه لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّد وهو حي ليؤمِنُنَّ به ولينصُرُنَّه.

وفي "سنن النسائي" عن جابر: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى بيدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب ورقةً من التَّوراة فقال: "أمُتَهَوِّكُونَ يا ابْنَ الخطَّاب؟! لقدْ جِئْتُكُم بِها بَيْضَاءَ نَقِيَّة، لو كان موسى حيًّا ما وسِعَهُ إلا اتِّباعي".

ورواه أحمد في "المسند" ولفظُه: "ولو كان موسى حيًّا ثُمَّ اتَّبعتُمُوه وتركْتُموني لَضَلَلْتُم"، وفي "مراسيل أبي داود" قال: "كفى بقومٍ ضلالةً أن يَبتغوا كتابًا غيرَ كتابِهم، أُنْزِلَ على نَبِيٍّ غير نبيهم" وأنزلَ اللَّهُ تعالَى: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] الآية، بل قد ثَبَتَ بالأحاديث الصحيحة أنَّ: المسيح عيسى ابنَ مريم عليه السلام إذا نَزَلَ منَ السماء في آخر الزمان فإنَّه يكونُ متَّبِعًا لشريعة مُحمَّد بْنِ عبدالله صلى الله عليه وسلم.

فإذا كان صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَجب اتِّباعه ونصره على مَن يُدْرِكُه من الأنبياء، فكيف بِمَنْ دُونَهم؟ بلْ مِمَّا يُعْلَمُ بِالاضطرار من دين الإسلام أنَّه لا يَجوزُ لِمَنْ بلغَتْهُ دعوتُه أن يتَّبِعَ شريعةَ رسولٍ غيْرِه كموسى وعيسى، فإذا لم يَجُزِ الخروج عن شريعته إلى شريعة رسولٍ فَكَيْفَ بِالخروج عنه والرسل؟". اهـ باختصار،، والله أعلم.