رسالة في التوسل والوسيلة الجزءالتاسع.

الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية

السؤال: رسالة في التوسل والوسيلة الجزءالتاسع.
الإجابة: كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ـ فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضى ذلك إلى دعائهم والسجود لهم ـ كان دعاؤهم والسجود لهم أعظم تحريما من اتخاذ قبورهم مساجد‏.‏ ولهذا؛ كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين‏:‏ زيارة شرعية، وزيارة بدعية‏.‏
فالزيارة الشرعية أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت، كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له‏.‏ فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال الله تعالى فى المنافقين‏:‏ ‏{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، فنهى نبيه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون‏.
‏ فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهى الكفر، دل ذلك على انتفاء هذا النهى عند انتفاء هذه العلة‏.‏ ودل تخصيصهم بالنهى على أن غيرهم يُصلى عليه ويُقام على قبره؛ إذ لو كان هذا غير مشروع فى حق أحد لم يخصوا بالنهى ولم يعلل ذلك بكفرهم؛ ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى على موتى المسلمين وشرع ذلك لأمته، وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول‏:‏ ""‏سلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.
وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحُدٍ، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم‏:‏ ‏""‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون‏"‏، ‏""‏ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين"‏، ""‏نسأل الله لنا ولكم العافية‏"‏، ""‏اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم‏"‏‏.‏ وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال‏:‏ ‏""‏السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون‏"‏‏.‏ والأحاديث فى ذلك صحيحة معروفة‏.‏ فهذه الزيارة لقبور المؤمنين مقصودها الدعاء لهم‏.‏
وهذه غير الزيارة المشتركة التي تجوز فى قبور الكفار كما ثبت فى صحيح مسلم وأبى داود والنسائى وابن ماجه عن أبى هريرة أنه قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال‏:‏ ""‏استأذنت ربي فى أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة‏"‏ فهذه الزيارة التي تنفع فى تذكير الموت تشرع ولو كان المقبور كافرًا، بخلاف الزيارة التي يقصد بها الدعاء للميت فتلك لا تشرع إلا فى حق المؤمنين‏.‏
وأما الزيارة البدعية فهى التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحـوائج، أو يطلب منـه الدعـاء والشفاعة، أو يقصـد الدعـاء عنـد قبره لظن القاصـد أن ذلك أجوب للدعاء، فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبى صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم ولا عند غيره، وهى من جنس الشرك وأسباب الشرك‏.‏
ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم، مثل أن يتخذ قبورهم مساجد، لكان ذلك محرمًا منهيًا عنه، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ""‏اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏، وقال‏:‏ ‏""‏قَاتَل الله اليَهُودَ والنَّصَارى اتخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهم مَسَاجِدَ‏" يُحَذِّر ما صنعوا‏.‏ وقال‏:‏ ""‏إن من كانَ قَبْلكم كَانُوا يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجِدَ ألا فَلا تَتخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّى أنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ‏"‏‏.‏
فإذا كان هذا محرما، وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات، ونيل الطلبات وقضاء الحاجات ‏؟‏‏!‏ وهذا كان أول أسباب الشرك فى قوم نوح وعبادة الأوثان فى الناس، قال ابن عباس‏:‏ كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم‏.‏