رسالة في التوسل والوسيلةالجزء التاسع والعشرون.

الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية

السؤال: رسالة في التوسل والوسيلةالجزء التاسع والعشرون.
الإجابة: فأما إذا قصد الرجل الدعاء لنفسه فإنما يدعو فى مسجده مستقبل القبلة، كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبى صلى الله عليه وسلم، فكيف بدعائه لنفسه‏.
‏ وأما دعاء الرسول وطلب الحوائج منه وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته، فهذا لم يفعله أحد من السلف، ومعلوم أنه لوكان قصد الدعاء عند القبر مشروعاً لفعله الصحابة والتابعون، وكذلك السؤال به، فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته ‏؟‏
فدل ذلك على أن ما فى الحكاية المنقطعة من قوله‏:‏ ‏[‏استقبله واستشفع به‏]‏ كذب على مالك، مخالف لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التى يفعلها مالك وأصحابه ونقلها سائر العلماء؛ إذ كان أحد منهم لم يستقبل القبر للدعاء لنفسه، فضلاً عن أن يستقبله ويستشفع به يقول له‏:‏ يا رسول الله، اشفع لى أو ادع لى، أو يشتكى إليه مصائب الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكى إليهم المصائب، فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأمة، ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين، وإن كانوا يسلمون عليه، إذ كان يسمع السلام عليه من القريب ويُبَلَّغُ سلام البعيد‏.‏
وقد احتج أحمد وغيره بالحديث الذى رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد من حديث حَيْوَة بن شُرَيْح المصرى‏:‏ حدثنا أبو صخر، عن يزيد بن قُسَيط، عن أبى هريرة ــ رضى الله عنه ــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏""‏ما من أحد يسلم علىّ إلا رد الله علىّ روحى حتى أرد عليه السلام‏"‏‏.‏ وعلى هذا الحديث اعتمد الأئمة فى السلام عليه عند قبره صلوات الله وسلامه عليه، فإن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة لا يعتمد على شىء منها فى الدين‏.‏
ولهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شىئاً منها، وإنما يرويها من يروى الضعاف كالدارقطنى والبزار وغيرهما‏.‏
وأجود حديث فيها ما رواه عبد الله بن عمر العمرى ــ وهو ضعيف والكذب ظاهر عليه ــ مثل قوله‏:‏ ‏(‏من زارنى بعد مماتى فكأنما زارنى فى حياتى‏)‏، فإن هذا كذبه ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره فى حياته وكان مؤمناً به كان من أصحابه، لا سيما إن كان من المهاجرين إليه المجاهدين معه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:""‏لاتسبوا أصحابى، فوالذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه‏" أخرجاه فى الصحيحين‏.‏
والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين ‏؟‏ بل ولا شرع السفر إليه، بل هو منهي عنه ‏.
وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه فهو مستحب، والسفر إلى الكعبة للحج فواجب‏.‏ فلو سافر أحد السفر الواجب والمستحب لم يكن مثل واحد من الصحابة الذين سافروا إليه فى حياته، فكيف بالسفر المنهى عنه ‏؟‏ وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلوات اللّه وسلامه عليه، أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين، لم يكن عليه أن يوفى بنذره، بل ينهى عن ذلك‏.‏
ولو نذر السفر إلى مسجده أو المسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعى ‏:‏
أظهرهما عنه‏:‏ يجب ذلك وهو مذهب مالك وأحمد‏.‏
والثانى‏:‏ لا يجب وهو مذهب أبى حنيفة؛ لأن من أصله أنه لا يجب من النذر إلا ما كان واجبا بالشرع، وإتيان هذين المسجدين ليس واجبا بالشرع فلا يجب بالنذر عنده‏.‏
وأما الأكثرون فيقولون‏:‏ هو طاعة للّه، وقد ثبت فى صحيح البخارى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ""من نَذَر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصى اللّه فلا يعصه".‏